تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: منهج أهل السنة في توحيد الأمة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي منهج أهل السنة في توحيد الأمة

    منهج أهل السنة في توحيد الأمة (1)


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر




    قال الله -تعالى-: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، لا شك أن كلُّ مسلم يتطلَّع غاية التَّطلُّع إلى تحقيق هذا المطلَب الجليل وهذا الهدف العظيم, وهو: توحيدُ كلمة المسلمين وجمعُ صفِّهم ولمُّ شعَثِهم وجمعهم على كلمةٍ سواء، لا شكَّ أنَّ كلَّ مسلم يتطلَّع إلى تحقيق هذا الأمر وإلى القيام به، وفي صدد القيام بهذا المطلب نجد في السَّاحة حلولًا كثيرة، وآراءً متفرِّقة، واتِّجاهات متباينة في تحديد العلاج النَّاجع والسَّبيل الأقوم في جمع كلمة المسلمين ولمِّ صفِّهم وجمع شتاتهم.


    هناك حلول كثيرة، لكنَّ المسلم اللَّبيب، المسلم الفَطِن يعيد كلَّ أمر - ومنه هذا الأمر - إلى كتاب الله وإلى سُنَّةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فهما الفَيصل وهما المعوَّل وإليهما المرجِع في كلِّ أمر، هكذا ينبغي أن يكون المسلِم، يرد مواطنَ النِّزاع وأمورَ الخلاف ومسائلَه إلى كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ففيهما الشِّفاء وفيهما الغَناء، ولا يجوز لأحدٍ كائنًا من كان أن يُدلي برأي أو يتخرَّص تخرُّصًا أو يأتي بظنٍّ أمام الحجج البيِّنة والدَّلائل النَّيِّرة من كتاب الله وسُنَّة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.


    ندور مع السُّنَّة حيث دارَت


    إنَّ جمع كلمة المسلمين، وتوحيدَ صفِّهم، وتحذيرَهم من التَّفرُّق والاختلاف جاء بيانه مفصَّلًا غاية البيان وأحسنَه وأوضحَه في كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا مَعْدِل لأهل السُّنَّة أهل الحقِّ والاستقامة عمَّا جاء في كتاب الله وسُّنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهم يدورون معهما حيث دارا نفيًا أو إثباتًا، كما قال الإمام الأوزاعيُّ -رحمه الله-: «ندور مع السُّنَّة؛ حيث دارَت» هؤلاء هم أهل السُّنَّة حقًّا وأنصارها صدقًا، يدورون مع السُّنَّة حيث دارت؛ فما جاء في كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أقاموه وأتوا به على التَّمام والكمال، وما لم يكُن فيهما تركوه وحَذِروا منه غاية الحَذر، هذا شأن أهل السُّنَّة والجماعة أهل الحقِّ الَّذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنُّصرة والنَّجاة؛ فينبغي - إخواني – عندما نريد حلًّا لهذه المشكلة أو هذه المعضلة، وهي الفُرقة الَّتي تقع ووقعت بين المسلمين ألَّا نتطلَّب حلولًا لها من غير كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

    أمرٌ قدره الله


    إنَّ وقوعَ الفُرقة والاختِلاف أمراً قدَّره الله -تبارك وتعالى- كونًا وقدرًا، وإن كان لم يَرْضه -تبارك وتعالى- شرعًا ودينًا، قدَّره كونًا وقدرًا وقد أخبر به الصَّادق المصدوق -عليه الصَّلاة والسَّلام- بأنَّه سيقع قبل أن يقع؛ فقد قال في الحديث الصَّحيح الثَّابت: «وَإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، هذا إخبار من الصَّادق المصدوق الَّذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ التَّفرُّق سيحصل وأنَّ الله -تبارك وتعالى-أراده كونًا وقدرًا؛ فهو سيقع ولابدَّ طبقًا لما أخبر به -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهكذا في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا»، والله -تبارك وتعالى-يقول:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود:118)، هذا أمرٌ قدَّره الله -تبارك وتعالى- وأراده كونًا وقدرًا لكن لم يرضَه شرعًا ودينًا، عندما تقرأ القرآن الكريم كتاب الله -تبارك وتعالى- وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تجد فيهما النُّصوص الكثيرة والأدلَّة الوفيرة المحذِّرة من الشِّقاق والفُرقة والتَّدابر والتَّطاحن والتَّباغض ونحو ذلك؛ فإذا كنَّا قد علِمنا من خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وممَّا نراه في واقع المنتسبين إلى الإسلام وهو حصول الفرقة وحصول الاختلاف وحصول الآراء والمذاهب المتعدِّدة، فإنَّ هذا يدعونا دعوةً أكيدةً وصادقةً إلى العودة الحميدة إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهما - كما تقدَّم - الشِّفاء والغناء لمن وفَّقه الله وبصَّره الله -تبارك وتعالى.


