من وصايا السلف للشباب (1)
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
لا يخفى أن مرحلة الشباب مرحلة مهمة جدا في حياة الإنسان؛ لأنها مرحلة القوة والنشاط، وسهولة الحركة، وقوة الأعضاء، وسلامة الحواس، بينما إذا كبر الإنسان تضعف منه حواسه وقواه.
وقد أولى الإسلام هذه المرحلة اهتماما خاصا، ورعاية عظيمة، وجاءت النصوص مؤكدة على عظم شأن هذه المرحلة وأهميتها، فقد حث نبينا - صلى الله عليه وسلم - على المبادرة لاغتنامها والحذر من إضاعتها.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
فمرحلة الشباب داخلة في عموم قوله -صلى الله عليه وسلم -: «وحياتك قبل موتك»؛ لكنه -عليه الصلاة والسلام- خص هذه المرحلة بالذكر لعظم أهميتها وكبير شأنها، فينبغي التيقظ لذلك وعدم التهاون بها.
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم».
فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم - أن المرء يسأل يوم القيامة عن حياته بسؤالين:
- الأول: عن مرحلة الشباب خصوصا، مع أنه إذا سئل عن حياته فإن مرحلة الشباب داخلة فيها؛ لكنه يسأل يوم القيامة عنها سؤالا خاصا.
ولهذا ينبغي على الشاب أن ينتبه لأهمية هذه المرحلة، ويتذكر دائما أن ربه -عز وجل- سيسأله يوم القيامة ماذا عمل فيها، إضافة إلى السؤال عن عمله في عمره كله المتضمن لمرحلة الشباب؛ لأنها مرحلة القوة والنشاط، ويسر الحركة، وقوة الأعضاء، واكتمال الحواس.
ولهذا حث النبي -صلى الله عليه وسلم - أيضا أهل العلم والمعتنين بالتربية والدعوة والتعليم بالشباب؛ لأن الشاب يحتاج إلى عناية وملاطفة، ورفق وتودد، وتحبيب له في الخير وأهله؛ حتى لا يتخطفه أهل الباطل وأرباب المحرمات.
ولهذا حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على تحقيق هذه المعاني الجليلة كما جاء عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - أنه كان إذا رأى الشباب قال: «مرحبا بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن نوسع لكم في المجلس، وأن نفهمكم الحديث؛ فإنكوم خلوفنا، وأهل الحديث بعدنا»، وكان يقبل على» الشاب فيقول له: «يا ابن أخي، إذا شككت في شيء فسلني حتى تستيقن، فإنك إن تنصرف على اليقين أحب إليَّ من أن تنصرف على الشك». وكان عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه - إذا رأى الشباب يطلبون العلم قال: «مرحبا بينابيع الحكمة ومصابيح الظلم، خلقان الثياب، جدد القلوب، حلس البيوت، ريحان كل قبيلة».
ووصايا السلف -رحمهم الله- للشباب وعنايتهم بهذه المرحلة كثيرة جدا، وفي هذه السلسلة (من وصايا السلف للشباب) انتقيت جملة منها، مع تعليق يسير على كل وصية.
الوصية الأولى: اغتنم شبابك
عن أبي الأحوص قال: قال أبو إسحق- وهو عمرو السبيعي: «يا معشر الشباب اغتنموا -أي شبابكم-، قلما تمر بي ليلة إلا وأقرأ فيها ألف آية، وإني لأقرأ البقرة في ركعة، وإني لأصوم الشهر الحرام، وثلاثة أيام من كل شهر والاثنين والخميس، ثم تلا: {وأما بنعمة ربك فحدث}.
قوله: «أقرأ ألف آية في الليلة»: يراد به التقريب لا التحديد، ومعناه أنه يختم القرآن في كل أسبوع، مرة، وختم القرآن في كل أسبوع مرة هو دأب عامة السلف.
وعن عمرو بن ميمون أنه كان يلقى الرجل من إخوانه فيقول: «لقد رزقني الله البارحة من الصلاة كذا، ورزق من الخير كذا».
قال أبو عبدالله الحاكم في (المستدرك)، بعد إخراجه للأثرين السابقين: «فرحم الله عمرو بن عبيد الله السبيعي، وعمرو ابن ميمون الأودي؛ فلقد نبها لما يرغب الشباب في العبادة».
وفي الأثرين أيضا: التربية بالقدوة، فالشاب يحتاج إلى هذا المقام حتى ينشط ويسهل عليه الامتثال، لكن ينبغي للمعلم أن يتنبه إلى حسن نيته وقصده، حتى لا يقع في الرياء فيحبط عمله.
الوصية الثانية: وحبه لطالب العلم
ومن جملة وصايا السلف للشباب: ما جاء عن حماد بن زيد أنه قال: دخلنا على أنس بن سيرين -رحمه الله- في مرضه فقال: «اتقوا الله يا معشر الشباب، انظروا ممن تأخذون هذه الأحاديث؛ فإنها من دينكم».
وهذه وصية عظيمة جدا، وهي: أن الشاب المقبل على طلب العلم وتحصيل الحديث، ينبغي أن يكون تحصيله له على أيدي أهل العلم الراسخين الأثبات، أهل الدراية والبصيرة، الأكابر في العلم، لا أن يأخذ العلم عن كل أحد؛ وإنما يأخذ العلم عن صاحب سنة رسخت قدمه فيها.
فعن ابن شوذب -رحمه الله- قال: «إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يواخي صاحب سنة، يحمله عليها».
وعن عمرو بن قيس الملائي -رحمه الله- قال: «إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب علي أول نشوئه».
وعن عمرو بن قيس -رحمه الله- قال: «إن الشباب لينشأ، فإن آثر أن يجالس أهل العلم كاد أن يَسلَم، وإن مال إلى غيرهم كاد يعطب».
إنما الخير في الشباب
- أما الوصية الثالثة: ما جاء عن مالك بن دينار -رحمه الله- أنه قال: «إنما الخير في الشباب».
هذا تنبيه عظيم من مالك بن دينار -رحمه الله- لأهمية هذه المرحلة، وأن الشباب إذا أحسن استغلالها حصَّل خيرا عظيماً، وأصبح ما حصله في شبابه ركيزة وعمدة وأصلا ثابتاً يبقى معه إلى مماته، نفعا لنفسه، ونفعا لأمته، ونصحا لغيره.
بينما إذا لم يحسن ذلك، أضاع على نفسه خيرية هذه المرحلة وبركتها.
وعندما يجتمع للشباب: قوة الشباب، وفراغ الوقت، ووفرة المال باليد؛ فهذه تكون مهلكة له، كما قال القائل:
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده
فإذا انضم إلى قوة الشباب، وفراغ الوقت، ووفرة المال أمر رابع: وهو كثرة الفتن، وقربها من الشباب، وكثرة أبوابها؛ فهذه من أعظم المهلكات للشباب التي يجني بها على مرحلة شبابه جناية عظيمة، ويفوت على نفسه خير الشباب وبركته.
فمالك بن دينار -رحمه الله- كان يقول: «إنما الخير في الشباب» تنبيها منه على عظم البركة والخير في هذه المرحلة إذا وفق الله الشباب وأعانه على استغلالها فيما يرضيه.