قول في المحبة

د.عثمان قدري مكانسي


قول في المحبة
اختارها – بتصرف - من عيون الأخبار
د: عثمان قدري مكانسي

لعلنا في أغلب أيام رمضان الكريم – أيها الأحباب نعيش مع كنز من كنوز العربية التي غفل عنها كثير من الأدباء بلـْهَ العامّة ، إنه كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة الدينـَوري ، من أمهات الكتب ، فيه من الأدب والعلم والفكر ما يصلح أن يكون مدرسة وحده ،
ها نحن اليوم نجول بين أزهار ( المحبة ) فنقتطف منها ما يُزّين مجالسنا ، ويضيء حياتنا .


- كتب رجل إلى صاحبه : أحِنّ إلى عهد أيامك التي حَسُنَتْ بك كأنها أعياد ، وقَصُرَتْ بك كأنها ساعات ، إن الشوق إليك يفوق الصفات ، ومما جدد الشوق إليك تصاقب الدار، ( قربها ) وقرب الجوار ، تمم الله لنا النعمة المتجددة فيك بالنظر إلى الغُرّة المباركة التي لا وحشة معها ولا أُنْسَ بعدها .
- وقال حكيم : ثلاث يُصْفين لك وُدّ أخيك : فالأولى : أن تبدأه بالسلام إذا لقِيتَه ، والثانية : أن توسع له في المجلس ، والثالثة : أن تدعوه بأحبّ أسمائه إليه .
- وقال الحكيم نفسُه : ثلاث يكرهك الناس لها : فالأولى : أن تعيب على الناس صفات هي فيك ، والثانية : أن ترى في الناس عيوباً هي فيك أكبر، لا تراها ، والثالثة : أن تؤذي جليسك فيما لا يَعنيك .
- وعن المقدام بن معدي كرِب – وكان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتدّ وقومُه عن الإسلام ، فقاتلهم المسلمون بقيادة خالد رضي الله عنه وأعادهم إلى الإسلام ، ومن كان مثله انتفـَتْ الصحبة عنه – قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم
" إذا أحب أحدُكم أخاه فليُعـْلِمْه أنه يحبه "
كي لا يكون الحب من طرف واحد ، ولتتآلف قلوب المسلمين .
- وكان يُقال : لا يكن حبُّك كَـَلََفاً ولا بغضُك تـَلَفاً (لا تسرف في حبك وبغضك ) .
ونحوه قول الحسن البصري رحمه الله تعالى : أحِبّوا هَوْناً ، فإن أقواماً أفرطوا في حب قوم فهلكوا . ومثل ذلك أُثِر عن الشافعي رحمه الله تعالى : أحْبِبْ حبيبَك هَوناً ما عسى أن يكون بغيضَك يوماً ما ، وأبْغِضْ بغيضَك هَوناً ما عسى أن يكون حبيبَك يوماً ما .
- أما الصحابي الجليل " عُكّاشة بن محصن" الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر قضيباً يحارب به حين انكسر سيفه ، فلما هزّ القضيب انقلب بإذن الله سيفاً أبيضَ طويلاً حارب به في كل غزواته إلى أن قُتل في معركة الردّة في بني أسد ، قتله طليحة الأسدي المتنبئ ، ثم عاد طليحةُ إلى الأسلام وحَسُن إسلامُه - هذا الصحابي الجليل بشره النبي صلى صلى الله عليه وسلم بأنه ممن يدخل الجنة دون حساب ولا عقاب – كان عمر رضي الله عنه يحب عُكّاشة كثيراً ، فلما التقى عمر الفاروق بقاتله قال له : قتَلْتَ عكّاشة بن محصن؟! لا يُحبك قلبي . فقال طليحة : فمعاشرة جميلة - يا أمير المؤمنين – فإن الناس يتعاشرون على البغضاء.
وقال بعضهم لرجل : إني أُبغضك . فقال : إنما يجزع مِن فقد الحبّ المرأةُ ، ولكنْ عدلٌ
وإنصافٌ .
- وقال عمر رضي الله عنه لرجل يريد طلاق زوجته : لِمَ تطلّقها ؟ قال : لا أحبها . قال : أَوَ كلُّ البيوت بنيت على الحب ؟! فأين الرعاية والتذمم (أن لا يقوم بعمل يذمه الناس عليه ) .
- وكتب أحدهُم إلى صاحبه يبثّه شوقَه : لساني رطب بذكرك ، ومكانُك في قلبي معمور بمحبتك . ومثل قوله أنشد الشاعر معقِل :
لَعَمري لَئِن قرّتْ بقربك أعيُنٌ لقد سَخِنَت بالبين منك عيونٌ
فسِرْ وأقِمْ ، وقْفٌ عليك موّتي مكانُك في قلبي عليك مصونٌ
وذكر أعرابيّ رجلاً ، فقال : والله لكأن القلوب والألسن رِيضَتْ له ، فما تُعقَد إلا على
وُدّه ولا تنطق إلا بحمده .
- وقال رجل لابن حوشب : إني أحبّك . فقال : ولِمَ لا تحبّني ؛ وأنا أخوك في كتاب الله ووزيرك على دين الله ، ومُؤنتي على غيرك ! ولعل الإنسان – لشحّه – يمل من سؤال الناس ويستثقل صحبتهم . فنبه ابن حوشب صاحبه أن الحب قد يضعف ، بل يضمحلّ إذا كان فيه طلب المال والمؤنة .
- وينسب إلى رابعة العدوية – وهو بعيد - قولُها في الحب الإلهي :
أحبـّك حبـّيـْن ، لي واحدٌ وحـُب ، لأنـّك أهـْل لـذاكَــا
فأمـا الذي أنت أهـْل لـه فَحُسنٌ فَضَلْتَ به مَن سواكـا
وأما الذي في ضمير الحشا فلستُ ارى الحُسنَ حتى أراكا
وليس ليَ المنّ في واحد ولكنْ لك المنّ في ذا وذاكا