    التفرق مذموم


    إنَّ التَّفرق في دين الله مذموم، ذمَّه الله -تبارك وتعالى- في كتابه، وذمَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، يقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} (الأنعام:159)، وفي قراءة: {إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}؛ الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- منهم بَراء وهم منه بُرآء الَّذين فرَّقوا دينهم، الَّذين فارقوا دينهم، الَّذين خالفوا دينهم، الَّذين اتَّبعوا الفتن المطغية والأهواء المردية؛ ولهذا تجد في تفسير هذه الآية في قول عدد من المفسِّرين أنَّ قوله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} المراد بهؤلاء أهل البدع والأهواء من هذه الأمَّة، وفي قولٍ آخر أنَّ المراد بهم اليهود والنَّصارى، والحقُّ كما ذكر عددٌ من أهل العلم أنَّ الآية تشمل هذا وذاك؛ فاليهود والنَّصارى فرَّقوا دينهم وفارقوا دينهم، فارقوا دينهم: بمعنى تركوه وجانبوه وابتعدوا عنه ولم يأخذوا به، وفرَّقوا دينهم: بدل أن كان دينًا واحدًا يدينون الله -تبارك وتعالى- به ويعتقِدونه اتَّخذوا أديانًا شتَّى ومذاهبَ مختلفة؛ فالآية تشمل هذا وذاك فيها النَّهي الأكيد والوعيد الشَّديد على من فرَّق دينَه أو فارق دينَه، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليس منهم في شيء، هو منهم بريء وهم منه برآء؛ لأنهم فارقوا الدين واختلفوا في الدين. ويقول الله -تبارك تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) هذه وصيَّة الله - تبارك وتعالى- وشريعته للأنبياء ولأولي العزم من الأنبياء، إقامة الدِّين وعدم التَّفرُّق في دين الله -تبارك وتعالى- وهذه الآية فيها أنجع حلٍّ وأسلم حلٍّ لتقليل الخلاف ولمِّ الشَّعث.


    إقامة الدين


    إن إقامة الدِّين: أن يأتي أهل الدين بالدين، أن يقيموا دينَهم الَّذي أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، لا حلَّ سوى هذا الحل، ولا علاج سوى هذا العلاج، العلاج: العودة الصادقة لدين الله، إقامة دين الله -تبارك وتعالى- أن يأتي العبد بدين الله -تبارك وتعالى- إقامة الدين يكون فيها حلٌ لمشكلة التفرق ولمصيبة التفرق الَّتي يقع فيها النَّاس؛ فيكون ذلك بالعودة إلى الدِّين كاملًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: 208)، فإذا أخذ بعض النَّاس جانبًا من جوانب الدِّين وأهملوا جانبًا آخر، وقابلهم أُناس آخرون فأخذوا بجانبٍ من جوانب الدِّين وأهملوا جوانبَ أخرى وقع بينهم التَّدابر، ووقعت بينهم الفُرقة، ووقَعت بينهم المحن والشِّقاق والاختِلاف؛ فإذًا حلُّ هذه المشكلة بإقامة الدِّين لله -تبارك وتعالى- والإتيان به على التَّمام والكمال، والعودة الصَّادقة إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.


    ويقول الله -تبارك وتعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:30-32)؛ هذه الآية كما أنَّ فيها تحذيرًا شديدًا من التَّفرُّق وأنَّه سبيل المشركين الَّذين فارقوا الدِّين، واتَّخذوا أصنامًا آلهة، وعبدوا مع الله غيره، واتَّخذوا أهواءهم أربابًا من دون الله -تبارك وتعالى- فيها حلول ناجعة ومفيدة جدًّا لمسألة التَّفرُّق، بل لقد اشتملت على أعظم الحلول وأقْوَمها لهذه المشكلة. قال -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}؛ هذا أول حل، ومعنى إقامة الوجه للدِّين: أن يستسلم العبدُ تمام الاستسلام، وينقاد العبد تمام الانقياد لأمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسولِه -[-، كما قال -جلَّ وعلا-: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (لقمان:22)، وكما يقول: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزُّمَر:54)؛ فإقامة الدين لله الإتيان به على التَّمام والكمال؛ فإذا أتى النَّاس بدين الله -تبارك وتعالى-على التَّمام والكمال دون إخلال، دون تقديمٍ للأهواء أو الشَّهوات أو الآراء أو العقول أو غير ذلك فإنَّهم أتوا سببٍا عظيما من أعظم الأسباب الدَّاعية إلى اجتماع المسلمين ولمِّ كلمتهم.


