من أوصاف المنافقين: لمز المتطوعين في عمل الخير


الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر


استوقفتني كلمةٌ رائعةٌ نقلها الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في كتابه المستطاب «طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول»؛ وهو كتاب فذٌّ جَمَع فيه -رحمه الله- ما يزيد على الألف، ما بين أصل وقاعدة، وضابط وكلام جامع من كلام الشيخين الجليلين -شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم-، وهو بحق موسوعةٌ رائعةٌ لكثرة ما حواه من أصول وقواعد وضوابط في أنواع الفنون.

أقول: استوقفتني في هذا الكتاب كلمة نقلها الشيخ -رحمه الله- عن الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية وهي قوله: «الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة من أوصاف المنافقين، وفيه فتحُ الباب لأهل الشر والفساد»

وأخذتُ أجيل النظر في معاني هذه الكلمة ودلالاتها، وأتأمل في فوائدها وثمراتها، ووجدت أنها كلمة عظيمة، يجدر بالمسلم أن يتأملها وأن يقف على فوائدها ودلالاتها.

إن من يُظهر الأعمال المشروعة ويسعى جاهداً في بذلها ونفسُه سخيَّةٌ بها حقه أن يُكرم ويوقر، وأن تُكِنَّ له القلوب المحبةَ والمودة، وأن يُدعى له بالخير لقاءَ جهوده وجزاء إحسانه ومقابل بذله وعطائه، أيًّا كانت أعماله التي يظهرها ما دامت أعمالاً مشروعة، ومن ذلك: الدعوة إلى الله، وتحفيظ القرآن، وبناء المساجد، وطباعة الكتب النافعة، وكفالة الأيتام، ومساعدة الفقراء، وإعانة المعسرين، وقضاء الديون، ومساعدة المتزوجين، إلى غير ذلك من أعمال البر المشروعة؛ فكل من يقوم بشيء من هذه الأعمال المباركة، ويسعى في هذه المصالح النافعة حقه الإكرام، وأن يحسَن به الظن؛ إذ هو على ثغرةٍ مباركة وفي عملٍ نبيل، وكيف يساء بأمثال هؤلاء الظن، أو تكال لهم الطعون، أو توجَّه إليهم التُّهم، أو يدخل في نواياهم ومقاصدهم؟! وقد ذمَّ الله المنافقين بمثل هذا، قال الله -عز وجل- {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة:79)، فقد جاءت هذه الآية ضمن سياقٍ كريم في سورة التوبة في بيان أوصاف المنافقين وقبائحهم ومخازيهم، وفي السورة آيات ٌكثيرة منها؛ ما يبدأ بقوله {وَمِنْهُمْ}، ومنها ما يبدأ بقوله {الَّذِينَ} ثم تُذكر أوصاف هؤلاء، وفي هذه الآية ذكر -عز وجل- من أوصافهم أنهم يلمزون المطوعين في الصدقات، ويلمزون كذلك الذين لا يجدون إلا جهدهم؛ أي أنهم يلمزون المكثر من الإنفاق في سبيل الله؛ بأنَّ قصده بنفقته الرياء والسمعة والمفاخرة ونحو ذلك، ويلمزون المقِلَّ في النفقة؛ لكونه لا يجد إلا القليل بقولهم: إن الله غني عن نفقته. فلم يسْلَم منهم مقلٌّ ولا مكثِر، بل لا يدَعون شيئاً من أمور الدين وأفعال الخير يرون لهم فيها مقالاً إلا طعنوا وتكلموا بالبغي والعدوان والظلم والبهتان. نسأل الله العافية والسلامة.

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: «وهذه أيضاً من صفات المنافقين؛ لا يسلم أحدٌ من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدِّقون يسْلمون منهم، إن جاء أحدٌ منهم بمالٍ جزيل قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغنيٌّ عن صدقة هذا. كما روى البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه- قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نُحَامِلُ على ظهورنا، فجاء رجل فتصدَّق بشيء كثير، فقالوا: مراءٍ، وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغنيٌّ عن صدقة هذا؛ فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} الآية. وقد رواه مسلم أيضاً. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: وقال جاء عبد الرحمن ابن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل من الأنصار بصاعٍ من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً. وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيَّيْن عن هذا الصاع. وكذا روي عن مجاهدٍ وغير واحد.

وروى الحافظ أبو بكر البزار: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا»، قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي، وألفين لعيالي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت». وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله، أصبت صاعين من تمر: صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي، قال: فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابنُ عوف إلا رياءً! وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} الآية ا.هـ مختصراً.

المنافقون بهذا الطعن واللمز بين جملةٍ من الخصال الذميمة والخلال المشينة، وفي هذا يقول الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: «فإنهم وقعوا في كلامهم هذا بين محاذير عدة:

منها: تتبعهم لأحوال المؤمنين وحرصهم على أن يجدوا مقالاً يقولونه فيهم، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:19).

ومنها: طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم؛ كفراً بالله -تعالى- وبُغضاً للدين.