- ومن أحبّ ، فأمعن في الحب لم يرَ من حبيبه إلا المحاسن ، ألم يقل المسيب بن عَلَس :
وعين السُخط تُبصر كل عيب وعين أخي الرضا عن ذاك تُعمي
ومثله لعبد الله بن معاوية :
فلـستُ بـِراءٍ عيبَ ذي الودّ كلـَّه ولا بعضَ ما فيه إذا كنتُ راضياً
وعين الرضا عن كل عيب كَلِيلَةٌ ولكنّ عين السخط تُبدي المساويا
ومن هذا الباب قال اليزيديّ : رأيت الخليل بن أحمد قاعداً على طنفُسة ، فأوسع لي ،
فكرهت التضييق عليه ، فقال : إنه لا يَضيق سَمّ الخياط على متحابّيْن ، ولا تسع
الدنيا متباغضَين
- وقال شريح القاضي لزوجته يوضح لها ما ينبغي أن تفعله لتحافظ على حبّه :
خُذي العفوَ مني تستديمي مودّتي ولا تنطقي في سَورتي حين أغضبُ
فإني رأيتُ الحب في الصدر والأذى إذا اجتمعـا لم يلبـَثِ الحـُبُّ يـذهـبُ
- وقال أعرابيّ : إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقتِ الألسُن بالفروع ، ولا يظهر الودّ السليم إلا من القلب السليم . وعلى هذا قال أبو زبيد للوليد بن عُقبة :
مَن يَخُنْك الصفاءَ أو يتبَدّلْ أو يَزُل مثلما تزول الظلالُ
فاعْلَمَنْ أني أخوك أخو العهــــــد حياتي حتى تزولَ الجبالُ
ليس بخلٌ عليك منّي بمالٍ أبداً ما استقـَلّ سـيفاً حِمالٌ
فلك النصرُ باللسـان وبالـــــــــــ ـكفّ إذا كان لليدين مصالٌ
كل شيء يحتال في الرجال غيرَ أنْ ليس للمنايا احتيالٌ
- وقال عبد الله بن الزبير ذات يوم : والله لودِدْتُ أنّ لي بكل عشَرَة من أهل العراق رجلاً من أهل الشام ( صَرْفَ الدينار بالدرهم ) . فقال أحد العراقيين : مَثَلُنا ومَثَلُك كما قال الأعشى :
عُلّقتُها عَرَضاً وعُلّقَتْ رجلاً غيري وعُلّق أخرى غيرَها الرجلُ
أحبّك أهلُ العراق ، وأحبَبْتَ أهل الشام ، وأحب أهلُ الشام عبدَ الملك بن مروان .
- وكتب رجل إلى صديق له : الله يعلم أني أحبك لنفسك فوق محبتي إياك لنفسي ، ولو أني خُيّرْتُ بين أمرين ؛ أحدُهما لي عليك والآخرلك عليّ لآثرتُ المروءة وحُسْنِ الأُحدوثة بإيثار حظك على حظّي ، وإني أحب وأُبغض لك ، وأوالي وأعادي فيك .
منقول