    أهمية العلم والبصيرة


    السبب الآخر والعلاج الآخر في هاتين الآيتين الكريمتين في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}؛ فإنَّ في هذا إرشادا إلى أهمِّيَّة العلم والبصيرة في دين الله -تبارك وتعالى-؛ فإنَّ العلم بالكتاب والسُّنَّة والبصيرة بالكتاب والسُّنَّة والتَّعويل على الكتاب والسُّنَّة من أهمِّ الأمور الَّتي يكون فيها حلٌّ لمسألة التَّفرُّق الَّتي تقع بين المسلمين أو بين المنتسبين إلى الإسلام. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، إذاً بالعلم النافع والبصيرة في دين الله -تبارك وتعالى-والرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة وردُّ مواطن النِّزاع والخلاف إلى الكتاب والسُّنَّة يكون بذلك أسلم حلٍّ وأحسن علاج لهذه المشكلة؛ لأنَّه كما يقول ابن أبي العزِّ -رحمه الله-: «إذا لم يَرُدَّ النَّاس مواطن نِزاعهم ومسائل خلافهم إلى كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يتبيَّن لهم الحقُّ، ولا يكونون على بصيرة في أمرهم إذا رَدُّوا إلى غير كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: منهج أهل السنة في توحيد الأمة


    منهج أهل السنة في توحيد الأمة (2)


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر



    قال الله -تعالى-: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، لا شك أن كلُّ مسلم يتطلَّع غاية التَّطلُّع إلى تحقيق هذا المطلَب الجليل وهذا الهدف العظيم وهو: توحيدُ كلمة المسلمين وجمعُ صفِّهم ولمُّ شعَثِهم وجمعهم على كلمةٍ سواء، لا شكَّ أنَّ كلَّ مسلم يتطلَّع إلى تحقيق هذا الأمر وإلى القيام به، وفي صدد القيام بهذا المطلب نجد في السَّاحة حلولًا كثيرة، وآراءً متفرِّقة، واتِّجاهات متباينة في تحديد العلاج النَّاجع والسَّبيل الأقوم في جمع كلمة المسلمين ولمِّ صفِّهم وجمع شتاتهم، وتوقفنا في المقال السابق عند الحديث عن أهمية العلم والبصيرة في دين الله -تعالى-وأهميتهما في توحيد كلمة الأمة ونكمل اليوم في بيان المراد بهذا العلم فنقول:

    فالمراد بالعلمِ: العلمُ بالكتاب والسُّنَّة ليس إلَّا, فالعلمُ بكتاب الله وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وفهمهما فهمًا صحيحًا قويمًا على هدي وسَنَنِ السَّلف الصَّالح - رحمهم الله -تعالى- وسننهم؛ فالعلم بالكتاب والسنة فيه علاج، بل أكبر علاج لمسألة الخِلاف والفُرقة الَّتي تقع بين المسلمين، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء:59)، لابدَّ من العلم بكتاب الله وسُّنَّة رسول الله -[- لحلِّ هذه المشكلة؛ فإذا وُجِدَ بين المسلمين وفي صفوفهم وينتسب إلى جماعتهم من لا يُقيم لعلم الكتاب والسُّنَّة وزنًا، وينقُض كتاب الله ويُناقِض النُّصوص الصَّريحة الواضحة البيِّنة الظَّاهرة السَّاطعة، ينقضها بعقلِه ورأيِه، ويقدِّم حججا وآراء وبراهين كثيرة من قِبَلِ نفسِه، ويجعلها مقدَّمةً على كتاب الله وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فكيف يُلمُّ الشَّعث؟! وكيف تتَّحد الكلمة؟! وكيف يجتمع الصَّفُّ؟!

    الاستهانة بالسنة

    إذا وُجِدَ مَن يستهين بالسُّنَّة ويقلِّل من شأنها، ويطعن فيها ويحذِّر منها، ويَنسف الأحاديث الكثيرة نسفًا إذا وجد من ينتسب إلى المسلمين من هو كذلك كيف يلتمُّ شَّعث المسلمين وكيف تتحد كلمتهم؟! إذا وُجد بين المسلمين من يهزأ بحديث رسول الله، ويسخر به، ويقلل من شأنه، ويقدِّم رأيَه وعقلَه على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف يُلمُّ الشَّعث؟!

