تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 8 12345678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 149

الموضوع: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    مقدمة
    من صــ 4 الى صـ 9

    ـ[المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة دراسة الأسباب رواية ودراية]ـ
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    الناشر: دار ابن الجوزي، الدمام - المملكة العربية السعودية
    الطبعة: الأولى، (1427 هـ - 2006 م)
    عدد الأجزاء: 2
    أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
    [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
    مقدمة
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته واستن بسنته إلى يوم الدين.
    أما بعد:
    فإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - بعلمه وحكمته اختار لصحبة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبر الناس قلوباً، وأصدقهم ألسناً، وأوعاهم حفظًا وفهماً، فشاهدوا التنزيل، وفقهوا التأويل، ووقفوا على ما لم يقف عليه غيرهم من طبقات الأمة، وكان أكبر همهم، ومنتهى سعيهم أن يفهموا خطاب الله لعباده، ويعرفوا مراده من كتابه فبذلك حازوا أفضل العلوم واكتسبوا خلاصة الفهوم.
    ولم تزل الأمة تغترف من بحر علمهم وفقههم لا تتجاوز حد فهمهم برأي
    أو قياس، سيما إذا كان الأمر يتعلق بكتاب الله حتى قال محمد بن سيرين: سألت عَبيدة عن آية من القرآن. فقال: اتق الله وقل سداداً، ذهب الذين يعلمون فيما أُنزل القرآن. يعني الصحابة.
    وقد كفى سلف الأمة من العلماء الأعلام والرواة الأثبات من بعدهم مؤنة جمع العلم وتبويبه، وفقهه ودرايته حتى اجتمع للمتأخرين قدر كبير من المرويات في كل باب من أبواب العلم، وجملةٌ أكبر من الشروحات والتعليقات بحسب ما آتاهم الله من الفهم والاستنباط، وصارت مهمة الباحثين المعاصرين النظر والتأمل في ذلك التراث الضخم، والتدقيق، والترجيح، والتفنن في العرض والتأليف لجمع الشوارد، وتقريب البعيد، ولَمِّ الأشباه والنظائر والمقارنة والموازنة للوصول إلى أقرب النتائج للصواب وأسعدها بالدليل.
    وقد حظي (علم أسباب النزول) بعناية العلماء قديماً وحديثاً، ولا غرو، فرغبت بالمشاركة في هذا الفن الشريف، والاشتغال بشعبة منه في دراستي لنيل درجة (الدكتوراه) واخترت لذلك الموضوع التالي:
    أسباب النزول
    من خلال الكتب التسعة جمعاً ودراسة

    وأعني بها موطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الدارمي، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النَّسَائِي وسنن ابن ماجه.
    * أهمية الموضوع:
    تكمن أهمية البحث في هذا الموضوع في أمور عديدة من أهمها:
    أولاً: شرف العلم بأسباب النزول، لشرف التنزيل، وشرف العلم مبني على شرف المعلوم، ولا شيء أشرف وأجل مما تكلم به سبحانه، أعني كلامه الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، فخير ما بذلت فيه الجهود، وصرفت فيه الأعمار الاشتغال بكتابه العزيز وفهمه وتدبره.
    ثانياً: فائدة هذا العلم الجليل في تفسير كتاب الله، والكشف عن وجوه الحِكَم والأحكام التي لا تدرك إلا بالوقوف على أسباب نزول الآيات، قال الواحدي عن أسباب النزول: (إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية، وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها).
    وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن).
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب).
    بالإضافة إلى ما يتبع ذلك من تخصيص عام، أو دفع إيهام ونحوه.

    * أسباب اختيار الموضوع:
    أولاً: أهمية جمع أسباب النزول من مصادرها الأصلية مقرونة بدراسة وافية بين دفتي كتاب، وجاء اختياري للكتب التسعة لتكون مصادر لأسباب النزول لجلالة قدر مؤلفيها وعلو إسنادها، وتلقي الأمة للصحيحين منها بالقبول حتى تكاد تستوعب ما في سواها من دواوين السنة ولهذا اقتصرت على ما ورد فيها.
    ثانياً: حاجة المكتبة القرآنية قديمًا وحديثًا إلى مؤلف مفرد يجمع الأسباب ويقدم لها دراسة متكاملةً كي يسهل على القارئ والباحث مقارنة الروايات في مقام واحد، ويلقي الضوء على أوجه الترجيح بينها.
    ثالثاً: الحاجة إلى تحقيق المرويات ودراستها دراسة نقدية من الناحيتين التفسيرية والحديثية بسبب تعدد المرويات في الواقعة الواحدة، وتعارضها أحيانًا في أصلها أو أجزائها، وفشو المرويات الضعيفة في كتب التفسير والسنة وشيوعُها في الأمة، فكان لا بد من عمل علمي يستنبط الحقيقة المضيئة من عتامة المرويات المظلمة، ويستخرج الرواية النقية من النبع الصافي الذي كدرته الدلاء الدخيلة.
    رابعاً: افتقار المؤلفات المعنية بهذا العلم إلى التحرير والترجيح، حيث يلحظ القارئ وبلا تكلف عناية المؤلفين لهذه المؤلفات بجانب السرد، دون التدقيق والتمحيص واختيار السبب الصحيح، وهذا ما سيضيفه هذا البحث.
    خامساً: قصور بعض المؤلفات في هذا الفن عن استيعاب جميع أسباب النزول خصوصًا المذكورة في الكتب التسعة.
    سادساً: حرصي على أن يكون موضوع أطروحتي لنيل الدكتوراه ذا فائدة علمية لي أولاً، ثم لأهل التخصص وعامة المسلمين ثانيًا.
    * الدراسات السابقة:
    تتابع العلماء - رحمهم اللَّه - في التأليف في علم أسباب النزول من قديم الزمان، وهي ما بين مطبوع، ومخطوط، ومفقود، ومع هذا فقد انبرى للتأليف في هذا الزمان جملة من العلماء والباحثين فأجادوا وأفادوا - جزاهم اللَّه خير الجزاء - وقد يسر الله لي الاطلاع على بعض ما أُلف في هذا الباب فرأيته حسناً مفيدًا لكنه لم يتناول هذا العلم على النسق الذي أردت والأسلوب الذي رسمت، وفي ظني - إن شاء اللَّه - أنه سيسهم مساهمة فعالةً في تنقيته من الدخيل والغريب.
    ومن المؤلفات التي اطلعت عليها في هذا الباب:
    1 - أسباب النزول للواحدي، وعليه بعض الملحوظات على أن هذا لا يعني القدح فيه فمنها:
    أ - أن المؤلف قد فاته شيء كثير من أسباب النزول فلم يذكرها.
    ب - أنه ساق روايات على أنها أسباب نزول وليست كذلك.
    جـ - أنه أغفل مرويات قوية واستشهد بمرويات ضعيفة.
    ويغني في وصف الكتاب قول أبي حيان: (وقد صنف الواحدي في ذلك كتاباً قلَّما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح) اهـ.
    2 - العجاب في بيان الأسباب للحافظ ابن حجر.
    وهذا الكتاب لا يخرج في مضمونه في بعض الأسباب عن نسق غيره من المؤلفات المهتمة بجانب السرد دون الاستيعاب والتدقيق والترجيح، ودون استخراج الأسباب من المصادر الأصلية كالصحاح والسنن والمسانيد.
    3 - لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي. وعليه الملاحظات التالية:
    أ - أن كثيراً من الآيات لها أسباب نزول لم يذكرها وقد تكون صحيحة مشهورة.
    ب - أن بعض الآيات لها أكثر من سبب ولا يذكر إلا واحدًا.
    جـ - قد يكون السبب في الصحيحين أو أحدهما ويترك العزو إليهما أو لأحدهما.
    د - تصحيحه لبعض الأحاديث الضعيفة.
    هـ - صيغة السبب يحولها من غير صريحة إلى صريحة.
    4 - الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
    وهذا الكتاب تضمن أسبابًا صحيحة لكنه مع هذا يحتاج للإضافة سواء من حيث العدد، أو تحقيق صحتها، أو الجمع والترجيح.
    5 - أسباب النزول وأثرها في التفسير للدكتور عصام الحميدان، وقد وضع في كتابه قواعد مفيدة في أسباب النزول، وعقد مقارنة بين كتابي: الواحدي والسيوطي، وقام بدراسة لما فيهما دراسة مختصرة تشبه التعليق في أكثر الأحيان.
    6 - أسباب النزول أسانيدها وأثرها في تفسير القرآن الكريم للدكتور جمعة سهل، لم يتيسر لي الاطلاع عليها لكني اطلعت على فهرسها من أحد الفضلاء، ومن خلال اطلاعي على ذلك لم أجد الشيخ ذكر أسباب النزول، لكنه ذكر بعض الضوابط، والقواعد، وحِكم التشريع من خلال أسباب النزول، وما يتبع ذلك.
    7 - جامع النقول في أسباب النزول للشيخ ابن خليفة عليوي، فقد ذكر ما أخرجه الواحدي والسيوطي في كتابيهما ثم شرح الآيات التي تضمنتها أسباب النزول عندهما.
    هذه بعض المؤلفات المصنفة في هذا الباب، وهناك العديد غيرها لكنها لا تخرج عن منوالها وطريقتها.
    وإني لأرجو أن يكون البحث الذي أُقدم له الآن قد شق طريقًا جديدًا وأضاءَ مصباحًا منيراً، تأصيلاً وتأطيرًا، لكل سالك في ميدان أسباب النزول.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 17 الى صـ 25
    الحلقة (2)

    التمهيد
    وفيه خمسة مباحث:

    المبحث الأول: مكانة أسباب النزول وأهميتها.
    المبحث الثاني: فوائد معرفة أسباب النزول.
    المبحث الثالث: نشأة علم أسباب النزول.
    المبحث الرابع: مصادر أسباب النزول.
    المبحث الخامس: بواعث الخطأ في أسباب النزول.
    المبحث الأول
    مكانة أسباب النزول وأهميتها

    القرآن العظيم هو حبل اللَّه المتين وصراطه المستقيم، وحجته البالغة على العالمين يقول - جل وعلا - في وصفه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42).
    أنزله - عَزَّ وَجَلَّ - لهداية المتقين فقال - جل شأنه -: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2).
    وجعل من حِكم إنزاله إخراج الناس به من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان به، فقال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1).
    ثم لم يقصر المنعم المتفضل النعمة على إخراجهم من الظلمات إلى النور بل زادهم من لدنه خيراً كثيراً ثباتاً وهدى وبشرى فقال - جل وعلا -: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102).
    وهذه الأوصاف العظيمة وغيرها من المنح الإلهية لا تتحقق للعبد بدون التفكر في القرآن وتدبر معانيه، والنظر في حكمه، وأسراره، ونحن نشاهد أن أرسخ الناس إيماناً وأعمقهم فهماً هم العلماء الربانيون الذين أُوتوا من التدبر والتفكر حظاً عظيماً.
    وإذا كان الشأن كذلك فلن يكون الأمر غريباً أن يعيب اللَّه على أولئك المعرضين عن التدبر بقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)، لأن اللَّه أخبر وهو أصدق القائلين أنه إنما أنزل القرآن للتدبر والتذكر فقال جل شأنه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)، وهذا التدبر لا يتأتى إلا بمعرفة تفسير الآية، لأن التدبر بدون فهم المعنى ممتنع ومعرفة تفسيرها لا تمكن بغير معرفة سبب نزولها، قال الواحدي: (إنه يمتنع معرفة تفسير الآية وقصدِ سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) اهـ.
    فإذا كان التدبر لكتاب اللَّه، وهو مفتاح العلوم والمعارف موقوفاً على التفسير، والتفسير موقوفاً على سبب النزول، فإننا ندرك بذلك المنزلة العالية، والمكانة السامية التي تحظى بها أسباب النزول.
    ولا شك أن لأسباب النزول أثراً في التفسير وبيان المراد، ومن ذلك:
    1 - أن أسباب النزول في غالبها حكايات وقصص، منها ما هو مختصر ومنها ما هو طويل مبسوط، وهذه القصص تصور العصر الإسلامي الأول، وتصور واقع الذين كانت تتنزل عليهم الآيات القرآنية لتعليمهم، وتوجيههم، وتربيتهم، وتصور بيئتهم العامة، ومفاهيمهم التي كانت سائدة بينهم، من الأمور التي تقدم نفعاً جليلاً في فهم المعنى، إذ هي تبصرة بالمناخ الذي نزل فيه النص، وكثيرًا ما يقع المفسِّر في الخطأ؛ لأنه فهم النص وهو يضع في اعتباره واقع المجتمع الذي يعيش فيه، لا واقع البيئة والمجتمع الذي نزل النص لمعالجته بالتعليم والتوجيه والتربية.
    وإذا أردت أن تتحقق من هذا فانظر في قصة الإفك مثلاً فإنها تصوِّر لك البيئة العامة، والخاصة، وتكشف لك الأنماط السائدة ذلك الوقت.
    2 - أن أسباب النزول تكشف لنا عن الظرفين الزماني والمكاني اللذين أنزلت فيهما الآيات، فهو يقدم للمفسر نفعًا جليلاً، ويهديه إلى مفهوم أدق وأقرب إلى المراد، وذلك أن من الآيات ما يلائم ظرفًا من الظروف في حين أنه قد لا يلائم ظرفًا آخر، إذ ما يلائم في مواسم الأعياد قد لا يلائم في أوقات التحريض على الجهاد، وما يلائم حال المناسك قد لا يلائم في مواضع البيع والشراء.
    3 - أن أسباب النزول تبين الحال النفسية والفكرية والاجتماعية التي كان عليها الذين أُنزلت عليهم الآيات، وهذا يفيد المفسر في فهم المعنى، أو في استنباط الفوائد من الآيات.
    ويدخل في ذلك تصور حالات السلم والحرب، والأمن والخوف، وسعة الرزق والجوع، والنصر والهزيمة، والإيمان والكفر والنفاق ونحو ذلك من الأحوال النفسية التي يستدعي كلٌ منها ما يلائمه من التعليم والتوجيه والتربية.
    ويدخل في ذلك تصور الحالات الاجتماعية كالبداوة والتحضر، والرفعة والضعة والقوة والضعف، والقيادة والانقياد وغيرها من الأحوال التي تتطلب ما يلائمها من البيان.
    وكل هذا إنما ينكشف ويتبين بمعرفة أسباب النزول.
    ومما يبرز أهمية أسباب النزول ومكانتها احتواؤها على حِكم التشريع البالغة وأسرارها الباهرة التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى، وحكمته، ورحمته وبره بعباده، ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة. ولم يحسن إليهم إحساناً أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظة المن عليهم إلا في سياق ذكرها كقوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)، وقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17).
    وليس يخفى على كل منصف أن العلم بالحكمة الداعية إلى التشريع، يزيد الإيمان واليقين في قلوب المكلفين، وتطمئن به نفوسهم، وتقر به عيونهم،
    ولهذا نجد أن الله يقرن الحكم بعلته في مواضع عديدة من كتابه الكريم كقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
    وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
    وقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3).
    وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
    فأسباب النزول تكشف حِكَم الشريعة وأسرارها وفي هذا من الخير ما لا يخفى.
    ومن الآثار الحسنة لأسباب النزول، والتي تظهر فيها مكانتها وتسمو بها منزلتها إزالتها للإشكالات التي قد تنشأ عند بعض الناس من فهم غير سديد لآيات القرآن فيفهم منها ما لا يُفهم، ويظن فيها ما لا يُظن، وما ذاك إلا لخفاء أسباب نزول الآيات على أولئك، وعدم علمهم بها، ولو علموا هذه الأسباب وفيما كانت، لتحولت أفهامهم، واستقامت على الصواب نظرتهم وإذا كانت المعاني القرآنية قد تشكل على بعض الصحابة كما وقع لقدامة بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين ظن أن شرب الخمر جائز واستدل على ذلك بالكتاب، حتى بيّن له عمر وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن الآية التي استدل بها هي حجة عليه، وعذراً لمن مات من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهم يشربون الخمر قبل تحريمها.
    أو تشكل على بعض كبار التابعين كما جرى لعروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع خالته عائشة - رضي الله عنها - حين ظن أن السعي بين الصفا والمروة ليس واجبا أخذاً من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فبينت له أم المؤمنين - رضي الله عنها - سبب نزولها، وأن اللفظ لا يدل على عدم الوجوب.
    أو كما جرى لمروان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين أشكل عليه قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188). فأزال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الإشكال من قلبه ببيان سبب نزولها وأنها ليست كما يظن مروان.
    أقول إذا كانت هذه الإشكالات تقع من هؤلاء الأكابر مع رسوخهم في الدين والعلم، فكيف الظن بمن بعدهم من الذين لم يدركوا ما أدرك هؤلاء السابقون من الخير والدين، ولم تسعفهم علومهم في فهم شيء من أسباب النزول بتة، ولم تنطلق ألسنتهم بلغة القرآن والسنة.
    أليس هؤلاء أحوج ما يكونون إلى فهم أسباب النزول أجمعَ والعنايةِ بها ليتمكنوا من فهم معاني القرآن، وفيم نزل، وفيم أُريد به؟
    والجواب: بلى وفي ظني وتقديري القاصرَيْن أن حاجتهم ماسة للجميع وليس للآيات المشكلة فحسب؛ لأن السحب بينهم وبين فهم القرآن جِدُّ كثيفة.
    وقد تحدث ابن عاشور عن أهمية أسباب النزول ومكانتها في مقدمة تفسيره حيث قال: إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه؛ لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرًا، ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة، التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك، ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عبَّاسٍ يقول: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون، يشير إلى قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)، فأجاب ابن عبَّاسٍ قائلاً: إنما دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اليهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ... ) الآية.
    وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا (158) فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (158) ومنها: ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات، فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.
    ثم ذكر أنه تصفح أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدها أقسامًا:
    منها: ما هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلا بد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}، ونحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ومثل بعض الآيات التي فيها {مِنَ النَّاسِ}.
    ومنها: ما يفيد البحث فيه زيادة تفهم في معنى الآية، وتمثيلاً لحكمها وهي مساوي لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها مثل قصة عويمر العجلاني الذي نزلت عليه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عليه آية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ... (196)}.
    ومنها: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}.
    فإذا ظن أحد أن (من) للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرًا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن (من) موصولة، وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
    ومنها: ما لا يبين مجملاً، ولا يؤول متشابهًا، ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض كما في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن عروة بن الزبير سألها عنها فقالت: (هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن). اهـ.
    وبهذا تتبين لنا مكانة أسباب النزول وأهميتها في فهم الكتاب العزيز، وإزالة ما قد يعلق بالأذهان من إشكال في فهم معاني القرآن، كما تكشف عن حكم الشريعة وأسرارها الباهرة، والله أعلم.
    * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 26 الى صـ 31
    الحلقة (3)


