قال أحمد بن محمد العدوي الأشعري المشهور بـ " الدردير " :
تَخَالُفٌ للغيْرِ وحدانيةْ *** في الذَّاتِ أو صِفَاتِهِ العليَّةْ
والفِعلِ فالتأثيرُ ليسَ إلا ** للواحِدِ القَهَّار جلَّ وعَلا
ومن يَّقُل بالطَّبعِ أو بالعلَّةْ *** فذاكَ كُفرٌ عند أهلِ المِلَّةْ
ومَن يَقُل بِالقُوَّةِ المُودَعَةِ *** فَذَاكَ بِدْعِيٌّ فلا تَلتَفِتِ
وقال في شرحه :
يعني أنَّهُ تعَالى مُتَّصفٌ بوحدانيَّةِ الأفعالِ ، فليس ثمَّ مَن له فعلٌ من الأفعال سِوَاهُ تعالَى ، إذ كُلُّ ما سِوَاهُ عاجزٌ لا تأثيرَ له في شيءٍ من الأشياء ... .
إلى أن قال :
فلا تأثيرَ للنار في الإحراقِ ، ولا للطَّعامِ في الشَّبَعِ ولا للماء في الرّيِّ ، ولا في إنباتِ الزَّرعِ ، ولا للكواكبِ في إنضَاجِ الفواكِه وغيرِهَا ، ولا للأفلاكِ في شيءٍ من الأشياء ، ولا للسِّكِّين في القطعِ ، ولا لشيءٍ في دفع حَرٍّ أو بردٍ أو جلبِهِمَا وغيرِ ذلك ، لا بالطَّبعِ ولا بالعلَّةِ ولا بقُوَّةٍ أودَعَهَا اللهُ فِيها ، بل التأثيرُ في ذلك كُلُّهُ لله تعالى وحدَهُ بمحضِ اختيارِهِ عند وُجُودِ هذه الأشيَاءِ .
انتهى باختصار من" الخريدة البهية وشرحها " ( ص 59 - 63 ).
الجواب
قال ابن القيم - رحمه الله - :
"وأما الوقوف مع الأسباب واعتقاد تأثيرها فلا نعلم من أتباع الرسل من قال إنها مستقلة بأنفسها حتى يحتاج إلى نفي هذا المذهب ، وإنما قالت طائفة من الناس وهم القدرية : إن أفعال الحيوان خاصة غير مخلوقة لله ولا واقعة بمشيئة ، وهؤلاء هم الذين أطبق الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على ذمِّهم وتبديعهم وتضليلهم وبيَّن أئمة السنة أنهم أشباه المجوس وأنهم مخالفون العقول والفطر ونصوص الوحي ، فالتلبيس في الحقيقة حصل لهؤلاء ولمنكري الأسباب في القوى والطبائع والحكم ، ولُبس على الفريقين الحق بالباطل ... .
إلى أن قال :
ولا تكن ممن غلظ حجابه وكثف طبعه فيقول : لا نقف معها وقوف من يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير وأنها أرباب من دون الله ، فإن وجدتَ أحداً يزعم ذلك ويظن أنها أرباب وآلهة مع الله مستقلة بالإيجاد ، أو إنها عون لله يحتاج في فعله إليها ، أو إنها شركاء له : فشأنَك به ؛ فمزِّق أديمَه ، وتقرَّب إلى الله بعداوته ما استطعت ، وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله ، والإلغاء لما اعتبره ، والإهدار لما حققه ، والحط والوضع لما نصبه ، والمحو لما كتبه والعزل لما ولاه ؟! فإن زعمت أنك تعزلها عن رتبة الإلهية ؛ فسبحان الله ، من ولاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك في عزلها عنها ؟! .
والله ما أجهل كثيراً من أهل الكلام والتصوف حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلا بإلغائها ومحوها وإهدارها بالكلية ، وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى ولا طبائع ولا غرائز لها تأثير موجبة ما ، ولا في النار حرارة ولا إحراق ، ولا في الدواء قوة مُذْهِبة للداء ، ولا في الخبز قوة مشبعة ، ولا في الماء قوة مروية ، ولا في العين قوة باصرة ، ولا في الأنف قوة شامَّة ، ولا في السم قوة قاتلة ، ولا في الحديد قوة قاطعة ، وأن الله لم يفعل شيئاً بشيء ، ولا فعل شيئاً لأجل شيء ! فهذا غاية توحيدهم الذي يحومون حوله ويبالغون في تقريره ، فلعمْر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء وأشمتوا بهم الأعداء ، ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية ، وقالوا : نحن أنصار الله ورسوله ، الموكَلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل ، ولعمْر الله لقد كسروا الدِّين ، وسلطوا عليه المبطلين ، وقد قيل : " إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك" .
فقف مع الأسباب حيث أُمرت بالوقوف معها ، وفارقها حيث أمرت بمفارقتها ، كما فارقها الخليل .. حيث عَرض له جبريل أقوى الأسباب فقال : " ألك حاجة ؟ " فقال : " أما إليك فلا "
انتهى من" مدارج السالكين " ( 3 / 402 – 409 ) .