حفظ الخواطر من أسباب استقامة القلب وصلاحه


د. عاطف الرفاعي




يجمل بأهل الإيمان التفكر في إصلاح نفوسهم، وإقبالهم على ربهم أن يسارعوا في طلب الطريق إلى الاستقامة، التي بها يصلح أمر المؤمن في قلبه، وعمله، وسيره إلى الله -تعالى-، ومن ذلك حراسة الخواطر وحفظها.

قال الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: «قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال: وهي شيئان: أحدهما حراسة الخواطر، وحفظها، والحذر من إهمالها، والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قِبَلِها يجيء؛ لأنها هي بَذْر الشيطان، والنفس في أرض القلب، فإذا تمكن بذرها، تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى، حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال»، كأنه سئل: كيف تستقيم أحوال المرء؟ فقال: وتستقيم أحوال المرء بشيئين أولها حراسة الخواطر.

ماذا نعني بحراسة الخواطر؟

نعني بها حراسة قلبه عن الهواجس التي تعرض له، والوساوس التي تحل به، وذلك أنك إذا نظرت في نفسك وجدتها ليل نهار مع وساوس الشيطان، وشغل الدنيا، والصور، والناس وأفعالهم، والأماني، والتسويف، سوف تفعل، وسوف كذا وكذا، فإذا دخلت صلاتك شغلتك تلك الوساوس، ورأيت هذه الصور، ونازعتك شواغلك، حتى تفسد عليك صلاتك، وإذا ما أمسكت مصحفك لتقرأ وجدت الحال نفسها ؛ ليصرفك عن التدبر، والإقبال على كلام الله -تعالى-، والاتعاظ بمواعظه، والاعتبار بزواجره، وحتى لو أردت أن تسمع كلام الله -تعالى- إذا بك تسمع آيتين، أو ثلاثة ثم تسرح مع هذه الخواطر، ثم تعود، ثم تسرح، وهكذا لا تستقيم لك عبادة ولا قُرْبة، وتستولي عليك الوساوس، والأماني الكاذبة، وتغرق في التسويف، حتى ينحرف بك الطريق شيئاً فشيئا، وتصعب عليك وتبعد عنك الاستقامة.

أول طريق الاستقامة

فأول طريق الاستقامة: الاعتناء بحراسة هذه الخواطر وحفظها، والحذر من الاسترسال معها، ومن إهمالها؛ لأنك إذا تركت هذه الخواطر التي تخطر لك في الصلاة، أو تخطر لك في قراءة القرآن، أو تخطر لك عند ذكر الله -تعالى-، أو تخطر لك في أعمال الإيمان، سرعان ما تزداد هذه الخواطر، وتقوى وتشتد عليك، حتى تصل إلى إرادات وإلى عزائم لا تستطيع بعد ذلك أن تردها.

سلامة القلب بحفظ الخواطر

واعلم أنك إذا انسقت خلف هذه الخواطر وأهملت خواطر الإيمان، فلا سبيل إلى سلامة قلبك؛ لأن قلبك حينئذ سيكون ملجأ لخواطر الشيطان ووساوسه، وطالما كان كذلك لا يدفعك إلى الطاعة، وإلى العبادة، وإلى التدبر، وإلى إحسان السير إلى الله -تعالى-، وإلى إصلاح القلب والعمل، ولا يدفعك إلى التفكر في الآخرة؛ لأن هذا القلب حُجِب عن كل معاني الخير التي يصلح بها، ويستقيم، طالما قد امتلأ بالوساوس.

القلب لا يبقى خاليًا أبدًا

والقلب لا يبقى خالياً أبداً، إما أن يكون فيه وساوس الشيطان، وإما أن يكون فيه خطرات الإيمان، وهذه تدفع هذه، إذا وجدت وساوس الشيطان أخرجت خطرات الإيمان من القلب، فلا يجد العبد بنفسه وقلبه إلا غفلة عن ذكر ربه، وتثاقلاً عن طاعته، ووحشة، وقسوة، وجفافاً لدمع عينيه، وضيقاً في صدره، بخلاف ما إذا وُجِدَت خطرات الإيمان في القلب، وجدت في القلب المحبة والإقبال، والرضا، واليقين، والطمأنينة، والنظر في أمر الآخرة، والزهد في الدنيا، وخفة القلب على أعمال الطاعة، والإيمان، وترك التثاقل، والملل من الطاعات، ثم بعد ذلك الثبات على هذه المعاني الحسنة، والأحوال المستقيمة، حتى يرى صاحب هذا القلب العامر بخطرات الإيمان نور ذلك في أعماله، وأقواله، وفي وجهه، وسائر التصرفات التي يأتيها.

من أعظم طرائق الاستقامة

إذا فهم العبد ذلك علم أن حراسته لخواطره، ومدافعته لتلك الوساوس هي من أعظم الطرائق التي بها تستقيم أحواله، وبها يظهر أثر الصلاة، وأثر الذكر، وأثر قراءة القرآن، وأثر الأعمال الصالحة على قلبه؛ لأنه حينئذ يأتي بهذه الأعمال الصالحة وهو حاضر القلب مع الله -تعالى-، مقبل عليه، قد فَرَّغ قلبه وذهنه لتدبر ما بين يديه، والإقبال على ربه، وترك الوساوس والخطرات التي تفسد هذا القلب وتشغله وتبعده عن الله -تعالى.

أسباب حفظ الخواطر

للطريق إلى حفظ الخواطر أسباب عدة منها ما يلي:

الأول: العلم الجازم باطلاع الرب -سبحانه

العلم الجازم باطلاع الرب -سبحانه-، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك، كأنه يقول: تذكر أن الله -تعالى- يعلم هذه الخواطر التي أتتك، وأنه ناظر إلى قلبك، عالم بتفاصيل هذه الخواطر التي تسرح فيها، وتسترسل معها، وهو مطلع عليك، ينظر -سبحانه وتعالى-؛ ليراك هل ستقدم محبة الرب -جل جلاله-، ومرضاته على هذه الخواطر، أو أنك ستقدم خواطر الشيطان، ووساوسه على محبة الله -تعالى-، والقيام بطاعته، هل ستقدم وساوس الشيطان، وخواطره، وتطيعه بالوقوع في الذنوب، والعصيان، والتعرض لغضب الله -تعالى- ومقته، والله -تعالى- مطلع عليك ناظر إليك؟!

الثاني: الحياء من الرب -سبحانه

علمك أن الله -تعالى- مطلع عليك، وناظر إليك، يستوجب أن تستحي من الله -تعالى- حق الحياء، كما ذكر في الأثر: أن الله -تعالى- أوحى إلى نبي من الأنبياء: «قل لعبادي إن كانوا يظنون أني لست مطلعًا عليهم، أو عالما بهم، أو ناظرًا إليهم فقد كفروا»، وإذا كنت تعلم أن الله -تعالى- مطلع عليك، وناظر إليك، وبصره -سبحانه وتعالى- محيط بك، وأنت لا تهتم بذلك، ولا تستحي منه، وتوشك أن تقع في المعصية، والنظر المحرم، وتستخفي من الناس ولا تستخفي من ربك! فكما يقول الله -تعالى- في الأثر: «فلم تجعلونني أهون الناظرين إليكم».


الثالث: إجلالك لله -تعالى

السبب الثالث الذي يحفظ به المرء خواطره، أن يعظم الرب -سبحانه وتعالى، ويطرد هذه الوساوس، وتلك الخطرات؛ إذ كيف يكون قد خلق لك هذا القلب لمحبته، والتقرب إليه، وأنت تملؤه بما يغضبه ويسخطه سبحانه و-تعالى؟! ولا يهمك، ولا تنتهي، ولا تستحي، وهذا من عدم تعظيم الله -تعالى- وإجلاله.