    المبحث الثاني
    فوائد معرفة أسباب النزول

    لمعرفة أسباب النزول فوائد عديدة تناول ذكرها طائفة من العلماء المحققين أوجزها في الآتي:
    الفائدة الأولى: أن معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية.
    قال الواحدي عن أسباب النزول: (إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية، وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها). اهـ.
    وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن (21). اهـ.
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رُجع إلى سبب يمينه، وما هيجها وأثارها). اهـ.
    وقال الشاطبي مقرراً هذا المعنى:
    (إن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير، وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال). اهـ.
    ومن آيات القرآن التي كان لسبب النزول أثر في فهم معناها ما يلي: -
    1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت وأنه صلى أو صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد، وهم راكعون، قال:
    أشهد بالله، لقد صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبل مكة فداروا كما هم قِبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قِبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل اللَّه:
    (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)، فسبب النزول بيّن أن المراد بالإيمان هنا الصلاة، وليس الإقرار والاعتراف المتضمن للقبول والإذعان، ولولا سبب النزول ما كنا لِنقف على المعنى الصحيح للآية.
    2 - أخرج البخاري ومسلم عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
    نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا، لم يدخلوا من قِبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قِبَل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا). فسبب النزول بيَّن أن المراد بالإتيان هو الدخول وليس مجرد المجيء، كما أفاد أن المراد بالبيوت بيوتهم وليست بيوتَ غيرهم، ولولا وجود سبب النزول ما تبين هذان المعنيان من لفظ الآية المجرد.
    3 - أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -:
    (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) قالت:
    هي اليتيمة في حجر وليها فيرغب في جمالها، ومالها، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء. فسبب النزول هنا بيَّن الصلة في الآية بين الأمر بالقسط في اليتامى، وبين نكاح ما طاب من النساء، ولولا وجود السبب لم تتبين الصلة.
    الفائدة الثانية:
    أن العلم بسبب النزول يرفع الإشكال، ويحسم النزاع قال الشاطبي:
    (إن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشُّبه والإشكالات، ومُورِد للنصوص الظاهرة مُورَد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي. قال: خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، فقال ابن عبَّاسٍ: يا أمير المؤمنين إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن، ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فماذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال:
    فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عبَّاسٍ، ونظر عمر فيما قال، فعرفه فأرسل إليه، فقال: أعد عليَّ ما قلت، فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه، وما قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب.
    فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعًا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟
    قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عبَّاسٍ عليه، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
    ثم ذكر أمثلة حتى انتهى إلى قوله:
    وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو فُقد ذكر السبب، لم يُعرف من المنزل معناه على الخصوص دون تطرق الاحتمالات، وتوجه الإشكالات.
    وقد قال ابن مسعود في خطبة خطبها: واللَّه لقد علم أصحابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني من أعلمهم بكتاب اللَّه، وقال في حديث آخر: والذي لا إله غيره ما أُنزلت سورة من كتاب اللَّه إلا أنا أعلم أين أُنزلت؟ ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أُنزلت؟ ولو أعلم أحداً أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه.
    وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالماً بالقرآن.
    وعن الحسن أنه قال: ما أنزل اللَّه آية إلا وهو يحب أن يُعلم فيم أُنزلت وما أراد بها؟ وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب). اهـ باختصار.
    ومن آيات القرآن التي كان لسبب النزول أثر في دفع الإشكال عنها ما يلي:
    1 - أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال:
    قلت لعائشة - رضي الله عنها - أرأيت قول اللَّه - تبارك وتعالى -: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة:
    كلا، لو كانت كما تقول، كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قُديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فأنزل اللَّه تعالى:
    (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).

    فسبب النزول هنا دفع الإشكال الذي وقع في نفس عروة حين ظن أن السعي بين الصفا والمروة ليس واجبًا فبينت له أم المؤمنين - رضي الله عنها - أن الآية إنما أُنزلت لرفع الحرج عمن امتنع من السعي بينهما، بسبب ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، والله أعلم.

    2 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن مروان قال:
    اذهب يا رافع (لبوَّابه) إلى ابن عبَّاسٍ فقل:
    لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
    فسبب النزول هنا بيَّن أن الأمر ليس كما ظنه مروان، بل الآية نزلت بسبب اليهود حين كتموا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما سألهم عنه، وأخبروه بغيره وفرحوا بكتمانهم إياه ما سألهم عنه، واللَّه أعلم.
    3 - أخرج البخاري وأحمد والدارمي ومسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
    كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ فأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مناديًا ينادي، ألا إن الخمر قد حُرِّمت، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قُتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا).
    فمعنى هذه الآية أشكل على قدامة بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث فهم منها جواز شرب الخمر قال الشاطبي:
    (وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر، فقال: إن قدامة شرب فسكر. فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟
    قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، قال: واللَّه لو شربتُ كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟ قال:
    لأن اللَّه يقول: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ) فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اللَّه اجتنبت ما حرم الله، وفي رواية فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب اللَّه. فقال عمر: وأيَّ كتاب اللَّه تجد أن لا أجلدك؟ قال:
    إن اللَّه يقول في كتابه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... ) الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدراً، وأُحداً، والخندق، والمشاهد، فقال عمر:
    ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عبَّاسٍ: إن هؤلاء الآيات أُنزلن عذراً للماضين، وحجةً على الباقين فعذر الماضين بأنهم لقوا اللَّه قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجةً على الباقين لأن الله يقول:
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا فإن اللَّه قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت). اهـ.

    فقدامة بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما جهل سبب نزول الآية استدل بها على جواز شرب الخمر فوقع في الإشكال، والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لعلمهم بسبب النزول أبطلوا استدلاله بالآية على شرب الخمر.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 32 الى صـ 37
    الحلقة (4)


    الفائدة الثالثة: أن معرفة سبب النزول تبين الحكمة الداعية إلى تشريع الحكم.
    قال الزركشي: (وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته - يعني العلم بأسباب النزول - لجريانه مجرى التاريخ وليس كذلك بل له فوائد:
    منها: وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم). اهـ.
    قال الزرقاني مبينًا فائدة العلم بحكمة التشريع:
    (وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيماناً على إيمانه، ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام اللَّه، والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام، ومن أجلها جاء هذا التنزيل، وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفًا حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان، لا على الاستبداد، والتحكم، والطغيان؛ خصوصًا إذا لاحظ سيرَ ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد. وحسبك شاهدًا على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه). اهـ.
    ومن الأمثلة التي يبين فيها السببُ الحكمة الداعية إلى تشريع الأحكام ما يلي:1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله تعالى:
    (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مختفٍ بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به فقال الله لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
    (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
    فالآية خلت من ذكر الحكمة الداعية إلى التشريع، بينما السبب نص عليها، وهي كف المشركين عن سب القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به.
    2 - أخرج مسلم وأحمد والدارمي والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سُئل عن المتلاعنين أيفرق بينهما؟ قال:
    سبحان الله نعم إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال:
    يا رسول اللَّه أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك ... الحديث.
    فآيات اللعان خلت من ذكر الحكمة الداعية إلى التشريع، لكن السبب بيّنها، ذلك أن الزوج هنا بيْن أمرين أحلاهما مرّ، فإن تكلم فحد القذف أمامه، وإن سكت سكت على أمر عظيم كما قال.
    ولن يطيق هذا مؤمن فكانت مشروعيةُ اللعان مخرجاً من حد القذف، أو السكوت على الريبة، واللَّه أعلم.
    3 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد الناس جلوساً ببابه، لم يؤذن لأحد منهم، قال:
    فأُذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأُذن له، فوجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسًا حوله نساؤه، واجمًا، ساكتًا، قال: لأقولن شيئًا أُضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال:
    (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة)، فقام أبو بكر لعائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ليس عنده، فقلن: واللَّه لا نسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا أبدًا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرًا ثم نزلت عليه هذه الآية:
    (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) - حتى بلغ (أَجْرًا عَظِيمًا).
    فسبب النزول بيَّن الحكمة الباعثة على تخييرهن بهذه الآية، وهي سؤالهن النفقة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما الآية فلم تتناول الحكمة بالحديث عنها، والله أعلم.
    الفائدة الرابعة: أن يخصص الحكم بالسبب الذي نزل من أجله.
    قال الزركشي: (ومنها: تخصيص الحكم به - أي بالسبب - عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب). اهـ.
    وتخصيص الحكم بالسبب لا ينافي العموم، لكنّ القائلين به يقولون:
    أخذنا ذلك العموم من القياس، أي قياس الحوادث المشابهة على الحوادث الواقعة في العهد النبوي، ولم نأخذ العموم من طريق اللفظ العام؛ لأن هذا اللفظ العام مختص بسببه، وكل سبب نزول يصح أن يكون مثالاً لهذا عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
    الفائدة الخامسة: دفع توهم الحصر.
    قال الزركشي: (قال الشافعي في معنى قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... ) الآية:
    إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم اللَّه، وكانوا على المضادة والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه نازلاً منزلة من يقول:
    لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض: المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة، فكأنه قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهل لغير اللَّه به، ولم يقصد حِلَّ ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل). اهـ.
    الفائدة السادسة: بيان أخصية السبب بالحكم.
    قال الطوفي: (أي أن السبب أخص بالحكم من غيره من صوره لأن اللفظ ورد بياناً لحكم السبب فكان مقطوعًا به فيه فيمتنع تخصيصه بالاجتهاد). اهـ بتصرف.
    الفائدة السابعة: معرفة التاريخ.
    قال الطوفي: (معرفة تاريخ الحكم بمعرفة سببه، مثل أن يقال: قذف هلال بن أمية امرأته في سنة كذا فنزلت آية اللعان فيعرف تاريخها بذلك، وفي معرفة التاريخ فائدة معرفة الناسخ من المنسوخ). اهـ.
    الفائدة الثامنة:
    قال الطوفي: (ومنها توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيكثر ثواب المصنفين، كالذين صنفوا أسباب نزول القرآن، والمجتهدين بسعة محل اجتهادهم). اهـ.
    الفائدة التاسعة: التأسي والاقتداء بما وقع للسلف من حوادث في الصبر على المكاره واحتمال الأقدار المؤلمة.
    قال الطوفي:
    (ومنها: التأسي بوقائع السلف وما جرى لهم، فيخف حكم المكاره على الناس، كمن زنت زوجته فلاعنها، فهو يتأسى بما جرى لهلال بن أُمية، وعويمر العجلاني في ذلك، ويقول: هؤلاء خير مني، وقد جرى لهم هذا فلي أُسوة بهم). اهـ.
    الفائدة العاشرة: تعيين المبهم.
    قال السيوطي: (ومنها معرفة اسم النازل فيه الآية وتعيين المبهم فيها). اهـ.
    قال الزرقاني: (معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين، حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء ويبرأُ المريب). اهـ.
    وسأذكر بعض الأمثلة الدالة على هذا فأقول:
    1 - أخرج البخاري عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود -:
    (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ... )، فقد فسر السفهاء هنا بأنهم اليهود.
    2 - أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: ألا ترى إلى هذا المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا؟
    قال: أنتم خير منه فنزلت:
    (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51).
    3 - أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل اللَّه فينا شيئاً من القرآن إلا أن اللَّه أنزل عذري).
    الفائدة الحادية عشر: تيسير الفهم والحفظ.
    قال الزرقاني: (تيسير الحفظ وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها، وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات،والأح كام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء، وانتقاشها في الذهن، وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها فى الفكر وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرر في علم النفس). اهـ.
    هذه أبرز الفوائد الناشئة عن معرفة أسباب النزول، وأهمها الثلاثة الأول، واللَّه أعلم.
    * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 38 الى صـ 43
    الحلقة (5)

    المبحث الثالث
    نشأة علم أسباب النزول

    مدخل: نشأة علم ما أمرٌ يحتاج إلى رصدٍ وملاحظةٍ منذ اللَّبِنَات الأولى التي قام عليها بناء هذا العلم، وهكذا تبدا العلوم بجزئيات متفرقة لا تحمل اسماً يميزها، ومع تكاثرها، وظهور شيء من ملامحها العامة تنطوي تحت الاسم العام الذي يشملها، ويشمل غيرها بجامع من التجانس العلمي، ولكن هذا ليس آخر المطاف - بالنسبة إلى بعض العلوم - حيث يمضي في التشكل والنمو، وتتظافر الهمم في دراسته وتطويره حتى يستقل بنفسه ويتميز باسمه الخاص، وهكذا علم أسباب النزول بدأ بروايات متفرقة لا يضمها اسم، ولا يجمعها كتاب، فلم يزل ينمو ويتطور حتى انتهى به المآل إلى الحال التي هو عليها الآن مروراً بالمراحل التالية:

    أولاً: عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:

    ارتبط هذا العلم في بداياته الأولى بالوحي الإلهي الذي كان ينزل به جبريل - عليه السلام - من رب العالمين - جل وعلا - على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إثر حادثة تحدث، أو سؤالٍ يُسأل، أو مقالةٍ تقال، أو شكاية ترفع فينزل الوحي لبيان هذا الأمر الطارئ، فيحفظ ذلك من حضره من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويكون ذلك من جملة العلم الذي تلقوه عن نبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكنه يتميز بأنه أمر حادث يعقبه وحي إلهي ينزل، ويحفظ في الصدور، حيث لم تكن الكتابة آنذاك أسلوباً مستعملاً لعامة الناس.
    فالصحابة عرب خُلص أُميون لا يقرؤون ولا يكتبون، فكل اعتمادهم على ملكاتهم في الحفظ، وقوة شأنهم فيه، واعتبر ذلك بحالهم في الجاهلية فقد حفظوا أنسابهم، ومناقبهم، وأشعارهم، وخطبهم.
    فكانت هذه الصدور الحافظة مهداً لآي الذكر الحكيم، وكانت هذه القلوب الواعية أوعية لحديث النبي الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
    ثانياً: عهد التابعين قبل تدوين السنة:
    انتهى العهد النبوي الشريف بموت المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحمل الراية بعده أصحابه الكرام، حيث نذروا أنفسهم لتبليغ الدين بكل ما يستطيعون من قول أو عمل أو جهاد أو بذل، فكان التابعون يقصدون أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخذ العلم عنهم بالسؤال تارةً، وبصحبتهم وسماع ما يروون تارةً، وكان هذا العلم من جملة ما حفظه التابعون عن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واشتهر لبعض الصحابة رواة وتلاميذ يأخذون عنهم، ويروون علمهم فهذا عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتلاميذه زر بن حبيش وأبو وائل شقيق بن سلمة، وعلقمة، والأسود، وغيرهم، وهذا عبد اللَّه بن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وتلاميذه سعيد بن جبير، وعطاء ابن أبي رباح، وطاووس بن كيسان اليماني وغيرهم، وهذه أم المؤمنين عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتلاميذها كمسروق، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم، وقد نُقل هذا العلم في هذه المرحلة بطريق التلقي والحفظ في الصدور أيضاً.
    ثالثاً: عهد تدوين السنة:
    التدوين على نحو محدود كان موجودًا حتى على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا كتب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابه الشهير لعمرو بن حزم، وأذن للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن يكتبوا لأبي شاه، وكذلك على عهد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما كتب أبو بكر لأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتابًا في شأن زكاة بهيمة الأنعام، واستمرت الحال كذلك على نحو فردي، حتى جاء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - ورأى الحاجة داعيةً إلى تدوين الأحاديث وكتابتها، فكتب بذلك على رأس المائة الأولى إلى عامله وقاضيه على المدينة أبي بكر بن حزم: (انظر ما كان من حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاكتبه فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء) وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وكذلك كتب إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث، وممن كتب إليه بذلك محمد بن شهاب الزهري ومن هذا الوقت أقبل العلماء على كتابة السنن وتدوينها، وشاع ذلك في الطبقة التي تلي طبقة الزهري، فكتب ابن جريج بمكة (150)، وابن إسحاق (151) ومالك (179) بالمدينة، والربيع بن صبيح (160)، وسعيد بن أبي عروبة (156). وحماد بن سلمة (176) بالبصرة، وسفيان الثوري (161) بالكوفة والأوزاعي (156) بالشام، وهشيم (188) بواسط، ومعمر (153) باليمن وجرير بن عبد الحميد (188)، وابن المبارك (181) بخراسان.
    وكان معظم هذه المصنفات والمجاميع يضم الحديث الشريف وفتاوى الصحابة والتابعين كما يتجلى لنا هذا في موطأ الامام مالك بن أنس.
    رابعا: عهد تصنيف العلوم:
    بعد المرحلة السابقة رأى بعضهم أن تفرد أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مؤلفات خاصة، فأُلفت المسانيد، وهي كتب تضم أحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيدها خالية من فتاوى الصحابة والتابعين تجمع فيها أحاديث كل صحابي، ولو كانت في مواضيع مختلفة تحت اسم مسند فلان ومسند فلان وهكذا، وأول من ألف المسانيد أبو داود سليمان بن داود الطيالسي (204 هـ)، كما يعتبر مسند الإمام أحمد بن حنبل - وهو من أتباع أتباع التابعين أوفى تلك المسانيد وأوسعها -.
    جمع هؤلاء الأئمة الحديث ودونوه بأسانيده، وذكروا طرقاً كثيرة لكل حديث يتمكن بها جهابذة هذا العلم، وصيارفته من معرفة الصحيح من الضعيف والقوي من المعلول.
    ثم رأى بعض الأئمة أن يصنفوا في الحديث الصحيح فقط، وكان أول من صنف ذلك الإمام البخاري (256 هـ) ثم الإمام مسلم (261 هـ).
    ثم ظهرت الكتب الأربعة مرتبةً على الأبواب كسنن أبي داود السجستاني (275 هـ) وأبي عيسى الترمذي (267 هـ)، والنَّسَائِي (353 هـ) وابن ماجه (273 هـ).
    وكانت أسباب النزول القرآني مبثوثة في بطون هذه المؤلفات الضخمة حتى جاءت المرحلة اللاحقة وهي:
    خامساً: مرحلة إفراد أسباب النزول بالتأليف:
    وسأذكر المؤلفات التي أفردت أسباب النزول بشكل مستقل حسب الوفاة وهي على النحو التالي:
    1 - (تفصيل لأسباب التنزيل) عن ميمون بن مهران ت (117 هـ) مخطوط.
    2 - (أسباب النزول) لعلي بن المديني ت (234 هـ).
    3 - (القصص والأسباب التي نزل من أجلها القرآن) للمحدث القاضي عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس ت (402 هـ) في نحو مائة جزء ونيف.
    4 - (أسباب النزول) لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي ت (468 هـ).
    5 - (أسباب النزول والقصص الفرقانية) لأبي المظفر محمد بن أسعد العراقي الحنفي الحكيمي ت (567 هـ) وهو كتاب يخلو من الأسانيد تماماً.
    6 - (الأسباب والنزول على مذهب آل الرسول) لأبي جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب الطبري الشيعي ت (588 هـ).
    7 - (أسباب النزول) لأبي الفرج ابن الجوزي ت (597 هـ).
    8 - (أسباب نزول الآي) للأرتقي ت (619 هـ). وهو مختصر كتاب الواحدي.
    9 - (عجائب النقول في أسباب النزول) لأبي إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري ت (732 هـ) ذكر السيوطي أنه اختصره من كتاب الواحدي، فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئاً.
    10 - (سبب النزول في تبليغ الرسول) لابن الفصيح: فخر الدين أحمد بن علي بن أحمد الكوفي ت (755 هـ).
    11 - (رسالة في أسباب النزول) لعلي بن شهاب الدين حسن بن محمد الهمذاني ت (786 هـ).
    12 - (العجاب في بيان الأسباب) للحافظ ابن حجر العسقلاني ت (852 هـ).
    13 - (مدد الرحمن في أسباب نزول القرآن) للقاضي زين الدين عبد الرحمن بن علي بن إسحاق التميمي الداري الخليلي المقدسي الشافعي ت (876 هـ).
    14 - الباب النقول في أسباب النزول) للحافظ جلال الدين السيوطي ت (911 هـ).
    15 - (إرشاد الرحمن لأسباب النزول والنسخ المتشابه وتجويد القرآن) لعطية اللَّه بن عطية البرهاني الشافعي الأجهوري ت (1190 هـ).
    16 - (أسباب التنزيل) لأحمد بن علي بن أحمد بن محمود الحنفي (مجهول الوفاة).
    17 - (أسباب النزول) لعبد الجليل النقشبندي.
    أما الكتب الحديثة التي تناولت أسباب النزول فمنها:
    أ - (أسباب النزول عن الصحابة والمفسرين) تأليف عبد الفتاح القاضي.
    ب - (الصحيح المسند من أسباب النزول) للشيخ مقبل الوادعي.
    جـ - (أسباب النزول القرآني) للدكتور غازي عناية.
    د - (أسباب نزول القرآن) للدكتور حماد عبد الخالق حلوة.
    هـ (أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص) للدكتور عماد الدين محمد الرشيد.
    و (تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النزول) الجامع بين روايات الطبري والنيسابوري وابن الجوزي، والقرطبي وابن كثير والسيوطي، تصنيف الشيخ خالد عبد الرحمن العك.
    ز - (أسباب النزول وأثرها في التفسير) رسالة جامعية لم تطبع بعد للدكتور عصام الحميدان.
    ح - (أسباب النزول) للدكتور الشيخ جمعة سهل. رسالة جامعية لم تطبع بعد.
    أما المؤلفات التي تناولت أسباب النزول ضمن موضوعات عديدة فمنها:
    أ - (البرهان في علوم القرآن) للإمام بدر الدين محمد بن عبد اللَّه الزركشي ت (794 هـ).
    ب - (الإتقان في علوم القرآن) تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.
    جـ (مناهل العرفان في علوم القرآن) للشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني.
    د - (المدخل لدراسة القرآن الكريم) للشيخ الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة.
    هـ - (مباحث في علوم القرآن) للدكتور مناع بن خليل القطان.
    و (مباحث في علوم القرآن) للدكتور صبحي الصالح.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 44 الى صـ 49
    الحلقة (6)

