خطبة المسجد النبوي - الإيمان باليوم الآخر


مجلة الفرقان


الإيمان باليوم الآخر وما أدراك ما اليوم الآخر؟ أحد أصول الدين، ومن أركان الإيمان، وهو حق وحقيقة، ومثال لا مناص منه ولا محيد عنه، جاء ذلك في خطبة الجمعة في الحرم المدني للشيخ عبدالباري الثبيتي بتاريخ 17 صفر 1433هـ ، وكثير ما يذكر في الكتاب والسنة الإيمان بالله متبوعا بالإيمان باليوم الآخر تأصيلا وتأكيدا للارتباط والتتابع والتلازم؛ لأن الإيمان بالله ابتداء والإيمان باليوم الآخر انتهاء.

يبدأ اليوم الآخر وبأمر من الله بأحداث لا قبل للبشرية بها، تنشق السماء، وتتصادم الكواكب، وتتناثر النجوم، وتنفجر البحار، وتذوب الجبال، واذا ذكر اليوم الآخر تقاطرت في الذهن المشاهد الجثام والأحوال العظام التي هي من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر والبعث من القبور، والحساب والجزاء الصراط والميزان، والشفاعة والحوض وتطاير الصحف بالأعمال، والجنة والنار، وهناك من يكون في كنف الرحمن، ويكرمون بالنظر إلى وجهه الكريم، وأقوام يذوقون الحسرة والخسران، وأبلغ وصف في ذلك اليوم قوله -تعالی-: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.

يوم الآخرة هو يوم التغابن، ويوم التلاق ويوم التناد، ويوم الجمع، ويوم الحساب، ولكل اسم مغزى من معنى لتشكل في مجموعها المعني الشامل لليوم الآخر، والمتأمل في الكتاب والسنة يجد حشدا من النصوص الشرعية التي ترسخ الإيمان باليوم الآخر في النفس والحياة، وتجعله ركيزة من الركائز التي يجب ألا تغيب عن الأذهان، ولا تنسى في خضم مشاغل الحياة وصوارفها وهذه النصوص الكثيرة عن اليوم اليوم الآخر تجلي أهميته في مسيرة حياتنا؛ فهو الحارس من الردى، والمانع من الهوى، والمحصن من الشر، والدافع لكل أبواب الخير، وإذا ضعف الإيمان بالله واليوم الآخر تجرأت النفس وتنكبت دروب الشر والفساد. يضعف أثر الإيمان بالله واليوم الآخر وتذبل ثمرته في الحياة حين يفقد المبنى المعنى، وينكمش مدلوله وينحصر في دائرة الثقافة والمعرفة الذهنية، أو يبقى حبيس مشاعر تتأجج لحظة، ثم تنطفئ لاتردع شرًّ أو لا تحفز على طاعة، وقد تتلى الآيات وتروى الأحاديث عن اليوم الآخر ولا يكون لها رصيد فاعل في حياتنا، أو أثر إيجابي في سلوكنا، أو تهذيب إيماني لتعاملاتنا، والعجب ممن يدعيه بلا عمل ويزعمه بلا امتثال.

قال الله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}، ومن آمن باليوم الآخر عمل بمقتضاه قال الله -تعالى- {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}.

ولو قلبت صفحات المصحف وتأملت سور القرآن وآياته فستأخذك الدهشة لذلك الربط الشديد، لكل الأعمال، صغيرها وكبيرها باليوم الآخر وكل الآثار الجمة التي تتجسد في حياتنا، ويحدثها الإيمان باليوم الآخر، وأول آثار الإيمان باليوم الآخر تحلي قلب المسلم بالإخلاص بالله، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

والايمان بالله واليوم الآخر يؤسس لاتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به والاقتداء بسنته، قال الله -تعالى-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، ويمتد أثر اليوم الآخر ليشمل عبادات المسلم وعكوف المسلم على مناجاة الله، وإقامة الصلاه، قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}.


واليوم الآخر يجعل لعمرك قيمة، ولحياتك رسالة، ونصب عينيك هدف تسعى لتحقيقه، ومقصدا ساميا ترنو بلوغه، فمن علم أن هناك جنة عرضها السماوات والأرض، ونظر إلى وجه الرحمن، ولقائه مع النبي العدنان - صلى الله عليه وسلم -، واجتماعه مع الصحابة الكرام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم، ومع من يحب فإنه يستحث الخطى، وتعلو همته، ويغتنم الأوقات، ويسارع في الخيرات، ويسمو فوق الترهات، ويعيش في كنف الباقيات الصالحات، ومن أقبل على الله في دنياه أقبل الله عليه في الآخرة وأدناه.

مشاهد اليوم الآخر المستقرة في سويداء القلب تحيي في المسلم مراقبة حاسة اليقظة، ويغدو المسلم محاسبا لنفسه، ويبلغ ذروة سنام الإيمان بالصبر والرضا والتوكل والتسليم لأقدار الله وتلك مقامات عليا، ومراتب سنية، وعقيدة الإيمان باليوم الآخر تورث الطمأنينة لقلب أقبل على الله، وتنزع الخوف من قلب أطاع الله، وتبشره بأن الحزن لن يصل إليه ولايعرف إليه سبيلا، قال الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.