    إذا وُجد من يقدِّم الرُّؤى والمنامات على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! كقَول بعضِهم وهم المتصوِّفة أو غلاتهم يعيبون أهلَ السُّنَّة أهلَ الحديث: «تقولون: حدَّثنا فلان عن فلان، وأين فلان؟ قد مات، وأين فلان؟ قد مات، أمَّا نحن فنأخذ ديننا عن الحيِّ الَّذي لا يموت، يقول الواحد منَّا: حدَّثني قلبي عن ربِّي»؛ فكيف تجتَمع الكلمة إذا وجد في المنتسبين للإسلام من هو كذلك؟!

    تقديم العقل

    كيف تجتَمع الكلمة إذا وجد في المسلمين أو في المنتسبين إلى لإسلام من يُقَدِّمُ عقلَه على كتاب الله وسُنَّة رسول الله -[-؟! ويقولون محتجّين لذلك: «نحن إنَّما عرفنا الكتاب والسُّنَّة بعقولنا؛ فإذا قدَّمنا النَّقل على العقل قدَّمنا الدَّليل على المدلول، فكيف نقدِّم النَّقل على العقل؟!»؛ علما بأنَّ النَّقل الصَّحيح والعقل السَّليم لا يتعارضان، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله تبارك وتعالى-في كتابه العظيم (درء تعارضِ العقل والنَّقل)؛ العقل السَّليم لا يُعارض النَّقل الصَّحيح؛ فإن حصل تعارضٌ بين عقلٍ ونقلٍ فلا يخلُو الحال إمَّا أنَّ العَقل غيرُ سليم، أو أنَّ النَّقل غيرُ صحيح؛ فإذا كان العقل سليمًا والنَّقل صحيحًا فإنَّهما لا يتعارضَان كما بيّن ذلك شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم، فنجد في المنتسبين إلى الإسلام من يقدّم عقله على النقل.

    شنَاعة فِعل هؤلاء

    ويقول بعض أهل العلم في بيان شنَاعة فِعل هؤلاء: لازمُ قَول هؤلاء أن يقولَ الواحدُ منهم، بدل قوله: «أشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله» يقول: «أشهد أنَّ عقلي رسول الله»؛ لأنَّ عقلَه هو المقدَّم وعقله الحُجَّة.

    ولبيَان شناعة هذا القول وفساده يُقال لهؤلاء: عقل مَن الَّذي يُقَدَّم؟ عقل مَن الَّذي عليه المعوَّل؟ العقول متفاوتة والآراء مختلفة فعقل من يقدَّم؟ إذا قيل: عَقْلُ زيد مثلًا، فقد يكون عمرو أقوى منه جدلًا وأكثر منه منطقًا، وهكذا، إذا أُحيل النَّاس على عقول الرِّجال ضاع دينهم وتشتَّت؛ لأنَّ العقول متفاوتة؛ ولهذا قال من قال من السلف: «لو كانت الأهواء واحدًا لقال القائل: لعلّ الحقّ فيه؛ فلما تشعبت وتفرّقت عرف كلُّ ذي عقل أنّ الحقّ لا يتفرَّق».

    عن إسحاق بن عيسى قال: «كان مالك بن أنس يَعيبُ الجدال في الدِّين ويقول: أكلَّما جاءنا رجلٌ أجدَلُ من رجلٍ تركنا ما نَزل به جبريلُ عليه السَّلام على محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- لجدلِه».

    وفي خبر آخر عن معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس يومًا من المسجد، وهُو متَّكئٌ على يدي فلحِقه رجلٌ يقال له: أبو الجُويرية كان يُتَّهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله، اسمَع منِّي شيئا أكلِّمُك به وأُحاجُّك وأُخبِرُك بِرأيي، قال: فإنْ غلبْتَني؟ قال: إنْ غلبْتُك اتَّبعتَني، قال: فإنْ جاء رجلٌ آخر فكلمَّنا فغلبَنا؟ قال: نتَّبِعه؛ قال مالك -رحمه الله- يا عبدالله؛ بعثَ الله -عزَّ وجلَّ- محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم - بدين واحد وأراك تَتنتقّل؛ قال عمر بن عبد العزيز: «مَن جعَل دينَه غرضًا للخُصومات أكثَر التَّنقُّلَ»؛ فالذي يجعل دينَه عُرْضَة للخُصومات يتخاصم مع هذا وذاك ويتناظر مع هذا وذاك والغَالب هو الَّذي يُتَّبَع، ولم يكن هذا مِن شأن سلف الأمة، كانوا إذا جاءهم الرَّجل للمناظرة وهم يعرفون قصده من المناظرة يقولون له: نحن على بَيِّنَةٍ من أمرنا وأمَّا أنت فرجل شاكٌّ فاذهب إلى رجل شاكٍّ مثلِك.