    ز - (دراسات في علوم القرآن الكريم) للدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي.
    وبهذا نصل إلى آخر العتبات التاريخية التي انتهى إليها علم أسباب النزول في نشأته وتطوره، على أن كل مرحلتين متتاليتين بينهما قدر من التداخل والمخالطة.
    * * *
    المبحث الرابع
    مصادر أسباب النزول

    وأعني بها المؤلفات التي روت أسباب النزول، سواءٌ أكانت مرويةً بأسانيدها كما في أكثر المؤلفات أم بغير أسانيد كما في بعضها الآخر، وتعتبر مرجعا رئيسًا في أسباب النزول.
    وهذه المؤلفات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مصادر رئيسة:
    الأول: كتب السنة.
    الثاني: كتب التفسير.
    الثالث: كتب أسباب النزول، وإليك التعريف بأبرزها:

    * المصدر الأول: كتب السنة:
    1 - الموطأ للإمام مالك.

    المؤلف: إمام دار الهجرة، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الحِمْيري الأصبحي، أبو عبد اللَّه، ولد سنة ثلاث وتسعين، وطلب العلم وهو حدث فأخذ عن خلق كثير، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة تسع وسبعين ومائة، وله من العمر ست وثمانون سنة.
    الكتاب: الموطأ.
    هذا الكتاب ألفه مالك في الحديث على طريقة الأبواب، ولم يلتزم قصره على الأحاديث المرفوعة إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل أضاف إليه أقوال الصحابة، وفتاوى التابعين.
    وحين البداءة بالموضوع يقدم حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ما ورد من أقوال الصحابة، ثم ما ورد من فتاوى التابعين، وغالبًا يكونون من أهل المدينة، وأحيانًا يذكر ما عليه العمل أو الأمر المجمع عليه بالمدينة وقد يذكر بعض آرائه الفقهية، ومع هذا فصبغة الكتاب حديثية لا فقهية كما أنه - رحمه الله - لم يتقيد بالمسند المتصل، بل ذكر فيه حتى المرسل والمنقطع والبلاغات، وهي ما يقول فيها مالك: بلغني أو نحوه من غير أن يعين من روى عنه.
    وقد روي أن عبد العزيز بن عبد اللَّه الماجشون سبق مالكًا فعمل كتابًا ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة وأنه عمل ذلك كلامًا وآراء بغير حديث، فلما رآه مالك نظر فيه وقال: ما أحسن ما عمل، ولو كنت أنا الذي عملت لابتدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام، ويظهر أن هذا هو الذي قوّى عزمه على إخراج كتابه كما أراد.
    وقد اختلف في سبب تسميته (الموطأ) فقيل: إن مالكاً قال: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ.
    وقيل: لأنه بصنيعه هذا قد وطأ العلم والحديث ويسرهما للناس.
    وقد روي الموطأ بروايات مختلفة تختلف في ترتيب الأبواب، وفي عدد الأحاديث، وقد ذكر القاضي عياض أن الذي اشتهر من نسخ الموطأ نحو عشرين نسخة، وذكر بعضهم أنها ثلاثون.
    والذي يظهر أن سبب الاختلاف يرجع إلى أن الإمام مالكًا كان دائم التهذيب والتنقيح لموطئه وحذف بعض الأحاديث، والذين سمعوا الموطأ سمعوه في أزمان مختلفة، فكان من ذلك الاختلاف في النسخ.
    وقد اختلف في عدد أحاديث الموطأ نتيجة لاختلاف النسخ.
    أما درجة أحاديثه فمن أهل العلم من قدمه على الصحيحين كأبي بكر بن العربي ومنهم من جعله في مرتبة دون الصحيحين كابن الصلاح في مقدمته، وقال به ابن حزم وبعض المتأخرين يسوي بين موطأ مالك والصحيحين في الصحة.
    وقد اختصر الموطأ: الإمام الخطابي حمْد بن محمد البستي المتوفى سنة 388 هـ. وأبو الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474 هـ، وابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 456 هـ.
    أما شروحه فكثيرة أجلها وأوسعها "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري المتوفى سنة 463 هـ.
    وقد شرحه أيضا أبو محمد عبد اللَّه بن محمد النحوي البطليوسي المتوفى سنة 521 هـ.
    وكذا القاضي اابو بكر بن العربي المتوفى سنة 546 هـ، وسماه (القبس).
    وممن شرحه الجلال السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، وسمى شرحه (كشف المغطا في شرح الموطأ).
    وكذا شرحه ولي اللَّه الدهلوي أحمد بن عبد الرحيم المتوفى سنة 1176 هـ، وسماه (المصفّى).
    أما أسباب النزول في الموطأ فهي قليلة، والموجود منها متفرق في أجزاء الكتاب.

    2 - مسند الإمام أحمد بن حنبل.

    المؤلف: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي هو الإمام حقًا، وشيخ الإسلام صدقًا، ولد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وطلب الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، عدة شيوخه الذين روى عنهم في المسند مائتان وثمانون ونيف، امتحن في فتنة القول بخلق القرآن، وعُذب على ذلك، فصبر ولم يجبهم، كانت وفاته - رحمه الله - في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين.
    الكتاب: المسند.
    المسند في اصطلاح المحدثين هو الكتاب الذي جمعت فيه أحاديث كل صحابي على حدة من غير نظر إلى وحدة الموضوع، فحديث صلاة بجانب حديث زكاة وهكذا، فإذا فرغ من حديث الصحابي أخذ في حديث غيره حتى يتم الكتاب.
    وقد اختلف أصحاب هذه الطريقة في ترتيب الصحابة، فمنهم من يرتبهم على حسب الفضل بأن يبدأ بالعشرة المبشرين بالجنة ثم بمن بعدهم كما فعل الإمام أحمد، ومنهم من يرتبهم على حروف المعجم كما فعل الطبراني في المعجم الكبير ومنهم من يرتبهم حسب القبائل.
    وقد انتقى الإمام مسنده من ألوف الأحاديث التي كان يحفظها ويرويها وقد قال أبو موسى المديني: (هذا الكتاب أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقى من حديث كثير ومسموعات وافرة فجعله إماماً، ومعتمداً، وعند التنازع ملجأً ومستنداً، ثم روى بسنده عن حنبل بن إسحاق قال: جمعنا عمي أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا المسند، وما سمعه منه تاماً غيرنا، وقال لنا: إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلا فليس بحجة).
    أما عدد أحاديثه فما بين ثلاثين وأربعين ألفاً، ومن هذه الألوف ما يزيد على ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد أي بين الرسول فيها والإمام ثلاثة رواة.
    وقد زاد على المسند عبد الله بن الإمام، وتلميذه أبو بكر القطيعي لكنهما لم يلتزما فيما زاداه ما التزمه الإمام من شدة التحري والتثبت، فمن ثمَّ وجد في المسند أحاديث ضعيفة.
    أما درجة أحاديثه ففيه الصحيح، والحسن والضعيف، والمنكر، بل والموضوع على ندرة جدا، كأحاديث فضائل مرو، وعسقلان، والبرث الأحمر عند حمص كما نبه عليه طائفة من الحفاظ.
    وسبب وجود الموضوعات في المسند يعود إلى أمور:
    الأول: أن الإمام أحمد كان ينوي تهذيب الكتاب وتنقيحه، لكن حلت به المنية قبل حصول الأُمنية.
    الثاني: التساهل في رواية الفضائل فقد روي عنه قوله: (نحن إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا) ولا يعني هذا إخراج الموضوعات لكن النظر يختلف في تحديد الموضوع من الضعيف عند العلماء.
    الثالث: ما زاده ابنه عبد اللَّه، وأبو بكر القطيعي وفي تلك الزيادات أحاديث كثيرة موضوعة.
    وقد اختصره زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي وسمى مختصره: (در المنتقد من مسند الإمام أحمد) وكذا اختصره سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن الشافعي، المتوفى سنة 804 هـ.
    أما ترتيبه: فقد قام به أبو بكر محمد بن المحب الصامت فرتبه على معجم الصحابة ورتب الرواة كذلك كترتيب كتب الأطراف، ثم أضاف ابن كثير لهذا الترتيب أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي إلا مسند أبي هريرة فإنه مات قبل إكماله.
    قال ابن الجزري: (وقد بلغني أن بعض فضلاء الحنابلة بدمشق رتبه على ترتيب صحيح البخاري وهو الشيخ أبو الحسن علي بن زكنون الحنبلي).
    وقد قيض الله لترتيب المسند في القرن الهجري الأخير أحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي وقد قسمه سبعة أقسام وفق الترتيب التالي: -
    1 - التوحيد وأصول الدين. 2 - الفقه. 3 - التفسير. 4 - الترغيب.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 50 الى صـ 56
    الحلقة (7)

    5 - الترهيب. 6 - التاريخ ويدخل فيه السير والمناقب. 7 - القيامة وأحوال الآخرة وكل قسم من هذه الأقسام السبعة يشتمل على جملة كتب، وكل كتاب يندرج تحته جملة أبواب، وبعض الأبواب يندرج فيه جملة فصول. وسمى ترتيبه هذا (الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني).
    أما شروحه: فقد شرحه شرحًا وجيزًا أبو الحسن بن عبد الهادي السندي المتوفى سنة 1138 هـ. كتعليقاته على كتب الحديث الستة.
    وكذلك الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الساعاتي وهو شرح وجيز على كتابه الجليل (الفتح الرباني) سماه (بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني).
    أما أسباب النزول في المسند فهي كثيرة لكنها مفرقة في نواحيه لأنه مرتب على المسانيد.
    3 - المسند الجامع للدارمي.
    المؤلف: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد اللَّه أبو محمد التميمي ثم الدارمي السمرقندي. طوّف أبو محمد الأقاليم، وصنف التصانيف، يضرب به المثل في الديانة، والحلم، والرزانة، والاجتهاد والعبادة، كانت وفاته سنة خمس وخمسين ومائتين يوم التروية بعد العصر، ودُفن يوم عرفة يوم الجمعة وهو ابن خمس وسبعين سنة - رحمه اللَّه تعالى -.
    الكتاب: المسند الجامع.
    اعتنى الدارمي في كتابه بإخراج حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآثار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة أهل العلم في الفقه والزهد ومسائل الفروع وبيان اختلافهم وأدلة مذاهبهم، ولم يقتصر على ما صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سندًا ومتنًا، لكنه أخرج في المقدمة شيئًا مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس من وجه صحيح.
    وبكل حال فإن غالب ما في الأصول أحاديث صحيحة أو حسنة، والأحاديث الضعيفة غالباً ما تكون في الفضائل والترغيب والترهيب، وربما يوردها في الشواهد والمتابعات.
    كما أن المصنف إذا أورد الحديث علق عليه بفائدة فقهية، أو بيان مذهبه، أو قول الأئمة فيه، أو يعدل أو يجرح أحد رواته، أو يذكر اختلاف الحفاظ في إسناده باتصال أو انقطاع.
    ومن الملاحظ أيضا أنه رتب كتابه على أبواب الفقه، لكن جعل له مقدمة ضمنها خمسة عشر باباً في فضائل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعجزاته، ثم أتبع تلك المقدمة بأبواب العلم ذكر فيها ستة وخمسين بابًا ... وهكذا.
    وله في كتابه أربعة عشر حديثاً ثلاثيًا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
    أما أسباب النزول في هذا المسند فليست كثيرة كما أنها مفرقة في نواحي الكتاب.
    4 - صحيح البخاري.
    المؤلف: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدزَبة وهي لفظة بخارية معناها الزراع، ولد أبو عبد اللَّه في شوال سنة أربع وتسعين ومائة، روى عن ألف وثمانين شيخًا، وكانت وفاته - رحمه اللَّه تعالى - سنة ست وخمسين ومائتين.
    الكتاب: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسننه وأيامه.
    جمع الإمام الحافظ البخاري كتابه في الأحاديث الصحيحة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن كان الأئمة يجمعون في مؤلفاتهم بين الصحيح والحسن والضعيف وكان الحامل له على هذا العمل قوله: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم مختصراً لصحيح سنة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فوقع في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح.
    وقد مكث في تأليفه ست عشرة سنة، وانتقاه من ستمائة ألف حديث.
    ولئن كان الكتاب حديثياً فإنه مع هذا لم يخل من الفوائد الفقهية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب كتابه، ففقهه يتجلى في تراجمه، ولذلك قيل: (فقه البخاري في تراجمه). وقد قسم البخاري كتابه إلى كتب والكتب إلى أبواب، فعدة كتبه (97) كتاباً وعدة أبوابه (3450) باباً.
    ومما ينبغي أن يعلم أن النسخ كما اختلفت في تقديم بعض الكتب والأبواب على بعض اختلفت في اعتبار بعض الكتب أبواباً وبعض الأبواب كتباً كما يعلم ذلك من مراجعة متن البخاري المطبوع وكتب الشروح، كما أنه يقع في كثير من أبوابه أحاديث كثيرة، وفي بعضها حديث واحد، وفي بعضها آية، وبعضها لا شيء فيه ألبتة، وقد ادعى بعضهم أنه صنع ذلك عمداً، وغرضه أن يبين أنه لم يصح عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه.
    وقد جرى البخاري في صحيحه على تكراره لبعض الأحاديث، وتقطيعه لها، واختصارها في الأبواب المختلفة.
    فأما تكراره فلمعانٍ وفوائد متعددة منها:
    1 - أنه يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر ليخرج الحديث عن حد الغرابة.
    2 - تكثير الطرق بأن يورده في كل باب من طريق غير الطريق الأولى فيزداد الحديث صحة وقوة.
    3 - إزالة الشبهة عن ناقليها وذلك في الأحاديث التي يرويها بعض الرواة تامة وبعضهم مختصرة.
    ومنها: أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال، ورجح عنده الوصل فاعتمده وأورد المرسل لينبه على عدم تأثيره.
    ومنها: أحاديث تعارض فيها الوقف والرفع والحكم فيها كذلك.
    ومنها: أنه ربما أورد حديثًا عنعنه راويه فيورده من طريق أخرى مصرحًا فيها بالسماع، وأما تقطيعه للحديث فللأسباب التالية:
    1 - لأنه إن كان المتن قصيرًا أو مرتبطًا بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعدًا فإنه يعيده بحسب ذلك.
    2 - إن كان المتن مشتملاً على جمل متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى يخرج كل جملة في باب مستقل فرارًا من التطويل وربما نشط فساقه بتمامه.
    وأما اقتصاره على بعض المتن ثم لا يذكر الباقي في موضع آخر فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفًا على الصحابي فيقتصر بالنقل على قول صاحب الشرع لأنه موضوع كتابه.
    أما المعلقات في صحيحه فمنها ما هو مرفوع ومنها ما هو موقوف، ومنها ما هو بصيغة الجزم كقال وروى، ومنها ما هو بصيغة التمريض كقيل ورُوي.
    أما ثلاثيات البخاري فعدتها اثنان وعشرون حديثًا.
    أما عدد أحاديثه الموصولة بلا تكرير (2602) حديثًا، وبالمكرر (7397).
    أما شروحه فكثيرة أبرزها:
    1 - أعلام الحديث لأبي سليمان الخطابي المتوفى (388 هـ).
    2 - الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري لشمس الدين الكرماني المتوفى (786 هـ).
    3 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى (852 هـ) وهو أجمل الشروح مطلقًا.
    4 - عمدة القاري لبدر الدين العيني المتوفى سنة 855 هـ.
    5 - إرشاد الساري إلى صحيح البخاري لشهاب الدين القسطلاني المتوفى (922 هـ).
    أما أسباب النزول في هذا الكتاب فهي كثيرة وليس لها كتاب يحويها وإنما هي مفرقة بحسب ما يناسبها من الأبواب.

    5 - صحيح مسلم.

    المؤلف: هو الإمام الكبير الحافظ المجود أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري ولد سنة أربع ومائتين، وقد روى عن شيوخ كثر، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور عن بضع وخمسين سنة.
    الكتاب: المسند الصحيح.
    هو أحد الكتابين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، وقد بالغ مسلم في البحث والتحري عن الرجال وتمحيص المرويات وليس أدل على هذا من انتقائه لكتابه من ألوف الروايات المسموعة، روي عنه أنه قال: (صنفت هذا الحديث من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة)، وقد مكث مع بعض تلاميذه خمس عشرة سنة يكتبون ويحررون حتى أتم تأليفه.
    ومن خصائص هذا الصحيح أن مؤلفه سلك فيه طريقة حسنة حيث يجمع المتون كلها بطرقها في موضع ولا يفرقها، إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك فلا بد من إعادة الحديث.
    ومن هذه الخصائص التدقيق في الألفاظ والمحافظة عليها ما وسعه الأمر، حتى إذا خالف راو غيره في لفظة والمعنى واحد بيّنه، وكذا إذا قال راو حدثنا، وقال آخر أخبرنا بيّن الخلاف في ذلك، وكذا إذا تغايرت الألفاظ يقول: (واللفظ لفلان) أما التحويل: فإنه سلك مسلك الإيجاز في كتابه بالجمع بين المتفق عليه من رجال الأسانيد وذكر غير المتفق عليه من الرجال وهو ما يعرف بالتحويل وقد أكثر مسلم من هذه الطريقة ورمز إلى ذلك بحرف (ح).
    ومن خصائصه أن لا يذكر في كتابه إلا الأحاديث المسندة المرفوعة، فلذلك لم يذكر مع الأحاديث المرفوعة أقوال الصحابة والتابعين.
    أما التعاليق: فلم يكثر في كتابه من التعليق فليس فيه منها إلا اثنا عشر موضعاً وهي في المتابعات لا في الأصول، ثم هي موصولة من جهات صحيحة في نفس الكتاب. ومن تحريه وورعه أيضاً أنه إذا ذُكر بعض الرواة باسمه من غير نسبته أو بكنيته فإنه يبين نسبته بما يدل على أنه منه.
    ولصحيح مسلم مقدمة قيمة عرض فيها لتقسيم الأخبار، وما يخرجه في صحيحه منها وأحوال الرواة، والكشف عن معايبهم، وبيان حرمة الكذب على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والحث على التثبت في الرواية، وبيان أن الإسناد من الدين إلى غير ذلك.
    أما تراجم الكتاب: فينبغي أن يعلم أن مسلماً لم يضع لكتابه تراجم للأبواب وإنما جمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، وأحسن من ترجم لهذه الإمام النووي.
    أما عدد أحاديثه فيقال إنها أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات.
    أما شروحه: فمنها (المعلم بفوائد كتاب مسلم) لأبي عبد اللَّه محمد بن علي المازري المتوفى سنة 536 هـ.
    ومنها: إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم للقاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي المتوفى سنة 544 هـ.
    ومنها: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج لأبي زكريا النووي المتوفى سنة 676 هـ.
    ومنها: شرح أبي الفرج عيسى بن مسعود الزواوي المتوفى سنة 744 هـ.
    أما مختصراته: فمنها:
    1 - مختصر الشيخ أبي عبد اللَّه شرف الدين محمد بن عبد الله المرسي المتوفى سنة 656 هـ.
    2 - مختصر الشيخ الإمام أحمد بن عمر القرطبي، وله شرح على هذا المختصر سماه المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم.
    3 - مختصر الإمام عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. المتوفى سنة 656 هـ.
    وأما أسباب النزول في هذا الكتاب، فليست مجموعة وإِنَّمَا مفرقة وفق اختلاف الكتب التي تنتمى إليها.

    6 - سنن أبي داود:

    المؤلف: سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر الإمام شيخ السنة مقدم الحفاظ أبو داود الأزدي السجستاني محدث البصرة، ولد سنة اثنتين ومائتين، ورحل، وجمع، وصنف وبرع في هذا الشأن، كانت وفاته - رحمه الله - سنة خمس وسبعين ومائتين.
    الكتاب: سنن أبي داود.
    كانت المؤلفات في الحديث - الجوامع والمسانيد ونحوها - يذكر فيها إلى جانب الأحكام أحاديث الفضائل والقصص والمواعظ والآداب حتى جاء أبو داود فجعل كتابه خاصًا بالسنن والأحكام مع الاستيفاء والاستقصاء.
    - ولم يلتزم فيه مؤلفه تخريج الصحيح فحسب بل حتى الحسن لذاته ولغيره والضعيف المحتمل، وما لم يجمع الأئمة على تركه، وأما ما فيه وهن شديد فقد بينه ونبه عليه.
    وقد بيّن أبو داود طريقته في سننه وبيان درجة أحاديثها في رسالته التي كتبها إلى أهل مكة جوابًا لهم.
    قال ابن القيم عن كتابه: (إنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، وإطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 57 الى صـ 62
    الحلقة (8)

    أما عدة أحاديثه فأربعة آلاف وثمان مائة حديث قسمها إلى كتب، والكتب إلى أبواب وعدة الكتب خمسة وثلاثون كتابًا منها ثلاثة كتب لم يبوب فيها أبوابًا، وعدة الأبواب واحد وسبعون وثمان مائة وألف، على أن هذا يختلف باختلاف النسخ.
    أما شروحه: فمنها.
    1 - معالم السنن لأبي سليمان الخطابي المتوفى سنة 388 هـ.
    2 - شرح سراج الدين ابن الملقن المتوفى سنة 804 هـ فقد شرح زوائده على الصحيحين في مجلدين.
    3 - شرح قطب الدين اليمني الشافعي المتوفى سنة 652 هـ في أربعة مجلدات كبار. وغيرها.
    أما أسباب النزول هنا فهي مفرقة وفق مناسبات الكتب والأبواب.

    7 - سنن الترمذي:

    المؤلف: هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك الحافظ العلم البارع ابن عيسى السلمي الترمذي ولد في حدود سنة عشر ومائتين، وارتحل فسمع بخراسان والعراق والحرمين، وقد أضر في كبره بعد رحلته وكتابته العلم، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة تسع وسبعين ومائتين بترمذ.

    الكتاب: جامع الترمذي.

    كتاب الترمذي كبقية كتب السنن لم يلتزم فيه مؤلفه تخريج الصحيح وحده، لكنه يبين عن علته إذا كان معلولاً.
    وقد التزم أن لا يخرج في كتابه إلا حديثاً عمل به فقيه أو احتج به محتج، وهذا شرط واسع، وكان من طريقته - رحمه الله - أن يترجم الباب الذي فيه حديث مشهور عن صحابي قد صح الطريق إليه، وأخرج من حديثه في الكتب الصحاح، فيورد في الباب ذلك الحكم من حديث صحابي آخر لم يخرجوه من حديثه، ولا تكون الطرق إليه كالطريق الأول وإن كان الحكم صحيحاً ثم يتبعه بأن يقول: (وفي الباب عن فلان وفلان) ويعد جماعةً فيهم ذلك الصحابي المشهور وأكثر، وقلما يسلك هذه الطريقة إلا في أبواب معدودة.
    قال الذهبي عنه: (إنه يترخص في قبول الأحاديث ولا يشدد، ونَفَسُه في التضعيف رخْوٌ).
    وكتاب الترمذي يتميز بأمور:
    الأول: من جهة حسن الترتيب وعدم التكرار.
    الثاني: من جهة ذكر مذاهب الفقهاء ووجوه الاستدلال لكل أحد من أهل المذاهب.
    الثالث: من جهة بيان أنواع الحديث من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل.
    الرابع: من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم ونحوها من الفوائد، وفي آخره كتاب العلل، وفيه من الفوائد الحسنة ما لا يخفى على الفطن.

    وللترمذي ثلاثي واحد بينه وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة رواة.
    أما شروحه فمنها:
    عارضة الأحوذي على الترمذي لأبي بكر بن العربي المتوفى سنة 543 هـ.
    ومنها شرح أبي الفتح محمد بن سيد الناس اليعمري الشافعي المتوفى سنة 734 هـ.
    بلغ فيه نحو ثلثي الجامع ولم يتم، ثم كمله الحافظ زبن الدين العراقى المتوفى سنة 806 هـ.
    ومنها: شرح الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 هـ وغيرها كثير.
    أمّا مختصراته:
    فمنها مختصر الجامع لنجم الدين محمد بن عقيل الميالسي المتوفى سنة 729 هـ.
    ومنها: مختصر الجامع لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 710 هـ.
    أما أسباب النزول هنا فهي مفرقة، وعدد لا بأس به منها موجود في أبواب تفسير القرآن.

    8 - سنن النَّسَائِي.

    المؤلف: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخراساني النَّسَائِي أبو عبد الرحمن الإمام الحافظ الثبت، ناقد الحديث، ولد بنَسَا في سنة خمس عشرة ومائتين، وطلب العلم في صغره، وكان من بحور العلم مع الفهم والإتقان ونقد الرجال، وحسن التأليف، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة ثلاث وثلاثمائة.
    الكتاب: المجتبى من السنن.
    ألف النَّسَائِي كتابه (المجتبى) مقتصرًا فيه على الصحيح، وذلك بعد أن أهدى كتابه (السنن الكبرى) إلى أمير الرملة، فسأله: هل كل ما فيها صحيح؟ فقال: فيها الصحيح والحسن وما يقاربها، فقال له: ميز لي الصحيح من غيره، فصنف كتابه السنن الصغرى وسماه المجتبى من السنن، وكتاب السنن مرتب على الأبواب الفقهية كبقية كتب السنن.
    وكان النَّسَائِي متشددًا في نقد الرجال، مبالغًا في التحري، فمن ثم قال العلماء إن درجة السنن الصغرى بعد الصحيحين لأنها أقل السنن بعدهما ضعيفا، وليس بقليل من يفضل المجتبى على سنن أبي داود.
    وسنن النَّسَائِي (المجتبى) اشتمل على الصحيح والحسن والضعيف لكنه قليل بالنسبة إلى غيره.
    وأما ما ذكره بعض أهل العلم من أن كل ما في السنن صحيح فتساهل صريح وقول غير دقيق ولذا قال ابن كثير: (فيه رجال مجهولون إما عيناً وإما حالاً، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة).
    وهذه السنن الصغرى هي التي عدت من الأصول المعتمدة عند أهل الحديث ونقاده، وأما سننه الكبرى فكان من طريقته فيها أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه.
    أما شروحه:
    فمنها زهر الربى على المجتبى لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، وهو إلى التعليق أقرب منه إلى الشرح.
    ومنها: تعليق أبي الحسن السندي المتوفى 1138 هـ.
    أما أسباب النزول عند النَّسَائِي ففي سننه الكبرى جمعها في كتاب التفسير، وفي المجتبى فرقها من نواحيه، ولم يضع فيه كتابًا للتفسير.

    9 - سنن ابن ماجه:

    المؤلف: محمد بن يزيد ابن ماجة، أبو عبد اللَّه القزويني، حافظ قزوين في عصره، ولد سنة تسع ومائتين، ارتحل إلى العراقين، ومكة والشام ومصر والري لِكَتْبِ الحديث، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
    الكتاب: سنن ابن ماجه.
    هذا الكتاب رابع كتب السنن المشهورة بالأربعة وقد رتبه مؤلفه على الكتب والأبواب، وقد ذكروا أن كتبه اثنان وثلاثون كتاباً، وجملة أبوابه ألف وخمسمائة باب، وجملة ما فيه أربعة آلاف حديث، وهي مرتبة ترتيباً فقهيًا، وقد بدأ كتابه بباب اتباع سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
    وهذه السنن متخلفة عن باقي السنن في الرتبة لكثرة الأحاديث الضعيفة فيها حتى قال المزي: (إن كل ما انفرد به ابن ماجه عن الخمسة فهو ضعيف).
    أما شروحه: فمنها الديباجة لكمال الدين الدميري المتوفى سنة 808 هـ.
    ومنها: ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجه لسراج الدين بن الملقن المتوفى سنة 804 هـ.
    أما أسباب النزول عند ابن ماجه فهي قليلة كما أنها مفرقة في نواحي الكتاب.
    * المصدر الثاني: كتب التفسير:
    لا ريب أن كتب التفسير عمومًا، والتي تعنى بالتفسير بالمأثور خصوصًا لها النصيب الأوفى في إيراد أسباب النزول عند تفسير الآيات، ولبعض هذه المؤلفات التصاق أكبر بأسباب النزول من غيرها، وسأتناول بالتعريف ما رأيت أنه أكثر احتواءً لها.

    1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري:

    المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الإمام العلم، المجتهد، أبو جعفر الطبري صاحب التصانيف البديعة من أهل آمُل طبرستان، ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، وأكثر الترحال، ولقي نبلاء الرجال، وكان من أفراد الدهر علماً، وذكاءً، وكثرة تصانيف قل أن تر العيون مثله، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة عشر وثلاثمائة ببغداد.
    الكتاب: جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
    هذا الكتاب من أقوم كتب التفسير وأشهرها، وعليه يُعول، وإليه يرجع فهو إمام كتب التفسير بلا منازع قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي).
    وقال عنه أيضاً: (وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرًا) اهـ.
    وهذا التفسير وإن اشتُهر عنه أنه من كتب التفسير بالمأثور إلا أن مؤلفه لم يقتصر فيه على المأثور عن السلف بل كان له فيه صولة وجولة ورأي ونظر.
    أما منهجه في تفسيره فإنه إذا أراد تفسير الآية يقول: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا ثم يذكر أحد المعاني في تفسيرها ثم يستشهد على ذلك بما يرويه عن السلف في ذلك المعنى، فإن كان في الآية قولان فأكثر فإنه يعرض كل قول على حدة ثم يمضي في سرد الروايات عن السلف في ذلك المعنى مسندة فإن كان للآية سبب نزول بدا به قبل غيره، وفي ذلك يقول: (وأول ما نبدأ به من القول في ذلك الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى، وتقديمها قبل ما عداها أحرى).
    والطبري من المكثرين من أسباب النزول، فلا تكاد تمر آية وفيها سبب نزول إلا أورده مسندًا، وبأكثر من إسناد، معزوًا لمن قاله من الصحابة والتابعين ثم يتحول بعد ذلك إلى الترجيح والتعليل.
    ومن منهج الطبري أنه يفسر القرآن بالقرآن، وبالسنة، وأقوال الصحابة والتابعين وباللغة.
    وله عناية فائقة في القراءات فيوردها، ويرجح بينها، وليس بغريب أن يكون كذلك لأنه من علماء القراءات المشهورين.
    كما أنه يورد أقوال الفقهاء في آيات الأحكام، وينفرد أحيانًا ببعض الآراء مؤيدًا قوله بالدليل.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 63 الى صـ 67
    الحلقة (9)

    ومن منهجه مناقشة المسائل النحوية بعد إيرادها والأقوال فيها، وكثيرًا ما يورد الأعاريب في مواضع من الآيات ويستشهد لما يذهب إليه بالشعر الجاهلي والإسلامي، ولتفسير الطبري مزايا، وعليه مآخذ.
    فمن مزاياه:
    1 - الالتزام بأحسن طرق التفسير من تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة وبأقوال الصحابة والتابعين، وتابعيهم.
    2 - جمع أقوال أعلام المفسرين من السلف والاحتفاظ بخلاصة تفاسير مأثورة سابقة، فقدت، وضاعت أصولها.
    3 - ذكر أسانيد الروايات المأثورة ولو تعددت طرقها، وهذا ضروري للحكم على هذه الأحاديث، ولو لم يذكر الأسانيد ما أمكن ذلك.
    4 - جمعه بين الأثر والنظر، والمنقول والمعقول.
    5 - ذكر أقوال المخالفين وأدلتهم، وهذا من الإنصاف والموضوعية.
    6 - ترجيح الراجح من الأقوال في تفسير الآية، وذكر أسباب الترجيح، وعدم ترك القارئ حيران في متاهات الاختلاف.
    7 - تقرير قواعد وأسس التفسير المنهجية، سواءً في بداية تفسيره أم في أثنائه.
    أما المآخذ عليه فمنها:
    1 - عدم نقد الروايات والطرق والأسانيد التي يوردها، وعدم الحكم عليها.
    2 - الخوض في (مبهمات القرآن) ومحاولة تفسيرها من الإسرائيليات التي لم تصح.
    3 - عدم إسناد القراءات إلى أصحابها من القراء المشهورين وعدم التمييز بين الصحيح والشاذ.
    4 - وجود الجمل الكثيرة المعترضة في الصياغة مما يكلف القارئ (في) إعادة الضمائر في الجمل، وربط الجمل بعضها ببعض.

