الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية
- ما كان لله فيُستعان ببعضه في بعض وما هو أنفع للوقف هو للوقف


عيسى القدومي




باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه؛ ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثم من القواعد لفقهية الكلية، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضابط السادس: ما كان لله فيُستعان ببعضه في بعض.

ويأتي هذا الضابط لتسهيل وتوضيح معنى الاستعانة ببعض ماهو لله على بعض والتعريف به

معنى الضابط:

ما كان موقوفاً على وجوه الخير العامّة، فإنّه يجوز أن يُنفَقَ من بعضه في مصالح البعض الآخر.

وهذا المبدأ الشرعيّ من مقرّرات المالكيّة القديمة، الدالّة على بصرٍ نافذٍ وفهمٍ دقيقٍ لمتطلّبات المصلحة العامّة للمسلمين. «قال أصبغ عن ابن القاسم في مقبرةٍ عَفَتْ: لا بأس أن يُبنى فيها مسجد، وكلُّ ما كان لله، فلا بأس أنْ يُستعان ببعضِه في بعض».

بلُّ الفتيلة من قنديل المسجد لا يجوز

قال العبدري: «ومن نوازل البرزلي: بَلُّ الفَتِيلَةِ من قنديلِ المسجدِ وأخذُ زيتِه لا يجوز، ولو كان ذلك لمسجدٍ آخَرَ لجرى على الخلاف بين الأندلسيّين والقرويّين في صَرفِ الأحباس بعضِها في بعض، وعلى الجواز العمل اليوم، مثل صرف أحباس جامع الزيتونة لجامع الموحّدين، وأخذ حُصُرِهِ السّنةَ بعد السّنةِ، وزيتِه كذلك. وسُئل ابن عِلَاق عن حبس على طلّاب العلم للغرباء، أنّه إنْ لم يوجد غرباء دُفع لغير الغرباء، قال ويشهد لهذا فتيا سحنون في فضل الزيت على المسجد أنّه يؤخذ منه في مسجدٍ آخر، وفتيا ابن دحون في حبس على حصن تُغُلّب عليه، يُدفَع في حصنٍ آخر.

قال: وما كان لله واستُغني عنه فجائزٌ أن يُستعمل في غير ذلك الوجه ممّا هو لله.

ومنها فتيا ابن رشد في فضل غلّات مسجدٍ زائدةٍ على حاجةٍ، أن يُبنى بها مسجدٌ تهَدّم».

- والمتّجه أن يقال: ما كان لله، بمعنى كونه قد أطلقه الواقف بهذا اللّفظ، فاستعماله في المصالح العامّة بالاشتراك أو على التّناوب أمره واسعٌ، وما كان قد حُدّد مصرفُه، كالمقبرة، والمدارس، والرُّبُط، فهذا محلّ اجتهادٍ من جهة قُرب المصارف وبُعدها عن بعضها البعض، فإذا تقاربت فالاستعانة ببعضها في بعضٍ جائز، وإذا تباعدت فالأحوط أن لا يُتوسّع في ذلك، مع كون ذلك كلّه مشروط بوجود فائض في الريع فقط.

التطبيقات:

1- ما وُقف على أرامل البلد، إذا فاض عن الحاجة، صُرف على الأرامل في بلد مجاورة، فإن تباعدت البلدان صُرف على فقيرات المطلّقات ومن لا نفقة لهنّ، أو الأيتام، لتقارُب هذه المصارف.

2- إذا كان مسجدٌ له عدّة دكاكين موقوفةٌ عليه، فلا بأس أن تُجمَع غلّاتُها، فإذا خَرِبَ منها دكّانٌ عُمّر من غلّة دكّانٍ آخر الفائضة.

الضابط السابع: يُفتى بكُلّ ما هو أنفعُ للوقف فيما اختلف العلماء فيه

ذكر هذا الضابط جماعةٌ من العلماء، وأجرَوْه على عدد من الصور والتطبيقات والمسائل والقضايا.

معنى الضابط

اختلف العلماء في مسائل كثيرة تتعلّق بإجراء التغييرات على الوقف، باستبداله ونقله وبيعه مثلاً، وكذلك اختلفوا في مسائل كثيرة من الضمانات والحقوق التي قد يكون الوقف طرفاً فيها، سواءً كان مستحِقًّا أو مستحَقًّا عليه، فالنّظر يقتضي في كلّ هذه الحالات أن يُفتى بكلّ ما هو أصلح للوقف وأنفع له، رعاية لحقّ الوقف وحقّ الموقوف عليهم. وسيتّضح المعنى أكثر من خلال التطبيقات.

قال ابن نُجيم: «وفي (الحاوي): ويفتي بالضّمان في غصب عقار الوقف وغصب منافعه، وكذا كل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه، حتى نُقِضَت الإجارة عند الزيادة الفاحشة نظراً للوقف، وصيانةً لحقّ الله -تعالى-، وإبقاءً للخيرات».

