القافلة تسير والعاقل ينصح


ما أجملَ أبيات الشِّعر، وشواهد النثْر، والأمثال، حين تتجاوز معانيها حدود ألفاظها، وخصوصية مناسبتها! ومن ذلك قول الشاعر:
وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بِلَيْلَى ♦♦♦ وَلَيْلَى لاَ تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَ

وفي دنيا العجائب عايَشْنا - عبْر التاريخ والحاضر - مَن يدَّعي وصلاً بمصطلحات (النجاح)، و(الإبداع)، و(الأستاذية)، و(الأدب)، ونحوها، وهو - فوق ذلك وخلاله - محقق لأَوْصاف الرُّوَيْبِضَة في تعالُمه وجُرْأته على التصدُّر والحديث في كلِّ شأن، والتطفُّل على كلِّ التخصُّصات، والفخْر بِمُغالطاته بثقة ما بلغها من تعمَّق فيها، ونما في داخلها.

ومثل هؤلاء المتعالمين مَن حقق إبداعًا في جانب ما، أو نجاحًا إعلاميًّا وماديًّا؛ لكن عبر السبيل ذاته الذي سلكه الأعرابي البائل في ماء زمزم، والذي نَجَح في النِّهاية إلى بلوغ مقصده من الشُّهرة، واتِّساع الذِّكر بين الناس إلى يومِنا هذا، حَسُن ذِكْره أم قبح!

غير أن أولئك يسلكون سبيل الأعرابي عبْر الأدب والبيان، حاملين معهم بضاعة مُزجاة من الأفكار والأهداف التي يسمونها إصلاحًا؛ ليصدق فيهم قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12].

وهؤلاءِ وأمثالهم يجدون من الشواهد التي تدعم ثِقتهم بأنفسهم وأفعالهم ما يزيدنا سُخرية بالدنيا وأحوالها، ويزيدهم ربضًا وانْحطاطًا، ويكون لهم دافعًا لتَحْقِيق المزيد منَ النجاح في الإساءَة لدينهم ومجتمعهم، وإنقاص ما بُعِث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتمِّمه من مكارم الأخلاق.

هل استمعت إلى أحد هؤلاء، وهو يُرَدِّد: (القافلة تسير، والكلاب تنبح)؟! إذًا لعجبتَ من زماننا هذا أشد العجب؛ إذ ترى قافلة الجهْل والانحطاط تسير بثقة نحو الهلاك الدنيوي والأخروي، وركابهم من صرخات العقلاء الناصحين يسخرون، ولسان حال اللبيب المطَّلع على أمثال هذه المشاهد العجيبة: "إن تسخروا من الناصحين، فإنهم عليكم مشفقون، وعلى قلبكم للأمور وجهلكم ساخرون".

ويزداد عجبُنا من أحوال زمانِنا، حين يُستشهد بالقرآن ضد أهْل القُرآن، فيُردِّد رويبضة ما: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}؛ لأنه انتصر للانْحلال، ونجح في إثبات جانب من جوانب الفساد، ورُكْن من أرْكان الانْحلال الأخلاقي في بلاد المسلمين عبْر رواية هابطة، ومقال فارغ؛ ولأنه وجد مَن يدعمه ويؤويه منَ الأركان الشديدة، ومَن يحفل به مِن غَوْغاء الناس ودهمائهم، متجاهِلاً نُصْح المشفقين، وإنْكار المصْلحين من عُقلاء الأمة ومفَكِّريها.

وهكذا يزداد أولئك في غيِّهم، وتسيل مِن وُجُوههم آخر قطرات الحياء، فتقرأ في سِيَرهم الذاتية التي تشهد على سوئهم كلماتٍ من مثل: "ولقي هجْمة شرسة من المتطرِّفين؛ بسبب أفْكارِه ودراساته"؛ ويقصد بهم العلماء، "وحارَبَهُ المتشدِّدون حتى نَجَحوا في منْع كُتُبه ورواياته"؛ ويقصد بهم المجتمع المسلم، الذين طَهَّروا رُفُوف المكاتب من تلك الأسْفار التي استغل كتَّابها سُبُل الأدب؛ للانتقاص من الذات الإلهية والدِّين، وليبرزوا انحطاط أنفسهم، وهبوط أخلاقهم من خلال الصور الأدبية الساقطة، والأفكار المنحلة.

إن انتشار رواياتهم، وتأثير مقالاتهم وتقاريرهم، وفشل العلماء في إزالة منكرات أفكارهم، واحتفال الإعْلام بهم، وتزاحُم الغوغاء حولهم، ووجود مَن يخطئ في أُسْلوب الإنكار عليهم - ليس معيارًا لصحَّة ما سلكُوه، ولا دليلاً على صواب ما اعتنقوه، فالشيطانُ على وُضُوح عداوته، وَجَدَ مَن يعبده، ويُثني عليه؛ بل وَجَدَ مَن يُعلن بُغضه له بأُسْلوب مَكْروه (كلعْنه)، ووجد من الأنبياء من دعا وأفنى حياته في الدعوة ولم يتبعه أحد، وكان النجاح لأعدائه.

على أولئك أن يقفوا مع أنفسهم، ويتأمَّلوا في أحوالِهم، ويلْتفتوا إلى مَن يعتبرونهم أعداء لنجاحهم، فإن صدف أنهم كانوا صادقين مع ذواتهم وفي نواياهم، فسيدركون أن أولئك الأعداء إنما هم علماء الشريعة الذين علموا الحلال والحرام، وشابتْ لحاهم على قال الله - تعالى - وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنهم أعداء النجاح، إن كان دنيويًّا ماديًّا أناني الغاية، ومنحط الوسيلة.

______________________________ _________
الكاتب: راكان عارف اللحيدان