تطهير العسكري الجريح لجرحه عند الوضوء والغسل

المسائل الفقهية المتعلقة بالعسكريين سواء كانوا في أرض المعركة، أم المرابطة، أم غيرها، وسواء كانوا في حالة حرب، أم سلم، أم تدريب كثيرة، ويحتاج كثير منها إلى بحث وتحرير ولاسيما مع تقدم الصناعات الحربية واختلاف أحوال المعارك والمرابطات والتدريبات عما كان عليه الناس سابقاً، والإسلام بشموله ويسره وبيانه قعد القواعد الكلية التي يمكن تنزيل الصور الحادثة والمستجدات عليها للوصول إلى الحكم الشرعي في تلك النوازل.
والجندي في معركته أو تدريبه يصاب بجراح، أو كسور، أو حروق، تمنع من غسل أعضائه للوضوء أو الغسل من الجنابة، وقد تكون على جروحه أو كسوره جبائر ونحوها فهل يمسح عليها؟ أم يتيمم لها؟ أم ماذا يفعل؟
هذه المسألة المهمة نبحثها بحثاً مختصراً مستعرضاً أهم أقوال العلماء فيها مع أدلتهم، وما ترجح لدي، عسى أن تكون نافعة لإخواننا العسكريين وللقراء بوجه عام.
الجرح مشتق من الجراح والجراح لغة: جمع جرح وهو من الجرح - بفتح الجيم - وفعله من باب نفع. يقال: جرحه يجرحه جرحاً إذا أثر فيه بالسلاح والجرح - بضم الجيم - الاسم، والجمع جروح، وجراح، وجاء جمعه على أجراح، والجراحة اسم الضربة أو الطعنة. ويقال امرأة جريح ورجل جريح (1).
وقد يصيب العسكري جرح في أحد أعضائه يكون سبباً في تأثره بجراحه عند استخدام الماء كما يستخدمه الصحيح، ولهذا فقد اختلف أهل العلم فيمن يتأثر بجراحه في أرض القتال أو غيرها، كيف يتوضأ أو يغتسل مع وجود الجرح، هل يغسله أم يتيمم أم يفعل غير ذلك؟ خلاف على قولين:

القول الأول:
الواجب في حق الجريح الذي يتضرر من غسل جراحته، أن يمسح على عين الجراحة إذا كان المسح عليها لا يضره، وإلا وجب عليه أن يمسح على الجبيرة. وخوف الضرر المجيز للمسح هو الخوف المجيز للتيمم، وإليه ذهب أهل العلم من الحنفية(2) والمالكية(3) وهي الرواية الصحيحة عند الحنابلة(4) واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية(5) وفصّل هؤلاء في الغسل من الجنابة فاعتبر الحنفية التيمم لو كان أكثر البدن أو نصفه جريحاً، وقياس الكثرة تعتبر بعدد الأعضاء، وإن كان أكثره صحيحاً غسل الصحيح، ومسح الجريح، وإن ضره المسح تركه.
في حين نحى المالكية إلى التفصيل في حال الجرح، فله عندهم حالتان(6):
الأولى: أن لا يتضرر من غسل الجزء الصحيح المحيط بالجرح، فالواجب في حقه غسله ومسح الجرح إذا خاف الهلاك أو شدة الضرر.
الثانية: أن يتضرر من غسل الجزء الصحيح المحيط بالجرح، ففرضه التيمم سواء أكان الصحيح هو الأكثر أم الأقل. كما لو عمت الجراحة جميع جسده وتعذر الغسل ففرضه التيمم. وإن تعذر وشق مس الجرح بالماء، والجراحة واقعة في أعضاء تيممه تركها بلا غسل ولا مسح؛ لتعذر مسها وتوضأ وضوءاً ناقصاً، بأن يغسل أو يمسح ما عداها من أعضاء الوضوء، وأما إن كانت الجراح في غير أعضاء التيمم ففي المسألة عندهم أربعة أقوال:
أولها: يتيمم ليأتي بطهارة ترابية كاملة. بخلاف ما لو توضأ كانت طهارته ناقصة لعدم إمكانه غسل الجرح.
ثانيها: يغسل ما صح ويسقط محل الجراح، لأن التيمم إنما يكون عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله.
ثالثها: يتيمم إن كانت الجراحة أكثر من الصحيح، لأن الأقل تابع للأكثر.
رابعها: يجمع بين الغسل والتيمم فيغسل الصحيح ويتيمم للجريح، ويقدم الغسل.
القول الثاني:
يلزمه غسل الصحيح والتيمم عن الجريح. وهو مخير في غسل الجنابة، فإن شاء غسل الصحيح ثم تيمم عن الجريح، وإن شاء تيمم ثم غسل إذ لا ترتيب في طهارته. أما في الوضوء فالترتيب واجب، فلا ينتقل من عضو إلى آخر حتى يكمل طهارته، وإليه ذهب أهل العلم من الشافعية(7) والحنابلة(8).
الأدلة:
أدلة القائلين بوجوب المسح على الجراح عند عدم وجود ضرر من جراء المسح:
1- قوله - تعالى -: فاتقوا الله ما استطعتم(16) التغابن: 16.
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(9).
ووجه الدلالة:
حيث ورد التوجيه النبوي على أن العبرة في هذه المسائل وأمثالها إنما هو الاستطاعة، فعلى ذلك لا يجب على من أصيب إلا المسح عند وجود الضرر من غسل الجرح، وعدم المسح عليه عند وجود الضرر.
3- قياس الأولى؛ فإذا كان المسح على الجبيرة جائزاً عند التفافها على العضو المصاب فلأن يكون المسح على ذات الجرح جائزاً بطريق الأولى(10).
أدلة القول الثاني القائل بالغسل والتيمم معاً (فيغسل الصحيح من البدن ويتيمم عن الجراح التي يتضرر بغسلها):
1- حديث صاحب الشجة الذي غسل جرحه الذي في رأسه فمات من أثرذلك.
فعن جابر - رضي الله عنه - قال: "خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا شجةٌ في وجهه ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات. فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما علاج العي السؤال، إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جراحه خرقة ثم يمسح عليها ثم يغسل سائر جسده""(11).
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث جمع بين الغسل والتيمم. فتعين القول بهما.
الترجيح:
الذي يترجح والله أعلم بالصواب هو القول الثاني فالجندي الجريح في أرض المعركة أو غيرها، يتيمم ثم يمسح على الجزء المصاب الذي سيتأثر من الماء، ويغسل الباقي من أعضاء الوضوء، أو سائر جسده عند الجنابة، وذلك لما يلي:
1- لما ورد من الجمع بينهما في حديث صاحب الشجة السابق، قال الإمام الخطابي: "وفيه من الفقه أنه أمر بالجمع بين التيمم وغسل سائر جسده بالماء ولم ير أحد الأمرين كافياً دون الآخر"(12).
2- لقوله - تعالى -: فاتقوا الله ما استطعتم 16 التغابن: 16، وهو في هذه الحال يأتي بما استطاع.
فإن كان يضره المسح على الجرح فإنه لا يمسح عليه ويسقط عنه لتضرره بالمسح وهو مادلت عليه نصوص الشريعة دفعاً للضرر.
________________________
الهوامش:
1 - انظر: لسان العرب ومعجم مقاييس اللغة مادة(جرح).
2 - انظر: البحر الرائق(1-284)
3 - انظر: حاشية الدسوقي(1-163) وما بعدها ومواهب الجليل(1-531)
4 - انظر: الإنصاف(1-271)
5 - انظر: مجموع الفتاوى(21-178)
6 - انظر: حاشية الدسوقي(1-163) وما بعدها ومواهب الجليل(1-531)
7 - انظر: المجموع شرح المهذب(2-333)وما بعدها
8 -انظر: المغني (1-337)
9 - أخرجه البخاري في صحيحه؛كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة (7288)
10 - انظر: مجموع الفتاوى(21-178).
11- أخرجه أبو داوود، في الطهارة (332) وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع(4363)
12- انظر: معالم السنن للخطابي.