    ليس بعد الحقِّ إلَّا الضَّلال

    فالمسلم الَّذي يكون على بيِّنةٍ من أمره وعنده الحُجج والبراهين والأدلَّة من كتاب الله وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يتناظر مع أحد ليكون الحقُّ مع الغالب والمنتَصِر في المناظرة؛ لأنَّه على بينة عنده الدليل، ليس بعد الحقِّ إلَّا الضَّلال، عنده الدَّليل والحُجَّة والبرهان من كتاب الله وسُّنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز له أن يتناظر مع أحدٍ على أساس أنَّ الحجَّة مع الغالب، بل يَلْزم الكتابَ والسُّنَّة، ويُقِم عليهما، ولا يُعَرِّض دينَه للفساد أو لأهواء أهل البدع، إلَّا إذا كان من العلماء الرَّاسخين المتمكِّنين في دين الله؛ فإنَّ هؤلاء لهم مجال آخر يناظرون أهل البدع لإقامة الحُجَّة عليهم، ولبيان زَيغ عقائدِهم وفسادها وبطلان ما هم عليه.

    أعظم السُّبل

    فالعلم بالكتاب والسُّنَّة ومعرفتهما والتَّعويل عليهما من أعظم السُّبل الَّتي يكون بها حلٌّ لمسألة التَّفرُّق، وعندما تلاحظ هذه الطَّوائفَ التي أشرنا إلى بعضها تجد أنَّ كلًّا منهم يدَّعي أنَّه على الكتاب والسُّنَّة!

    وكلٌّ يدَّعي وصلًا بليلى

    وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا

    كلُّهم يدَّعي أنَّه على الحقٍّ، لا أحد من أهل الأهواء يقول: نحن على باطل ونحن على ضلال، بل كلُّهم يدَّعون أنَّه أهل حقٍّ وأهل صواب، ولا عبرة بالدَّعاوى إذا لم يُقَم عليها البيِّنات، الدَّعوى لا تقدِّم ولا تؤخِّر إذا كانت ليس عليها برهان: عمل وتطبيق وقيام بكتاب الله وسُّنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فالذين يقدِّمون عقولهم على الكتاب والسنة ليسو أهل كتاب ولا سُّنَّة، كيف يكون من هو كذلك من أهل الكتاب والسنة وهو يقدِّم عقلَه على ما جاء في كتاب الله وسُّنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم ؟!، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الحجرات:1)، الذي يقدِّم عقله تقدَّم بين يدي الله ورسوله، ومعنى قول الله -تبارك وتعالى-{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: يقول ابن القيِّم -رحمه الله- عن جمعٍ من السلف أنهم قالوا: «أي لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أو يفعل»؛ ما أجمل هذه الكلمة! لا تقل حتى يقول، ولا تفعل حتى يأمر، هذا معنى لا تقدِّم بين يدي الله ورسوله، يعني لا تعتقد عقيدة ولا تدين بدين إلَّا إذا جاء في كتاب الله وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا تأتي بعبادة وطاعة وقربة إلى الله -تبارك وتعالى- ما لم يقم عليها الدَّليل من الكتاب والسُّنَّة، فـ «لا تعجلوا بقول» يتعلَّق بالاعتقاد، «ولا بفعل» يتعلَّق بالعبادة؛ فالَّذي يأتي باعتقادات لا دليل عليها من كتاب الله ولا سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقدِّمٌ بين يدي الله ورسوله، والَّذي يأتي بعبادات ليست في كتاب الله ولا سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقدِّم بين يدي الله ورسوله، يستَحسِن بعقله أشياء وعقائد وعبادات فينشرها بين المسلمين؛ فإذا نشرها بينهم فرَّق صفَّهم، ومزَّق كلمتهم بهذا الهوى الَّذي نشره بينهم.

    كلمة عظيمة


    ولهذا يقول مالك بن أنس -رحمه الله- في كلمة عظيمة في التَّحذير من هذا الصِّنف من النَّاس: «مَن قال في الدِّين بدعةٌ حسنةٌ فقد زَعم أنَّ محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم - خان الرِّسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3)، فما لم يكُن دينًا في زمن محمَّد -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فليس اليوم دينًا، ولن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمَّة إلَّا بما صلح به أوَّلها»؛ أوَّل الأمَّة إنَّما صَلحوا بلزوم الكتاب والسُّنَّة واقتفاء أثرِهما والسَّير على نهجِهما؛ فلابد -يا إخوان- من العلم بالله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •