رجال لكل زمان


سعد بن عبد الله الحميد


الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ بقايا من أهل العلم، يدْعون من ضلَّ إلى الهدى، وينهونه عن الرَّدى، ويحيون بكتاب الله - تعالى - الموتى، وبسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ الجهالة والردى، ويصبرون منهم على الأذى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيَوْه! وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدَوْه! بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسنَ أثرَهم على الناس! وأقبحَ أثرَ الناس عليهم! ينفون عن دين الله - عز وجل - تحريفَ الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الضالين الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عنان الفتنة، يقولون عن الله وفي الله وفي كتابه بغير علم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.


أما بعد:
فيا أيها الناس، مقدمة هذه الخطبة تُؤثَر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعن الإمام أحمد - رحمه الله - وهي في وصْف أهل السُّنة، الذين جعلهم الله درعًا للإسلام منذ وفاته - صلى الله عليه وسلم - إلى عصرنا هذا، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، يذبُّون عن دين الله باللِّسان والسِّنان والقلم، يرمون بأنفسهم في كل فجيعة؛ ذودًا عن حمى الدين وحوزة الإسلام، يقفون في وجه كلِّ معتدٍ وضالٍّ ومعاند، فهم الذين وقفوا في وجه أهل الرِّدة حتى حصدوا شوكتهم، وهم الذين قاتَلوا كسرى وقيصر حتى أسقطوا دولة كل منهم، وهم الذين جابهوا الخوارج فأقنعوا مَن اقتنع منهم باللسان، وأجهزوا على بقيتهم بالسِّنان، وهم الذين وقفوا في وجه الرافضة وأحرقوا الغلاة منهم، وهم الذين وقفوا في وجه نُفاة القَدَر حتى أبطلوا حجتهم، فأضحتْ عقيدتهم - بحمد الله - في القرون الأولى هي السائدةَ، ثم توالتِ الهجمات الشرسة على الإسلام وأهله، وتبنَّى بعض الخلفاء غيرَ معتقَد أهل السنة، فزادتْ ضراوةُ الفتنة، وأصبح أهل السنة في مواجهة فِرَقٍ نشرتْ باطلها بالسيف والتعذيب، وهم لا يملكون سوى اللسان والقلم، ومع ذلك وقفوا، وعُرِضَ من عُرض منهم على السيف، وعُذِّب من عذب، وعلى رأسهم إمام أهل السنة أبو عبدالله أحمد بن حنبل - رحمه الله - ثم خذل الله أهل البدع، وتولَّى الأمرَ بعدُ أهلُ السنة.

والصراع على أشدِّه بين الحق والباطل، وللباطل وأهله مواقفُ ذليلة، فحينما عجزوا عن مجابهة أهل الحق في ساحة الوغى، لجؤوا لقطع الطرق على الجميع، ومداهمتهم في مقرِّ أمنهم، في بيت الله الذي مَن دخَلَه كان آمنًا، وهكذا نرى أهل السنة قد وقفوا في هذه الفترة في مواجهة قوة الخوارج، وثورة الزنج، وفتنة الجهمية والمعتزلة، وغيرهم من فرق أهل الكلام، وفي مواجهة الباطنية، جميعها فرق تنتسب إلى الإسلام، إلى أن أحس الأعداء من الخارج بضعف دولة الإسلام، بسبب هذه الانقسامات؛ فهجموا هم أيضًا في حملة صليبية حاقدة شرسة، فأخذوا ثالث المساجد التي تُشَدُّ إليها الرِّحال، وقِبلة المسلمين الأولى، فكان لأهل السنة معهم وقفاتٌ انتهتْ بخذلان الباطل وانتصار الحق، وإعادة المسجد الأقصى، ومع هذا فالصليبيون لا يألون جهدًا في محاولة كسْب الموقف، إلى أن دهم البلادَ خطرٌ آخر، خطر وحشي، حملة مغولية من التتار الذين أتوا على الديار، فأبادوا الأخضر واليابس، لم يرحموا شيخًا ولا طفلاً ولا امرأة، وسقطتْ في أيديهم البلاد تلو البلاد، ولم يبقَ لأهل السنة إلا نواةٌ انطلقوا منها، ووقفوا في وجه هذا العدو، وسعى من سعى من أعلام المسلمين وأئمة الدين في شحذ الهمم، وطمأنة النفوس، ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، فكتب الله النصر لأهل الإسلام، وعاد العدو أدراجه خاسرًا ذليلاً.

ولم تكن مواقف أهل السنة في هذه الفترة مقصورة على المواجهة في القتال؛ بل بالكتابة والدعوة إلى الرجوع للمنهج السليم، والرد على كل مبتدعٍ وضال، وإن أدى ذلك إلى شيء من الأذى والاضطهاد، فهم الذين يدْعون من ضلَّ إلى الهدى، وينهونه عن الردى، ويحيون بكتاب الله الموتى، ويصبرون منهم على الأذى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه! وكم من تائهٍ ضال قد هدوه! بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم!

إي والله، لقد بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فمنهم من قُتل، ومنهم من سُجن حتى مات في السجن، ومنهم من عُذِّب، احتملوا كلَّ ذلك لله وفي الله، وفي سبيل تبليغ دين الله لمن بعدهم، صافيًا لا تشوبه شوائبُ أهل الزيغ والضلال، وقد وصل إلينا بحمد الله كذلك، فكان لزامًا علينا أن نذود عنه كما ذاد أسلافنا؛ إذ الحرب متوارثة مستمرة، فوجد أهل السنة اليوم أنفسهم في مواجهة أخطار عديدة كثيرة، وهم في حال ضعفٍ لا ناصر لهم ولا معين إلا الله، ووجدوا أنفسهم في مواجهة دولة اليهود ذات الجيش المزود بأحدث وأفتك أنواع الأسلحة، وفي مواجهة دولة النصارى، عباد الصليب، وهي تحتل جزءًا آخر من بلاد المسلمين، وفي مواجهة الإلحاد الشيوعي الماركسي، وهو يغزو البلاد ويدمر العباد، وجدوا أنفسهم في مواجهة هذه الجبهات العديدة التي فُتحت عليهم عسكريًّا، وجدوا أنفسهم وقد تداعتْ عليهم أممُ الكفر والضلال كما تَدَاعى الأكلةُ إلى قصعتها، كما أخبرهم بذلك نبيُّهم - صلى الله عليه وسلم - وكان الواجب علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا نحن المقصودون بالذات دون سائر الأمم بهذا الغزو الشرس؟ والجواب ظاهر، فاللص لا يأتي إلاَّ البيتَ الذي يظن وجود المال فيه.

فيا أيها الناس، لا شك أن الغزو العسكري الذي دَهَم بلادَ المسلمين غزوٌ خطر، له من الآثار السيئة ما لا يعلم مداه إلا الله، لكن مع ذلك ليت الأمر مقتصر على هذا الحد فقط، لكن هناك ما هو أخطر منه وأعظم، ألا وهو الغزو في الفكر والمعتقد، فكما أن أهل السنة في مواجهة ما سبق، فكذلك هم في مواجهة غزو من الداخل أشد وأنكى، فهم في مواجهة انحراف العقيدة عند الصوفية، وهم في مواجهة غزو الرافضة الشرس الذي هو في قمة نشاطه وأوج مجده، وهم في مواجهة شبهات ألقاها أعداءُ الإسلام من يهود ونصارى وشيوعيين، وشبهات ألقوا بها في دين الإسلام، وتلقَّفها جهلة أبناء المسلمين، وفي نظري أن كل هذا يهون عند غزو مبطن، ظاهرُه الترفيه والتسلية، وباطنُه فيه البلاء والهدم، فيه السم الزُّعاف القاتل، فيه اجترارنا إلى الهاوية، والانحراف بنا عن مسيرة الحق، إنه غزو من داخلنا، من أبنائنا، من بني جلدتنا، فحصوننا مهدَّدة من داخلها، ومن مأمنه يؤتى الحذِر.

أخرج البخاري في صحيحه عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر؛ مخافةَ أن يدركني، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَنٌ»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يَهدون بغير هدْيِي، تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دُعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرقَ كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».

معاشر الإخوة في الله:
هذا حديث عظيم جليل، ممن لا ينطق عن الهوى، فيه تحذير لكم من خطر المنافقين، وفيه بيان لمنهج الصحابة - رضي الله عنهم - في حرصهم على معرفة الشر ليحذروه، وقد تكالبتْ عليهم الشرور من كل جانب، وأنتم لا تعرفونها؛ بل تنساقون وراءها؛ لأنها تظهر لكم أشياء براقة لماعة، بألسنة كأنما يسيل منها العسل، وهم والله الخطر كل الخطر، يقول نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كما جاء عنه في الحديث الصحيح: «إن أخوف ما أخاف على أمَّتي: كل منافق عليم اللسان».

ويقول الحسن البصري - رحمه الله -: إنما الناس ثلاثة نفر: مؤمن، ومنافق، وكافر؛ فأما المؤمن فعامل بطاعة الله، وأما الكافر فقد أذلَّه الله - تعالى - كما رأيتم، وأما المنافق فها هنا وها هنا في الحجر والبيوت والطرق، نعوذ بالله، والله ما عرفوا ربهم؛ بل عرفوا إنكارهم لربهم بأعمالهم الخبيثة، ظهر الجفاء، وقلَّ العلم، وتُركت السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، حيارى، سكارى، ليسوا يهودًا، ولا نصارى، ولا مجوسًا، فيُحذروا.

وقال: إن المؤمن لم يأخذ دينه عن الناس، ولكن أتاه من قبل الله - عز وجل - فأخذه، وإن المنافق أعطى الناس لسانه، ومَنَعَ اللهَ قلبه وعمله، مُحْدِثان أحدثا في الإسلام: رجل ذو رأي سوء، زعم أن الجنة لمن رأى مِثل رأيه، فسلَّ سيفه، وسفك دماء المسلمين، واستحلَّ حرمتَهم، ومترفٌ يعبد الدنيا، لها يغضب، وعليها يقاتل، ولها يطلب.

وقال: يا سبحان الله! ما لقيت هذه الأمة من منافق قهرها واستأثر عليها، ومارق مرق من الدين، فخرج عليها صنفان خبيثان، قد غما كل مسلم، يا ابن آدم، دينَك دينك؛ فإنما هو لحمُك ودمك، فإن تسلم فيا لها من راحة، ويا لها من نعمة! وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله، فإنما هي نار لا تُطفأ، وجحيم لا يبرد، ونفس لا تموت.

فاللهَ الله معشرَ المسلمين:
كونوا على حذر من كل ما يعوقكم عن هدفكم، فما ظاهرُه اللهو وأنتم لا تدرون أنه تخدير لكم، وتدرج في إخراج نسائكم، حتى إذا هجم عليكم عدو - لا سمح الله - فإذا بكم صفر اليدين، بأي رجال تقاتلونه؟! أم بأي سلاح تصدُّونه؟! أبشبابٍ همُّه الكرةُ وتشجيع الأندية؟! شباب فتكت به المخدرات، وأمرضتْ جسمَه الآفات، شباب عبد الفيديو والمسكرات، أم بتلك المهرجانات والاحتفالات، التي تولونها هذا الاهتمام، وأمامكم قضايا؟!


فما أشبهكم بمريض تسري الآلامُ في جسده لا يعرض على طبيب! بل طبيبه اللهو واللذات العاجلة، حتى إذا تمكَّن المرض من جسده أسلم الروح، وفارق تلك اللذات، الله الله معشر الإخوة، كونوا مثل حذيفة.