خطبة المسجد النبوي - كرم الله ونعمه على عبده


مجلة الفرقان



جاءت خطبة الجمعة في الحرم المدني بتاريخ 10 من صفر 1443هـ - الموافق 17/9/2021م للشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي متحدثة عن كرم الله ونعمه على عبده، وكان مما جاء فيها:

الإنسان مخلوق عجيب

ذكر الحذيفي الله -تعالى-: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وقال-تعالى-: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

ثم قال: والإنسان مخلوق من مخلوقات الله عجيب،جمع الله فيه من عجائب الصفات ما لم توجد في غيره، قال الله -تعالى-: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، وقال -تعالى-: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، وقال أيضاً: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}.

كَرَّم الله -تعالى- بني آدم

ثم تطرق الشيخ الحذيفي إلى أن الله -تبارك و-تعالى- قد امتن علي بني آدم بالتكريم لهم فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.

والتكريم من الله لبني آدم تكريم عام للبر والفاجر، والمؤمن والكافر في هذه الحياة الدنيا بالنعم، والتكريم الخاص في الآخرة برضوان الله وجنات النعيم للمؤمنين، وليس للكافر نصيب في الآخرة، ولا يظلم ربك أحدا، بل لا يكرم الله في الآخرة إلا من أطاعه من الإنس والجن، روى ابن عساكر من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الملائكة قالوا: ربنا خلقتنا وخلقت بني أدم، فجعلتهم يأكلون الطعام، ويشربون الشراب، ويلبسون الثياب، ويأتون النساء، ويركبون الدواب، وينامون ويستريحون،ولم تجعلنا من ذلك شيء فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال الله: لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان».

عظائم نعم الله

ثم بين إمام الحرم النبوي أن من عظائم نعم الله على بني آدم ما سخره لهم من المنافع والمصالح قال -تبارك وتعالى-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}. وقال -عز وجل-: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}.

والحكمة من إسباغ النعمة على بني آدم ليصبحوا بالطاعة لله -تعالى-، ويشكروا ولا يشركوا به شيئا، قال -تعالى-: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}.

قال ابن كثير في تفسيره أي: هكذا يجعل الله لكم ما تستعينون به على أمركم، وما تحتاجون إليه ليكون عونا على طاعته وعبادته.

الحكمة من خلق الإنسان

ووضح فضيلته بأن ما نوه الله -عز وجل- بذكر الإنسان ومنذ أن خلق الله آدم -عليه السلام- بيده وما بين من أطوار وأحوال هذا الإنسان إلا ليبين لهم مهمته في هذه الحياة، ويعلمهم بوظيفته والحكمة من خلقه، وأنه محل تكليفه وأمره ونهيه، وأنه حامل أمانة الشريعه وشرف عبادة ربه، قال -تعالى-: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}، قال الشافعي -رحمه الله-: لا يؤمر ولا ينهى. وقال -تعالى-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}.

صلاح الكون بصلاح العمل

ثم أشار الحذيفي إلى أن مما بين الله سبحانه و-تعالى- لنا من سنن هذا الكون وما خلق فيه من الأسباب التي تؤكد في وجود ما بعد هذه الأسباب، أنه -سبحانه وتعالى- بين لنا من سننه في هذه الحياة أن أعمال الإنسان تصلح بها الحياة إذا كانت أعماله صالحة، ويدخل الفساد في الحياة إذا كانت أعمال الإنسان فاسدة، وأن أعمال الإنسان يسري صلاحها أو فسادها حتى في الحيوان والنبات رحمة من الله وعدلا؛ ليلزم الإنسان الطاعات ويهجر المحرمات، قال الله -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

وقال -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}.

والقرآن هو الذي أنزله الله للمسلمين ولأهل الكتاب لم يبدله أحد ولم يغيره قال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}، أي: أي لم يخرجوا إيمانهم بشرك كما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم .

ما لك وما عليك

ثم قال الشيخ: وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، أي: إن تنصروا دين الله.

وقال -عز وجل-: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، قال ابن كثير -رحمه الله-: خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقرأ هذه الآية وقال: إنها ليست على الوالي وحده ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم، وما للوالي عليكم منه، إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذ من بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم الطاعة.

وفي قوله: {ولله عاقبة الأمور}، آمان لمن قام بهذه الأمور الأربع من كيد الأعداء كما قال -تعالى-: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.

الخير يعم بصلاح العمل

ثم أكد فضيلته أن صلاح عمل الإنسان يعم بالخير فهو يخص العامل نفسه كما قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

ويقابل هذا أن فساد عمل الإنسان يضر العامل، ويدخل الفساد على الحياة قال -سبحانه-: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}. وقال -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}, وقال -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.

وتدبر حال الذين أساؤوا العمل ماذا نزل بهم وماذا دخل على الحياة بفساد أعمالهم قال -تعالى-: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ}.

وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خمس بخمس ماظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا أخذوا بالسنين وحبس القطر، ولولا البهائم لم يمطروا، وما طففوا المكيال إلا أخذوا بالقحط وجور السلطان، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم».

قال -تعالى-: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}.

نعم الله على الإنسان

ثم توجه إمام الحرم النبوي بنصيحة فقال: أيها الإنسان انظر ما أنعم الله عليك به من النعم التي لا يقدر غير الله أن يحصيها، فلو سلب منك أقل نعمه لم يقدر أحد غير الله -تعالى- أن يردها عليك، وليس في نعم الله قليل، وأنت أيها الإنسان باستقامتك واصلاحك وبذلك للخير وكفك عن الشر تكون معينا على الحفاظ على مجتمعك، ومنقذا لنفسك من الشرور والعقوبات، واعلم أنك مسؤول عن أعمالك في حياتك وبعد مماتك، فانظر ماذا تقول لربك؟ قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا}.


وفي الحديث: «لن تزولا قدم عبد حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به».

وأعلم أيها إنسان أن دارك الباقية هي التي أمامك بعد الموت فطوبى لك إن عمرتها بالصالحات، وويل لك إن رضيت بدنياك ونسيت أخراك، فدنياك مدبرة عنك إن أحببتها أو كرهتها، والآخرة مقبلة إليك على ما قدمت دائمة باقية.