    2 - تفسير ابن أبي حاتم:

    المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني من تميم بن حنظلة بن يربوع، وقيل عرف بالحنظلي لأن أباه كان يسكن في درب حنظلة بمدينة الري، العلامة الحافظ، يكنى أبا محمد، ولد سنة أربعين أو إحدى وأربعين ومائتين، كان بحرًا في العلوم، ومعرفة الرجال وكان زاهداً يعد من الأبدال، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالري، وله بضع وثمانون سنة.
    الكتاب: تفسير القرآن العظيم مسنداً عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة والتابعين.
    وكان الحامل للمؤلف على تأليف الكتاب أن جماعة من إخوانه سألوه أن يخرج تفسيراً للقرآن مختصراً بأصح الأسانيد، مع حذف الطرق، والشواهد، والحروف، والروايات، وتنزيل السور، وأن يخرج التفسير مجردًا، مع تقصي كل حرف من القرآن له تفسير.
    فأجابهم إلى طلبهم، وتحرى إخراج ذلك بأصح الأخبار إسنادًا، وأشبهها متنًا، فإذا وجد التفسير عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر معه أحداً من الصحابة (ممن) أتى بمثل ذلك، وإذا وجده عن الصحابة، فإن كانوا متفقين ذكره عن أعلاهم درجة بأصح الأسانيد، وسمى موافقيهم بحذف الإسناد.
    وإن كانوا مختلفين، ذكر اختلافهم، وذكر لكل واحد منهم إسناداً، وسمى موافقيهم بحذف الإسناد، فإن لم يجد عن الصحابة، ووجده عن التابعين، عمل فيه مثل ما عمل في الصحابة، وكذا الأمر في أتباع التابعين وأتباعهم.
    وهذا الكتاب قد تميز بأمور:
    1 - أنه جمع بين دفتيه تفسير الكتاب بالسنة وآثار الصحابة والتابعين بالإسناد.
    2 - أنه ذكر روايات كثيرة لا توجد عند غيره، وبأسانيده هو.
    3 - أنه حفظ لنا كثيرًا من التفاسير المفقودة مثل تفسير سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان وغيرهما.
    4 - أنه مصدر أصيل معتمد لدى جمهور علماء التفسير في كل العصور بعده، ولهذا نجد معظم التفاسير تنقل عنه كثيرًا من الآثار والروايات التي سردها.
    أما أسباب النزول فهي كثيرة في تفسيره، فإن ذكر آية لها سبب ذكره ضمن الروايات فيها.

    3 - تفسير الثعلبي:

    المؤلف: هو العلامة، أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، كان أحد أوعية العلم، كان صادقاً موثقًا، بصيرًا بالعربية، طويل الباع في الوعظ، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
    الكتاب: الكشف والبيان عن تفسير القرآن.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا التفسير: (فيه فوائد جليلة، وفيه غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها، والثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدًا لغيره) اهـ.
    وقد ذكر المؤلف الحامل له على التأليف وهو أنه لم يجد في كتب من سبقه كتاباً جامعًا مهذبًا يعتمد عليه، ثم ذكر ما كان من رغبة الناس إليه في إخراج كتاب في تفسير القرآن، فأجاب طلبهم رعاية لحقهم، وتقرباً إلى الله تعالى.
    وقد بدأ تفسيره بمقدمة ألقى فيها الضوء عليه، وأبان عن منهجه وطريقته فيه، كما ذكر في أول كتابه أسانيده إلى من يروي عنهم التفسير من علماء السلف مكتفياً بذلك عن تكرارها في ثنايا الكتاب، كما ذكر أسانيده إلى مصنفات أهل عصره، ومنها كتب الغريب، والمشكل، والقراءات، ثم ذكر بابًا في (فضل) القرآن وأهله، وبابًا في معنى التفسير والتأويل.
    كما أن له عناية في اللغة وأصولها، وتصاريفها ويستشهد على قوله بشعر العرب، وكان يتوسع في الأحكام الفقهية، وخصوصًا مذهب الشافعي.
    كما كان مولعاً بالأخبار والقصص ولهذا يتوسع في ذكر الإسرائيليات بدون تعقب أو تنبيه كما كان ينقل ما وجد في كتب التفسير حتى من الموضوعات، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع) اهـ.
    وكان يذكر القراءات في الآية ويعتني بتوجيهها، والاستدلال لها.
    أما أسباب النزول فكان يعتني بسردها، دون عزو أو إسناد كما أنه لا يتعقبها بالتعليق.

    4 - تفسير البغوي:

    المؤلف: الإمام العلامة أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسر، كان زاهداً قانعاً باليسير، وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها، كانت وفاته - رحمه الله - في مرو الروذ من مدائن خراسان سنة ست عشرة وخمسمائة، وعاش بضعًا وسبعين سنة.
    الكتاب: معالم التنزيل:
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (تفسير البغوي مختصر من تفسير الثعلبي، وحذف منه الأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيه وحذف أشياء غير ذلك) اهـ.
    أما منهجه في كتابه فإنه يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
    أما الأحاديث الموضوعة فقد نفاها من كتابه، وكذلك البدع التي ملأ الثعلبي بها كتابه.
    أما أحاديث بني إسرائيل فقد اجتنب أكثرها لكنه مع ذلك روى بعضها، وهي في تفسيره أقل من غيره.
    كما أن عنايته باللغة والنحو عناية يسيرة سريعة، وإن عرضها كان عرضه إياها موجزًا ومختصرًا.
    أما القراءات فله حظ فيها، فكان يفصل فيها، ويبسطها، ويذكر الفرق بين القراءتين.
    وكان يذكر المسائل الفقهية، ويعتني بها، ولعل ذلك يعود لكونه من فقهاء الشافعية.
    وكان يبين في أوائل السور المكي والمدني، ويعتمد في ذلك على المأثور، وأحيانًا يرجح ويختار، وأحيانًا يدع الأمر مرسلاً بلا تحديد.
    أما أسباب النزول فله بها عناية لاعتماده على المأثور في التفسير، مع ما للأسباب من أثر بيِّن في بيان المعنى، وهي كثيرة في تفسيره.
    وبالجملة فكتاب البغوي يغلب عليه النقل، ويقل فيه الترجيح والنقد.

    5 - تفسير ابن كثير:

    المؤلف: الحافظ الكبير عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن زرع البصري ثم الدمشقي، الفقيه، الشافعي، ولد بقرية من أعمال بُصرى سنة سبعمائة، وقيل إحدى وسبعمائة، ثم انتقل إلى دمشق سنة ست وسبعمائة، برع في الفقه والتفسير والنحو، وأمعن النظر في الرجال والعلل، وكان كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة أربع وسبعين وسبعمائة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 68 الى صـ 72
    الحلقة (10)

    الكتاب: تفسير القرآن العظيم.

    هذا الكتاب من أنفع كتب التفسير، وأكثرها شيوعًا، وهو يعد من كتب التفسير بالمأثور.
    وقد كان مؤلفه يعتمد في تفسيره طريقة ابن جرير الطبري حيث يفسر القرآن بالقرآن، وبالسنة، وأقوال الصحابة والتابعين.
    وكان له عناية بدراسة المسائل الفقهية لكن على نحو معتدل بعيدًا عن المبالغة والتقصير.
    كما كان له عناية بالأحداث التاريخية التي تناولها القرآن بالحديث عنها، وهذا ليس بغريب إذا علمنا أن مؤلفه البداية والنهاية يعد من المراجع التاريخية، أما الإسرائيليات فقد كان يكثر منها في تفسيره، وكثيرًا ما كان يتعقبها وينهج في ذلك ما أذن الشارع في نقله منها مما لا يخالف كتابًا ولا سنة.
    أما أسباب النزول فهي كثيرة في تفسيره، وأحيانًا يحرر القول في متونها وأسانيدها وأحيانًا أخرى يرويها ولا يتعقبها بشيء.
    وكان اهتمامه باللغة في تفسير القرآن ودلالاتها، محدودًا.
    ومن مميزات هذا التفسير ما يلي:
    1 - اختار أن يفسر القرآن بالمأثور وهذه الطريقة من أحسن الطرق في التفسير.
    2 - سلامة المعتقد في باب الأسماء والصفات، فقد خلا تفسيره من البدع.
    3 - عنايته بنقد الأسانيد، وهذا قليل وجوده في كتب التفسير.
    4 - عدم استطراده في المباحث التي لا تمس التفسير.
    أما أبرز المآخذ فمنها:
    1 - أنه حفل بالكثير من الإسرائيليات.
    2 - أنه يحشد أعدادًا كبيرة من الأحاديث بأسانيدها في المعنى الواحد وهذا يبلبل القارئ.

    6 - الدر المنثور للسيوطي:

    المؤلف: الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق السيوطي الشافعي، صاحب التصانيف، ولد سنة تسع وأربعين وثمانمائة.
    سمع الحديث من جماعة، وأجازه أكابر علماء عصره، وبرز في جميع الفنون وفاق الأقران، واشتهر ذكره، وبعُدَ صيته، وكانت وفاته سنة إحدى عشرة وتسعمائة.
    الكتاب: الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
    هذا الكتاب اختصره المؤلف من كتاب آخر أوسع منه وهو (ترجمان القرآن) ساق فيه التفسير بالأسانيد، فلما رأى الهمم عن تحصيله قاصرة والرغبة في الاقتصار على متون الأحاديث وافرة لخصه في كتابه الدر المنثور، وهذا الكتاب يحوي بين دفتيه الروايات المأثورة من كتب الحديث الصحاح، والسنن، والمسانيد، والمصنفات، وكتب التفسير.
    ولم يقتصر كتابه على الصحيح من الروايات بل أورد فيه الضعيف والموضوع والإسرائيليات.
    وأما أسباب النزول في كتابه فهي كثيرة ضرورة كثرة المرويات، لكنها بحاجة إلى دراسة نقدية في أسانيدها ومتونها واللَّه أعلم.
    * ثالثاً: المصادر المستقلة:
    وأعني بها المصادر التي أفردت أسباب النزول بالتناول، وهي كثيرة إلا أني سأقتصر في التعريف على كتابين يعدان من أشهرها، وأكثرها تداولاً بين أهل التخصص وهما:

    1 - أسباب النزول للواحدي:

    المؤلف: الإمام أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري، الشافعي، صاحب التفسير، صنف التفاسير الثلاثة: - البسيط، والوسيط، والوجيز.
    تصدر للتدريس مدة، وعظم شأنه، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة ثمان وستين وأربعمائة.
    الكتاب: أسباب النزول:
    قدم الواحدي كتابه بمقدمة بيَّن فيها أهمية علوم القرآن، والآثار الدالة على جواز تفسيره، وكيف نزل ابتداءً، وأول وآخر ما نزل ثم تكلم عن كل آية لها سبب منقول، ومن منهجه:
    أنه رتب الآيات على ترتيب المصحف إلا في مواضع نادرة، كما أنه يذكر اسم السورة، وبعد ذكر الآية يتبعها بذكر السبب أو الأسباب، وأحيانًا يذكر السبب بدون ذكر الآية قبله، وأحيانًا يذكر الخلاف في سبب نزول الآية، وقد يعدد الروايات للسبب الواحد، كما أنه أحيانًا يذكر الحديث المتصل والمرسل بالسند، وأحيانًا بغير سند، لكن إسناده للمتصل أكثر من إسناده للمرسل.
    أما إسناده القول للمفسرين فتارة يقول قال المفسرون، أو قال أكثر المفسرين أو قال أهل التفسير، أو عند أكثر المفسرين نزلت في كذا، ونحو هذا، وأحيانًا لا يعين المفسرين، بل يقول قال آخرون، وقال قوم، يروى، روي، ومن الكثير عنده أنه لا ينسب السبب لقائله.
    كما أنه في بعض المواضع يبين معاني الآيات، كما أنه قد يذكر بعض الفوائد في معاني الأحاديث، وقد يذكر الآية، ويبين معناها من غير ذكر سبب نزولها وقد يعقب على ذكر الحديث الذي رواه بسنده فيقول رواه البخاري أو مسلم أو الحاكم عن فلان.
    كما أنه يذكر بعض الروايات على أنها أسباب نزول وليست كذلك.

    2 - لباب النقول في أسباب النزول:

    المؤلف: تقدم التعريف به.
    الكتاب:
    هذا الكتاب يعد من الكتب الرئيسة في علم أسباب النزول، فقد حوى منها شيئاً كثيراً، واستفاد مؤلفه من كتاب الواحدي الذي سبقه في اقتناص محاسنه وزاد عليها من عنده ومن ذلك:
    أ - أنه حفظ في كتابه نصوصًا من كتب مفقودة، فكتابه فيها مرجع أصيل.
    ب - حكمه على بعض الأحاديث والآثار بالصحة أو الضعف أو غيرهما.
    جـ - نقله لأقوال العلماء في الحكم على بعض الأحاديث والآثار.
    د - ذكره لطريق الحديث والأثر مما يعين على الحكم على السبب خاصة إذا كان الكتاب مفقودًا.
    هـ - ذكره عدة أسباب لنزول الآية، ومحاولة الجمع بينها.
    وتعقيبه على بعض الأقوال العلمية.
    ز - ترجيحه واختياره لبعض الأسباب دون بعضها.
    حـ - تحديده لظروف نزول الآية هل هي مكية أو مدنية ليلية أو نهارية.
    أما ما يلاحظ على كتابه فالآتي:
    أ - أنه لم يستوعب جميع الآيات التي ورد فيها سبب نزول.
    ب - أنه ذكر بعض الأحاديث والآثار الضعيفة مع أنه أشار في مقدمة كتابه إلى عدم ذكر ذلك.
    جـ - في مواضع نادرة لا يرتب الآيات كترتيب المصحف.
    المبحث الخامس
    بواعث الخطأ في أسباب النزول

    من رحمة اللَّه بهذه الأمة حفظه لكتابها الذي لا يقوم دينها إلا به، وصيانته من التحريف والتبديل الذي نال كثيراً من الكتب السماوية السابقة فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، بل زاد على ذلك أن صانه من الاختلاف والتناقض فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)، فتمت بذلك كلمة ربك صدقاً وعدلاً أن الاختلاف واقع ولا بد إلا من المعصوم - صلوات الله وسلامه عليه - كما قال عنه ربه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)، وإن نظرةً في العلوم عامةً على اختلاف مشاربها، وتنوع مصادرها تجد فيها اختلافاً كثيرًا، فما كان بالأمس من النظريات ثابتًا قائماً لا يجوز تكذيبه، أصبح اليوم نائمًا لا يجوز تصديقه، وما كان في السابق من الظنيات أصبح في الحاضر من الحقائق المسلّمات.
    وليست علوم الشريعة بجميع تخصصاتها بلا استثناء سِلْمَا من هذا فقد نالها حظها ونصيبها من الاختلاف، إلا أن ما يميز تلك العلوم عن غيرها ثبوت الأصلين شامخين معصومين من الخطأ والزلل، كتاب الله، وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما يفتح الباب واسعًا لكل من ينشد التحقيق والتدقيق في تحرير المسائل وتصويبها إن استمسك بغرز هذين الأصلين.
    وإن علوم التفسير عامة، وأسباب النزول على وجه الخصوص قد أصابها ما أصابها من ذلك، فتجد من يقول: سبب نزول الآية كذا، وآخر يقول: هذا لا يصح أن يكون سببًا لها، وآخر يذكر حدثًا ثم يقول: فأنزل الله، وآخر يذكر القصة نفسها ثم يقول: فتلا عليه، أو يقول: فذلك قوله تعالى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 73 الى صـ 77
    الحلقة (11)

    ومنهم من يقول: نزلت هذه الآية بمكة، وآخر يقول: بل نزلت في المدينة، وثالث يقول: بل نزلت مرتين.
    اختلاف وتباين يجعل الحليم حيرانًا، يقرأ وينظر لكنه لم يستفد إلا بلبلة الفكر وتشتت الذهن.
    وقد حاولت في هذا المبحث جمع الأسباب التي قادت إلى الوقوع في الخطأ وحصرها مع التمثيل لكل منها بعدد من الأمثلة ليتبين للناظر حقيقة الأمر بدليله.
    وإني أعتقد جازماً أن هذا المبحث ثمرة حسنة من ثمار البحث لأمرين:
    أولاً: أن العلم بسبب الخطأ سبب للوقاية منه، وقد قيل: من لا يعرف الشوك لا يتقيه.
    ثانياً: الوقوف على القواعد المعتبرة، والضوابط المقررة في تحديد سبب النزول من غيره، وإن العلم بالخطأ يورث العلم بالصواب، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء.

    وقد تبين لي بعد التتبع والاستقراء أن البواعث الرئيسة على الخطأ تنحصر في خمسة يندرج تحتها صور متعددة، وأقسام متنوعة، سأذكر تحت كل قسم خمسة أمثلة، وأُحيل في الحاشية إلى المواضع الأخرى.
    السبب الأول: أن تقع المخالفة بين سبب النزول وآيات القرآن باعتبار التاريخ وهو قسمان:
    أ - أن تقع المخالفة بين ما نزل قبل الهجرة أو بعدها. وإليك الأمثلة:

    1 - أخرج ابن ماجه عن خباب - رضي الله عنه- في قوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) - إلى قوله -: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقروهم، فأتوه، فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بصحيفة، ودعا علياً ليكتب، ونحن قعود في ناحية فنزل جبرائيل - عليه السلام - فقال: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ .... ). مختصراً.
    قال ابن عطية: (وهذا تأويل بعيد في نزول الآية لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم، لكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة) اهـ.
    وقال ابن كثير: (وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر). اهـ.
    2 - أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33).
    وقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبَّاسٍ: سورة الأنفال. قال: نزلت في بدر وقال ابن عاشور: (وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر. قال ابن إسحاق: أُنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها). اهـ.
    وجه المخالفة: أن سورة الأنفال بالاتفاق نزلت بعد الهجرة، وأن دعاء أبي جهل كان بمكة لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وإنما كان فيهم قبل الهجرة.
    3 - أخرج الترمذي عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال: لما أُريد عثمان جاء عبد اللَّه بن سلام، فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك، قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجٌ خير لي منك داخل، فخرج عبد اللَّه إلى الناس، فقال: أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد اللَّه، ونزلت فيَّ آيات من كتاب اللَّه، نزلت فيَّ: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ .. ) ونزلت فيَّ: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43).
    قال القرطبي: (وكيف يكون عبد اللَّه بن سلام، وهذه السورة مكية، وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟).
    وقال ابن كثير: (قيل: نزلت في عبد اللَّه بن سلام. قاله مجاهد، وهذا القول غريب لأن هذه الآية مكية، وعبد اللَّه بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة).
    وقال ابن عاشور: (وقيل: أُريد به عبد اللَّه بن سلام، الذي آمن بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول مقدمه المدينة، ويبعده أن السورة مكية).

