اليقين (1)






كتبه/ شريف الهواري


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن معالم القرآن العظيمة: مَعْلَم اليقين، فالمنهج ككل مبني على اليقين؛ إن وجد استقر المنهج وإلا فبدون اليقين لا قدسية ولا مكانة للمنهج، فيكون المنهج عرضة للطعن والتشكيك.

1- اليقين للإيمان كالرأس بالنسبة للجسد. وقيل: كالروح بالنسبة للجسد، وفي الأثر عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قال: "تَعَلَّمُوا الْيَقِينَ كَمَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعْرِفُوهُ فَإِنِّي أَتَعَلَّمُهُ".

2- لأن حاجة المؤمن إلى اليقين أعظم من حاجته للطعام والشراب، فلا حياة حقيقية إلا به؛ لأن القلوب بدونه تموت وتتعطل، وتكون محلًا للشك والريبة والهوى.

3- اليقين من أعظم العبادات القلبية التي لها أبلغ الأثر على العبد ظاهرًا وباطنًا؛ ولمَ لا واليقين أصل لكلِّ العبادات القلبية الأخرى ودافع لها؟! فكيف يكون إخلاص بلا يقين؟! وكيف تكون المحبة إلا من خلال يقين؟!

وهكذا يولد اليقين الخوف والرجاء والتوكل، ويعزز الاستسلام والخضوع والانقياد التام لله تبارك وتعالى، قال بعض السلف: "اليقين أصل الدِّين".

4- تحذير: ما وصلت الأمة إلى لما وصلت إليه إلا مِن خلال أزمة يقين مرَّت بها؛ فالواقع المرير والأزمة الحقيقية التي تعاني منها الأمة أزمة يقين، ولن تعود إلى مكانتها إلا من خلال تحقيق اليقين في القلوب؛ لتنقاد لها سائر الجوارح والأركان، والله المستعان.

والباطل حريصٌ على الطعن في المنهج؛ لزعزعة اليقين فيه وفي جدارته للقيادة والريادة، وذلك بشتى الطرق والأساليب، انظروا كيف يفتحون أبواب الشك والريب في العقيدة والشريعة؟! وكيف استعملوا الترغيب والإبهار والإغراء في الإلحاد؟!

5- تعريف اليقين في اللغة: هو التصديق الجازم، وضده الشك والريبة.

وشرعًا: اليقين في الله وفي كتابه وفي رسوله، وفيما ورد عنهما من أوامر ونواهٍ، ووعدٍ ووعيدٍ، وجنة ونار، إلى آخره -وسنأتي لبيان ذلك مفصَّلًا-.

6- مِن أقوال السلف في اليقين:

قال الجنيد: اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يتغير في القلب.

قال ذو النون: اليقين هو النظر إلى الله في كل شيء، والرجوع إليه في كل أمر، والاستعانة به في كل حال.

قال الجرجاني: اليقين طمأنينة القلب على حقيقة الشيء، وتحقيق التصديق بالغيب بإزالة كل شك وريب.

قال ابن الجوزي: هو ما حصلت به الثقة وثلج به الصدر من العلم.

وقال بعضهم: اليقين هو العلم الجازم الذي لا يحتمل الشك.

حكم اليقين:

حكمه الوجوب، وهو أصل من أصول الإيمان؛ يزول الإيمان بزواله من القلب بالكلية، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) (الحجرات:15)، وهو شرط في قبول الشهادتين عند الله -عز وجل-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ، وأنِّي رسولُ اللهِ، لا يلْقى اللهَ بِهِما عبدٌ غيرُ شاكٍّ فِيهِما إلّا دخَلَ الجنةَ) (رواه مسلم)، فهو من شروط صحة الشهادتين.

مراتب اليقين:

1- علم يقين (يقين خبر).

2- عين يقين (يقين دلالة).

3- حق يقين (يقين مُشاهدة أو مُكاشفة).

علم يقين: وهو يقين الخبر، وهو سكون القلب واطمئنانه لخبر المُخبِر، وتصديقه فيما قال من أخبار.

عين يقين: وهو يقين الدلالة، وهو بعد أن سكن القلب واطمأن لخبر المخبر جاءه الدليل على صدق المخبر؛ فزاد القلب سكونًا وتصديقًا.

حق يقين: وهو يقين مشاهدة أو مكاشفة، وهو بعد سماع الخبر وتصديقه، ثم عرض الدليل وزيادة التصديق، فبذلك يصل إلى مرتبة مشاهدة الدليل والتيقن منه حيث لا يتسرب إليه أي شك، ويصل القلب إلى مشاهدة المخبر عنه كالعين أو كالمعاينة.

ففي الحالة الأولى قد يأتي مَن يُشكِّك في الخبر، وفي الحالة الثانية قد يأتي مَن يُشكك في الدليل، أما في الحالة الثالثة فلا يستطيع أحدٌ التشكيك؛ لوصول الأمر إلى حق اليقين.

