الافتقار إلى الله


يقول - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15].

كل الناس، مؤمنهم وكافرهم، وبرّهم وفاجرهم، الجميع فقراء، مفتقِرون إلى الله الافتِقارَ التَّامَّ والكامل؛ لأنَّه - سبحانه وتعالى - هو وحده الغني الحميد المحْمود في غناه؛ {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15 - 17].

ومقتضى هذه المعرفة هو التوجُّه الصَّادق إلى الله، وشدَّة الافتقار إليه، والانطِراح بين يديْه تعالى، واللُّجوء والالتِجاء والاعتِصام به وحدَه، كما فعل الخليل إبراهيم - عليْه السَّلام - لمَّا اجتمعت الأمَّة بأكملها على الكيد به، والتخلُّص منه؛ {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68]، فأجَّجوا نارًا عظيمة، وجمعوا لها الحجارة والحطَب، ثمَّ قاموا بوضْع الخليل - عليه السَّلام - في المنجنيق، ورمَوْه من مسافات بعيدة، مقيَّد اليدين والرِّجْلَين، وهنا يبرز الإيمان واليقين ويثبت إبراهيم - عليْه السَّلام - قائلًا: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فإنَّ إبراهيم لم يلجأ ولم يلتجِئْ إلَّا إلى الله الَّذي بيده مفاتيح الفرَج، إنَّ إبراهيم يعلم مَن هو الله؛ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 62، 63].

لذا أعلن الافتِقار إلى الله وحْده قائلًا: "حسبي الله ونعم الوكيل"؛ أي: إن الله هو الكافي والمؤيِّد والنَّصير، فلا حيلة للعبد ولا حوْل له ولا قوَّة، ولا استِطاعة إلَّا بإرادة الله ومشيئتِه وقدرته.

فماذا كانت النَّتيجة؟ هل نزلت الأمطار أو هبَّت الرياح؟ لا، بل خاطبَ الله النَّار مباشرة، فأمرها بقوله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

سبحان الله! الله يخاطب النار؟ نعم، فإنَّ النَّار خلقٌ من خلق الله، وعبدٌ من عبيده، وفعلًا تستجيب النَّار لأمْر ربِّها مع أنَّ النَّار من طبيعتها الإحراق، لكن الله قال: "كوني بردًا وسلامًا" فاستجابت النَّار لمولاها، فلم تحرق الخليل، رغم أنَّها أحرقت كلَّ شيء، حتَّى القيود التي في يديْه وفي رجليه، بيْنما خرج إبراهيم سالمًا معافًى يتصبَّب جبينُه عرقًا، فقال آزر: نعم الرَّبُّ ربُّك يا إبراهيم.

فالدنيا كلها تعبد الله - سبحانه وتعالى -: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، يحلم على عباده يوم اقْترفوا السيِّئات وعصوْه سبحانه، حليم غفور سبحانه؛ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: 4] يسخِّر اللهُ كلَّ ذلك لأوليائِه المفتقرين إليْه، كما سخَّر النَّار لخدمة إبراهيم - عليه السَّلام - الذي عاش حقيقة الافتقار إلى الله، فنال شرف الوسام من الله حيث وصفه الله - تبارك وتعالى - بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]؛ أي: كان إمامًا وقدوة، وكان وحْده الجماعة في زمان اجتمع فيه الباطل والشَّرُّ والضَّلال.

هذا الافتِقار عاشه أيضًا أصحاب محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

وهذا بلال يرقُد تحت أشعَّة الشَّمس الحارقة على رمضاء مكَّة، قد جرّد من ثيابه، ووضعت على صدره صخرة عظيمة، يضرب بالسِّياط، ويجرُّ على الرَّمضاء؛ ليُفْتَن عن دينِه، يقال له: يا بلال، يا فتَى مكة، عد للطرب، وتعال إلى الزَّمر.

لكن بلال يثبت ثبات الجبال، ففي قلبه الإيمان والافتِقار إلى الواحد القهار، إنَّ بلالًا يرفض الشهرة والرَّاحة ما دامت في غير مرضات الله؛ لذلك كان ينادي وهو تحت الصَّخرة: "أحدٌ أحد"؛ لأنه يعلم أنَّ الله معه {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].

قيل لبلال ذات مرَّة: يا بلال، كيف كنت تطيق العذاب؟ فقال - رضي الله عنه وأرضاه -: "كنت أمزج حلاوة الإيمان بمرارة العذاب، فتطغى حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فأستحلي العذاب"، يصبح العذاب في منطق بلال حلوًا لأنَّه في ذات الله - جلَّ وعلا.