لا تبنى الفتوى على تحصيل المنفعة

ولا يخفى أنّ هذا الضّابط لا يعني بحالٍ أنْ تُبْنَى الفتوى على تحصيل المنفعةِ مطلقاً، ولو خالفت الفتوى ما خالفت من النّصوص والقواعد والأصول! فإنّ هذا يتنزّه عنه فقهاء الإسلام، ومحالٌ أن ينقدح في ذهنِ أحدٍ ولا أن يلمعَ في فكرِه أصلاً ولو كمرورِ الخاطرِ.

وإنّما المراد: أنّ تحصيلَ منفعةِ الوقف يسوغُ جعلُها مرجّحًا بين الأقوال الاجتهاديّة التي يحتملُ كلٌّ منها الصواب والخطأ، فإنّه لا بأس حينَها أن يرجّحَ أحدُ القولَيْن على الآخر لتضمُّنِه تحقيقَ المصلحة، طالما لا قطعَ من حيث الدّليل بصحّة أحدِ القولين وطرحِ المقابل. وقد مثّل ابن نُجيم فيما نقلناه آنفًا، بتضمين غاصب الوقف مقابلَ منافعِهِ، مع أنّ المنافع عند الحنفيّة ليست مالاً كما بيّنّاه عند الكلام على جواز وقف المنافع استقلالاً، لكن لمّا كان تضمينُه مقابلَ المنافع أنفع للوقف، مالوا إلى الإفتاء به لأنّه قولٌ عند الحنفيّة محتملٌ للصّواب لا يقطعون بخطئه، بل هو قول الجمهور أصلاً، فهذا معنى الإفتاء بما هو أنفع، والله أعلم.

التطبيقات:

1- على متولِّي الوقف أن يراعي مصلحة الوقف عند قيامه بكل ما يحقّ له شرعاً القيام به ومنه تأجيره، فيتحرى الأنفع له، فإنْ أجّره بغبنٍ فاحشٍ نُقضت الإجارة، وكُلِّف بعقدها على الوجه الصحيح الذي يضمن مصلحة الوقف والمستفيدين منه.

2- إذا رغب في استئجار العين الموقوفة أكثر من واحد فإنه ينبغي على المتولي أن يؤجر الموثوق به منهم، وهو الذي يلتزم بالمحافظة على تسليم حقوق الوقف من غير مماطلة، ولو كان أجره أقل من الأجر الذي يرغب به الباقون؛ لأن الأجر الزائد من المماطل قد يضيع أو لا يحصل إلا بمقاضاة.

3- إذا وقف داراً أو بستاناً أو حانوتاً، ورأى أنّ إنتاجه ليس في المستوى المطلوب، فله أن يُبدله بما يرى أنّه أنفع لفكرة الوقف التي يريد إنفاذها.

4- لو غصبَ رجلٌ أرضاً موقوفةً تساوي ألفاً، وغصبها منه رجلٌ آخر منه بعدما ارتفعت قيمتها وهي في يد الغاصب الأوّل، فصارت تساوي ألفَيْن، فعلى أيِّ الغاصبَيْن يرجعُ القاضي في الضّمان؟! الجواب: اختلف أهل العلم في هذه المسألة، واختلفوا في ضمان العقار بالغصب، فيُفتى في المسألتين بما هو أصلح للوقف، ويضمّن القاضي الغاصب الثاني، فإذا كان الثاني مُعدَماً أو مماطلاً، رجع إلى الأوّل، لأنّه هو الأنفع حينئذ.

5- اكتفى الحنفيّة في الشهادة على صحّة الوقف بما سمّوه: الشهادة بالتّسامُع، وهي أنْ يشهد الشاهد بثبوت الوقْف في عقارٍ لأنّه سمع من النّاس سماعاً شائعاً أنّ مالكه جعلَه وقفاً، وإن لم يكن قد أدركَ مالكَه ولا أدركَ سببَ ملكه له، إذا سمع النّاس يشهدون بكلّ ذلك، وقد جعلوا الشهادة بالتسامع جائزة على أصل الوقف دون شروطه، قالوا: لأنّ أصله هو الذي يشتهر دون شرائطه.

6- لو هدم أحدٌ الدّار الموقوفةَ المؤجّرة له، وجعل فيها تنّوراً أو طاحونةً، ينظر الحاكم، فإذا كانت أجرتها أزيد وهي تنّور أو طاحونة، تبقى للوقف وتُؤخذ أجرتُها، ويكون المستأجر في هذه الحال متبرعاً بما صرفه، وإذا لم تكن أزيد، يُحكم بإعادتها إلى حالها الأول وهدمها، ويعزّر المستأجر على الوجه اللازم، وحكم الإعادة في الوقف وعدم الإعادة في غيره ثابت، والفرق -كما تقرّر عند الفقهاء- أنّ الإفتاء يكون بما هو أنفع للوقف، ولا شبهة أنّ إعادته إلى حاله الأولى أنفع للوقف من البدل.

7- إذا غُصبت أرضُ وقفٍ زراعيّة، فزرعها الغاصب، يُقضى عليه بأحد أمرَيْن بعد تثبيت حقّ الوقْف؛ إمّا أن يكون الأمر بينه وبين الوقف مُزَارَعةً، ويُعتبر العُرف في تحديد نصيب كلٍّ من الطرفين إذا كان ذلك أنفع للوقف، أو يُقضى عليه بدفع أجرة المثل إذا كان ذلك هو الأنفع.