    والآية المقصودة هنا آية سورة الرعد.
    4 - أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن آثاركم تكتب فلا تنتقلوا).
    قال ابن عطية: (وهذه السورة مكية بإجماع إلا أن فرقة قالت: إن قوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) نزلت في بني سلمة، وليس الأمر كذلك إنما نزلت الآية بمكة ولكنه احتج بها عليهم في المدينة). اهـ. باختصار.
    وقال ابن كثير عن هذا الحديث: (وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية، والسورة بكمالها مكية فاللَّه أعلم). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وتوهم راوي الحديث أن هذه الآية نزلت في ذلك وسياق الآية يخالفه، ومكيتها تنافيه). اهـ.
    5 - أخرج أحمد والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: مر يهودي برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو جالس، قال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماء على ذِه وأشار بالسبابة، والأرض على ذِه، والجبال على ذِه، وسائر الخلق على ذِه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
    قال ابن عطية: (فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمثل بالآية وقد كانت نزلت). اهـ.
    وقال ابن عاشورة (وهو وهم من بعض رواته، وكيف وهذه مكية، وقصة الحبر مدنية). اهـ.
    ب - أن تقع المخالفة فيما نزل بعد الهجرة كان في أولها أم في آخرها وإليك الأمثلة:
    1 - أخرج مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر، ويرفع رأسه (سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد) ثم يقول وهو قائم: (اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان وعصية عصت الله ورسوله) ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أُنزل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128).
    وجه المخالفة: أن قصة رعل، ولحيان، وذكوان وعصية كانت لما قُتل القراء في بئر معونة وذلك في صفر من السنة الرابعة، والآية فى سياق غزوة أحد، فكيف يتقدم النزول على السبب؟
    2 - أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نزلت هذه الآية: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ .. ) الآية.
    أفاد ابن عاشور أن هذا الحديث لا يصح أن يكون سبباً لنزول الآية، إذ كيف تفقد القطيفة يوم بدر، ولا تنزل الآية لأجل هذا إلا يوم أحد مع أن بين الغزوتين سنة وشهرًا.
    3 - أخرج البخاري وأحمد عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت:كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - احجب نساءك قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس. فقال: عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، قالت: فأنزل الله - عز وجل - آية الحجاب.
    قال ابن كثير عن هذا الحديث: (المشهور في قصة سودة أنها كانت بعد نزول الحجاب). اهـ. وإذا كان كذلك فكيف تكون القصة سبب نزول الآية ولم تقع إلا بعدها.
    4 - أخرج البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة ومروان في قصة الحديبية قالا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية حتى كانوا ببعض الطريق فذكر الحديث ... إلى أن قالا: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده بالله والرحم: لما أرسل: فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فأنزل الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ... ).
    قال ابن حجر: (ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك أيضا وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح أنها نزلت بسبب القوم من قريش الذين أرادوا أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، فعفا عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية). اهـ. وهذا كان في الحديبية، وقصة أبي بصير بعد الحديبية.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 78 الى صـ 82
    الحلقة (12)

    5 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وركب حمارا، فانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها أنزلت: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما).
    قال ابن عاشور: (ويناكد هذا - أي القول بأنها سبب النزول - أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة). اهـ. مختصرا.
    ومن هنا نعلم أنه من رام السلامة من الخطأ في تحديد السبب فلا بد له من معرفة وقت النزول ووقت السبب.
    السبب الثاني: أن تقع المخالفة بين سبب النزول وآيات القرآن باعتبار السياق وهو ثلاثة أقسام:

    أ - أن يقع الاختلاف بينهما في الألفاظ وإليك الأمثلة:

    1 - أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء فنزلت هذه الآية التي في البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) قال: فدعي عمر فقرئت عليه.
    بيان مخالفة السبب للآية من وجهين:
    الأول: أن الآية فيها السؤال عن الخمر والميسر جميعا، بينما حديث عمر فيه الدعاء بالبيان عن الخمر فقط.
    الثاني: أن الله قال في الآية: (يسألونك) وعمر لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على هذا لفظ الحديث، وإنما فيه أنه دعا الله، وفرق بين دعاء الله وسؤال رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
    2 - أخرج الترمذي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رجلا عض يد رجل فنزع يده، فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك) فأنزل الله: (والجروح قصاص).
    وجه المخالفة هنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى حقه في الدية فكيف يكون له قصاص مع أن شأن القصاص أعظم وأكبر ثم يقال: فأنزل الله: (والجروح قصاص). اهـ.
    3 - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: نزلت في أربع آيات أصبت سيفا فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله نفلنيه: فقال: (ضعه) ثم قام، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ضعه من حيث أخذته) ثم قام، فقال: نفلنيه يا رسول الله فقال: (ضعه) فقام فقال: يا رسول الله نفلنيه. أأجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ضعه من حيث أخذته) قال: فنزلت هذه الآية: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول).
    قال أبو العباس القرطبي عن حديث سعد: (يقتضي أن يكون ثم سؤال عن حكم الأنفال، ولم يكن هنالك سؤال عن ذلك على ما يقتضيه هذا الحديث). اهـ. فالذي وقع في حديث سعد أنه سأل نفلا وفرق بين من يسأل عن الشيء وبين من يسأل الشيء، فالأول مستفهم والثاني يريد العطاء.
    4 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت أو سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك) قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني بحليلة جارك) قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) فالفرق بين الآية وحديث ابن مسعود أن الحديث حصر القتل في الولد خشية الطعام وحصر الزنا بحليلة الجار وهذا الحصر لا يوافق العموم في الآية. اهـ.
    5 - أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنسائي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: إن قريشا لما استعصت على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجدب وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ... فذكر الحديث حتى قال فأنزل الله: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10). باختصار.
    قال ابن كثير عن الآية: (أي بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: (يغشى الناس) أي يتغشاهم ويعميهم ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه (يغشى الناس). اهـ.
    وقال أبو العباس القرطبي: (لا شك في أن تسمية هذا دخانا تجوز، وحقيقة الدخان ما ذكر في حديث أبي سعيد). اهـ.
    ب - أن يقع الاختلاف بينهما في المقصود بالخطاب وإليك الأمثلة:
    1 - أخرج الإمام أحمد والنسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة. قال: (أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم) قال: وأنزل هؤلاء الآيات: (ليسوا سواء من أهل الكتاب) - حتى بلغ - (والله عليم بالمتقين).
    وجه المخالفة: أن القول بالنزول يقتضي نفي المساواة بين الذين آمنوا من هذه الأمة وبين أهل الكتاب.
    بينما اتفق المفسرون على أن الآية تنفي المساواة بين مؤمني أهل الكتاب وكافريهم قال ابن العربي: (وقد اتفق المفسرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب وعليه يدل ظاهر القرآن، ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمهم تأكيدا لما أفاده قوله: (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون).
    2 - أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) - إلى قوله - (غفور رحيم) نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
    وجه المخالفة: أن الله قال في آيات الحرابة: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) والحديث يقتضي المؤاخذة إذا تاب المحارب قبل القدرة.
    قال القرطبي: (وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم). اهـ. فإذا كان الإجماع منعقدا على قبول توبة المشرك بعد القدرة فقبلها من باب أولى.
    3 - أخرج النسائي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو بلعم، وقال نزلت في أمية.
    وجه المخالفة: أن الله قال عن المذكور: (آتيناه آياتنا) فكيف لأمية بن أبي الصلت أن تأتيه الآيات.
    4 - أخرج البخاري عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس قرأ: (ألا إنهم تثنوني صدورهم) قلت: يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم؟ قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحي أو يتخلى فيستحي فنزلت: (ألا إنهم تثنوني صدورهم).
    قال ابن عاشور بعد ذكر السبب: (وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر. فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها). اهـ.
    وهذا ظاهر لأن الآية تتحدث عن المذكورين حديث ذم وقدح، بينما المذكورون في الحديث أهل للثناء والمدح.
    5 - أخرج الدارمي عن يحيى بن جعدة قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتف فيه كتاب، فقال: كفى بقوم ضلالا أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله - عز وجل -: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب).
    وجه المخالفة بين الآية والحديث: أن الله قال قبل هذه الآية: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) وقال بعدها: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) فالضمير في (يكفهم) يعود على الكافرين القائلين: (لولا أنزل عليه آيات من ربه).
    والحديث يقتضي أن عدم الاكتفاء واقع من بعض المؤمنين.
    جـ - أن يقع الاختلاف بينهما في أصل الموضوع وإليك الأمثلة:
    1 - أخرج ابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة فنزلت: (من أوسط ما تطعمون أهليكم).
    وجه المخالفة: أن حديث الآية عن الكفارة حين يحنث الحالف في يمينه، بينما السبب يدور على القوت والإنفاق وفرق كبير بين هذين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد




    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 83 الى صـ 87
    الحلقة (13)

    2 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف الآخر، فماذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل اللَّه في شأنها: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ).
    قال الطبري: (وأولى الأقوال بالصحة قول من قال معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم لدلالة ما قبله من الكلام وهو قوله: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) وما بعده وهو قوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ). اهـ. بتصرف.
    وقال ابن عاشور عن الحديث: (وهو خبر واهٍ لا يلاقي انتظام هذه الآيات ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة). اهـ. باختصار.
    3 - أخرج البخاري ومالك ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) أنزلت في الدعاء.
    وجه المخالفة هنا: أن اللَّه نهى عن المخافتة بالصلاة في الآية، ولو كان المراد بالصلاة الدعاء لما نهى عن المخافتة لأن هذا هو الأصل في الدعاء لقوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
    4 - أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت بنو سلِمة في ناحية المدينة فأرادوا النُّقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إدْ آثاركم تكتب فلا تنتقلوا).
    وجه المخالفة: أن حديث الآية عن الموتى لقوله: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى) بينما الحديث في الأحياء، فكيف تنزل بسببه.
    قال ابن عطية: (ووافقها - أي الآية - قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعنى فمن هنا قال منْ قال: إنها نزلت في بني سلمة) والمراد بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (دياركم تكتب آثاركم).
    5 - أخرج الترمذي عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين، أو يا مسوِّد وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني - رحمك الله - فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) يا محمد، يعني نهرًا في الجنة، ونزلت: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)، يملكها بعدك بنو أُمية يا محمد. قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يومًا ولا تنقص.
    قال ابن كثير: (ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنه سيق لذم بني أمية، ولو أُريد ذلك لم يكن بهذا السياق، فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم، لا يدل على ذم أيامهم فإن ليلة القدر شريفة جدًا، والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أُمية التي هي مذمومة بمقتضى هذا الحديث.
    والسورة مكية فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أُمية ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها، والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته واللَّه أعلم). اهـ. بتصرف.
    وقال ابن عاشور: (وهو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحل المخالفة للجماعة). اهـ. باختصار.
    ومن هنا يمكن القول أنه لا بد لاستقامة السبب وقبوله أن يوافق الآية في اللفظ، والخطاب، وأصل الموضوع.
    السبب الثالث: وقوع الخطأ في الإسناد وهو أقسام:
    أ - أن يكون السبب ضعيف الإسناد وإليك الأمثلة:

    1 - أخرج الترمذي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة فلم ندرِ أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
    هذا الحديث مداره على عاصم بن عبيد اللَّه العمري، وقد قال أبو حاتم، وأبو زرعة والبخاري: (منكر الحديث، زاد أبو حاتم: مضطرب الحديث ليس له حديث يعتمد عليه). اهـ.
    2 - أخرج النَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلاً أتى امرأته في دبرها في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد من ذلك وجدًا شديدًا فأنزل اللَّه تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
    ظاهر هذا الإسناد الصحة ولكنه ليس كذلك فقد نص أبو حاتم الرازي على علته وأن الأصح في سنده هو ما رواه عبد اللَّه بن نافع الصائغ عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال ابنه ما نصه: (قال أبي: هذا أشبه - أي كونه من حديث أبي سعيد - وهذا أيضاً منكر، وهو أشبه من حديث ابن عمر لأن الناس أقبلوا قِبل نافع فيما حكى عن ابن عمر في قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) في الرخصةِ، فلو كان عند زيد بن أسلم عن ابن عمر لكانوا لا يولعون بنافع، وأول ما رأيت حديث ابن عبد الحكم استغربناه ثم تبين لي علته).
    3 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل اللَّه في شأنها: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ (24).
    قال ابن كثير: (وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، فالظاهر أنه من كلام أبى الجوزاء). اهـ. مختصرًا.
    ومدار الحديث على عمرو بن مالك النكري لم يوثقه أحد من ذوي الشأن باستثناء ابن حبان ومع ذلك فقد قال: (يخطئ ويغرب).
    4 - أخرج الترمذي عن أبي أُمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام)، في مثل هذا أُنزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).

    وإسناد هذا الحديث يدور على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن.
    قال الدارقطني: (عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد نسخة باطلة).

    وقال ابن حبان: (وإذا روى ابن زحر عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسنادٍ خبر عبيد اللَّه بن زحر، وعلي بن يزيد، والقاسم بن عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة). اهـ. مختصراً.
    5 - أخرج الترمذي عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين، أو يا مسود وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني - رحمك اللَّه - فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) يا محمد يعني: نهرًا في الجنة ونزلت: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)، يملكها بعدك بنو أُمية يا محمد. قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يومًا ولا تنقص.
    قال ابن كثير: (ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جداً قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي: هو حديث منكر ... ثم ذكر كلامًا حتى قال: فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته والله أعلم). اهـ. باختصار.
    وقال ابن عاشور: (واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرح بذلك ابن كثير وذكره عن شيخه المزي، وأقول: هو مختل المعنى، وسمات الوضع لائحة عليه). اهـ. باختصار.

    ب - أن يكون أصل الحديث صحيحاً وفيه علة إسنادية خفية وإليك الأمثلة:

    1 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري والدارمي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه (سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد) ثم يقول وهو قائم: (اللهم انج الوليد ابن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف اللهم العن لحيان، ورعلاً وذكوان، وعصية عصت اللَّه ورسوله) ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أُنزل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128).
    هذه الرواية في تسمية القبائل تفرد بها يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري عند مسلم وقد تابعه اثنان بدونها: شعيب، وإبراهيم بن سعد عند البخاري، والحديث له طريق أخرى عن أبي هريرة بدونها أيضاً من رواية الأعرج عند البخاري، فهذه الرواية شاذة لأن يونس تفرد بها عن بقية الثقات.
    وقال ابن حجر عن رواية البخاري للحديث وقوله: (حتى أنزل اللَّه): (ثم ظهر لي علة الخبر وأن فيه إدراجاً، وأن قوله: حتى أنزل اللَّه منقطع من رواية الزهري عمن بلَّغه، بيَّن ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة فقال هنا - يعني الزهري -: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت وهذا البلاغ لا يصح لما ذكرته). اهـ. يعني الانقطاع.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 88 الى صـ 92
    الحلقة (14)

    2 - أخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي فأقام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت عائشة: فجاء أبو بكر، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء اللَّه أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي فنام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أصبح على غير ماء فأنزل اللَّه تبارك وتعالى آية التيمم فتيمموا، فقال أُسيد بن حضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنتُ عليه فوجدنا العقد تحته.
    وفي لفظ للبخاري: ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ، وحضرت الصبح فالتُمس الماء فلم يوجد فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ).
    وهذه الزيادة في ذكر الآية انفرد بذكرها عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري، وخالف الجماعة الذين أعرضوا عن ذكرها، وعمرو بن الحارث وإن كان من الثقات الأثبات فقد ذكر أحمد أن له مناكير.

    3 - أخرج البخاري وأحمد عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان عمر بن الخطاب يقول لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احجب نساءك، قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرجن ليلاً إلى ليلِ قِبَل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلةً فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس، فقال: عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب قالت: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آية الحجاب.
    وللشيخين عنها: قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه فقال: (إنه قد أُذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن).
    وهذا الحديث رواه عن عائشة عروة وعنه اثنان، الأول: ابنه هشام بدون ذكر الآية.
    الثاني: الزهري وعنه جماعة كلهم ذكروا الآية، وهذه الرواية وإن كانت ثابتة عن الزهري إلا أن مما يؤيد رواية هشام حديث أنس في قصة زينب بنت جحش حيث وقع النزول.
    4 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياءً منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص، وإما أُدرة وإما آفة، وإن اللَّه أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق اللَّه، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه، فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فواللَّه إن بالحجر لَنَدَبا من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69).
    ولفظ مسلم ونزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ... ).

    فالتصريح بالنزول شاذ غير محفوظ إذ انفرد به عبد اللَّه بن شقيق ولم يتابعه على الزيادة أحد من أصحاب أبي هريرة الذين أكثروا عنه، وهم أثبت منه عموماً، وفي أبي هريرة خصوصًا.

    5 - أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن قريشاً لما استعصت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد، حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فذكر الحديث ... حتى قال فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11).
    فالتصريح بالنزول إنما جاء من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، وقد خالف سبعة من أصحاب الأعمش كلهم لم يذكروا نزول الآية، والأعمش أيضًا قد توبع بدونها فتكون شاذة لا اعتبار بها.