ومنها: أنَّ اللَّمز محرَّم، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا، وأما اللمز في أمر الطاعة فأقبح وأقبح.

ومنها: أنَّ من أطاع الله وتطوع بخصلةٍ من خصال الخير فإن الذي ينبغي إعانته وتنشيطه على عمله، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم وعابوهم عليه.

ومنها: أن حكمهم على من أنفق مالاً كثيراً بأنه مراءٍ غلطٌ فاحش، وحكمٌ على الغيب، ورجمٌ بالظن؛ وأي شر أكبر من هذا؟.

ومنها: أنَّ قولهم لصاحب الصدقة القليلة: الله غنيٌّ عن صدقة هذا! كلام مقصوده باطل؛ فإن الله غنيٌّ عن صدقة المتصدِّق بالقليل والكثير، بل وغنيٌّ عن أهل السماوات والأرض، ولكنه -تعالى- أمر العباد بما هم مفتقرون إليه؛ فالله وإن كان غنيا عنهم فهم فقراء إليه؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (الزلزلة:7)، وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهرٌ بيِّن؛ ولهذا كان جزاؤهم أن يسخر الله منهم ولهم عذابٌ أليم» ا.هـ.

ومن خلال ما تقدَّم يُعلم أنَّ الطعن فيمن يُظهر الأعمال المشروعة ووصْفه بالرياء أو التشكيك في نيته إنما هو من أعمال المنافقين كما هو واضحٌ في الآية المتقدمة وفي الأحاديث المبيِّنة لها، وهو من قبيل ما جاء في المثل «رمتني بدائها وانسلَّت»، ثم هو كذلك من أعمال المشركين؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - قال: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي...» الحديث؛ فرمى هؤلاء المشركين سيِّدَ ولد آدم وإمامَ المخلِصين وقدوة الموحِّدين بالرياء لما رأوه متعبِّداً لله عز وجل.

ويُعلم كذلك أن النهي عن الأعمال المشروعة والتخذيل عنها بحجة البُعد عن الرياء والسلامة منه مسلكٌ غير صحيح، بل يترتب عليه أضرارٌ كثيرة وأخطارٌ عديدة لا يُعلم مداها، ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المقام كلامٌ عظيمُ النفع كبيرُ الفائدة، أنقله بحروفه رجاء أن ينفع الله به كل من يطَّلع عليه، قال رحمه الله: «وَمَنْ نَهَى عَنْ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ بِمُجَرَّدِ زَعْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ فَنَهْيُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

- أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِهَا وَبِالْإِخْلَاص ِ فِيهَا، وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا مَنْ يَفْعَلُهَا أَقْرَرْنَاهُ، وَإِنْ جَزَمْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا رِيَاءً فَالْمُنَافِقُو نَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} (النساء:142)، فَهَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُون َ يُقِرُّونَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الدِّينِ وَإِنْ كَانُوا مُرَائِينَ وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ الْمَشْرُوعِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِهِ رِيَاءً، كَمَا أَنَّ فَسَادَ تَرْكِ إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِيَاءً؛ وَلِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ.

- الثَّانِي: لِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا أَنْكَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ -صلى الله عليه وسلم - «إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَنْ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: مَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَحْبَبْنَاهُ وَوَالَيْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا أَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ سَرِيرَتَهُ صَالِحَةٌ.

- الثَّالِثُ: أَنَّ تَسْوِيغَ مِثْلِ هَذَا يُفْضِي إلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ إذَا رَأَوْا مَنْ يُظْهِرُ أَمْرًا مَشْرُوعًا مَسْنُونًا، قَالُوا: هَذَا مِرَاءٌ، فَيَتْرُكُ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ إظْهَارَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ حَذَرًا مِنْ لَمْزِهِمْ وَذَمِّهِمْ فَيَتَعَطَّلُ الْخَيْرُ وَيَبْقَى لِأَهْلِ الشِّرْكِ شَوْكَةٌ يُظْهِرُونَ الشَّرَّ وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ. الرَّابِعُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَعَائِرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ يَطْعَنُ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة:79)، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حَضَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَامَ تَبُوكَ جَاءَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِصُرَّةِ كَادَتْ يَدُهُ تَعْجِزُ مِنْ حَمْلِهَا فَقَالُوا: هَذَا مِرَاءٌ، وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بِصَاعِ فَقَالُوا: لَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ صَاعِ فُلَانٍ، فَلَمَزُوا هَذَا وَهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَصَارَ عِبْرَةً فِيمَنْ يَلْمِزُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم -. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ».


هذا ونسأل الله أن يبارك في كل من قام بعمل مشروع قَلَّ أو جَلّ، صغُر أو كبُر، وأن يزيدهم من الخير، وأن يتقبَّل منهم صالح أعمالهم، وأن يعيذهم من شر كل ذي شر، ومن شرِّ كل دابة هو آخذ بناصيتها؛ إنه -سبحانه- سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.