ثمَّ تمرُّ السنون تلْو السنين، فإذا بالصِّدِّيق أبي بكر - رضي الله عنه وأرضاه - يشتري بلالًا ويُعْتِقُه لوجه الله؛ ليصبح بلال حرًّا، بل ويصبح له في الإسلام شأنٌ آخَر، وذلك حين أتى عبدالله بن زيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قائلًا: يا رسول الله، رأيت البارحة كذا وكذا؛ أي: كلِمات الأذان، فيقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اذْهَب فألْقِها على بلال، فإنَّه أندى منك صوتًا»؛ ليكون بلال ذلك الَّذي كان ينادي بكلِمات التَّوحيد من تحت الصَّخرة، فهاهو اليوم يرفع صوته بالأذان لينادي بكلمات التَّوحيد: "الله أكبر، الله أكبر"، ولكنَّه في هذه المرَّة ليس من تحت الصَّخرة، بل من فوق الكعْبة تارة، ومِن مسجِد رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تارة.

فرفع الله شأن بلال، وأصبح مؤذِّن رسول الله - عليْه الصَّلاة والسَّلام - ونزل فيه وفي أمْثالِه قول الله - تعالى -: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا» [فصلت: 33]، ويأتي المؤذِّنون يوم القِيامة أطول النَّاس أعناقًا يتقدَّمهم بلال، ذلك الَّذي عاش الإيمان والافتقار إلى الله، فأغناه الله حيث عاش عظيمًا كريمًا ببشارة النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - له بالجنَّة.

عن أبِي هُرَيْرة - رضِي الله عنْه -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لبلال عند صلاة الفجر: «يا بلال، حدِّثْني بأرجى عملٍ عمِلته في الإسلام، فإنِّي سمعت دفَّ نعليْك بين يدَيَّ في الجنَّة» قال: "ما عمِلْت عملًا أرْجى عندي أنِّي لم أتطهَّر طهورًا في ساعة ليلٍ أو نَهار إلَّا صلَّيت بذلك الطهور ما كتب لي أن أُصلِّي"؛ رواه البخاري.

مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُحْمَدْ فِي عَوَاقِبِــــهِ *** وَيَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا وَمَنْ هَانُوا
مَنِ اسْتَجَارَ بِغَيْرِ اللَّهِ فِي فَـــــزَعٍ *** فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وَخِـــــــــذْ لانُ
فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمًـا *** فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَـــــانُ

قال قتادة: "من يتَّق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعَه الفِئَة التي لا تُغْلب، والحارس الَّذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل".

فإنَّ العبد المؤمِن الَّذي يعرف الله حقًّا لا يفتقِر إلَّا إلى الله - تبارك وتعالى - به يلوذ ويعوذ، وإليْه يلجأ ويلتجئ، وبه يتحصَّن ويعتصم؛ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64] فإنَّ معيَّة الله وتأْييده ونصرته تُرافق العبد متى عاش لله ومع الله.

وكذلك كان نبيُّنا - عليْه الصَّلاة والسَّلام - إمام المفتقِرين إلى الله؛ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

يقول أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدمَيْه لأبصرنا، فقال - عليْه الصَّلاة والسَّلام، وهو الواثق بربه -: «يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما، لا تحزَنْ إنَّ الله معنا».

يقال هذا الكلام للصِّدِّيق الَّذي رافق النَّبيَّ ببدنِه، فكذلك أيضًا كل إنسان قد رافق النَّبيَّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - في أقوالِه وأفعالِه، يقال له أيضًا: "لا تحزن إنَّ الله معك".

يقول ابن القيم - رحِمه الله -: "مَن صحب الرَّسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما جاء بقلبه وبدنه وإن لَم يصحبه ببدنه، فإنَّ الله معه".

فكل مسلم عاش مع القُرآن والسنَّة مفتقرًا إلى الله يدعو الله في اللَّيل والنَّهار، فإنَّ الله قريبٌ منه؛ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

فالرشد والسَّعادة والرَّاحة والحياة العظيمة لا تكون إلَّا في هذا الدِّين، وفي الافتقار إلى الله ربِّ العالمين.


{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
______________________________ ___________________________
الكاتب: أنور الداود النبراوي