    جـ - أن يكون السبب صحيحاً لكنه يخالف سبباً أصح منه وإليك الأمثلة:

    1 - أخرج أحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها قال فنزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
    فهذا يخالف ما روى مسلم وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأُمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
    وفي رواية للبخاري: (إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) فأمرنا بالسكوت).
    فهذا الحديث أصح سندًا ومتنًا من حديث زيد بن ثابت، وتفصيل ذلك في الدراسة.
    2 - أخرج البخاري عن عبد اللَّه بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أقام سلعة في السوق فحلف فيها، لقد أُعطي بها ما لم يُعْطَه لبوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ... ) الآية.
    فهذا يخالف ما روى البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي اللَّه وهو عليه غضبان) قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ واللَّه كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألك بينة)؟ قال: قلت لا. قال: فقال لليهودي: احلف. قال: فقلت: يا رسول اللَّه إذن يحلف وبذهب بمالي قال: فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إلى آخر الآية.
    فهذا الحديث أصح سنداً ومتناً من حديث ابن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
    3 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ... ) الآية. فهذا يخالف ما روى مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن هذه الآية أُنزلت في أهل الكتاب ثم تلا ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) هذه الآية. وتلا ابن عبَّاسٍ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) وقال ابن عبَّاسٍ: سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
    فهذا السبب أصح من حديث أبي سعيد من أنها نزلت في المنافقين، لأنه مؤيد بالسياق القرآني.
    4 - أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا حتى إذا نهلوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول: قد فعل بي هذا أخي - وكانوا إخوةً ليس في قلوبهم ضغائن - واللَّه لو كان بي رءوفا رحيماً ما فعل بي هذا فوقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) - إلى قوله - (مُنْتَهُونَ) فقال ناس: هي رجس ... الحديث. اهـ. موضع الشاهد.
    فهذا يخالف ما روى مسلم وأحمد عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وأتيت على نفرٍ من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً. وذلك قبل أن تحرم الخمر. قال: فأتيتهم في حشٍّ - والحش البستان -فإذا رأس جزورٍ مشوي عندهم، وزق من خمر. قال: فأكلت وشربت معهم قال: فذكرت الأنصار والمهاجرون عندهم. فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي. فأتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيَّ - يعني نفسه - شأن الخمر: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ).
    فهذا السبب أصح من حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في سبب النزول.
    5 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالت قريش ليهود أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: (وَيَسْأَلُونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)، قالوا: أُوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أُوتي التوراة فقد أُوتي خيراً كثيراً قال فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي).
    فهذا الحديث يخالف ما روى البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يُوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي ثم قال: (وَيَسْأَلُونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
    فهذا الحديث أصح سنداً ومتناً من حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
    وبهذا يتبين أن كثيراً من الأخطاء في روايات أسباب النزول ناتج من عدم النظر في أسانيدها من حيث صحتها وضعفها، وشذوذها وحفظها. واللَّه أعلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 93 الى صـ 97
    الحلقة (15)

    السبب الرابع: وقوع الالتباس في التعبير وهو قسمان:
    1 - أن يعبر عن التفسير بالنزول وإليك الأمثلة:

    1 - أخرج مسلم والبخاري وابن ماجه عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) قال: نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي اللَّه، ونبيي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذلك قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
    فلم أرَ من صرح بأن للآية سبب نزول، وأن هذا هو سببها، بل الحديث من باب التفسير فقط.
    2 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن موسى كان رجلاً حييًا ستيرًا لا يُرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أُدرة، وإما آفة، وإن اللَّه أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق اللَّه، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فواللَّه إن بالحجر لنَدَبا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا فدْلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69).
    ولفظ مسلم ونزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ... ) الآية.
    فهذا تفسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للآية، أما النزول فلا يصح لشذوذه، وعدم وجود الحدث زمن النزول.
    3 - أخرج أحمد والبخاري عن طاووس قال: سأل رجل ابن عبَّاسٍ المعنى عن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقال سعيد بن جبير: قرابة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال ابن عبَّاسٍ: عجلت. إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن بطن من قريش إلا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم قرابة فنزلت: قُل (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم.
    وقد صحح ابن حجر بأن مقصود ابن عبَّاسٍ التفسير وليس السبب، فقال: (وقوله: (إلا أن تصلوا) كلام ابن عبَّاسٍ تفسير لقوله تعالى: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فعرف بهذا أن المراد ذكر بعض الآية بالمعنى على جهة التفسير). اهـ.
    4 - أخرج البخاري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللَّه ابن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) يقول الشعبي: (واللَّه ما نزلت في عبد الله بن سلام، ما نزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد اللَّه إلا في المدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها قومه منزلت: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ).
    5 - أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما أراد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يرفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء، خرج على أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلاً، ورأسه يقطر ماء، فقال: أيُّكم يُلقى شبهي عليه فيقتل مكاني، فيكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنًا، فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم الثالثة فقال الشاب: أنا، فقال عيسى - عليه السلام - نعم أنت، فأُلقي عليه شبه عيسى، ثم رُفع عيسى من روزنة كانت في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشاب للشبه فقتلوه ثم صلبوه فتفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان فينا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء اللَّه ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية وقالت طائفة: كان فينا عبد اللَّه ورسوله ما شاء الله ثم رفعه فهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعثا الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) يعني الطائفة التي كفرت في زمان عيسى - عليه السلام - والطائفة التي آمنت في زمان عيسى: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ) بإظهار محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دينهم على دين الكفار (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
    فهذا الحديث لا يكون من أسباب النزول لأن الحدث سبق النزول بزمن طويل واللَّه أعلم.
    ب - أن يعبر عن التلاوة والقراءة بالنزول وإليك الأمثلة:

    1 - أخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي عبيدة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص كان الرجل فيهم يرى أخاه يقع على الذنب فينهاه عنه فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) - حتى بلغ - فَاسِقُونَ) وكان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متكئًا فجلس فقال: لا حتى تأخذوا على يد الظالم فتأطروه على الحق أطرًا).
    فالتصريح بالنزول لا يصح لأن الحديث عن الأمم السابقة، وبعض المفسرين لما ذكر الحديث قال: ثم قرأ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
    2 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت أو سُئل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيُّ الذنب عند اللَّه أكبر؟ قال: (أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك) قلت: ثم أيٌّ قال: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني بحليلة جارك) قال: ونزلت هذه الآية تصديقًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ).
    وفي لفظ للترمذي وأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتلا هذه الآية: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... ولم يقل ونزلت.
    فهذا الحديث ليس سببًا للنزول لأنه معارض بحديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
    3 - أخرج أحمد والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يحمل الخلائق على إصبع والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت نواجذه فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
    وفي لفظ: ثم قرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
    قال ابن عطية: (فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمثل بالآية وقد كانت نزلت). اهـ. وقال ابن عاشور: (وفي بعض روايات الحديث فنزل قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وهو وهم من بعض رواته وكيف وهذه مكية، وقصة الحبر مدنية). اهـ.
    4 - أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن قريشًا لما استعصت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فذكر الحديث ... حتى قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) وفي لفظ للبخاري: ثم قرأ: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11).
    فهذا ليس سببًا للنزول لعدم وجود الحدث الذي يقتضي ذلك.
    5 - أخرج مسلم عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: مُطر الناس على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: (فنزلت هذه الآية: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) - حتى بلغ - (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).
    قال ابن عاشور: العل الراوي عنه - أي عن ابن عبَّاسٍ - لم يحسن التعبير عن كلامه فأوهم بقوله: فنزلت: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) بأن يكون ابن عبَّاسٍ قال: فتلا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أو نحو تلك العبارة، وقد تكرر مثل هذا الإيهام في أخبار أسباب النزول). اهـ. مختصراً.
    السبب الخامس: مخالفة السبب للمستقر الثابت من حال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وإليك الأمثلة:
    1 - أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نزلت هذه الآية: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدر. فقال بعض الناس: لعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) إلى آخر الآية.
    قال الطبري: (لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتهموا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغلول لعقَّب ذلك بالوعيد على التهمة وسوء الظن برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا بالوعيد على الغلول). اهـ. مختصراً.
    2 - أخرج النَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما جاء نعي النجاشي، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلوا عليه) قالوا: يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ).
    فقول الصحابة حسب الحديث: نصلي على عبد حبشي، لا يليق بهم، ولا يوافق الواقع؛ لأن النجاشي ليس عبدًا بل هو ملك حر، فالعبد شرعاً: هو الرقيق المملوك.
    أما كونه لا يليق بهم فلأنهم أوفى الناس للناس، ويعرفون فضله ووقوفه معهم حين هاجروا إليه مرتين، مع أن هذا القول لو ثبت عنهم لكان يتضمن أيضًا ردًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 98 الى صـ 102
    الحلقة (16)

    3 - أخرج البخاري عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان قوم يسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استهزاءً فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل اللَّه فيهم هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) حتى فرغ من الآية كلها.
    وقد أفاد ابن عاشور بأن أولئك ليسوا مؤمنين؛ لأن المؤمنين لا يستهزئون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أن الآية صُدرت بنداء الإيمان.
    4 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله في شأنها: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ (24).
    فهذا السبب لا يصح للنزول لما يتضمنه من القدح في أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنيل منهم، والله أعلم. اهـ.
    5 - أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما ترى. دينار؟) قلت: لا يطيقونه، قال: (فنصف دينار؟) قلت: لا يطيقونه.
    قال: (فكم؟) قلت: شعيرة. قال: (إنك لزهيد) قال: فنزلت: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) قال: فبي خفف اللَّه عن هذه الأمة.
    هذا الحديث يقتضي أن علياً أرحم بالناس من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس الأمر كذلك فليس أحد أرحمَ بالمؤمنين من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128).
    القسم الأول

    قواعد في أسباب النزول وضوابط الترجيح فيها
    وفيه فصلان:
    الفصل الأول: قواعد في أسباب النزول.
    وفيه ستة مباحث:
    المبحث الأول: تعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء.
    المبحث الثاني: أسباب النزول من حيث صيغتها.
    المبحث الثالث: تعدد النازل والسبب واحد.
    المبحث الرابع: تعدد السبب والنازل واحد.
    المبحث الخامس: عموم اللفظ وخصوص السبب.
    المبحث السادس: تكرر النزول.
    الفصل الثاني: ضوابط الترجيح في أسباب النزول.
    وفيه ستة مباحث:
    المبحث الأول: الترجيح بتقديم الصحيح على الضعيف.
    المبحث الثاني: الترجيح بتقديم السبب الموافق للفظ الآية على غيره.
    المبحث الثالث: الترجيح بتقديم قول صاحب القصة على غيره.
    المبحث الرابع: الترجيح بتقديم قول الشاهد للسبب على الغائب عنه.
    المبحث الخامس: الترجيح بدلالة السياق القرآني.
    المبحث السادس: الترجيح بدلالة الوقائع التاريخية.
    الفصل الأول
    قواعد في أسباب النزول
    وفيه ستة مباحث:
    المبحث الأول: تعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء.
    * معنى السبب.
    * معنى النزول.
    * معنى سبب النزول.
    * الأركان التي تُعرف بها أسباب النزول.
    المبحث الثاني: أسباب النزول من حيث صيغتها.
    المبحث الثالث: تعدد النازل والسبب واحد.
    المبحث الرابع: تعدد السبب والنازل واحد.
    المبحث الخامس: عموم اللفظ وخصوص السبب.
    المبحث السادس: تكرر النزول.
    المبحث الأول

    تعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء
    هذه اللفظة (أسباب النزول) تتكون من كلمتين: (أسباب) و (نزول)، ولمعرفة معناها لا بد من بيان معنى كل كلمة، ثم معنى الكلمتين معاً بعد أن صارتا عَلَماً لعلم مخصوص فأقول:
    معنى السبب: هو كل شيء يتوصل به إلى غيره.
    وقيل: كل شيء يتوسل به إلى شيء غيره، والجمع أسباب، والسبب يأتي لعدة معاني منها:
    (1) الوصل والمودة، قال الله تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)، أي: الوُصَل والمودات.
    (2) ومنها الحبل، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) أي: فليمدد بحبل إلى السماء.
    (3) ومنها الباب، قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى .. ) الآية، أي لعلي أبلغ أبواب السماوات.
    والجامع بين هذه المعاني هو الوصول بالشيء إلى غيره.
    معنى النزول: النزول في الأصل هو انحطاطٌ من عُلوٍّ، يقال: نزل عن دابته ونزل في مكان كذا حطَّ رحله فيه، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد




    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 103 الى صـ 107
    الحلقة (17)

    قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا).
    وقال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ).
    وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48).
    وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ).
    * * *
    سبب النزول في الاصطلاح
    من منهج العلماء في مؤلفاتهم وضع التعريفات لبعض المصطلحات العلمية، لأن التعريفات حدود تدل على الشيء، وتمنع غيره من الدخول فيه، ومن الطبيعي أن يكون لسبب النزول حدود وضوابط، يُعرف بها السبب، ويتميز عن غيره سيما إذا أدركنا أن أسباب النزول نشأت مع نزول القرآن.
    ومن الملفت للنظر أنه لا يوجد تعريف واضح لهذا المصطلح عند المتقدمين، ولعل هذا يعود إلى عدم عنايتهم بالدراسات النظرية لعلم أسباب النزول فقد كان همهم منصبًّا على ذكر الأحاديث وتطريقها شأنهم شأن المؤلفين في تلك العصور.
    ونظرًا لهذا فإني سأذكر هنا بعض التعريفات المتداولة في كتب المتأخرين ثم ما ترجح لديَّ في تعريف سبب النزول، ثم أقوم بشرحه مع التمثيل مستغنيًا بذلك عن الاستدراك المباشر على هذه التعريفات.
    ولعل أقرب من عرف سبب النزول - فيما أعلم - هو السيوطي حيث قال: (والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه). اهـ.
    وقال الزرقاني: (سبب النزول هو ما نزلت الآية، أو الآيات متحدثةً عنه، أو مبينة لحكمه أيام وقوعه). اهـ.
    وقال القطان: (ولذا نعرف سبب النزول بما يأتي: هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال). اهـ.
    أما التعريف الذي خلصت إليه بعد التتبع والاستقراء فهو:(كل قول أو فعل نزل بشأنه قرآن عند وقوعه.
    وإنما اخترت التعبير عن السبب: بالقول والفعل لأن أعمال المكلفين لا تعدو ثلاثة: النية والقول والفعل.
    فالنية المجردة عن معمولها لا يترتب عليها أثرها، ولهذا لا صلة لها بأسباب النزول ولا بغيرها من سائر الأحكام.
    فلم يبق إلا الأقوال والأفعال، وهذان يتناولان جميع أحوال المرء الظاهرة، وعليها يترتب الأثر في الدنيا والآخرة.
    وقولي: (كل قول): هذا يتناول السؤال، والدعاء، والتعجب، والعرض، والتمني والخبر، والطلب، وغير ذلك.
    وسواءً أكان ذلك من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم من أصحابه أم من المنافقين، أم من اليهود، أم من المشركين.
    ولم أرَ من نبّه إلى أن قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قول الشهداء، أو قول الجن يكون سبباً لنزول الآية مع وجود الأدلة على ذلك.
    بل من كتب في هذا إنما يذكر سؤالاً وجهه أحد الحاضرين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت الآية مع أن الأسئلة لا تمثل إلا نسبة يسيرة من الأقوال.
    وقولي: (أو فعلٍ) أي كل فعل، ويتناول ذلك الأفعال في العبادات والعادات والمعاملات في السفر والحضر، والسلم والحرب، والأمن والخوف.
    وسواءٌ أكان ذلك من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم من أصحابه أم من المنافقين، أم من اليهود، أم من المشركين.
    وأول من وقفت على قوله في إشارة إلى أن فعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد يكون سبباً للنزول هو الرومي حيث قال: (والحادثة التي ينزل القرآن لأجلها قد تكون من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما حدث في سبب نزول عبس ... ).
    وقولي: (نزل) احترازاً من المتلو والمقروءِ، فلو قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآية عند حدث ما، لما كان هذا من أسباب النزول، بل كان هذا من باب الاستشهاد بالآية على الحدث.
    مثاله ما روى الشيخان عن علي بن أبي طالب أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرقه وفاطمةَ بنت النبي - عليه الصلاة والسلام - ليلةً، فقال: (ألا تصليان) فقلت: يا رسول اللَّه، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إليَّ شيئاً، ثم سمعته وهو مولٍ، يضرب فخذه وهو يقول: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً).
    وقولي: (بشأنه) أي بسببه ولأجله، وقد اقتضت حكمة اللَّه البالغة ربط الأسباب بالمسبَبَات، ورتب على وجودها أثرها، فمن الآيات ما لا ينزل من السماء حتى يقع السبب في الأرض، ومنها ما ليس له سبب حاضر، فليس النزول موقوفاً على السبب دوماً، بل يكون أحياناً به، وأحيانًا أخرى بغيره وهذا أكثر.
    وقولي: (قرآن) هذا يتناول السورة وبعضها، والآية وبعضها، وسواءٌ أكان النازل مستقلاً بالمعنى، كما في أكثر الآيات النازلة، أو لا يستقل بالمعنى كقوله تعالى: (مِنَ الْفَجْرِ) ضمن قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وقوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ضمن قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإن هذا يتناوله لفظ القرآن.
    وقولي: (عند وقوعه) وجه التعبير ب (عند) لأمرين:
    الأول: أنها تدل على الزمن والدليل على هذا ما روى الشيخان عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
    ومثله ما روى البخاري عن عمرو بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما ترك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاته درهماً، ولا دينارًا، ولا عبداً، ولا أَمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة.
    الثاني: أنها تدل على المقاربة لما روى الشيخان عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 108 الى صـ 112
    الحلقة (18)

    ومثله ما روى البخاري عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال ومن بلغت صدقتُه بنتَ لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين).
    وبهذه الأمثلة تتبين دلالة (عند) على الزمن والمقاربة كما قاله ابن هشام والذي دعاني لاستعمال الظرف الدال على المقاربة دون التحديد أن لديَّ سببين تأخر النزول فيهما وهما قصة الإفك في أم المؤمنين - رضي الله عنها - حيث تأخر نزول براءتها شهراً، وقصة كعب بن مالك وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حيث تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خروجه إلى غزوة تبوك فأرجأ اللَّه التوبة عليهم خمسين ليلةً.
    ولو عبرتُ بقولهم: زمن وقوعه، أو أيام وقوعه فربما فُهم من هذا المبادرة والمباشرة وهذا ما لا أُريده ولا أَعنيه.
    فالمقاربة المستفادة من الظرف نسبية فمن الآيات ما قرب نزوله من سببه كثيراً ومنها ما بَعُدَ قليلاً ومنها ما بين ذلك.
    وسأذكر بعض الأمثلة الدالة على التفاوت في زمن النزول على سبيل الاختصار.
    فمن الآيات التي نزلت مباشرة: -

    1 - قوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فما فرغ ابن أم مكتوم من شكايته حتى نزل الوحي، وإن فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذ زيد بن ثابت - رضي الله عنه.