ومثاله: ضرب بعض السلف مثالًا رائعًا لمراتب اليقين: جاءك مَن لم تجرِّب عليه كذبًا قبل ذلك، وهو يحمل معه علبة مغلقة، فقلتَ له: ما هذا؟ فقال: هذا عسل. لا شك أنه سيحصل عندك تصديق للثقة السابقة في المخبر، ثم بعد ذلك فتح العلبة، فقال لك: انظر إلى صفاء العسل ولونه، فنظرتَ فإذا هو لون العسل ورائحته أيضًا، وبهذا لا شك أنك ستزداد تصديقًا أنه عسل.

ولكن في المرة الأولى قد يأتيك مَن يشكك في خبره، ثم في الثانية يشكك في كونه عسلًا، بقوله: لعل اللون لون عسل؛ لكنه شيء آخر. لا شك أنه سيحصل عندك بعض الشك والريبة والتوجس.

وفي المرة الثالثة أخرج ملعقة وغرف بها العسل، وقال لك: تذوق العسل، وقل لي ما رأيك فيه. لا شك أنك ستصل إلى مرحلة المكاشفة والمشاهدة اليقينية التي لا تحتمل التشكيك من أحدٍ، ولو اجتمعت الدنيا على التشكيك فيه لن يفلحوا؛ فهذا اليقين الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن في ربه، وفي كتابه وفي رسوله وفيما ورد عنهما؛ حيث لا مجال للشك في أي شيء ورد، بل يصبح هذا اليقين طاقة للعمل ظاهرًا وباطنًا كما قلنا.

فلما كان اليقين في القمة عند الأنبياء والمرسلين والصحابة الكرام عَلَوْا فوق الدنيا، وارتقوا فوق سفاسفها؛ فملكوها وسادوا العباد والبلاد.

قال -تعالى- في محكم التنزيل: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24)، صبروا على ما يَلْقون؛ لعظيم يقينهم في الحق وفي العاقبة.

وكما ورد في الأثر: إنما تنال الإمامة في الدِّين بالصبر واليقين؛ لأن اليقين يُوَلِّد طاقة وحيوية وهمة عالية وعملًا متواصلًا، ويعطي توكلًا وثقة؛ فكمال اليقين بالله وبكتابه ورسوله وما جاء عنهما تكون العزة والأنفة والسكينة والطمأنينة، وحسن التوكل والثقة والقوة.

والآن تعال إلى تنزيل اليقين في أرض الواقع:

سنطرح عليك بعض الأسئلة أنت شخصيًّا عن يقينك في بعض الأمور المهمة التي من المفروض أنَّ يقينك فيها وصل إلى حق اليقين الذي هو القوة الدافعة، وقبل أن تجيب احذر أن تنكشف؛ فلليقين علامات في أرض الواقع، وسنحاول إيراد الثمرة الحقيقية لكل سؤال.

س1: هل أنت على يقين أنَّ لهذا الكون ربًّا هو الخالق المالك المدبِّر، الآمر المُشرع، المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، المقدم المؤخر، المحيي المميت، الرزاق، وأنه لا يكون في مُلكه إلا ما يريد؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الأمور تجري بمقادير، وأنه على كل شيء قدير، والذي لمَّا خلق القلم، قال: اكتب، قال: وماذا اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة من الآجال والأرزاق والأحوال؟

إن كانت الإجابة: لا؛ فهذا كفر -والعياذ بالله-، وإن كانت بنعم، وقد ورد ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله؛ قلنا لك: علامَ الهلع والفزع، والجزع والقلق، والخوف من غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو -سبحانه وتعالى-؟

إن اليقين في هذا يعطي السكينة والطمأنينة، والقوة والعزة، والأنفة والعلو، وأن الدنيا بـأسرها لا تملك لك ضرًّا ولا نفعًا إلا ما شاء الله.

س2: هل أنت على يقين في أسمائه وصفاته؟ وهل لها عليك في أرض الواقع أثر؟

مثال: هل عندك يقين على أنه الرقيب الحسيب الشهيد، السميع البصير، العليم الخبير؟

إن كانت الإجابة بلا؛ فهذا كفر، وإن كانت بنعم، فلِمَ كل هذه الجرأة وقلة الحياء؟ لماذا جعلته أهون الناظرين إليك؟ لماذا لا تستحيي وتنكسر وتستقيم على أمره ونهيه؟!

فهذه هي الثمرة الطبيعية لليقين برقابته وإحاطته، وكونه يعلم السر وأخفى.

سؤال3: هل أنت على يقين بملائكته، وما كلِّفوا به من أعمال، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق:18)، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ *لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ) (الانفطار:10-11)؟


إن كانت الإجابة بلا؛ فهذا كفر، وإن كانت بنعم؛ فنقول لك: إذًا لماذا اجترأت عليهم وآذيتهم، ولم تستحِ منهم، وفعلت ما فعلت وهم لك مراقبون، ولكل ما يخرج منك مسجِّلون، وعلى خدمتك قائمون؟

وللحديث بقية -إن شاء الله-.