    2 - آية الروح، فما فرغ اليهود من السؤال حتى نزل قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
    ومن الآيات التي تأخر نزولها يسيراً: -
    1 - نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على أحد من المنافقين بعد صلاته على ابن أُبي.
    2 - قضية نزول الحجاب، ومكثهم في بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحدثون حتى أحرجوه فأنزل اللَّه الآية.
    ومن الآيات التي تأخر نزولها كثيراً: قضية الإفك، وكعب بن مالك وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
    ومن الأسباب ما يكون زمن نزوله بين ذلك وفق ما تقتضيه الحكمة الإلهية واللَّه أعلم.
    * * *
    الأركان التي تعرف بها أسباب النزول
    وبعد تعريف سبب النزول وشرحه تبين لي أنه يرتكز على أربعة أركان ينضبط باجتماعها، ويختلُّ باختلالها أو بعضها وهي:
    أولاً: الحدث الجديد، فلا بد من تصورِ أمرٍ جديدٍ قد وقع سواءٌ أكان قولاً أم فعلاً، والغالب الكثير من الأسباب أن يقع ذلك بعد بعثة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إني لم أجد إلا ستة أسباب، كان الحدث فيها قبل البعثة ومع هذا فقد أنزل اللَّه بشأنها قرآناً.
    والسبب في ذلك، - والله أعلم - أنها كانت تتجدد بعد رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إما سنوياً، وإما أقل من ذلك، فلما كانت تتجدد أصبحت كالحدث الجديد، وإليك الأسباب:
    1 - أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
    فالحرج استمر حتى بعد الإسلام، ولهذا سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فكان كالحدث الجديد.
    ب - أخرج البخاري ومسلم عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا، لم يدخلوا من قِبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبل بابه فكأنه عُيِّرَ بذلك فنزلت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
    وفي رواية للبخاري والنَّسَائِي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
    والدليل على تجدد الفعل هنا أن الآية نزلت عقب تعييره لما دخل البيت من بابه فدل على وقوعه في زمن الرسالة، بل بعد الهجرة لأنها نزلت في الأنصار.
    جـ - أخرج مسلم والبخاري والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: كانت الحمس لا يخرجون من مزدلفة، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات. قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيهم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من مزدلفة يقولون: لا نفيض إلا من الحرم. فلما نزلت: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) رجعوا إلى عرفات.
    وفي رواية للشيخين عنها - رضي الله عنها - قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات، ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ).

    وجه تجدد الفعل هنا: أن وقوفهم في مزدلفة استمر حتى حج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنة العاشرة فأمره اللَّه أن يأتي عرفات ثم يفيض منها.

    د - أخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: واللَّه لا أُطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبداً. قالت: وكيف ذاك؟ قال: أُطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة، حتى جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل القرآن: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً من كان طلق ولم يكن طلق.
    هـ - أخرج البخاري وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك.
    فقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) الآية، هذا النداء لم يقع لهم إلا بعد الرسالة لأنهم قبلها لم يكونوا من أهل الإيمان، ولو لم يكن هذا الفعل فيهم لكان نهيهم عنه لغواً ينزه عنه القرآن.
    و أخرج مسلم والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول: من يعيرني تِطوَافاً؟ تجعله على فرجها وتقول:
    اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدأ منه فلا أُحِلُّه
    فنزلت هذه الآية: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

    وبما تقدم يمكن أن أقول: إن السبب المصطلح عليه ينقسم إلى قسمين من حيث النشأة:
    الأول: أن ينشأ السبب سواء أكان فعلاً أم قولاً بعد الرسالة، وهذا الغالب.
    الثاني: أن يكون السبب موجودًا قبل الرسالة لكنه يتجدد بعدها فيكون كالجديد أصلاً.
    ثانياً: الموافقة بين اللفظين، لفظ الآية، ولفظ الحديث فلا بد أن يكون بينهما قدر مشترك في الألفاظ والمعاني، ولهذا يقال: السؤال معاد في الجواب وذلك لما بينهما من الصلة، فالسؤال سبب الجواب، وكذلك الحديث سبب لنزول الآية، وإذا كان بينهما توافق في الألفاظ فلا بد أن يتوافقا في المعاني، وأسباب النزول مع الآيات تشهد بهذا.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 113 الى صـ 117
    الحلقة (19)

    ثالثاً: سياق الآيات وأعني به الآيات التي تسبق موضع النزول وتتبعه، فهذه الآيات لا بد أن تكون في موضوعها وخطابها غير مخالفة للسبب في أصله وخطابه فلو كان سياق الآيات في أهل الكتاب ما صح أن يكون السبب في آيةٍ منه نازلاً في المشركين وكذلك أصل الموضوع فلو كان السياق القرآني في موضوع يخالف موضوع السبب قطعنا بأنه ليس بينهما صلة، وإن كان الحديث صحيحًا صريحاً في النزول.
    رابعاً: مراعاة التاريخ بين السبب والنزول، وقد لاحظت من تتبعي للأسباب أن السبب لا يتأخر عن النزول إلا لحكمة إلهية وفي أمثلة معروفة، فإذا وقعت المباعدة بينهما علمنا أنها ليست مما نحن فيه، وسواءٌ أكانت المباعدة الزمنية بين مكي ومدني أو بين المدني المتقدم أوائل الهجرة والمدني النازل في أواخرها.
    هذه أركان السبب كما بدت لي فمن حفظها ورعاها فهو حري أن يصيب ولا يخطئ في تحديد السبب من غيره، ومن تركها وأهملها فقد أضاع المفتاح الذي يفتح بابها.
    وثمَّ أمران آخران ليسا كهذه الأركان في المنزلة وإن كانا مؤثرين وهما: صحة الإسناد والتعبير بالنزول.
    فأما صحة الحديث فهي قرينة قوية في صحة السبب وثبوته، ومع هذا فمراسيل التابعين الذين تلقوا التفسير عن كبار الصحابة كانت ولا زالت تحظى بالقبول من العلماء، والاحتجاج بها في المعاني والأسباب.
    وأما التعبير بالنزول فلا ريب أنه ينفي التردد، وبجرئ القلب على الإقدام، والحكم بالسببية، فوجوده قرينة قوية في الدلالة على الأسباب، والله الموفق للصواب.
    المبحث الثاني
    أسباب النزول من حيث صيغتها

    صيغة أسباب النزول من المباحث الرئيسة عند المؤلفين في الدراسات القرآنية عامة، وأسباب النزول خاصة، ولا تكاد عين القارئ تخطئ هذا الموضوع عند الحديث عن أسباب النزول، إلا أن الحديث في بعضها قديم تليد، وفي بعضها حديث جديد، وسأذكر ابتداء أقوالهم في الموضوع، ناقلاً قول الزرقاني في تقسيمه ذلك إلى صيغة صريحة، وغير صريحة؛ لأنه أول من قسم هذا التقسيم - حسب علمي - ثم تتابع المؤلفون بعده على ذلك بلا تعقب أو تنبيه، ثم أُعقِّب على ذلك بما أراه صحيحاً راجحاً في الموضوع. فأقول:
    لأسباب نزول القرآن عند المعاصرين صيغتان:
    الأولى: صيغة صريحة قال عنها الزرقاني: (تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النزول فتارةً يصرح فيها بذكر السبب فيقال: (سبب نزول الآية كذا) وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها، وتارة لا يصرح بلفظ السبب ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادة نزول الآية عقب سرد حادثة، وهذه العبارة مثل تلك في الدلالة على السببية أيضًا، ومثاله رواية جابر الآتية قريبًا، ومرة يسأل الرسول فيوحى إليه، ويجيب بما نزل عليه، ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول، ولا تعبير بتلك الفاء، ولكن السببية تفهم قطعًا من المقام كرواية ابن مسعود الآتية عندما سُئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الروح، وحكم هذه أيضًا حكم ما هو نص في السببية). اهـ. موضع الشاهد وخلاصة هذا الكلام أن الصريح عنده قسمان:
    الأول: قول الراوي: (سبب نزول هذه الآية كذا).
    الثاني: قول الراوي: (حدث كذا فنزل كذا أو فنزلت الآية).

    وذكر حالاً أخرى جعل حكمها كحكم الأول، وهي أن يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أمر فيُوحى إليه بشأنه، ويجيب بما نزل عليه بدون ذكر السبب أو الفاء الداخلة على مادة النزول.
    فأما الأول وهو قوله: (سبب نزول الآية كذا) فهذا لا وجود له في الواقع فمع معاصرتي لأسباب النزول طوال مدة البحث، وكثرة تقليبي لها لم أجد سببًا واحدًا وردت فيه هذه الصيغة، كما أن الزرقاني لم يذكر مثالاً لهذا، ولا يخفى أن القواعد إنما تستمد من الأمثلة فأين هي الأمثلة هنا؟.
    ولعلي أعتذر للزرقاني هنا بأنه كان يتصور وجود شيء من هذا مع عدم استحضاره للمثال حين الكتابة فسطَّر ما كان يتصور.
    لكني أعجب كثيرًا ممن تابعه من المؤلفين على ذلك، إذ كان بإمكانهم البحث والتحرير قبل التسليم والتسطير.
    وأما الثاني: وهو دخول الفاء على مادة النزول بعد سرد حادثة فهذا أكثر الأساليب استعمالاً في أسباب النزول، ومع هذا فلا يعني وجود هذه الصيغة أن يكون الحديث سببًا للنزول، ولديّ من الأمثلة ما يكفي لإثبات هذا.
    1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرقتين، فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم فنزلت: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة.
    2 - أخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه. وأقام الناس معه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماءٌ قالت عائشة: فجاء أبو بكر ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضعٌ رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماءٌ، قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء اللَّه أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أصبح على غير ماءٍ فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم.
    وفي لفظ للبخاري: ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ، وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) فقال أُسيد بن حضير: لقد بارك اللَّه للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركةً لهم.
    3 - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت فيَّ أربع آيات. أصبت سيفاً، فأتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه نفلنيه، فقال: (ضعه) ثم قام، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ضعه من حيث أخذته) ثم قام فقال: نفلنيه يا رسول اللَّه. فقال: ضعه، فقام فقال يا رسول اللَّه نفلنيه أَأُجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ضعه من حيث أخذته) قال: فنزلت هذه الآية: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).
    4 - أخرج البخاري عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عبَّاسٍ قرأ: (ألا إنهم تثنوني صدورهم) قلت: يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم؟ قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحي، أو يتخلى فيستحي فنزلت: (ألا إنهم تثنوني صدورهم).
    5 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة: أن أيَّتنا دخل عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، قال: (لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له) فنزلت: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ) - إلى - (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ).
    لعائشة وحفصة: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) لقوله: (بل شربت عسلاً) فهذه الأحاديث وقع فيها المنصوص وهو دخول فاء التعقيب على مادة النزول وليست أسباب نزول كما سيتضح من دراستها.
    وأما الحال الملحقة بالقسم الأول وهي قوله: (ومرةً يُسأل الرسول فيوحى إليه، ويجيب بما نزل عليه، ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول ولا تعبير بتلك الفاء لكن السببية تُفهم قطعاً من المقام).
    فأقول: إذا كانت السببية إنما تُفهم من المقام، فهذا يعني عدم وجود صيغة فضلاً عن كونها صريحة.
    ثم كيف يكون حكمُ هذه حكمَ ما هو نص في السببية، مع أن هذا النص ليس له وجود أصلاً.
    بل لو قال قائل: إن هذا من أبين الأدلة على عدم وجود صيغ معينة لأسباب النزول فضلاً عن تقسيمها إلى صريحة وغير صريحة لكان قائله حرياً بالصواب.
    الثانية: صيغة غير صريحة.
    قال الزرقاني: (ومرةً أخرى لا يصرح بلفظ السبب، ولا يؤتى بتلك الفاء ولا بذلك الجواب المبني على السؤال بل يقال: (نزلت هذه الآية في كذا) وهذه العبارة ليست نصاً في السببية بل تحتملها وتحتمل أمراً آخر وهو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام.
    والقرائن وحدها هي التي تعيّن أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه). اهـ.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الاول
    التمهيد
    من صــ 118 الى صـ 122
    الحلقة (20)

    وهذا القول حق، وقد نص عليه بعض الأئمة الأعلام قبل زمن بعيد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارةً أنه سبب النزول، ويراد به تارةً أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول عنى بهذه الآية كذا). اهـ.
    وقال الزركشي: (وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فذكر كلامًا ... حتى قال: فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع). اهـ.
    وقد قيّد بعض الفضلاء كلام هذين العَلَمَين فقال: (وقول هذين الإمامين لا ينطبق إلا إذا كان المحكي من الراوي حكمًا فقهياً لا حدثا أو شخصًا نزلت في أحدهما الآية، فإن الاسم أو الحدث لا يمكن أن يقال فيه: عُني بهذه الآية كذا وكذا، وإنما يُقال نزلت في فلان أو في الحدث الفلاني.
    وهذا القيد لم أرَ من سبق إليه، مع أنه واضح في كلام المتقدمين كما مضى والحمد للَّه على توفيقه). اهـ.
    ثم ذكر في الحاشية أنه وجد عبارةً لابن تيمية تقارب ما ذكر من تخصيص السبب بذكر الشخص.
    وإنما الغرض من نقل هذا الكلام هنا لأجل أن أُبين أن كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - لا يدل على تخصيص السبب بذكر الشخص.

    وبيان ذلك أن شيخ الإسلام قال: (الصنف الثاني): أن يذكر كلٌّ منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه ثم ذكر أمثلة لهذا حتى قال: وقد يجيء كثيرًا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا كأسباب النزول المذكورة في التفسير، ثم ذكر كلامًا قال بعده: وإذا عُرف هذا فقول أحدهم نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال). هذا هو كلام شيخ الإسلام في هذا الموضوع، وأوله وآخره دائر على التفسير بالمثال. ولا يعني قوله: (لا سيما إن كان المذكور شخصًا) تخصيص السبب بذكر الشخص لأنه قال قبل ذلك: وقد يجيء كثيراً من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا. فإنه يعني بهذا الباب الصنف الثاني الذي جعله عنواناً لهذا الكلام.
    كما أن الأمثلة التي بين يديّ تتفق وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أنهم تارةً يريدون بقولهم نزلت في كذا أنه سبب نزول، وتارةً يريدون أن ذلك داخل في الآية دن لم يكن السبب.
    فأما الأمثلة على إرادة السببية فمنها: -
    1 - قال الله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188).

    أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن ابن عبَّاسٍ قال: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وقال ابن عبَّاسٍ: سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
    2 - أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) في عبد اللَّه بن حذافة السهمي إذ بعثه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السرية.
    3 - أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية.
    وأما الأمثلة على أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب:
    1 - أخرج البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها ... الحديث.
    2 - أخرج مسلم والبخاري والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجنيُّون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون فنزلت: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ).
    3 - أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي وابن ماجه عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقسم قسمًا: إن هذه الآية: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزةَ وعلي وعبيدةَ بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة.
    والخلاصة التي تبينت لي بعد تتبع الموضوع واستقرائه أنه لا يوجد صيغة محددة لأسباب النزول سواء أكانت صريحة، أم غير صريحة إما لعدم الدليل على ذلك ألبتَّة كما في قولهم: سبب نزول الآية كذا، وإما لاضطراب الأساليب المستعملة في ذلك واختلافها وتناقضها من حيث التطبيق، وإن كان أكثرها شيوعًا قولهم: فأنزل اللَّه، أو فنزلت، ومع هذا فلا يعني استعمال هذين اللفظين تحقق السببية فيما دخلا عليه، وإنما يعني التصريح بذكر النزول فقط، والأساليب المستعملة في التعبير عن النزول كثيرة كقولهم: ونزلت، حتى أنزل اللَّه، فلما أنزل اللَّه، فيَّ نزلت، فينا نزلت، حتى نزل القرآن، حتى نزلت، ونزل فيهم القرآن، فأنزل الله تصديق ذلك، فبلغنا أنها نزلت، ما أحسب هذه الآية أُنزلت إلا في ذلك.
    ومع كثرتها وتعددها تجد منها ما يكون سبباً حقاً، ومنها ما ليس كذلك مما يشير إلى أن الأسلوب المستعمل في التعبير عن النزول ليس أُسًّا ينتفي السبب بانتفائه، ويبقى ببقائه حتى عند مستعمليه.
    ولعلي أُبين بعض الأسباب التي أَدت إلى عدم إحكام أساليب التعبير عن أسباب النزول فأقول:
    أولاً: تصرف الرواة في الألفاظ كثير في هذا الباب، وإذا كانوا يُبدلون تلا بأنزل مع ما بينهما من فرق فلأن يكون الإبدال فيما هو أقل من ذلك من باب أولى.
    ثانياً: توسع السلف - رحمهم اللَّه - في استعمال التعبير بالنزول حيث يطلقون هذا المفهوم على ما تضمنته الآية بعمومها من صور وأَمثلة فيظن من بعدهم أنهم يريدون بالنزول ما اصْطُلِح عليه أخيراً، وهو الحدث الذي تنزل بسببه الآية، وليس الأمر كذلك عندهم.

    ثالثاً: ظن بعضهم - رحمهم اللَّه - في قضايا معينة أنها أسباب لنزول بعض الآيات وليس الأمر كذلك كما في الأمثلة التالية:
    1 - أخرج البخاري وأحمد والنَّسَائِي عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً) بعدما يقول: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) فأنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إلى قوله: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
    2 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ... ) الآية.
    3 - أخرج النَّسَائِي وأحمد وأبو داود عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن نفرًا من عُكْلٍ قدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاجتووا المدينة فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فقتلوا راعيها، واستاقوها، فبعث النبي - كل - في طلبهم، فقال: فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَّرَ أعينهم، ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... ).
    وحينئذٍ يبقى أن أقول إن ذكر مادة النزول في الحديث قرينة قوية، ورافد مهم في السببية لكن بضمها إلى غيرها.
    فالحديث إذا تحققت فيه أركان السبب كان سبباً للنزول وإن غابت عنه مادة النزول.
    كما أن المادة لا تغني عن الحديث شيئاً، ولا تصيره سبباً إذا دخلت عليه لكن غابت عنه أركان السبب. واللَّه أعلم.
    * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •