تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 14 1234567891011 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 262

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (1)

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    الكتاب: فتح العليم العلَّام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف: الإمام/ تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ)
    جمع وترتيب/ العاجز الفقير: عبد الرحمن القماش
    (من علماء الأزهر الشريف)
    عدد الأجزاء: 18
    عدد الصفحات: 9236
    [الكتاب مرقم آليا، وهو غير مطبوع]
    (تنبيه)
    جميع حقوق الطبع والنسخ والنشر حق لكل مسلم
    (يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)
    عن الربيع بن سليمان، قال: سمعتُ الشافعيَّ يقول: «ألفتُ هذه الكتب» واستفرغتُ مجهودي فيها، ووددتُ أن يتعلمها الناس ولا تُنْسَبُ إليَّ. اهـ (مناقب الشافعي، للبيهقي. 1/ 257).
    وَإِنْ تَجِدْ عَيْباً فَسُدَّ الْخَلَلَا ... جَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيهِ وَعَلَا
    * * *
    (تقديم)
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    (الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
    سبحانه هو المحمودُ بكلِّ لسانٍ [1]، المعبودُ في كلِّ زمانٍ، الذي لا يخلو من علمهِ مكان، صَاحبُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاء ِ، وَالْعِزَّةِ وَالْبَقَاءِ، وَالرِّفْعَةِ وَالْعَلَاءِ، وَالْمَجْدِ وَالثَّنَاءِ تَعَالَى عَنِ الْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ، وَتَقَدَّسَ عَنِ الْأَمْثَالِ وَالنُّظَرَاءِ.
    وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ وَصَفِّيِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ، عَدَدَ ذَرَّاتِ الثَّرَى، وَنُجُومِ السَّمَاءِ، حَبِيبِهِ، وَخِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْأَنَامِ، مُعَلِّمِ الْحِكْمَةَ، وهَادِي الأمَّةِ، ذِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، الْمُبْتَعَثِ بِالْحَقِّ الْأَبْهَجِ لِلْأَنَامِ دَاعِيًا، وَبِالطَّرِيقِ الْأَنْهَجِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُنَادِيًا، الصَّادِعِ بِالْحَقِّ، الْهَادِي لِلْخَلْقِ، أَرْسَلَهُ بالنورِ الساطعِ، والضياءِ اللامعِ، الْمَخْصُوصِ بِالْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالْكِتَابِ الْمُسْتَبِينِ، الَّذِي هُو أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَكْبَرُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، السَّائِرَةِ فِي الْآفَاقِ، الْبَاقِي بَقَاء الْأَطْوَاقِ فِي الْأَعْنَاقِ، الْجَدِيدُ عَلَى تَقَادُمِ الْأَعْصَارِ، اللَّذِيذُ عَلَى تَوَالِي التَّكْرَارِ، الْبَاسِقُ فِي الْإِعْجَازِ إِلَى الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، الْجَامِعُ لِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، الْجَالِي بِأَنْوَارِهِ ظُلَم الْإِلْحَادِ، الْحَالِي بِجَوَاهِرِ مَعَانِيهِ طَلَى الْأَجْيَادِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ أُنْزِل عَلَيْهِ، وَأَهْدَى أَرَج تَحِيَّةٍ وَأَزْكَاهَا إِلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الْمُخْتَصِّين بِالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَرَضِي اللَّهُ عَنْ صَحْبِهِ الَّذِين نَقَلُوا عَنْهُ كِتَاب اللَّهِ أَدَاءً وَعَرْضًا، وَتَلَقَّوْهُ مِنْ فِيهِ جَنِيًّا وَغَضًّا، وَأَدَّوْهُ إِلَيْنَا صَرِيحًا مَحْضًا.
    فاللهم صلِّ عليه وعلى آله الأبرارِ، وصحبه الأخيارِ، مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
    __________

    [1] اقتباس من مقدمتي لتفسير (مصباح التفاسير القرآنية الجامع لتفسير ابن قيم الجوزية).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (2)

    من صــ 236 الى صــ 249

    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:
    فَصْلٌ:
    أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ
    الْقُرْآنُ الْفُرْقَانُ الْكِتَابُ الْهُدَى النُّورُ الشِّفَاءُ الْبَيَانُ الْمَوْعِظَةُ الرَّحْمَةُ بَصَائِرُ الْبَلَاغُ الْكَرِيمُ الْمَجِيدُ الْعَزِيزُ الْمُبَارَكُ التَّنْزِيلُ الْمُنَزَّلُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ حَبْلُ اللَّهِ الذِّكْرُ الذِّكْرَى تَذْكِرَةٌ {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} {إنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} و {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الْمُتَشَابِهُ الْمَثَانِي الْحَكِيمُ {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الحكيم} محكم المفصل {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} البرهان {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} على أحد القولين الحق {قد جاءكم الحق من ربكم} عربي مبين أحسن الحديث أحسن القصص على قول كلام الله {فأجره حتى يسمع كلام الله} العلم {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} العلي الحكيم {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} القيم {يتلو صحفا مطهرة} {فيها كتب قيمة} {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} {قيما} وحي في قوله: {إن هو إلا وحي يوحى} حكمة في قوله: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} {حكمة بالغة} وحكما في قوله: {أنزلناه حكما عربيا} ونبأ على قول في قوله: {عن النبإ العظيم} ونذير على قول {هذا نذير من النذر الأولى} في حديث أبي موسى شافعا مشفعا وشاهدا مصدقا وسماه النبي صلى الله عليه وسلم " حجة لك أو عليك " وفي حديث الحارث عن علي {عصمة لمن استمسك به}. وأما وصفه بأنه يقص وينطق ويحكم ويفتي ويبشر ويهدي فقال: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل} {هذا كتابنا ينطق عليكم} {قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب} أي يفتيكم أيضا {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون}.
    فصل:
    في الآيات الدالة على اتباع القرآن. {قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} فإنه في التفسير المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله}. . . (1) .
    وسئل - رحمه الله -:

    عن أحاديث هل هي صحيحة وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح؟ إلخ فقال.

    فصل:
    وأما حديث فاتحة الكتاب فقد ثبت في الصحيح عن {النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله: أثنى علي عبدي وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله: مجدني عبدي. وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل}.
    وثبت في صحيح مسلم عن {ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض ولم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته} وفي بعض الأحاديث: {إن فاتحة الكتاب أعطيها من كنز تحت العرش}.
    وسئل:
    هل من يلحن في الفاتحة تصح صلاته أم لا؟
    فأجاب:
    أما اللحن في الفاتحة الذي لا يحيل المعنى فتصح صلاة صاحبه إماما أو منفردا مثل أن يقول: {رب العالمين} والضالين ونحو ذلك.
    وأما ما قرئ به مثل: الحمد لله رب ورب ورب. ومثل الحمد لله والحمد لله بضم الدال أو بكسر الدال. ومثل عليهم وعليهم وعليهم. وأمثال ذلك فهذا لا يعد لحنا.
    وأما اللحن الذي يحيل المعنى: إذا علم صاحبه معناه مثل أن يقول: {صراط الذين أنعمت عليهم} وهو يعلم أن هذا ضمير المتكلم لا تصح صلاته وإن لم يعلم أنه يحيل المعنى واعتقد أن هذا ضمير المخاطب ففيه نزاع والله أعلم.

    فصل:
    قال الله تعالى: في أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهذه السورة هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي الشافية وهي الواجبة في الصلوات لا صلاة إلا بها وهي الكافية تكفي من غيرها ولا يكفي غيرها عنها. والصلاة أفضل الأعمال وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح؛ أفضل كلمها الطيب وأوجبه القرآن وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود كما جمع بين الأمرين في أول سورة أنزلها على رسوله حيث افتتحها بقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وختمها بقوله: {واسجد واقترب} فوضعت الصلاة على ذلك أولها القراءة وآخرها السجود. ولهذا قال سبحانه في صلاة الخوف: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} والمراد بالسجود الركعة التي يفعلونها وحدهم بعد مفارقتهم للإمام وما قبل القراءة من تكبير واستفتاح واستعاذة هي تحريم للصلاة ومقدمة لما بعده أول ما يبتدئ به كالتقدمة وما يفعل بعد السجود من قعود وتشهد فيه التحية لله والسلام على عباده الصالحين والدعاء والسلام على الحاضرين فهو تحليل للصلاة ومعقبة لما قبله قال النبي صلى الله عليه وسلم {مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم}.
    ولهذا لما تنازع العلماء أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال عن أحمد وغيره: كان الصحيح أنهما سواء القيام فيه أفضل الأذكار والسجود أفضل الأعمال فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة يجعل الأركان قريبا من السواء وإذا أطال القيام طولا كثيرا - كما كان يفعل في قيام الليل وصلاة الكسوف - أطال معه الركوع والسجود وإذا اقتصد فيه اقتصد في الركوع والسجود وأم الكتاب كما أنها القراءة الواجبة فهي أفضل سورة في القرآن. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن مثلها وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته}
    وفضائلها كثيرة جدا. وقد جاء مأثورا عن الحسن البصري رواه ابن ماجه وغيره أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع علمها في الأربعة وجمع علم الأربعة في القرآن وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في أم القرآن وجمع علم أم القرآن في هاتين الكلمتين الجامعتين {إياك نعبد وإياك نستعين} وإن علم الكتب المنزلة من السماء اجتمع في هاتين الكلمتين الجامعتين. ولهذا ثبت في الحديث الصحيح حديث: {إن الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله أثنى علي عبدي وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله عز وجل: مجدني عبدي وفي رواية: فوض إلي عبدي وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل} فقد ثبت بهذا النص أن هذه السورة منقسمة بين الله وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة ف {إياك نعبد} مع ما قبله لله {وإياك نستعين} مع ما بعده للعبد وله ما سأل. ولهذا قال من قال من السلف: نصفها ثناء ونصفها مسألة وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء. وإذا كان الله قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في كل صلاة فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه؛ إذ إيجاب القول الذي هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ليس إيجابا لمجرد لفظ لا معنى له فإن هذا لا يجوز أن يقع؛ بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب أو القلب والبدن بل أوجب دعاء الله عز وجل ومناجاته وتكليمه ومخاطبته بذلك ليكون الواجب من ذلك كاملا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد. وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجابا وغير إيجاب في مواضع كقوله في آخر سورة هود: {فاعبده وتوكل عليه} وقول العبد الصالح شعيب: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} وقول إبراهيم والذين معه: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} وقوله سبحانه إذ أمر رسوله أن يقول: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}. فأمر نبيه بأن يقول: على الرحمن توكلت وإليه متاب كما أمره بهما في قوله: {فاعبده وتوكل عليه} والأمر له أمر لأمته وأمره بذلك في أم القرآن وفي غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة لله وامتثالا لأمره ولا يتقدموا بين يدي الله ورسوله؛ ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من الله؛ بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسنا أو عفوا وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره كالمنحرفين عن الصراط المستقيم. وإلى هذين الأصلين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد في عباداته وأذكاره ومناجاته مثل قوله في الأضحية: {اللهم هذا منك ولك} فإن قوله: " منك " هو معنى التوكل والاستعانة وقوله: " لك " هو معنى العبادة ومثل قوله في قيامه من الليل: {لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا تموت والجن والإنس يموتون} إلى أمثال ذلك.
    إذا تقرر هذا الأصل فالإنسان في هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة إما أن يأتي بهما وإما أن يأتي بالعبادة فقط وإما أن يأتي بالاستعانة فقط وإما أن يتركهما جميعا. ولهذا كان الناس في هذه الأقسام الأربعة؛ بل أهل الديانات هم أهل هذه الأقسام وهم المقصودون هنا بالكلام. قسم يغلب عليه قصد التأله لله ومتابعة الأمر والنهي والإخلاص لله تعالى واتباع الشريعة في الخضوع لأوامره وزواجره وكلماته الكونيات؛ لكن يكون منقوصا من جانب الاستعانة والتوكل فيكون إما عاجزا وإما مفرطا وهو مغلوب إما مع عدوه الباطن وإما مع عدوه الظاهر وربما يكثر منه الجزع مما يصيبه والحزن لما يفوته وهذا حال كثير ممن يعرف شريعة الله وأمره ويرى أنه متبع للشريعة وللعبادة الشرعية ولا يعرف قضاءه وقدره وهو حسن القصد طالب للحق لكنه غير عارف بالسبيل الموصلة والطريق المفضية. وقسم يغلب عليه قصد الاستعانة بالله والتوكل عليه وإظهار الفقر والفاقة بين يديه والخضوع لقضائه وقدره وكلماته الكونيات؛ لكن يكون منقوصا من جانب العبادة وإخلاص الدين لله فلا يكون مقصوده أن يكون الدين كله لله وإن كان مقصوده ذلك فلا يكون متبعا لشريعة الله عز وجل ومنهاجه؛ بل قصده نوع سلطان في العالم إما سلطان قدرة وتأثير وإما سلطان كشف وإخبار أو قصده طلب ما يريده ودفع ما يكرهه بأي طريق كان أو مقصوده نوع عبادة وتأله بأي وجه كان همته في الاستعانة والتوكل المعينة له على مقصوده فيكون إما جاهلا وإما ظالما تاركا لبعض ما أمره الله به راكبا لبعض ما نهى الله عنه وهذه حال كثير ممن يتأله ويتصوف ويتفقر ويشهد قدر الله وقضاءه ولا يشهد أمر الله ونهيه ويشهد قيام الأكوان بالله وفقرها إليه وإقامته لها ولا يشهد ما أمر به وما نهى عنه وما الذي يحبه الله منه ويرضاه وما الذي يكرهه منه ويسخطه. ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة ومخالفة لبعض الأمر وإذا أوغل الرجل منهم دخل في الإباحية والانحلال وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد كما قد وقع لكثير من الشيوخ ويوجد في كلام صاحب " منازل السائرين " وغيره ما يفضي إلى ذلك. وقد يدخل بعضهم في " الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود " فيعتقد أن الله هو الوجود المطلق كما يقول صاحب " الفتوحات المكية " في أولها:الرب حق والعبد حق ... يا ليت شعري من المكلف
    إن قلت عبد فذاك ميت ... أو قلت رب أنى يكلف
    وقسم ثالث معرضون عن عبادة الله وعن الاستعانة به جميعا. وهم فريقان: أهل دنيا وأهل دين فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير الله ويستعينون غير الله بظنهم وهواهم {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب. واعلم أنه يجب التفريق بين من قد يعرض عن عبادة الله والاستعانة به وبين من يعبد غيره ويستعين بسواه.
    __________

    Q (1) بياض بالأصل





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    (مبحث الاستعاذة)
    المجلد الثانى
    الحلقة (3)

    من صــ 250 الى صــ 254


    (مبحث الاستعاذة)

    مسألة: ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
    السنة: لكل من قرأ في الصلاة أو خارج الصلاة: أن يستعيذ؛ لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} يعني: إذا أردت القراءة كقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وقوله: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} أي: يريدون العود.
    فإن قيل: هذا أمر لمن كان أكبر مقصوده القراءة فقط, وهو القارئ خارج الصلاة, والقارئ للقرآن في صلاة التراويح.
    قلنا: الآية تعم القسمين, بل إذا استحب الاستعاذة للقارئ في غير الصلاة, فهي للقارئ في الصلاة أوكد؛ طردا لوسوسة الشيطان عنه, ولما تقدم من حديث جبير بن مطعم, وروى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة استفتح, ثم يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
    وفي رواية: «من همزه ونفخه ونفثه» رواه أحمد, والترمذي, وقال: (هذا أشهر حديث في هذا الباب) والذي قبله, وإن كان في النافلة, فإنه لا فرق في الاستعاذة بين الفريضة والنافلة, ولو لم يكن كان يبلغنا أنه كان يستعيذ امتثالا لأمر الله سبحانه, كما لم ينقل عنه نقلا ظاهرا أنه كان يستعيذ عند القراءة خارج الصلاة, إلا في حديث أو حديثين , ومعلوم أن ذلك لا محالة له.
    وقال الأسود بن يزيد. رأيت عمر حين يفتتح الصلاة يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك وتعالى جدك, ولا إله غيرك» ثم يتعوذ. رواه النجاد والدارقطني.
    وجاءت الاستعاذة في الصلاة عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة.
    فصل
    وفي صفة الاستعاذة أربعة أنواع:

    أحدها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, كما ذكره الشيخ, وذكره جماعة من أصحابنا, وذكره الآمدي, رواية عن أحمد؛ لظاهر قوله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} وقال: ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} وقد روى سليمان بن صرد قال: أستب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه, فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» رواه البخاري ومسلم.
    ولأن في حديث جبير بن مطعم: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم» وكذلك روى النجاد ثلاث روايات: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, إن الله هو السميع العليم» قاله في رواية جماعة, واختاره أبو بكر والقاضي والآمدي وابن عقيل وغيرهم.
    وقد روي ذلك عن مسلم بن يسار, وهو من أفضل التابعين؛ لأن ذلك فيه جمع بين ظاهر قوله: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} مع قوله في الآية الأخرى: {إنه هو السميع العليم} , وهو أبلغ معنى؛ لأن ذكر الصفة بعد الحكم بحرف «إن» يقتضي أن يكون علمه وسمعه سبحانه لدعاء الداعي, وعلمه بما في قلبه, سبب لإعاذته وإجارته من الشيطان.
    وثانيها: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ لأن فيه جمعا بين صفة الله تعالى مع تقديمها, وقد تقدم في حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يقول بعد الاستفتاح: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
    وروى أبو داود والنجاد في قصة الإفك أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
    وروى أحمد في «المسند» عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال إذا أصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ... } إلى آخر سورة الحشر, وكل الله به سبعين ألف ملك يحفظونه حتى يمسي, ومن قالها إذا أمسى, وكل الله به سبعين ألف ملك يحفظونه حتى يصبح».
    وروى النجاد عن ابن عمر أنه كان يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
    وثالثهما: أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, إن الله هو السميع العليم. واختاره ابن أبي موسى وأبو الخطاب, تخصيصا للصفة بإعادتها, وعملا بظاهر قوله: «إن الله هو السميع العليم» مع السنة الواردة لذلك, وكيف ما استعاذ بما روى فقد أحسن, مثل أن يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, من همزه ونفخه ونفثه» وهمزه: الموتة, وهي الصرع. ونفخه: الكبر والخيلاء. ونفثه: الشعر والأغاني الكاذبة.
    وسئل:
    عن رجل يؤم الناس وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ ثم يسمي ويقرأ ويفعل ذلك في كل صلاة؟.

    فأجاب:
    إذا فعل ذلك أحيانا للتعليم ونحوه فلا بأس بذلك كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح مدة وكما كان ابن عمر وأبو هريرة يجهران بالاستعاذة أحيانا.
    وأما المداومة على الجهر بذلك فبدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائما بل لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهر بالاستعاذة والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (4)

    من صــ 255 الى صــ 259


    (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
    وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
    (فَصْلٌ: هَلِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ)

    فَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ وَمِنْ شَعَائِرِهَا مَسْأَلَةُ الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ النَّاسَ اضْطَرَبُوا فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَفِي قِرَاءَتِهَا وَصَنَّفْت مِنْ الطَّرَفَيْنِ مُصَنَّفَاتٍ يَظْهَرُ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا نَوْعُ جَهْلٍ وَظُلْمٍ مَعَ أَنَّ الْخَطْبَ فِيهَا يَسِيرٌ.
    وَأَمَّا التَّعَصُّبُ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا فَمِنْ شَعَائِرِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نُهِينَا عَنْهَا؛ إذْ الدَّاعِي لِذَلِكَ هُوَ تَرْجِيحُ الشَّعَائِرِ الْمُفْتَرِقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ أَخَفِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ جَدًّا لَوْلَا مَا يَدْعُو إلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِ الْفُرْقَةِ.
    فَأَمَّا كَوْنُهَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَالِكِ: لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
    وَالْتَزَمُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوْدَعُوا الْمُصْحَفَ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَحَكَى طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد هَذَا رِوَايَةً عَنْهُ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ.
    وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ: مَا كَتَبُوهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْمُصْحَفِ مَعَ تَجْرِيدِهِمْ لِلْمُصْحَفِ عَمَّا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا وَهِيَ مِنْ السُّورَةِ مَعَ أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
    وَتَوَسَّطَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: كِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ تَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنِ لَكِنْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ؛ بَلْ تَكُونُ آيَةً مُفْرَدَةً أُنْزِلَتْ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ سَطْرًا مَفْصُولًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كُتِبَتْ فِيهِ.
    وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
    وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُ نَقْلٌ صَرِيحٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ وَأَعْدَلُهَا.
    وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي تِلَاوَتِهَا فِي الصَّلَاةِ. طَائِفَةٌ لَا تَقْرَؤُهَا لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا.
    كَمَالِكِ وَالْأَوْزَاعِي . وَطَائِفَةٌ تَقْرَؤُهَا جَهْرًا كَأَصْحَابِ ابْنِ جريج وَالشَّافِعِيِّ . وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ الْمُتَوَسِّطَة ُ جَمَاهِيرُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مَعَ فُقَهَاءِ أَهْلِ الرَّأْيِ يَقْرَءُونَهَا سِرًّا كَمَا نُقِلَ عَنْ جَمَاهِيرِ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ أَحْمَد يَسْتَعْمِلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَسْتَحِبُّ الْجَهْرَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ حَتَّى إنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ يَجْهَرُ بِهَا فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجْهَرُ بِهَا.
    وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إلَى تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِتَرْكِ هَذِهِ الْمُسْتَحَبَّا تِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ التَّأْلِيفِ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِ مِثْلِ هَذَا كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْيِيرَ بِنَاءِ الْبَيْتِ لِمَا فِي إبْقَائِهِ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَكَمَا أَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عُثْمَانَ إتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ثُمَّ صَلَّى خَلْفَهُ مُتِمًّا. وَقَالَ الْخِلَافُ شَرٌّ.
    وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا حَسَنًا فَمَقْصُودُ أَحْمَد أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَهَا فَيَجْهَرُ بِهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا سُنَّةٌ كَمَا جَهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْكِتَابِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ وَكَمَا جَهَرَ عُمَرُ بِالِاسْتِفْتَا حِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْآيَةِ أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
    وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْجَهْرُ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ الْمُخَافَتَةَ فَكَأَنَّهُمْ جَهَرُوا لِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَهَا كَمَا جَهَرَ بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِعَاذَ ةِ أَيْضًا وَالِاعْتِدَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتِعْمَالُ الْآثَارِ عَلَى وَجْهِهَا فَإِنَّ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا - وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَنْقُلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ - مُمْتَنِعٌ قَطْعًا.
    وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْيُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ خَبَرٌ ثَابِتٌ إلَّا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَكَوْنُ الْجَهْرِ بِهَا لَا يُشْرَعُ بِحَالِ - مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - نِسْبَةً لِلصَّحَابَةِ إلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ وَإِقْرَارِهِ؛ مَعَ أَنَّ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ يُشْرَعُ لِعَارِضِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَرَاهَةُ قِرَاءَتِهَا مَعَ مَا فِي قِرَاءَتِهَا مِنْ الْآثَارِ الثَّابِتَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَرْفُوعِ بَعْضُهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَتَبَتْهَا فِي الْمُصْحَفِ وَأَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ مَعَ السُّورَةِ فِيهِ مَا فِيهِ مَعَ أَنَّهَا إذَا قُرِئَتْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ سُلَيْمَانَ فَقِرَاءَتُهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ اللَّهِ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ فَمُتَابَعَةُ الْآثَارِ فِيهَا الِاعْتِدَالُ والائتلاف وَالتَّوَسُّطُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْأُمُورِ.
    ثُمَّ مِقْدَارُ الصَّلَاةِ يَخْتَارُ فِيهِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا غَالِبًا وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمُعْتَدِلَةُ الْمُتَقَارِبَة ُ الَّتِي يُخَفِّفُ فِيهَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ وَيُطِيلُ فِيهَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيُسَوِّي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَبَيْنَ الِاعْتِدَالِ مِنْهُمَا. كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    مَعَ كَوْنِ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ وَفِي الظُّهْرِ نَحْوَ الثَّلَاثِينَ آيَةً وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُخَفِّفُ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِعَارِضِ {كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ}.
    كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُطِيلُهَا عَلَى ذَلِكَ لِعَارِضِ كَمَا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ وَهِيَ الْأَعْرَافُ. وَيُسْتَحَبُّ إطَالَةُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الثَّانِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمُدَّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيَحْذِفَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّ أَنْ يَمُدَّ الِاعْتِدَالَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ رُكْنًا خَفِيفًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ تَابِعًا لِأَجْلِ الْفَصْلِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ.
    وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَلَّا يَزِيدَ الْإِمَامُ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى ثَلَاثٍ؛ إلَى أَقْوَالٍ أُخَرَ قَالُوهَا.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (5)

    من صــ 260 الى صــ 289

    وسئل:
    عن حديث نعيم المجمر قال: " كنت وراء أبي هريرة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم الكتاب حتى بلغ {ولا الضالين}.

    قال: آمين وقال الناس: آمين ويقول: كلما سجد: الله أكبر فلما سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم " وكان المعتمر بن سليمان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ويقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا حديث ثابت في الجهر بها. ذكر الحاكم أبو عبد الله: أن رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات. فهل يحمل {ما قاله أنس: وهو صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم} على عدم السماع؟ وما التحقيق في هذه المسألة والصواب؟.
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، أما حديث أنس في نفي الجهر فهو صريح لا يحتمل هذا التأويل فإنه قد رواه مسلم في صحيحه فقال فيه: {صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها} وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك لا يجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع. واللفظ الآخر الذي في صحيح مسلم: {صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يجهر أو قال: يصلي ببسم الله الرحمن الرحيم} فهذا نفي فيه السماع ولو لم يرو إلا هذا اللفظ لم يجز تأويله بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ جهرا ولا يسمع أنس لوجوه: أحدها: أن أنسا إنما روى هذا ليبين لهم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله إذ لا غرض للناس في معرفة كون أنس سمع أو لم يسمع إلا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع فلو لم يكن ما ذكره دليلا على نفي ذلك لم يكن أنس ليروي شيئا لا فائدة لهم فيه ولا كانوا يروون مثل هذا الذي لا يفيدهم. الثاني: أن مثل هذا اللفظ صار دالا في العرف على عدم ما لم يدرك فإذا قال: ما سمعنا أو ما رأينا لما شأنه أن يسمعه ويراه كان مقصوده بذلك نفي وجوده وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك.

    ومعلوم أنه دليل فيما جرت العادة بإدراكه. وهذا يظهر (بالوجه الثالث وهو أن أنسا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إلى أن مات وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب ويصحبه حضرا وسفرا وكان حين حج النبي صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يسيل عليه لعابها أفيمكن مع هذا القرب الخاص والصحبة الطويلة أن لا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها مع كونه يجهر بها هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه في العادة. ثم إنه صحب أبا بكر وعمر وعثمان وتولى لأبي بكر وعمر ولايات ولا كان يمكن مع طول مدتهم أنهم كانوا يجهرون وهو لا يسمع ذلك فتبين أن هذا تحريف لا تأويل. لو لم يرو إلا هذا اللفظ فكيف والآخر صريح في نفي الذكر بها وهو يفضل هذه الرواية الأخرى. وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأول قوله: يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه أراد السورة فإن قوله: يفتتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها صريح أنه في قصد الافتتاح بالآية لا بسورة الفاتحة التي أولها بسم الله الرحمن الرحيم إذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه.
    وأيضا فإن افتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة هو من العلم الظاهر العام الذي يعرفه الخاص والعام كما يعلمون أن الركوع قبل السجود وجميع الأئمة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا ليس في نقل مثل هذا فائدة ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس وهم قد سألوه عن ذلك وليس هذا مما يسأل عنه وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش وخلفاء بني أمية وبني الزبير وغيرهم ممن أدركه أنس كانوا يفتتحون بالفاتحة ولم يشتبه هذا على أحد ولا شك؛ فكيف يظن أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه. وإنما مثل ذلك مثل أن يقال: فكانوا يصلون الظهر أربعا والعصر أربعا والمغرب ثلاثا أو يقول: فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر ويخافتون في صلاتي الظهرين أو يقول: فكانوا يجهرون في الأوليين دون الأخيرتين. ومثل حديث أنس حديث عائشة الذي في الصحيح أيضا {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين} إلى آخره وقد روى {يفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين} وهذا صريح في إرادة الآية؛ لكن مع هذا ليس في حديث أنس نفي لقراءتها سرا؛ لأنه روى " فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " وهذا إنما نفى هنا الجهر.
    وأما اللفظ الآخر " لا يذكرون " فهو إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتفائه وذلك موجود في الجهر فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا.
    وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة يمكن فيها القراءة سرا؛ ولهذا استدل بحديث أنس على عدم القراءة من لم ير هناك سكوتا كمالك وغيره؛ لكن قد ثبت في الصحيحين من {حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: كذا وكذا} إلى آخره. وفي السنن من حديث عمران وأبي وغيرهما: أنه كان يسكت قبل القراءة. وفيها أنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر وإخباره بافتتاح القراءة بها إنما هو في الجهر وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرا يسمى سكوتا كما في حديث أبي هريرة فيصلح أن يقال: لم يقرأها ولم يذكرها؛ أي جهرا؛ فإن لفظ السكوت ولفظ نفي الذكر والقراءة: مدلولهما هنا واحد.
    ويؤيد هذا {حديث عبد الله بن مغفل. الذي في السنن: أنه سمع ابنه يجهر بها فأنكر عليه وقال: يا بني إياك والحدث وذكر أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يجهرون بها} فهذا مطابق لحديث أنس وحديث عائشة اللذين في الصحيح.
    وأيضا فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة لم يكن في العادة ولا في الشرع ترك نقل ذلك بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه كالتواطؤ على الكذب فيه. ويمثل هذا بكذب دعوى الرافضة في النص على علي في الخلافة وأمثال ذلك.
    وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح ولم يرو أهل السنن المشهورة: كأبي داود والترمذي والنسائي شيئا من ذلك وإنما يوجد الجهر بها صريحا في أحاديث موضوعة يرويها الثعلبي والماوردي وأمثالهما في التفسير. أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره بل يحتجون بمثل حديث الحميراء.
    وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء من لم يعز في كتابه حديثا إلى البخاري إلا حديثا في البسملة وذلك الحديث ليس في البخاري ومن هذا مبلغ علمه في الحديث كيف يكون حالهم في هذا الباب أو يرويها من جمع هذا الباب: كالدارقطني والخطيب وغيرهما فإنهم جمعوا ما روي وإذا سئلوا عن صحتها قالوا: بموجب علمهم.
    كما قال الدارقطني لما دخل مصر. وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بها فجمعها قيل له: هل فيها شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف. وسئل أبو بكر الخطيب عن مثل ذلك فذكر حديثين حديث معاوية لما صلى بالمدينة وقد رواه الشافعي رضي الله عنه قال: حدثنا عبد المجيد عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره.
    أن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بأم القرآن فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن وكبر حين يهوي ساجدا.
    وقال الشافعي أنبأنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني ابن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار: أي معاوية؟ سرقت الصلاة؟ وذكره. وقال الشافعي أنبأنا يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية والمهاجرين والأنصار بمثله أو مثل معناه لا يخالفه وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول وهو في كتاب إسماعيل ابن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية. وذكر الخطيب أنه أقوى ما يحتج به وليس بحجة كما يأتي بيانه.
    فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس في الجهر حديث صحيح ولا صريح فضلا أن يكون فيها أخبار مستفيضة أو متواترة امتنع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالاستفتاح والتعوذ ثم لا ينقل.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (6)

    من صــ 260 الى صــ 289



    فإن قيل: هذا معارض بترك الجهر بها فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ثم هو مع ذلك ليس منقولا بالتواتر بل قد تنازع فيه العلماء كما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوم عليه ثم لم ينقل نقلا قاطعا بل وقع فيه النزاع.
    قيل: الجواب عن هذا من وجوه:

    أحدها أن الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة ويجب نقله شرعا: هو الأمور الوجودية فأما الأمور العدمية فلا خبر لها ولا ينقل منها إلا ما ظن وجوده أو احتيج إلى معرفته فينقل للحاجة؛ ولهذا قالوا لو نقل ناقل افتراض صلاة سادسة أو زيادة على صوم رمضان أو حجا غير حج البيت أو زيادة في القرآن أو زيادة في ركعات الصلاة أو فرائض الزكاة ونحو ذلك لقطعنا بكذبه فإن هذا لو كان لوجب نقله نقلا قاطعا عادة وشرعا وإن عدم النقل يدل على أنه لم ينقل نقلا قاطعا عادة وشرعا؛ بل يستدل بعدم نقله مع توافر الهمم والدواعي في العادة والشرع على نقله أنه لم يكن. وقد مثل الناس ذلك بما لو نقل ناقل: أن الخطيب يوم الجمعة سقط من المنبر ولم يصل الجمعة أو أن قوما اقتتلوا في المسجد بالسيوف فإنه إذا نقل هذا الواحد والاثنان والثلاثة دون بقية الناس علمنا كذبهم في ذلك؛ لأن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة؛ وإن كانوا لا ينقلون عدم الاقتتال ولا غيره من الأمور العدمية. يوضح ذلك أنهم لم ينقلوا الجهر بالاستفتاح والاستعادة واستدلت الأمة على عدم جهره بذلك وإن كان لم ينقل نقلا عاما عدم الجهر بذلك فبالطريق الذي يعلم عدم جهره بذلك يعلم عدم جهره بالبسملة وبهذا يحصل الجواب عما يورده بعض المتكلمين على هذا الأصل وهو كون الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها يمتنع ترك نقلها فإنهم عارضوا أحاديث الجهر والقنوت والأذان والإقامة فأما الأذان والإقامة فقد نقل فعل هذا وهذا وأما القنوت فإنه قنت تارة وترك تارة وأما الجهر فإن الخبر عنه أمر وجودي ولم ينقل فيدخل في القاعدة.
    (الوجه الثاني أن الأمور العدمية لما احتيج إلى نقلها نقلت فلما انقرض عصر الخلفاء الراشدين وصار بعض الأئمة يجهر بها كابن الزبير ونحوه سأل بعض الناس بقايا الصحابة كأنس فروى لهم أنس ترك الجهر بها وأما مع وجود الخلفاء فكانت السنة ظاهرة مشهورة ولم يكن في الخلفاء من يجهر بها فلم يحتج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى ينقل.
    (الثالث أن نفي الجهر قد نقل نقلا صحيحا صريحا في حديث أبي هريرة والجهر بها لم ينقل نقلا صحيحا صريحا مع أن العادة والشرع يقتضي أن الأمور الوجودية أحق بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية. وهذه الوجوه من تدبرها وكان عالما بالأدلة القطعية قطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بها بل ومن لم يتدرب في معرفة الأدلة القطعية من غيرها يقول أيضا: إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيح صريح فكيف يمكن بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها ولم تنقل الأمة هذه السنة بل أهملوها وضيعوها؟ وهل هذه إلا بمثابة أن ينقل ناقل:
    أنه كان يجهر بالاستفتاح والاستعاذة كما كان فيهم من يجهر بالبسملة ومع هذا فنحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالاستفتاح والاستعاذة كما كان يجهر بالفاتحة كذلك نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالبسملة كما كان يجهر بالفاتحة ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانا أو أنه كان يجهر بها قديما ثم ترك ذلك كما روى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير ورواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس:
    {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بمكة فكان المشركون إذا سمعوها سبوا الرحمن فترك الجهر فما جهر بها حتى مات} فهذا محتمل.
    وأما الجهر العارض، فمثل ما في الصحيح أنه كان يجهر بالآية أحيانا ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله:
    {ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه} ومثل جهر عمر بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ومثل جهر ابن عمر وأبي هريرة بالاستعاذة ومثل جهر ابن عباس بالقراءة على الجنازة ليعلموا أنها سنة. ويمكن أن يقال جهر من جهر بها من الصحابة كان على هذا الوجه ليعرفوا أن قراءتها سنة؛ لا لأن الجهر بها سنة. ومن تدبر عامة الآثار الثابتة في هذا الباب علم أنها آية من كتاب الله وأنهم قرءوها لبيان ذلك لا لبيان كونها من الفاتحة وأن الجهر بها سنة مثل ما ذكر ابن وهب في جامعه قال أخبرني رجال من أهل العلم عن ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن أسلم؛ وابن شهاب: مثله بغير هذا الحديث عن ابن عمر أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن شهاب: يريد بذلك أنها آية من القرآن فإن الله أنزلها قال: وكان أهل الفقه يفعلون ذلك فيما مضى من الزمان وحديث ابن عمر معروف من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أنه كان إذا صلى جهر ببسم الله الرحمن الرحيم فإذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال:
    بسم الله الرحمن الرحيم فهذا الذي ذكره ابن شهاب الزهري هو أعلم أهل زمانه بالسنة بين حقيقة الحال. فإن العمدة في الآثار في قراءتها إنما هي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر.
    وقد عرف حقيقة حال أبي هريرة في ذلك وكذلك غيره رضي الله عنهم أجمعين.
    ولهذا كان العلماء بالحديث ممن يروي الجهر بها ليس معه حديث صريح لعلمه بأن تلك أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يتمسك بلفظ محتمل مثل اعتمادهم على حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة المتقدم. وقد رواه النسائي. فإن العارفين بالحديث يقولون إنه عمدتهم في هذه المسألة ولا حجة فيه.
    فإن ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أظهر دلالة على نفي قراءتها من دلالة هذا على الجهر بها؛ فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
    {يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى علي عبدي فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي - أو قال فوض إلي عبدي - فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل} وقد روى عبد الله بن زياد بن سمعان - وهو كذاب - أنه قال: في أوله فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم قال ذكرني عبدي}ولهذا اتفق أهل العلم على كذب هذه الزيادة وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر؛ لأن الشيعة ترى الجهر وهم أكذب الطوائف فوضعوا في ذلك أحاديث لبسوا بها على الناس دينهم؛ ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين وترك الجهر بالبسملة كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك؛ لأن هذا كان من شعار الرافضة. ولهذا ذهب أبو علي بن أبي هريرة أحد الأئمة من أصحاب الشافعي إلى ترك الجهر بها قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين كما ذهب من ذهب من أصحاب الشافعي إلى تسنمة القبور؛ لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع. فحديث أبي هريرة دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة ولا من القراءة المقسومة وهو على نفي القراءة مطلقا أظهر من دلالة حديث نعيم المجمر على الجهر؛ فإن في حديث نعيم المجمر أنه قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ أم القرآن وهذا دليل على أنها ليست من القرآن عندهم وحديث أبي هريرة الذي في مسلم يصدق ذلك فإنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج؛ فهي خداج فقال له رجل: يا أبا هريرة - أنا أحيانا أكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين} الحديث.
    وهذا صريح في أن أم القرآن التي يجب قراءتها في الصلاة عند أبي هريرة القراءة المقسومة التي ذكرها مع دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ وذلك ينفي وجوب قراءتها عند أبي هريرة فيكون أبو هريرة وإن كان قرأ بها؛ قرأ بها استحبابا لا وجوبا. والجهر بها مع كونها ليست من الفاتحة قول لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة؛ وغيرهم من الأئمة المشهورين؛ ولا أعلم به قائلا؛ لكن هي من الفاتحة وإيجاب قراءتها مع المخافتة بها قول طائفة من أهل الحديث؛ وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ وإذا كان أبو هريرة إنما قرأها استحبابا لا وجوبا؛ وعلى هذا القول لا تشرع المداومة على الجهر بها؛ كان جهره بها أولى أن يثبت دليلا على أنه ليعرفهم استحباب قراءتها؛ وأن قراءتها مشروعة؛ كما جهر عمر بالاستفتاح:
    وكما جهر ابن عباس بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة؛ ونحو ذلك؛ ويكون أبو هريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ في الجملة؛ وإن لم يجهر بها وحينئذ فلا يكون هذا مخالفا لحديث أنس الذي في الصحيح؛ وحديث عائشة الذي في الصحيح؛ وغير ذلك.
    هذا إن كان الحديث دالا على أنه جهر بها؛ فإن لفظه ليس صريحا بذلك من وجهين:أحدهما أنه قال قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ أم القرآن ولفظ القراءة محتمل أن يكون قرأها سرا ويكون نعيم علم ذلك بقربه منه؛ فإن قراءة السر إذا قويت يسمعها من يلي القارئ ويمكن أن أبا هريرة أخبره بقراءتها وقد أخبر أبو قتادة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب وهي قراءة سر كيف وقد بين في الحديث أنها ليست من الفاتحة فأراد بذلك وجوب قراءتها فضلا عن كون الجهر بها سنة فإن النزاع في الثاني أضعف. (الثاني أنه لم يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها قبل أم الكتاب وإنما قال في آخر الصلاة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث أنه أمن وكبر في الخفض والرفع وهذا ونحوه مما كان يتركه الأئمة فيكون أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الوجوه التي فيها ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه هم ولا يلزم إذا كان أشبههم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته مثل صلاته من كل وجه. ولعل قراءتها مع الجهر أمثل من ترك قراءتها بالكلية عند أبي هريرة؛ وكان أولئك لا يقرءونها أصلا؛ فيكون قراءتها مع الجهر أشبه عنده بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان غيره ينازع في ذلك.
    وأما حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه؛ فيعلم أولا:
    أن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به فيما دون هذا؛ فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارض فيه بتوثيق الحاكم. وقد اتفق أهل العلم في الصحيح على خلافه ومن له أدنى خبرة في الحديث وأهله لا يعارض بتوثيق الحاكم ما قد ثبت في الصحيح خلافه؛ فإن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في (باب التصحيح حتى إن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني وأمثالهما بلا نزاع فكيف بتصحيح البخاري ومسلم.
    بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر ابن خزيمة وأبي حاتم بن حبان البستي وأمثالهما بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاره خير من تصحيح الحاكم فكتابه في هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب عند من يعرف الحديث وتحسين الترمذي أحيانا يكون مثل تصحيحه أو أرجح وكثيرا ما يصحح الحاكم أحاديث يجزم بأنها موضوعة لا أصل لها فهذا هذا.
    والمعروف عن سليمان التيمي وابنه معتمر أنهما كانا يجهران بالبسملة لكن نقله عن أنس هو المنكر كيف وأصحاب أنس الثقات الأثبات يروون عنه خلاف ذلك حتى إن شعبة سأل قتادة عن هذا قال: أنت سمعت أنسا يذكر ذلك؟ قال: نعم وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (7)

    من صــ 260 الى صــ 289



    ونقل شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس في غاية الصحة وأرفع درجات الصحيح عند أهله إذ قتادة أحفظ أهل زمانه أو من أحفظهم وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم وهذا مما يرد به قول من زعم أن بعض الناس روى حديث أنس بالمعنى الذي فهمه وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله: يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها فرواه من عنده فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو أبعد الناس علما برواة الحديث وألفاظ روايتهم الصريحة التي لا تقبل التأويل وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تحتمل المجازفة أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه ويدع موجب العلم والدليل.
    ثم يقال: هب أن المعتمر أخذ صلاته عن أبيه وأبوه عن أنس وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا مجمل ومحتمل؛ إذ ليس يمكن أن يثبت كل حكم جزئي من أحكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل؛ لأنه من المعلوم أن مع طول الزمان وتعدد الإسناد لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفرقة حق الضبط؛ إلا بنقل مفصل لا مجمل وإلا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعتمر وحماد بن أبي سليمان والأعمش وغيرهم أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النخعي وذويه وإبراهيم أخذها عن علقمة والأسود ونحوها وهم أخذوها عن ابن مسعود وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الإسناد أجل رجالا من ذلك الإسناد وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وأمثالهم من فقهاء الكوفة فهل يجوز أن يجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد حتى في موارد النزاع فإن جاز هذا كان هؤلاء لا يجهرون ولا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الافتتاح ويسفرون بالفجر وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون.
    ونطير هذه احتجاج بعضهم على الجهر بأن أهل مكة من أصحاب ابن جريج كانوا يجهرون وأنهم أخذوا صلاتهم عن ابن جريج وهو أخذها عن عطاء وعطاء عن ابن الزبير وابن الزبير عن أبي بكر الصديق وأبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن الشافعي رضي الله عنه أول ما أخذ الفقه في هذه المسألة وغيرها عن أصحاب ابن جريج. كسعيد بن سالم القداح ومسلم بن خالد الزنجي لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لا يثبت بها أحكام مفصلة تنازع الناس فيها. ولئن جاز ذلك ليكونن مالك أرجح من هؤلاء فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة أجل قدرا وأعلم بالسنة وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة. وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمر بالمدينة فقالوا:
    هذا المحراب الذي كان يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم الأئمة وهلم جرا. ونقلهم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل متواتر كلهم شهدوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلاة خلفائه وكانوا أشد محافظة على السنة وأشد إنكارا على من خالفها من غيرهم فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية وبني العباس فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة في مثل هذا ولا يمكن أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السنة بل نحن نعلم ضرورة أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سنة لا تتعلق بأمر ملكهم وما يتعلق بذلك من الأهواء وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض. وهذه الحجة إذا احتج بها المحتج لم تكن دون تلك بل نحن نعلم أنها أقوى منها فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يذهب ذاهب قط إلى أن عمل غير أهل المدينة أو إجماعهم حجة وإنما تنوزع في عمل أهل المدينة وإجماعهم: هل هو حجة أم لا؟ نزاعا لا يقصر عن عمل غيرهم وإجماع غيرهم إن لم يزد عليه.
    فتبين دفع ذلك العمل عن سليمان التيمي وابن جريج وأمثالهما بعمل أهل المدينة لو لم يكن المنقول نقلا صحيحا صريحا عن أنس يخالف ذلك فكيف والأمر في رواية أنس أظهر وأشهر وأصح وأثبت من أن يعارض بهذا الحديث المجمل الذي لم يثبت وإنما صححه مثل الحاكم وأمثاله.
    ومثل هذا أيضا يظهر ضعف حديث معاوية الذي فيه أنه صلى بالصحابة بالمدينة فأنكروا عليه ترك قراءة البسملة في أول الفاتحة وأول السورة حتى عاد يعمل ذلك فإن هذا الحديث وإن كان الدارقطني قال:
    إسناده ثقات وقال الخطيب:
    هو أجود ما يعتمد عليه في هذه المسألة كما نقل ذلك عنه نصر المقدسي فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه:
    أحدها أنه يروي عن أنس أيضا الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة الذي يرد هذا.
    الثاني أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خثيم وقد ضعفه طائفة وقد اضطربوا في روايته إسنادا ومتنا: كما تقدم. وذلك يبين أنه غير محفوظ.
    الثالث أنه ليس فيه إسناد متصل السماع؛ بل فيه من الضعف والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع أو سوء الحفظ.
    الرابع أن أنسا كان مقيما بالبصرة ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسا كان معه بل الظاهر أنه لم يكن معه.
    الخامس أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت بالمدينة والراوي لها أنس وكان بالبصرة وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها. ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته وأهل المدينة لم ينقل أحد منهم ذلك؛ بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء.
    (السادس أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة لكان هذا أيضا معروفا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه ولم ينقل هذا أحد عن معاوية؛ بل الشاميون كلهم: خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها؛ بل الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك لا يقرؤها سرا ولا جهرا. فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له وإما مغير عن وجهه وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح فحصلت الآفة من انقطاع إسناده. وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة لكان شاذا؛ لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس وعن أهل المدينة وأهل الشام ومن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذا ولا معللا وهذا شاذ معلل إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته.
    والعمدة التي اعتمدها المصنفون في الجهر بها ووجوب قراءتها إنما هو كتابتها في المصحف بقلم القرآن وأن الصحابة جردوا القرآن عما ليس منه. والذين نازعوهم دفعوا هذه الحجة بلا حق كقولهم:
    القرآن لا يثبت إلا بقاطع ولو كان هذا قاطعا لكفر مخالفه.
    وقد سلك أبو بكر ابن الطيب الباقلاني وغيره هذا المسلك وادعوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعي في كونه جعل البسملة من القرآن معتمدين على هذه الحجة وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر ولا تواتر هنا فيجب القطع بنفي كونها من القرآن.
    والتحقيق: أن هذه الحجة مقابلة بمثلها فيقال لهم: بل يقطع بكونها من القرآن حيث كتبت كما قطعتم بنفي كونها ليست منه. ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله.
    فإن قال المنازع: إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت فكفروا النافي قيل لهم: وهذا يعارض حكمه إذا قطعتم بنفي كونها من القرآن فكفروا منازعكم.
    وقد اتفقت الأمة على نفي التكفير في هذا الباب مع دعوى كثير من الطائفتين القطع بمذهبه وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيا عند شخص يجب أن يكون قطعيا عند غيره وليس كل ما ادعت طائفة أنه قطعي عندها يجب أن يكون قطعيا في نفس الأمر؛ بل قد يقع الغلط في دعوى المدعي القطع في غير محل القطع كما يغلط في سمعه وفهمه ونقله وغير ذلك من أحواله كما قد يغلط الحس الظاهر في مواضع وحينئذ فيقال:
    الأقوال في كونها من القرآن ثلاثة: طرفان ووسط.
    الطرف الأول: قول من يقول إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل كما قال مالك وطائفة من الحنفية وكما قاله بعض أصحاب أحمد. مدعيا أنه مذهبه أو ناقلا لذلك رواية عنه.
    والطرف المقابل له: قول من يقول إنها من كل سورة آية أو بعض آية كما هو المشهور من مذهب الشافعي ومن وافقه وقد نقل عن الشافعي أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة وإنما يستفتح بها في السور تبركا بها وأما كونها من الفاتحة فلم يثبت عنه فيه دليل.
    والقول الوسط: أنها من القرآن حيث كتبت وأنها مع ذلك ليست من السور بل كتبت آية في أول كل سورة وكذلك تتلى آية منفردة في أول كل سورة كما تلاها النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة {إنا أعطيناك الكوثر} كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وكما في قوله: {إن سورة من القرآن هي ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة {تبارك الذي بيده الملك} رواه أهل السنن وحسنه الترمذي وهذا القول قول عبد الله بن المبارك وهو المنصوص الصريح عن أحمد بن حنبل.
    وذكر أبو بكر الرازي أن هذا مقتضى مذهب أبي حنيفة عنده وهو قول سائر من حقق القول في هذه المسألة وتوسط فيها جمع من مقتضى الأدلة وكتابتها سطرا مفصولا عن السورة ويؤيد ذلك قول ابن عباس: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم} رواه أبو داود
    وهؤلاء لهم في الفاتحة قولان هما روايتان عن أحمد.
    أحدهما أنها من الفاتحة دون غيرها تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة.
    والثاني وهو الأصح لا فرق به بين الفاتحة وغيرها في ذلك وأن قراءتها في أول الفاتحة كقراءتها في أول السور والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول لا تخالفه.
    وحينئذ الخلاف أيضا في قراءتها في الصلاة ثلاثة أقوال:
    أحدها أنها واجبة وجوب الفاتحة كمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وطائفة من أهل الحديث بناء على أنها من الفاتحة.
    والثاني قول من يقول: قراءتها مكروهة سرا وجهرا كما هو المشهور من مذهب مالك.
    والقول الثالث أن قراءتها جائزة؛ بل مستحبة وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه.
    وأكثر أهل الحديث وطائفة من هؤلاء يسوي بين قراءتها وترك قراءتها ويخير بين الأمرين معتقدين أن هذا على إحدى القراءتين وذلك على القراءة الأخرى. ثم مع قراءتها هل يسن الجهر أو لا يسن على ثلاثة أقوال:
    قيل: يسن الجهر بها كقول الشافعي ومن وافقه. قيل: لا يسن الجهر بها كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأي وفقهاء الأمصار. وقيل: يخير بينهما.
    كما يروى عن إسحاق وهو قول ابن حزم وغيره. ومع هذا فالصواب أن ما لا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة فيشرع للإمام أحيانا لمثل تعليم المأمومين ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانا ويسوغ أيضا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير عما يصلح كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم.
    وقال ابن مسعود - لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له في ذلك فقال - الخلاف شر؛ ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة وفي وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاة ائتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنة وأمثال ذلك والله أعلم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (8)

    من صــ 288 الى صــ 292


    وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
    عَنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟.

    فَأَجَابَ:
    الْحَمْدُ لِلَّهِ، اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} وَتَنَازَعُوا فِيهَا فِي أَوَائِلِ السُّورِ حَيْثُ كُتِبَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا:
    أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا كُتِبَتْ تَبَرُّكًا بِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَيُحْكَى هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا فِي مَذْهَبِهِ.
    وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ إمَّا آيَةٌ وَإِمَّا بَعْضُ آيَةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد ابْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِمَا.
    وَذَكَرَ الرَّازِي أَنَّهُ مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَهُ. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ.

    فَإِنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتُهَا مُفْرِدَةٌ مَفْصُولَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلِ حَتَّى غُفِرَ لَهُ.
    وَهِيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَهَذَا لَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْفَى إغْفَاءَة فَقَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ. وَقَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ بَلْ فِيهِ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهَذَا سُنَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْرَأُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ السُّورَةِ. وَمِثْلُهُ {حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ:
    كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ لِلْفَصْلِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثَلَاثُونَ آيَةً بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَادِّينَ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعُدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْبَسْمَلَةَ مِنْ السُّورَةِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِي الْفَاتِحَةِ: هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد:أَحَدُه مَا:
    أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَظُنُّهُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ وَهَؤُلَاءِ يُوجِبُونَ قِرَاءَتَهَا وَإِنْ لَمْ يَجْهَرُوا بِهَا.
    وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ غَيْرِهَا وَهَذَا أَظْهَرُ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَهُ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ:
    {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. يَقُولُ اللَّهُ: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلَى آخِرِهَا.
    يَقُولُ اللَّهُ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ}. فَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَذَكَرَهَا كَمَا ذَكَرَ غَيْرَهَا. وَقَدْ رُوِيَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ فَذَكَرَهُ مِثْلُ الثَّعْلَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ وَمِثْلُ مَنْ جَمَعَ أَحَادِيثَ الْجَهْرِ وَأَنَّهَا كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ مَوْضُوعَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَمَا كَانَ لِلرَّبِّ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثٌ وَنِصْفٌ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْقِسْمَةَ وَقَعَتْ عَلَى الْآيَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ: " فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي ".
    وَهَؤُلَاءِ إشَارَةٌ إلَى جَمْعٍ فَعُلِمَ أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلَى آخِرِهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَعُدُّ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْهَا وَمَنْ عَدَّهَا آيَةً مِنْهَا جَعَلَ هَذَا آيَتَيْنِ.
    وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاتِحَةَ سُورَةٌ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَالْبَسْمَلَةَ مَكْتُوبَةٌ فِي أَوَّلِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ السُّورِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ.
    وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَتُلِيَتْ فِي الصَّلَاةِ جَهْرًا كَمَا تُتْلَى سَائِرُ آيَاتِ السُّورَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى الْجَهْرَ بِهَا كَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّي نَ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ يُجْهَرُ بِهَا:
    كَسَائِرِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَ عَلَى آثَارٍ مَنْقُولَةٍ بَعْضُهَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ الصَّحَابَةِ:
    كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ صَحِيحٌ وَفِيهِ ضَعِيفٌ.
    وَأَمَّا الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ كالدارقطني وَغَيْرِهِ.
    وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهر بها حديثا واحدا؛ وإنما يروي أمثال هذه الأحاديث من لا يميز من أهل التفسير:
    كالثعلبي ونحوه وكبعض من صنف في هذا الباب من أهل الحديث كما يذكره طائفة من الفقهاء في كتب الفقه وقد حكى القول بالجهر عن أحمد وغيره بناء على إحدى الروايتين عنه من أنها من الفاتحة فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة وليس هذا مذهبه بل يخافت بها عنده. وإن قال هي من الفاتحة لكن يجهر بها عنده لمصلحة راجحة مثل أن يكون المصلون لا يقرءونها بحال فيجهر بها ليعلمهم أن قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بالفاتحة على الجنازة وكما جهر عمر بن الخطاب بالاستفتاح وكما نقل عن أبي هريرة أنه قرأ بها ثم قرأ بأم الكتاب وقال: أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي وهو أجود ما احتجوا به.
    وكذلك فسر بعض أصحاب أحمد خلافه أنه كان يجهر بها إذا كان المأمومون ينكرون على من لم يجهر بها وأمثال ذلك فإن الجهر بها والمخافتة سنة فلو جهر بها المخافت صحت صلاته بلا ريب وجمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي لا يرون الجهر؛ لكن منهم من يقرؤها سرا: كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما ومنهم من لا يقرؤها سرا ولا جهرا كمالك.
    وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيح من {أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وفي لفظ لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها} والله أعلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (9)

    من صــ 293 الى صــ 310

    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    فصل: في " الاسم والمسمى "

    هل هو هو أو غيره؟ أو لا يقال هو هو ولا يقال هو غيره؟ أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟. فإن الناس قد تنازعوا في ذلك والنزاع اشتهر في ذلك بعد الأئمة بعد أحمد وغيره والذي كان معروفا عند " أئمة السنة " أحمد وغيره: الإنكار على " الجهمية " الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة.
    فيقولون: الاسم غير المسمى وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق؛ وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه وكلام الله غير مخلوق؛ بل هو المتكلم به وهو المسمي لنفسه بما فيه من الأسماء.
    و " الجهمية " يقولون: كلامه مخلوق وأسماؤه مخلوقة؛ وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته ولا سمى نفسه باسم هو المتكلم به؛ بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمى نفسه بهذه الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره؛ لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به. فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه.
    والذين وافقوا " السلف " على أن كلامه غير مخلوق وأسماءه غير مخلوقة يقولون: الكلام والأسماء من صفات ذاته؛ لكن هل يتكلم بمشيئته وقدرته. ويسمي نفسه بمشيئته وقدرته؟ هذا فيه قولان: النفي هو قول " ابن كلاب " ومن وافقه. والإثبات قول " أئمة أهل الحديث والسنة " وكثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم كما قد بسط هذا في مواضع.
    (والمقصود هنا أن المعروف عن " أئمة السنة " إنكارهم على من قال أسماء الله مخلوقة وكان الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمى هذا مرادهم؛ فلهذا يروى عن الشافعي والأصمعي وغيرهما أنه قال:
    إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة؛ ولم يعرف أيضا عن أحد من السلف أنه قال الاسم هو المسمى؛ بل هذا قاله كثير من المنتسبين إلى السنة بعد الأئمة وأنكره أكثر أهل السنة عليهم. ثم منهم من أمسك عن القول في هذه المسألة نفيا وإثباتا؛ إذ كان كل من الإطلاقين بدعة كما ذكره الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره؛ وكما ذكره أبو جعفر الطبري في الجزء الذي سماه " صريح السنة " ذكر مذهب أهل السنة المشهور في القرآن والرؤية والإيمان والقدر والصحابة وغير ذلك. وذكر أن " مسألة اللفظ " ليس لأحد من المتقدمين فيها كلام؛ كما قال لم نجد فيها كلاما عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في كلامه الشفاء والغناء ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى " أبو عبد الله أحمد بن حنبل " فإنه كان يقول: اللفظية جهمية.
    ويقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وذكر أن القول في الاسم والمسمى من الحماقات المبتدعة التي لا يعرف فيها قول لأحد من الأئمة وأن حسب الإنسان أن ينتهي إلى قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى} وهذا هو القول بأن الاسم للمسمى. وهذا الإطلاق اختيار أكثر المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره.
    والذين قالوا الاسم هو المسمى كثير من المنتسبين إلى السنة:
    مثل أبي بكر عبد العزيز وأبي القاسم الطبري واللالكائي وأبي محمد البغوي صاحب " شرح السنة " وغيرهم؛ وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري اختاره أبو بكر بن فورك وغيره. و (القول الثاني وهو المشهور عن أبي الحسن أن الأسماء ثلاثة أقسام تارة يكون الاسم هو المسمى كاسم الموجود. و " تارة " يكون غير المسمى كاسم الخالق. و " تارة " لا يكون هو ولا غيره كاسم العليم والقدير.
    وهؤلاء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى لم يريدوا بذلك أن اللفظ المؤلف من الحروف هو نفس الشخص المسمى به؛ فإن هذا لا يقوله عاقل.
    ولهذا يقال: لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال " نار " احترق لسانه. ومن الناس من يظن أن هذا مرادهم ويشنع عليهم وهذا غلط عليهم؛ بل هؤلاء يقولون: اللفظ هو التسمية والاسم ليس هو اللفظ؛ بل هو المراد باللفظ؛ فإنك إذا قلت: يا زيد يا عمر فليس مرادك دعاء اللفظ؛ بل مرادك دعاء المسمى باللفظ وذكرت الاسم فصار المراد بالاسم هو المسمى.
    وهذا لا ريب فيه إذا أخبر عن الأشياء فذكرت أسماؤها فقيل: {محمد رسول الله} {وخاتم النبيين} {وكلم الله موسى تكليما} فليس المراد أن هذا اللفظ هو الرسول وهو الذي كلمه الله. وكذلك إذا قيل: جاء زيد وأشهد على عمرو وفلان عدل ونحو ذلك فإنما تذكر الأسماء والمراد بها المسميات وهذا هو مقصود الكلام.
    فلما كانت أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام المؤلف فإنما المقصود هو المسميات: قال هؤلاء: " الاسم هو المسمى " وجعلوا اللفظ الذي هو الاسم عند الناس هو التسمية كما قال البغوي: والاسم هو المسمى وعينه وذاته. قال الله تعالى: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} أخبر أن اسمه يحيى. ثم نادى الاسم فقال {يا يحيى} وقال: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسميات. وقال: {سبح اسم ربك الأعلى} و {تبارك اسم ربك}.
    قال: ثم يقال " للتسمية " أيضا اسم. واستعماله في التسمية أكثر من المسمى. وقال أبو بكر بن فورك: اختلف الناس في حقيقة " الاسم " ولأهل اللغة في ذلك كلام ولأهل الحقائق فيه بيان وبين المتكلمين فيه خلاف. فأما " أهل اللغة " فيقولون: الاسم حروف منظومة دالة على معنى مفرد ومنهم من يقول إنه قول يدل على مذكور يضاف إليه؛ يعني الحديث والخبر.
    قال: وأما أهل الحقائق فقد اختلفوا أيضا في معنى ذلك فمنهم من قال: اسم الشيء هو ذاته وعينه والتسمية عبارة عنه ودلالة عليه فيسمى اسما توسعا.
    وقالت الجهمية والمعتزلة. " الأسماء والصفات " هي الأقوال الدالة على المسميات وهو قريب مما قاله بعض أهل اللغة. والثالث: لا هو هو ولا هو غيره؛ كالعلم والعالم ومنهم من قال اسم الشيء هو صفته ووصفه.
    قال: والذي هو الحق عندنا قول من قال: اسم الشيء هو عينه وذاته واسم الله هو الله وتقدير قول القائل: بسم الله أفعل أي بالله أفعل وإن اسمه هو هو. قال:
    وإلى هذا القول ذهب " أبو عبيد القاسم بن سلام " واستدل بقول لبيد. إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر والمعنى ثم السلام عليكما؛ فإن اسم السلام هو السلام.
    قال: واحتج أصحابنا في ذلك بقوله تبارك وتعالى: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وهذا هو صفة للمسمى لا صفة لما هو قول وكلام وبقوله: {سبح اسم ربك} فإن المسبح هو المسمى وهو الله وبقوله سبحانه: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} ثم قال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} فنادى الاسم وهو المسمى.
    وبأن الفقهاء أجمعوا على أن الحالف باسم الله كالحالف بالله في بيان أنه تنعقد اليمين بكل واحد منهما؛ فلو كان اسم الله غير الله لكان الحالف بغير الله لا تنعقد يمينه؛ فلما انعقد ولزم بالحنث فيها كفارة دل على أن اسمه هو. ويدل عليه أن القائل إذا قال:
    ما اسم معبودكم؟ قلنا الله. فإذا قال:وما معبودكم؟ قلنا الله فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود؛ فدل على أن اسم المعبود هو المعبود لا غير. وبقوله.
    {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} وإنما عبدوا المسميات لا الأقوال التي هي أعراض لا تعبد. قال: فإن قيل: أليس يقال: الله إله واحد وله أسماء كثيرة فكيف يكون الواحد كثيرا؟ قيل إذا أطلق " أسماء " فالمراد به مسميات المسمين والشيء قد يسمى باسم دلالته كما يسمى المقدور قدرة.
    قال: فعلى هذا يكون معنى قوله: باسم الله: أي بالله والباء معناها الاستعانة وإظهار الحاجة وتقديره: بك أستعين وإليك أحتاج وقيل تقدير الكلمة: أبتدئ أو أبدأ باسمك فيما أقول وأفعل.
    قلت: لو اقتصروا على أن أسماء الشيء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات - كما ذكروه في قوله:
    {يا يحيى} ونحو ذلك - لكان ذلك معنى واضحا لا ينازعه فيه من فهمه لكن لم يقتصروا على ذلك؛ ولهذا أنكر قولهم جمهور الناس من أهل السنة وغيرهم؛ لما في قولهم من الأمور الباطلة مثل دعواهم أن لفظ اسم الذي هو " اس م " معناه ذات الشيء ونفسه وأن الأسماء - التي هي الأسماء - مثل زيد وعمرو هي التسميات؛ ليست هي أسماء المسميات وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه. فإنهم يقولون:
    إن زيدا وعمرا ونحو ذلك هي أسماء الناس والتسمية جعل الشيء اسما لغيره هي مصدر سميته تسمية إذا جعلت له اسما و " الاسم " هو القول الدال على المسمى ليس الاسم الذي هو لفظ اسم هو المسمى؛ بل قد يراد به المسمى؛ لأنه حكم عليه ودليل عليه.
    وأيضا: فهم تكلفوا هذا التكليف؛ ليقولوا إن اسم الله غير مخلوق ومرادهم أن الله غير مخلوق وهذا مما لا تنازع فيه الجهمية والمعتزلة؛ فإن أولئك ما قالوا الأسماء مخلوقة إلا لما قال هؤلاء هي التسميات فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى ووافقوا أهل السنة في اللفظ. ولكن أرادوا به ما لم يسبقهم أحد إلى القول به من أن لفظ اسم وهو " ألف سين ميم " معناه إذا أطلق هو الذات المسماة؛ بل معنى هذا اللفظ هي الأقوال التي هي أسماء الأشياء مثل زيد وعمرو وعالم وجاهل. فلفظ الاسم لا يدل على أن هذه الأسماء هي مسماه. ثم قد عرف أنه إذا أطلق الاسم في الكلام المنظوم فالمراد به المسمى؛ فلهذا يقال:
    ما اسم هذا؟ فيقال: زيد. فيجاب باللفظ ولا يقال: ما اسم هذا فيقال هو هو؛ وما ذكروه من الشواهد حجة عليهم. أما قوله: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} ثم قال:
    {يا يحيى} فالاسم الذي هو يحيى هو هذا اللفظ المؤلف من (يا وحا ويا هذا هو اسمه ليس اسمه هو ذاته؛ بل هذا مكابرة. ثم لما ناداه فقال: {يا يحيى}.
    فالمقصود المراد بنداء الاسم هو نداء المسمى؛ لم يقصد نداء اللفظ لكن المتكلم لا يمكنه نداء الشخص المنادى إلا بذكر اسمه وندائه؛ فيعرف حينئذ أن قصده نداء الشخص المسمى وهذا من فائدة اللغات وقد يدعى بالإشارة وليست الحركة هي ذاته ولكن هي دليل على ذاته.
    وأما قوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} ففيها قراءتان: الأكثرون يقرءون {ذي الجلال} فالرب المسمى: هو ذو الجلال والإكرام. وقرأ ابن عامر: {ذو الجلال والإكرام} وكذلك هي في المصحف الشامي؛ وفي مصاحف أهل الحجاز والعراق هي بالياء.
    وأما قوله {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} فهي بالواو باتفاقهم قال ابن الأنباري وغيره {تبارك} تفاعل من البركة والمعنى أن البركة تكتسب وتنال بذكر اسمه؛ فلو كان لفظ الاسم معناه المسمى لكان يكفي قوله تبارك ربك فإن نفس الاسم عندهم هو نفس الرب؛ فكان هذا تكريرا.
    وقد قال بعض الناس: إن ذكر الاسم هنا صلة والمراد تبارك ربك؛ ليس المراد الإخبار عن اسمه بأنه تبارك؛ وهذا غلط فإنه على هذا يكون قول المصلي تبارك اسمك أي تباركت أنت ونفس أسماء الرب لا بركة فيها. ومعلوم أن نفس أسمائه مباركة وبركتها من جهة دلالتها على المسمى. ولهذا فرقت الشريعة بين ما يذكر اسم الله عليه وما لا يذكر اسم الله عليه في مثل قوله: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} وقوله: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} وقوله {واذكروا اسم الله عليه} وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم " {وإن خالط كلبك كلاب أخرى فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره} ".
    وأما قوله تعالى {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم}. فليس المراد كما ذكروه: أنكم تعبدون الأوثان المسماة فإن هذا هم معترفون به.
    والرب تعالى نفى ما كانوا يعتقدونه وأثبت ضده ولكن المراد أنهم سموها آلهة واعتقدوا ثبوت الإلهية فيها؛ وليس فيها شيء من الإلهية فإذا عبدوها معتقدين إلهيتها مسمين لها آلهة لم يكونوا قد عبدوا إلا أسماء ابتدعوها هم ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن الله لم يأمر بعبادة هذه ولا جعلها آلهة كما قال:
    {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} فتكون عبادتهم لما تصوروه في أنفسهم من معنى الإلهية وعبروا عنه بألسنتهم وذلك أمر موجود في أذهانهم وألسنتهم لا حقيقة له في الخارج؛ فما عبدوا إلا هذه الأسماء التي تصوروها في أذهانهم وعبروا عن معانيها بألسنتهم؛ وهم لم يقصدوا عبادة الصنم إلا لكونه إلها عندهم وإلهيته هي في أنفسهم؛ لا في الخارج فما عبدوا في الحقيقة إلا ذلك الخيال الفاسد الذي عبر عنه.
    ولهذا قال في الآية الأخرى:
    {وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول} يقول: سموهم بالأسماء التي يستحقونها هل هي خالقة رازقة محيية مميتة أم هي مخلوقة لا تملك ضرا ولا نفعا؟؟ فإذا سموها فوصفوها بما تستحقه من الصفات تبين ضلالهم. قال تعالى: {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} وما لا يعلم أنه موجود فهو باطل لا حقيقة له ولو كان موجودا لعلمه موجودا {أم بظاهر من القول} أم بقول ظاهر باللسان لا حقيقة له في القلب؛ بل هو كذب وبهتان. وأما قولهم: إن الاسم يراد به " التسمية " وهو القول: فهذا الذي جعلوه هم تسمية هو الاسم عند الناس جميعهم والتسمية جعله اسما والإخبار بأنه اسم ونحو ذلك وقد سلموا أن لفظ الاسم أكثر ما يراد به ذلك وادعوا أن لفظ الاسم الذي هو " ألف سين ميم ":
    هو في الأصل ذات الشيء ولكن التسمية سميت اسما لدلالتها على ذات الشيء: تسمية للدال باسم المدلول ومثلوه بلفظ القدرة؛ وليس الأمر كذلك؛ بل التسمية مصدر سمى يسمي تسمية والتسمية نطق بالاسم وتكلم به ليست هي الاسم نفسه وأسماء الأشياء هي الألفاظ الدالة عليها ليست هي أعيان الأشياء.
    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (10)

    من صــ 293 الى صــ 310



    وتسمية المقدور قدرة هو من باب تسمية المفعول باسم المصدر وهذا كثير شائع في اللغة كقولهم للمخلوق خلق وقولهم درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ونظائره كثيرة.
    وابن عطية سلك مسلك هؤلاء وقال: الاسم الذي هو " ألف وسين وميم " يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى ويأتي في مواضع يراد به التسمية نحو قوله صلى الله عليه وسلم " {إن لله تسعة وتسعين اسما} " وغير ذلك ومتى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد كأنه قال في هذه الآية: سبح ربك الأعلى أي نزهه.
    قال: وإذا كان الاسم واحد الأسماء كزيد وعمرو فيجيء في الكلام على ما قلت لك. تقول: زيد قائم تريد المسمى وتقول:
    زيد ثلاثة أحرف تريد التسمية نفسها على معنى نزه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له: " إله أو رب ". قلت: هذا الذي ذكروه لا يعرف له شاهد لا من كلام فصيح ولا غير ذلك ولا يعرف أن لفظ اسم " ألف سين ميم " يراد به المسمى بل المراد به الاسم الذي يقولون هو التسمية. وأما قوله: تقول زيد قائم زيد المسمى.
    فزيد ليس هو " ألف سين ميم " بل زيد مسمى هذا اللفظ فزيد يراد به المسمى ويراد به اللفظ. وكذلك اسم " ألف سين ميم " يراد به هذا اللفظ؛ ويراد به معناه وهو لفظ زيد وعمرو وبكر؛ فتلك هي الأسماء التي تراد بلفظ اسم؛ لا يراد بلفظ اسم نفس الأشخاص؛ فهذا ما أعرف له شاهدا صحيحا فضلا عن أن يكون هو الأصل كما ادعاه هؤلاء.
    قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}. فأسماؤه الحسنى مثل: الرحمن الرحيم والغفور الرحيم فهذه الأقوال هي أسماؤه الحسنى وهي إذا ذكرت في الدعاء والخبر يراد بها المسمى. إذا قال: {وتوكل على العزيز الرحيم} فالمراد المسمى ليس المراد أنه يتوكل على الأسماء التي هي أقوال؛ كما في سائر الكلام: كلام الخالق وكلام المخلوقين.
    وما ذكروه من أن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ قلنا: الله. فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود؛ فدل على أن اسم المعبود هو المعبود: حجة باطلة وهي عليهم لا لهم. فإن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ فقلنا: الله.
    فالمراد أن اسمه هو هذا القول ليس المراد أن اسمه هو ذاته وعينه الذي خلق السموات والأرض فإنه إنما سأل عن اسمه لم يسأل عن نفسه؛ فكان الجواب بذكر اسمه.
    وإذا قال: ما معبودكم؟ فقلنا الله: فالمراد هناك المسمى؛ ليس المراد أن المعبود هو القول فلما اختلف السؤال في الموضعين اختلف المقصود بالجواب وإن كان في الموضعين قال الله لكنه في أحدهما أريد هذا القول الذي هو من الكلام وفي الآخر أريد به المسمى بهذا القول.
    كما إذا قيل: ما اسم فلان؟ فقيل: زيد أو عمر فالمراد هو القول. وإذا قال: من أميركم أو من أنكحت؟ فقيل زيد أو عمرو فالمراد به الشخص فكيف يجعل المقصود في الموضعين واحدا. ولهذا قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} كان المراد أنه نفسه له الأسماء الحسنى.
    ومنها اسمه الله. كما قال: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فالذي له الأسماء الحسنى هو المسمى بها؛ ولهذا كان في كلام الإمام أحمد أن هذا الاسم من أسمائه الحسنى؛ وتارة يقول الأسماء الحسنى له أي المسمى ليس من الأسماء؛ ولهذا في قوله {ولله الأسماء الحسنى} لم يقصد أن هذا الاسم له الأسماء الحسنى؛ بل قصد أن المسمى له الأسماء الحسنى.
    وفي حديث أنس الصحيح {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نقش خاتمه: محمد رسول الله محمد سطر ورسول سطر والله سطر} ويراد الخط المكتوب الذي كتب به ذلك؛ فالخط الذي كتب به محمد سطر والخط الذي كتب به رسول سطر والخط الذي كتب به الله سطر.
    ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم {يقول الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} " فمعلوم أن المراد تحرك شفتاه بذكر اسم الله وهو القول ليس المراد أن الشفتين تتحرك بنفسه تعالى. وأما احتجاجهم بقوله: {سبح اسم ربك الأعلى} وأن المراد سبح ربك الأعلى وكذلك قوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وما أشبه ذلك فهذا للناس فيه قولان معروفان وكلاهما حجة عليهم.
    منهم من قال: " الاسم " هنا صلة والمراد سبح ربك وتبارك ربك. وإذا قيل: هو صلة فهو زائد لا معنى له؛ فيبطل قولهم إن مدلول لفظ اسم " ألف سين ميم " هو المسمى فإنه لو كان له مدلول مراد لم يكن صلة.
    ومن قال إنه هو المسمى وأنه صلة كما قاله ابن عطية؛ فقد تناقض فإن الذي يقول هو صلة لا يجعل له معنى؛ كما يقوله من يقول ذلك في الحروف الزائدة التي تجيء للتوكيد كقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم} و {قال عما قليل ليصبحن نادمين} ونحو ذلك. ومن قال: إنه ليس بصلة بل المراد تسبيح الاسم نفسه فهذا مناقض لقولهم مناقضة ظاهرة. و " التحقيق " أنه ليس بصلة بل أمر الله بتسبيح اسمه كما أمر بذكر اسمه.
    والمقصود بتسبيحه وذكره هو تسبيح المسمى وذكره فإن المسبح والذاكر إنما يسبح اسمه ويذكر اسمه؛ فيقول: سبحان ربي الأعلى فهو نطق بلفظ ربي الأعلى والمراد هو المسمى بهذا اللفظ فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمى.
    ومن جعله تسبيحا للاسم يقول المعنى أنك لا تسم به غير الله ولا تلحد في أسمائه فهذا مما يستحقه اسم الله لكن هذا تابع للمراد بالآية ليس هو المقصود بها القصد الأول. وقد ذكر " الأقوال الثلاثة " غير واحد من المفسرين كالبغوي قال قوله: {سبح اسم ربك الأعلى} أي قل سبحان ربي الأعلى.
    وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة وذكر حديث ابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {سبح اسم ربك الأعلى}. فقال: سبحان ربي الأعلى}.
    قلت: في ذلك حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه {لما نزل {فسبح باسم ربك العظيم} قال اجعلوها في ركوعكم ولما نزل: {سبح اسم ربك الأعلى} قال: اجعلوها في سجودكم} " والمراد بذلك أن يقولوا في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى كما ثبت في الصحيح عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه {قام بالبقرة والنساء وآل عمران ثم ركع نحوا من قيامه يقول: سبحان ربي العظيم وسجد نحوا من ركوعه يقول: سبحان ربي الأعلى} ".
    وفي السنن عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " {إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك أدناه وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه} " وقد أخذ بهذا جمهور العلماء. قال البغوي: وقال قوم معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه به الملحدون. وجعلوا الاسم صلة. قال: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحدا؛ لأن أحدا لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا إنما يقولون: سبحان الله وسبحان ربنا. وكان معنى: {سبح اسم ربك} سبح ربك.
    قلت: قد تقدم الكلام على هذا والذي: يقول سبحان الله وسبحان ربنا إنما نطق بالاسم الذي هو الله والذي هو ربنا: فتسبيحه إنما وقع على الاسم لكن مراده هو المسمى فهذا يبين أنه ينطق باسم المسمى والمراد المسمى.
    وهذا لا ريب فيه لكن هذا لا يدل على أن لفظ اسم الذي هو " ألف سين ميم " المراد به المسمى.
    لكن يدل على أن " أسماء الله " مثل الله وربنا وربي الأعلى ونحو ذلك يراد بها المسمى مع أنها هي في نفسها ليست هي المسمى لكن يراد بها المسمى فأما اسم هذه الأسماء " ألف سين ميم " فلا هو المسمى الذي هو الذات ولا يراد به المسمى الذي هو الذات؛ ولكن يراد به مسماه الذي هو الأسماء كأسماء الله الحسنى في قوله: {ولله الأسماء الحسنى} فلها هذه الأسماء الحسنى التي جعلها هؤلاء هي التسميات وجعلوا التعبير عنها بالأسماء توسعا؛ فخالفوا إجماع الأمم كلهم من العرب وغيرهم وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. والذين شاركوهم في هذا الأصل وقالوا:
    الأسماء ثلاثة " قد تكون هي المسمى وقد تكون غيره وقد تكون لا هي هو ولا غيره وجعلوا الخالق والرازق ونحوهما غير المسمى وجعلوا العليم والحكيم ونحوهما للمسمى: غلطوا من وجه آخر فإنه إذا سلم لهم أن المراد بالاسم الذي هو " ألف سين ميم " هو مسمى الأسماء؛ فاسمه الخالق هو الرب الخالق نفسه ليس هو المخلوقات المنفصلة عنه واسمه العليم هو الرب العليم الذي العلم صفة له فليس العلم هو المسمى؛ بل المسمى هو العليم؛ فكان الواجب أن يقال على أصلهم:
    الاسم هنا هو المسمى وصفته.
    وفي الخالق الاسم هو المسمى وفعله؛ ثم قولهم إن الخلق هو المخلوق وليس الخلق فعلا قائما بذاته قول ضعيف مخالف لقول جمهور المسلمين. كما قد بسط في موضعه. فتبين أن هؤلاء الذين قالوا:
    " الاسم هو المسمى " إنما يسلم لهم أن أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام أريد به المسمى وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء؛ لا أن لفظ اسم.
    ألف سين ميم يراد به الشخص. وما ذكروه من قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فمراده ثم النطق بهذا الاسم وذكره وهو التسليم المقصود؛ كأنه قال ثم سلام عليكم ليس مراده أن السلام يحصل عليهما بدون أن ينطق به ويذكر اسمه. فإن نفس السلام قول فإن لم ينطق به ناطق ويذكره لم يحصل. وقد احتج بعضهم بقول سيبويه إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبني لما مضى ولما لم يكن بعد وهذا لا حجة فيه؛ لأن سيبويه مقصوده بذكر الاسم والفعل ونحو ذلك الألفاظ. وهذا اصطلاح النحويين سموا الألفاظ بأسماء معانيها؛ فسموا قام ويقوم وقم فعلا؛ والفعل هو نفس الحركة؛ فسموا اللفظ الدال عليها باسمها. وكذلك إذا قالوا: اسم معرب ومبني فمقصودهم اللفظ ليس مقصودهم المسمى وإذا قالوا هذا الاسم فاعل فمرادهم أنه فاعل في اللفظ؛ أي أسند إليه الفعل ولم يرد سيبويه بلفظ الأسماء المسميات كما زعموا؛ ولو أراد ذلك فسدت صناعته.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (11)

    من صــ 310 الى صــ 317


    فَصْلٌ:
    وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَهُمْ إذَا أَرَادُوا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ لَيْسَتْ نَفْسُهَا هِيَ الْمُسَمَّيَاتُ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ. وَأَرْبَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا؛ بَلْ عَبَّرُوا عَنْ الْأَسْمَاءِ هُنَا بِالتَّسْمِيَات ِ وَهُمْ أَيْضًا لَا يُمْكِنُهُمْ النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِهِ يَا آدَمُ يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا نِدَاءُ الْمُسَمِّينَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ.

    وَإِذَا قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَالْمُرَادُ خَلَقَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ خَلَقَ لَفْظَ السَّمَاءِ وَلَفْظَ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِ أَحَدٍ إرَادَةُ الْأَلْفَاظِ؛ لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَالْأَسْمَاءَ يُرَادُ بِهَا الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَا تُ؛ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ؛ لَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْمُرَادُ إنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَقَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ولكن هؤلاء الذين أطلقوا من الجهمية والمعتزلة أن الاسم غير المسمى مقصودهم أن أسماء الله غيره؛ وما كان غيره فهو مخلوق. ولهذا قالت الطائفة الثالثة: لا نقول هي المسمى ولا غير المسمى. فيقال لهم:
    قولكم إن أسماءه غيره مثل قولكم إن كلامه غيره وإن إرادته غيره ونحو ذلك وهذا قول الجهمية نفاة الصفات وقد عرفت شبههم وفسادها في غير هذا الموضع؛ وهم متناقضون من وجوه كما قد بسط في مواضع. فإنهم يقولون:
    لا نثبت قديما غير الله؛ أو قديما ليس هو الله حتى كفروا أهل الإثبات وإن كانوا متأولين كما قال أبو الهذيل: إن كل متأول كان تأويله تشبيها له بخلقه وتجويزا له في فعله وتكذيبا لخبره فهو كافر؛ وكل من أثبت شيئا قديما لا يقال له الله فهو كافر ومقصوده تكفير مثبتة الصفات والقدر ومن يقول إن أهل القبلة يخرجون من النار ولا يخلدون فيها. فمما يقال لهؤلاء:
    إن هذا القول ينعكس عليكم فأنتم أولى بالتشبيه والتجويز والتكذيب؛ وإثبات قديم لا يقال له الله فإنكم تشبهونه بالجمادات بل بالمعدومات بل بالممتنعات وتقولون إنه يحبط الحسنات العظيمة بالذنب الواحد؛ ويخلد عليه في النار وتكذبون بما أخبر به من مغفرته ورحمته وإخراجه أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها وإنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وأنتم تثبتون قديما لا يقال له الله فإنكم تثبتون ذاتا مجردة عن الصفات ومعلوم أنه ما ليس بحي ولا عليم ولا قدير؛ فليس هو الله فمن أثبت ذاتا مجردة فقد أثبت قديما ليس هو الله وإن قال أنا أقول إنه لم يزل حيا عليما قديرا فهو قول مثبتة الصفات؛ فنفس كونه حيا ليس هو كونه عالما ونفس كونه عالما ليس هو كونه قادرا ونفس ذلك ليس هو كونه ذاتا متصفة بهذه الصفات فهذه معان متميزة في العقل ليس هذا هو هذا.
    فإن قلتم هي قديمة فقد أثبتم معاني قديمة؛ وإن قلتم هي شيء واحد جعلتم كل صفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف فجعلتم كونه حيا هو كونه عالما وجعلتم ذلك هو نفس الذات ومعلوم أن هذا مكابرة وهذه المعاني هي معاني أسمائه الحسنى وهو سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء.
    فهو المسمي نفسه بأسمائه الحسنى كما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه لما سئل عن قوله:
    {وكان الله عزيزا حكيما} {غفورا رحيما} فقال هو سمى نفسه بذلك وهو لم يزل كذلك؛ فأثبت قدم معاني أسمائه الحسنى وأنه هو الذي سمى نفسه بها.
    فإذا قلتم إن أسماءه أو كلامه غيره فلفظ " الغير " مجمل؛ إن أردتم أن ذلك شيء بائن عنه فهذا باطل؛ وإن أردتم أنه يمكن الشعور بأحدهما دون الآخر فقد يذكر الإنسان الله ويخطر بقلبه ولا يشعر حينئذ بكل معاني أسمائه؛ بل ولا يخطر له حينئذ أنه عزيز وأنه حكيم فقد أمكن العلم بهذا دون هذا؛ وإذا أريد بالغير هذا فإنما يفيد المباينة في ذهن الإنسان؛ لكونه قد يعلم هذا دون هذا وذلك لا ينفي التلازم في نفس الأمر فهي معان متلازمة لا يمكن وجود الذات دون هذه المعاني ولا وجود هذه المعاني دون وجود الذات.

    واسم " الله " إذا قيل الحمد لله أو قيل بسم الله يتناول ذاته وصفاته لا يتناول ذاتا مجردة عن الصفات ولا صفات مجردة عن الذات وقد نص أئمة السنة - كأحمد وغيره - على أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه فلا يقال: إن علم الله وقدرته زائدة عليه؛ لكن من أهل الإثبات من قال: إنها زائدة على الذات.

    وهذا إذا أريد به أنها زائدة على ما أثبته أهل النفي من الذات المجردة فهو صحيح؛ فإن أولئك قصروا في الإثبات فزاد هذا عليهم وقال الرب له صفات زائدة على ما علمتموه.
    وإن أراد أنها زائدة على الذات الموجودة في نفس الأمر فهو كلام متناقض؛ لأنه ليس في نفس الأمر ذات مجردة حتى يقال إن الصفات زائدة عليها؛ بل لا يمكن وجود الذات إلا بما به تصير ذاتا من الصفات ولا يمكن وجود الصفات إلا بما به تصير صفات من الذات فتخيل وجود أحدهما دون الآخر ثم زيادة الآخر عليه تخيل باطل.
    وأما الذين يقولون: إن " الاسم للمسمى " كما يقوله أكثر أهل السنة فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول قال الله تعالى:
    {ولله الأسماء الحسنى} وقال: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " {إن لله تسعة وتسعين اسما} " {وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لي خمسة أسماء:
    أنا محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب} " وكلاهما في الصحيحين.
    وإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ فصلوا؛ فقالوا: ليس هو نفس المسمى ولكن يراد به المسمى؛ وإذا قيل إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينا له فهذا باطل؛ فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة عنه فكيف بالخالق وأسماؤه من كلامه؛ وليس كلامه بائنا عنه ولكن قد يكون الاسم نفسه بائنا مثل أن يسمي الرجل غيره باسم أو يتكلم باسمه. فهذا الاسم نفسه ليس قائما بالمسمى؛ لكن المقصود به المسمى فإن الاسم مقصوده إظهار " المسمى " وبيانه. وهو مشتق من " السمو " وهو العلو كما قال النحاة البصريون وقال النحاة الكوفيون هو مشتق من " السمة " وهي العلامة وهذا صحيح في " الاشتقاق الأوسط " وهو ما يتفق فيه حروف اللفظين دون ترتيبهما فإنه في كليهما (السين والميم والواو والمعنى صحيح فإن السمة والسيما العلامة. ومنه يقال: وسمته أسمه كقوله: {سنسمه على الخرطوم} ومنه التوسم كقوله: {لآيات للمتوسمين} لكن اشتقاقه من " السمو " هو الاشتقاق الخاص الذي يتفق فيه اللفظان في الحروف وترتيبها ومعناه أخص وأتم فإنهم يقولون في تصريفه سميت ولا يقولون وسمت وفي جمعه أسماء لا أوسام وفي تصغيره سمي لا وسيم. ويقال لصاحبه مسمى لا يقال موسوم وهذا المعنى أخص.
    " فإن العلو مقارن للظهور " كلما كان الشيء أعلى كان أظهر وكل واحد من العلو والظهور يتضمن المعنى الآخر ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " {وأنت الظاهر فليس فوقك شيء} " ولم يقل فليس أظهر منك شيء؛ لأن الظهور يتضمن العلو والفوقية؛ فقال: " فليس فوقك شيء ".
    ومنه قوله: {فما اسطاعوا أن يظهروه} أي يعلوا عليه. ويقال ظهر الخطيب على المنبر إذا علا عليه. ويقال للجبل العظيم علم؛ لأنه لعلوه وظهوره يعلم ويعلم به غيره. قال تعالى: {ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام}. وكذلك " الراية العالية " التي يعلم بها مكان الأمير والجيوش يقال لها علم وكذلك العلم في الثوب لظهوره كما يقال لعرف الديك وللجبال العالية أعراف لأنها لعلوها تعرف فالاسم يظهر به المسمى ويعلو؛ فيقال للمسمى:
    سمه: أي أظهره وأعله أي أعل ذكره بالاسم الذي يذكر به؛ لكن يذكر تارة بما يحمد به ويذكر تارة بما يذم به كما قال تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} وقال: {ورفعنا لك ذكرك} وقال: {وتركنا عليه في الآخرين} {سلام على نوح في العالمين}.
    وقال في النوع المذموم: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} وقال تعالى: {نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون}. فكلاهما ظهر ذكره؛ لكن هذا إمام في الخير وهذا إمام في الشر.
    وبعض النحاة يقول: سمي اسما لأنه علا على المسمى؛ أو لأنه علا على قسيميه الفعل والحرف؛ وليس المراد بالاسم هذا بل لأنه يعلى المسمى فيظهر؛ ولهذا يقال سميته أي أعليته وأظهرته فتجعل المعلى المظهر هو المسمى وهذا إنما يحصل بالاسم.
    ووزنه فعل وفعل وجمعه أسماء كقنو وأقناء وعضو وأعضاء. وقد يقال فيه سم وسم بحذف اللام. ويقال:
    سمى كما قال: والله أسماك سما مباركا. وما ليس له اسم فإنه لا يذكر ولا يظهر ولا يعلو ذكره؛ بل هو كالشيء الخفي الذي لا يعرف؛ ولهذا يقال: الاسم دليل على المسمى وعلم على المسمى ونحو ذلك.
    ولهذا كان " أهل الإسلام والسنة " الذين يذكرون أسماء الله يعرفونه ويعبدونه ويحبونه ويذكرونه ويظهرون ذكره. " والملاحدة ": الذين ينكرون أسماءه وتعرض قلوبهم عن معرفته وعبادته ومحبته وذكره؛ حتى ينسوا ذكره {نسوا الله فنسيهم} {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}. والاسم يتناول اللفظ والمعنى المتصور في القلب وقد يراد به مجرد اللفظ وقد يراد به مجرد المعنى فإنه من الكلام؛ " والكلام " اسم للفظ والمعنى، وقد يراد به أحدهما؛ ولهذا كان من ذكر الله بقلبه أو لسانه فقد ذكره لكن ذكره بهما أتم.
    والله تعالى قد أمر بتسبيح اسمه وأمر بالتسبيح باسمه كما أمر بدعائه بأسمائه الحسنى؛ فيدعى بأسمائه الحسنى ويسبح اسمه وتسبيح اسمه هو تسبيح له؛ إذ المقصود بالاسم المسمى؛ كما أن دعاء الاسم هو دعاء المسمى. قال تعالى:
    {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. والله تعالى يأمر بذكره تارة وبذكر اسمه تارة؛ كما يأمر بتسبيحه تارة وتسبيح اسمه تارة؛ فقال: {اذكروا الله ذكرا كثيرا} {واذكر ربك في نفسك} وهذا كثير.
    وقال: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} كما قال:
    {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه}. لكن هنا يقال: بسم الله؛ فيذكر نفس الاسم الذي هو " ألف سين ميم " وأما في قوله: {واذكر اسم ربك} فيقال:
    سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله. وهذا أيضا مما يبين فساد قول من جعل الاسم هو المسمى. وقوله في الذبيحة {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} كقوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وقوله: {بسم الله مجراها ومرساها} فقوله: {اقرأ باسم ربك} هو قراءة بسم الله في أول السور.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (12)

    من صــ 318 الى صــ 324


    وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن هذه الآية تدل على أن القارئ مأمور أن يقرأ بسم الله وأنها ليست كسائر القرآن؛ بل هي تابعة لغيرها وهنا يقول: بسم الله الرحمن الرحيم كما كتب سليمان وكما جاءت به السنة المتواترة وأجمع المسلمون عليه؛ فينطق بنفس الاسم الذي هو اسم مسمى لا يقول بالله الرحمن الرحيم؛ كما في قوله:
    {واذكر اسم ربك} فإنه يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ونحو ذلك وهنا قال: {اقرأ باسم ربك} لم يقل: اقرأ اسم ربك وقوله:
    {واذكر اسم ربك} يقتضي أن يذكره بلسانه. وأما قوله: {واذكر ربك} فقد يتناول ذكر القلب. وقوله: {اقرأ باسم ربك} هو كقول الآكل باسم الله. والذابح باسم الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " {ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم الله} ". وأما التسبيح فقد قال: {وسبحوه بكرة وأصيلا} وقال: {سبح اسم ربك الأعلى} وقال: {فسبح باسم ربك العظيم}.
    وفي الدعاء: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فقوله:
    {أيا ما تدعوا} يقتضي تعدد المدعو لقوله {أيا ما} وقوله {فله الأسماء الحسنى} يقتضي أن المدعو واحد له الأسماء الحسنى وقوله {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} - ولم يقل ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن - يتضمن أن المدعو هو الرب الواحد بذلك الاسم.
    فقد جعل الاسم تارة مدعوا وتارة مدعوا به في قوله: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} فهو مدعو به باعتبار أن المدعو هو المسمى وإنما يدعى باسمه. وجعل الاسم مدعوا باعتبار أن المقصود به هو المسمى وإن كان في اللفظ هو المدعو المنادى كما قال {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} أي ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم والمراد إذا دعوته هو المسمى؛ أي الاسمين دعوت ومرادك هو المسمى:
    {فله الأسماء الحسنى}.
    فمن تدبر هذه المعاني اللطيفة تبين له بعض حكم القرآن وأسراره فتبارك الذي نزل الفرقان على عبده فإنه كتاب مبارك تنزيل من حكيم حميد لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء من ابتغى الهدى في غيره أضله الله ومن تركه من جبار قصمه الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو قرآن عجب يهدي إلى الرشد أنزله الله هدى ورحمة وشفاء وبيانا وبصائر وتذكرة.
    فالحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. آخره ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
    (فصل)
    وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله -:
    عما يشتبه على الطالب للعبادة من جهة الأفضلية مما اختلف فيه الأئمة من المسائل التي أذكرها:

    وهي أيما أفضل في صلاة الجهر ترك الجهر بالبسملة أو الجهر بها؟ وأيما أفضل المداومة على القنوت في صلاة الفجر أم تركه أم فعله أحيانا بحسب المصلحة؟ وكذلك في الوتر وأيما أفضل طول الصلاة ومناسبة أبعاضها في الكمية والكيفية أو تخفيفها بحسب ما اعتادوه في هذه الأزمنة؟ وأيما أفضل مع قصر الصلاة في السفر مداومة الجمع أم فعله أحيانا بحسب الحاجة؟ وهل قيام الليل كله بدعة أم سنة أم قيام بعضه أفضل من قيامه كله؟ وكذلك سرد الصوم أفضل أم صوم بعض الأيام وإفطار بعضها؟ وفي المواصلة أيضا؟ وهل لبس الخشن وأكله دائما أفضل أم لا؟ وأيما أفضل فعل السنن الرواتب في السفر أم تركها؟ أم فعل البعض دون البعض.
    وكذلك التطوع بالنوافل في السفر وأيما أفضل الصوم في السفر أم الفطر؟ وإذا لم يجد ماء أو تعذر عليه استعماله لمرض أو يخاف منه الضرر من شدة البرد وأمثال ذلك فهل يتيمم أم لا؟ وهل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر أم لا؟ وأيما أفضل في إغماء هلال رمضان الصوم أم الفطر؟ أم يخير بينهما؟ أم يستحب فعل أحدهما؟ وهل ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وأحواله وأقواله وحركاته وسكناته وفي شأنه كله من العبادات والعادات هل المواظبة على ذلك كله سنة في حق كل واحد من الأمة؟ أم يختلف بحسب اختلاف المراتب والراتبين؟ أفتونا مأجورين.
    فأجاب:

    الحمد لله هذه المسائل التي يقع فيها النزاع مما يتعلق بصفات العبادات أربعة أقسام:
    منها: ما ثبت من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن كل واحد من الأمرين واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك لكن قد يتنازعون في الأفضل وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي اتفق الناس على جواز القراءة بأي قراءة شاء منها كالقراءة المشهورة بين المسلمين فهذه يقرأ المسلم بما شاء منها وإن اختار بعضها لسبب من الأسباب.
    ومن هذا الباب الاستفتاحات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقولها في قيام الليل وأنواع الأدعية التي كان يدعو بها في صلاته في آخر التشهد فهذه الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها سائغة باتفاق المسلمين لكن ما أمر به من ذلك أفضل لنا مما فعله ولم يأمر به.
    وقد ثبت في الصحيح أنه قال: {إذا قعد أحدكم في التشهد فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات. ومن فتنة المسيح الدجال} فالدعاء بهذا أفضل من الدعاء بقوله:
    {اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت} وهذا أيضا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله في آخر صلاته لكن الأول أمر به. وما تنازع العلماء في وجوبه فهو أوكد مما لم يأمر به ولم يتنازع العلماء في وجوبه. وكذلك الدعاء الذي كان يكرره كثيرا كقوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} أوكد مما ليس كذلك.
    القسم الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلا من الأمرين كانت عبادته صحيحة ولا إثم عليه؛ لكن يتنازعون في الأفضل وفيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ومسألة القنوت في الفجر والوتر والجهر بالبسملة وصفة الاستعاذة ونحوها من هذا الباب.
    فإنهم متفقون على أن من جهر بالبسملة صحت صلاته ومن خافت صحت صلاته وعلى أن من قنت في الفجر صحت صلاته ومن لم يقنت فيها صحت صلاته وكذلك القنوت في الوتر.
    وإنما تنازعوا في وجوب قراءة البسملة وجمهورهم على أن قراءتها لا تجب وتنازعوا أيضا في استحباب قراءتها وجمهورهم على أن قراءتها مستحبة. وتنازعوا فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه مثل أن يترك قراءة البسملة والمأموم يعتقد وجوبها أو يمس ذكره ولا يتوضأ والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك أو يصلي في جلود الميتة المدبوغة والمأموم يرى أن الدباغ لا يطهر أو يحتجم ولا يتوضأ والمأموم يرى الوضوء من الحجامة. والصحيح المقطوع به أن صلاة المأموم صحيحة خلف إمامه وإن كان إمامه مخطئا في نفس الأمر:
    لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم}. وكذلك إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر قنت معه سواء قنت قبل الركوع أو بعده. وإن كان لا يقنت لم يقنت معه. ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف: كان قد أحسن. مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
    أحدها أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة. كالمغرب:
    كقول من قاله من أهل العراق. والثاني: أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها كقول من قال ذلك من أهل الحجاز.
    والثالث: أن الأمرين جائزان كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وهو الصحيح. وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله فلو كان الإمام يرى الفصل فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب فوافقهم على ذلك تأليفا لقلوبهم كان قد أحسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: {لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه} فترك الأفضل عنده: لئلا ينفر الناس.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (13)

    من صــ 325 الى صــ 331


    وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم كان قد أحسن وإنما تنازعوا في الأفضل فهو بحسب ما اعتقدوه من السنة. وطائفة من أهل العراق اعتقدت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت إلا شهرا ثم على وجه النسخ له فاعتقدوا أن القنوت في المكتوبات منسوخ وطائفة من أهل الحجاز اعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت حتى فارق الدنيا ثم منهم من اعتقد أنه كان يقنت قبل الركوع ومنهم من كان يعتقد أنه كان يقنت بعد الركوع.
    والصواب هو " القول الثالث " الذي عليه جمهور أهل الحديث. وكثير من أئمة أهل الحجاز وهو الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما. أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هذا القنوت ثم إنه بعد ذلك بمدة بعد خيبر وبعد إسلام أبي هريرة قنت وكان يقول في قنوته: {اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف}.
    فلو كان قد نسخ القنوت لم يقنت هذه المرة الثانية وقد ثبت عنه في الصحيح أنه {قنت في المغرب وفي العشاء الآخرة}.
    وفي السنن أنه كان يقنت في الصلوات الخمس وأكثر قنوته كان في الفجر ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر ولا غيرها؛ بل قد ثبت في الصحيحين عن أنس أنه قال: {لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا}.
    فالحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: {ما زال يقنت حتى فارق الدنيا} إنما قاله في سياقه القنوت قبل الركوع وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت إليه فإن الربيع بن أنس ليس من رجال الصحيح فكيف وهو لم يعارضه. وإنما معناه أنه كان يطيل القيام في الفجر دائما قبل الركوع.
    وأما أنه كان يدعو في الفجر دائما في الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه أو لا يسمع فهذا باطل قطعا وكل من تأمل الأحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة وعلم أن هذا لو كان واقعا لنقله الصحابة والتابعون ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا مع أنهم نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه وإنما يشرع نظيره؛ فإن دعاءه لأولئك المعينين وعلى أولئك المعينين ليس بمشروع باتفاق المسلمين؛ بل إنما يشرع نظيره.
    فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين ويدعو على الكفار في الفجر وفي غيرها من الصلوات وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى بدعائه الذي فيه: " اللهم العن كفرة أهل الكتاب " إلى آخره.
    وكذلك علي - رضي الله عنه - لما حارب قوما قنت يدعو عليهم وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنا. وأما قنوت الوتر فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يستحب بحال لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر.
    وقيل: بل يستحب في جميع السنة كما ينقل عن ابن مسعود وغيره؛ ولأن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي - رضي الله عنهما - دعاء يدعو به في قنوت الوتر وقيل: بل يقنت في النصف الأخير من رمضان.
    كما كان أبي بن كعب يفعل. وحقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة من شاء فعله ومن شاء تركه. كما يخير الرجل أن يوتر بثلاث أو خمس أو سبع وكما يخير إذا أوتر بثلاث إن شاء فصل وإن شاء وصل.
    وكذلك يخير في دعاء القنوت إن شاء فعله وإن شاء تركه وإذا صلى بهم قيام رمضان فإن قنت في جميع الشهر فقد أحسن وإن قنت في النصف الأخير فقد أحسن وإن لم يقنت بحال فقد أحسن.
    كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عددا معينا؛ بل كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
    والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها.
    كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره.
    ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ فإذا كانت هذه السعة في نفس عدد القيام فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه كل ذلك سائغ حسن.
    وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها. وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة. إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود هكذا كان يفعل في المكتوبات وقيام الليل وصلاة الكسوف وغير ذلك.
    وقد تنازع الناس هل الأفضل طول القيام؟ أم كثرة الركوع والسجود؟ أو كلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال: أصحها أن كليهما سواء فإن القيام اختص بالقراءة وهي أفضل من الذكر والدعاء والسجود نفسه أفضل من القيام فينبغي أنه إذا طول القيام أن يطيل الركوع والسجود وهذا هو طول القنوت الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم لما
    {قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت} فإن القنوت هو إدامة العبادة سواء كان في حال القيام أو الركوع أو السجود كما قال تعالى:
    {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} فسماه قانتا في حال سجوده كما سماه قانتا في حال قيامه.
    وأما البسملة: فلا ريب أنه كان في الصحابة من يجهر بها وفيهم من كان لا يجهر بها بل يقرؤها سرا أو لا يقرؤها والذين كانوا يجهرون بها أكثرهم كان يجهر بها تارة ويخافت بها أخرى وهذا لأن الذكر قد يكون السنة المخافتة به ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المأمومين فإنه قد ثبت في الصحيح أن ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة ليعلمهم أنها سنة. وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاثة أقوال: قيل: لا تستحب بحال كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك.
    وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة. كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد. وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة جاز وهذا هو الصواب. وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقول:
    " الله أكبر سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " يجهر بذلك مرات كثيرة. واتفق العلماء على أن الجهر بذلك ليس بسنة راتبة؛ لكن جهر به للتعليم ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنه كان يجهر أحيانا بالتعوذ فإذا كان من الصحابة من جهر بالاستفتاح والاستعاذة مع إقرار الصحابة له على ذلك فالجهر بالبسملة أولى أن يكون كذلك.
    وأن يشرع الجهر بها أحيانا لمصلحة راجحة. لكن لا نزاع بين أهل العلم بالحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر بالاستفتاح. ولا بالاستعاذة؛ بل قد ثبت في الصحيح {أن أبا هريرة قال له: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم بعد بيني وبين خطاياي كما بعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد}.
    وفي السنن عنه أنه كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة والجهر بالبسملة أقوى من الجهر بالاستعاذة؛ لأنها آية من كتاب الله تعالى وقد تنازع العلماء في وجوبها وإن كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح والاستعاذة.
    وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره؛ لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة. والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر لكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر والأحاديث الصريحة بالجهر كلها


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (14)

    من صــ 332 الى صــ 338


    وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره؛ لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة. والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر لكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر والأحاديث الصريحة بالجهر كلها ضعيفة؛ بل موضوعة؛ وهذا لما صنف الدارقطني مصنفا في ذلك قيل له:
    هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها دائما لكان الصحابة ينقلون ذلك ولكان الخلفاء يعلمون ذلك ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء ولما كان الخلفاء الراشدون ثم خلفاء بني أمية وبني العباس كلهم متفقين على ترك الجهر ولما كان أهل المدينة - وهم أعلم أهل المدائن بسنته - ينكرون قراءتها بالكلية سرا وجهرا والأحاديث الصحيحة تدل على أنها آية من كتاب الله وليست من الفاتحة ولا غيرها. وقد تنازع العلماء: هل هي آية أو بعض آية من كل سورة؟ أو ليست من القرآن إلا في سورة النمل؟ أو هي آية من كتاب الله حيث كتبت في المصاحف وليست من السور؟ على ثلاثة أقوال.

    والقول الثالث: هو أوسط الأقوال وبه تجتمع الأدلة فإن كتابة الصحابة لها في المصاحف دليل على أنها من كتاب الله. وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على أنها ليست منها. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها}.

    وثبت في الصحيح {أنه أول ما جاء الملك بالوحي قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} {خلق الإنسان من علق} {اقرأ وربك الأكرم} {الذي علم بالقلم} {علم الإنسان ما لم يعلم} فهذا أول ما نزل ولم ينزل قبل ذلك بسم الله الرحمن الرحيم.
    وثبت عنه في السنن أنه قال: {سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي {تبارك الذي بيده الملك} وهي ثلاثون آية بدون البسملة}. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: {يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله: مجدني عبدي.
    فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل}.
    فهذا الحديث صحيح صريح في أنها ليست من الفاتحة ولم يعارضه حديث صحيح صريح. وأجود ما يرى في هذا الباب من الحديث إنما يدل على أنه يقرأ بها في أول الفاتحة لا يدل على أنها منها؛ ولهذا كان القراء منهم من يقرأ بها في أول السورة ومنهم من لا يقرأ بها.
    فدل على أن كلا الأمرين سائغ لكن من قرأ بها كان قد أتى بالأفضل وكذلك من كرر قراءتها في أول كل سورة كان أحسن ممن ترك قراءتها؛ لأنه قرأ ما كتبته الصحابة في المصاحف فلو قدر أنهم كتبوها على وجه التبرك لكان ينبغي أن تقرأ على وجه التبرك وإلا فكيف يكتبون في المصحف ما لا يشرع قراءته وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القرآن حتى أنهم لم يكتبوا التأمين ولا أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا غير ذلك.
    مع أن السنة للمصلي أن يقول عقب الفاتحة: آمين فكيف يكتبون ما لا يشرع أن يقوله وهم لم يكتبوا ما يشرع أن يقوله المصلي من غير القرآن فإذا جمع بين الأدلة الشرعية دلت على أنها من كتاب الله وليست من السورة.
    والحديث الصحيح عن {أنس ليس فيه نفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} أو فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم} ورواية من روى " فلم يكونوا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول قراءة ولا آخرها " إنما تدل على نفي الجهر لأن أنسا لم ينف إلا ما علم وهو لا يعلم ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم سرا.
    ولا يمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت؛ بل يصل.
    التكبير بالقراءة فإنه قد ثبت في الصحيحين {أن أبا هريرة قال له: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول}. ومن تأول حديث أنس على نفي قراءتها سرا فهو مقابل لقول من قال مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور وهذا أيضا ضعيف فإن هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرءون الفاتحة قبل السورة ولم ينازع في ذلك أحد ولا سئل عن ذلك أحد لا أنس ولا غيره ولا يحتاج أن يروي أنس هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ومن روى عن أنس أنه شك هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ البسملة أو لا يقرؤها فروايته توافق الروايات الصحيحة لأن أنسا لم يكن يعلم هل قرأها سرا أم لا وإنما نفى الجهر.
    (الحمد لله رب العالمين (2)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    والحمد ضد الذم. والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته، والذم خبر بمساوئ المذموم مقرون ببغضه ; فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته، ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة.

    وأول ما نطق به آدم: [الحمد لله رب العالمين]، وأول ما سمع من ربه: يرحمك ربك، وآخر دعوى أهل الجنة: أن الحمد لله رب العالمين، وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب لواء الحمد، آدم فمن دونه تحت لوائه، وهو صاحب المقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
    فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود، ولا يكون حمد إلا بحب المحمود، وهو سبحانه المعبود المحمود.
    وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده، وآخره عبادته، أوله: {الحمد لله رب العالمين}، وآخره: {إياك نعبد}. كما ثبت في حديث القسمة: " يقول الله - تبارك وتعالى -: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل.
    يقول العبد: {الحمد لله رب العالمين} ; فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: {الرحمن الرحيم}، فيقول الله تعالى: أثنى علي عبدي، يقول العبد: {مالك يوم الدين} فيقول الله - تبارك وتعالى -: مجدني عبدي، يقول العبد: {إياك نعبد وإياك نستعين}، فيقول الله تعالى: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل.
    يقول العبد: {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة. يقول الله تعالى: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل» رواه مسلم [في صحيحه]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أفضل ما قلت: أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» " فجمع بين التوحيد والتحميد. كما قال تعالى: {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين} [سورة غافر 65].
    وكان ابن عباس يقول: إذا قلت: لا إله إلا الله، فقل: الحمد لله رب العالمين، يتأول هذه الآية.

    وفي سنن ابن ماجه وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله» ".
    وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» ".
    وقال أيضا: " «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» ".
    فلا بد في الخطب من الحمد لله ومن توحيده ; ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين، وكذلك التشهد في آخر الصلاة أوله ثناء على الله، وآخره الشهادتان، ولا يكون الثناء إلا على محبوب، ولا التأله إلا لمحبوب، وقد بسطنا الكلام في حقائق هذه الكلمات في مواضع متعددة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (15)

    من صــ 339 الى صــ 345



    وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه، فهو سبحانه أحق بحمد نفسه والثناء على نفسه والمحبة لنفسه، كما قال أفضل الخلق:
    " «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» "فلا ثناء من مثن أعظم من ثناء الرب على نفسه، ولا ثناء إلا بحب، ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه، وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه، فهو يحب المقسطين والمحسنين، والصابرين والمؤمنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويفرح بتوبة التائبين، كل ذلك تبعا لمحبته لنفسه ; فإن المؤمن إذا كان يحب ما يحبه من المخلوقات لله ; فيكون حبه للرسول والصالحين تبعا لحبه لله، فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته؟!.
    إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه، وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبها.
    فما خلق شيئا إلا لحكمة، وهو سبحانه قد قال: {أحسن كل شيء خلقه} [سورة السجدة: 7]، وقال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [سورة النمل: 88].
    وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به ; ولهذا كانت كلها حسنى، والحسنى بخلاف السوأى، فكلها حسنة، والحسن محبوب ممدوح.
    فالمقصود بالخلق ما يحبه ويرضاه، وذلك أمر ممدوح، ولكن قد يكون من لوازم ذلك ما يريده ; لأنه من لوازم ما يحبه ووسائله، فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع، كما يمتنع وجود العلم والإرادة بلا حياة، ويمتنع وجود المولود -مع كونه مولودا - بلا ولادة.
    وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، حديث الاستفتاح:
    " «والخير كله بيديك، والشر ليس إليك» " وقد قيل: في تفسيره لا يتقرب به إليك بناء على أنه الأعمال المنهي عنها، وقد قيل:
    لا يضاف إليك بناء على أنه المخلوق.
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    والحمد مفتاح كل أمر ذي بال: من مناجاة الرب ومخاطبة العباد بعضهم بعضا والشهادة مقرونة بالحمد وبالتكبير فهي في الأذان وفي الخطب خاتمة الثناء فتذكر بعد التكبير ثم يخاطب الناس بقول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح وتذكر في الخطب ثم يخاطب الناس بقول: أما بعد وتذكر في التشهد ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فالحمد والتوحيد مقدم في خطاب الخلق للخالق والحمد له الابتداء.

    فإن الله لما خلق آدم عليه السلام أول ما أنطقه بالحمد فإنه عطس وقال: الحمد لله رب العالمين فقال الله: يرحمك ربك وكان أول ما نطق به الحمد وأول ما سمع من الله الرحمة وبه افتتح الله أم القرآن والتشهد هو الخاتمة.
    فأول الفاتحة {الحمد لله} وآخر ما للرب {إياك نعبد}. وكذلك التشهد. والخطب فيها التشهد بعد الفاتحة. فأن يتضمن إلهية الرب وهو أن يكون الرب هو المعبود هذا هو الغاية التي ينتهي إليها أعمال العباد و {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} لكن قدم الحمد؛ لأن الحمد يكون من الله ويكون من الخلق.
    وهو باق في الجنة: فآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين بخلاف العبادة. فإن العبادة إنما تكون في الدنيا بالسجود ونحوه وتوحيده وذكره باق في الجنة يلهمه أهل الجنة كما يلهمهم النفس.
    وهذه الأذكار هي من جنس الأقوال ليست من العبادات العملية كالسجود والقيام والإحرام والرب تعالى يحمد نفسه ولا يعبد نفسه فالحمد أوسع العلوم الإلهية والحمد يفتح به ويختم به. فالسنة لمن أكل وشرب أن يحمد الله وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها} وقال تعالى:
    {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} وقال تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وقال: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.
    وسئل:
    عن " الحمد والشكر " ما حقيقتهما؟ هل هما معنى واحد أو معنيان؟ وعلى أي شيء يكون الحمد؟ وعلى أي شيء يكون الشكر؟.

    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، " الحمد " يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} وقال: {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة} وقال: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء}.
    وأما " الشكر " فإنه لا يكون إلا على الإنعام فهو أخص من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان كما قيل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة: يدي ولساني والضمير المحجبا ولهذا قال تعالى: {اعملوا آل داود شكرا}. و " الحمد " إنما يكون بالقلب واللسان فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه والحمد أعم من جهة أسبابه ومن هذا الحديث {الحمد لله رأس الشكر فمن لم يحمد الله لم يشكره} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها} والله أعلم.
    تلخيص مناظرة في " الحمد والشكر "
    بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وبين ابن المرحل
    كان الكلام في الحمد والشكر وأن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح والحمد لا يكون إلا باللسان. فقال ابن المرحل: قد نقل بعض المصنفين - وسماه -: أن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد. ومذهب الخوارج: أنه يكون بالاعتقاد والقول والعمل وبنوا على هذا: أن من ترك الأعمال يكون كافرا. لأن الكفر نقيض الشكر فإذا لم يكن شاكرا كان كافرا. قال الشيخ تقي الدين: هذا المذهب المحكي عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (16)

    من صــ 346 الى صــ 352


    فإن مذهب أهل السنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل. قال الله تعالى: {اعملوا آل داود شكرا} {وقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:
    أفلا أكون عبدا شكورا}. قال ابن المرحل: أنا لا أتكلم في الدليل وأسلم ضعف هذا القول؛ لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة. قال الشيخ تقي الدين:
    نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ فإن القول إذا ثبت ضعفه كيف ينسب إلى أهل الحق؟ ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل وقد دل على ذلك الكتاب والسنة. قلت: وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سجدة سورة ص سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا}.
    ثم من الذي قال من أئمة السنة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد؟. قال ابن المرحل: - هذا قد نقل والنقل لا يمنع لكن يستشكل. ويقال: هذا مذهب مشكل.

    قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: النقل نوعان. أحدهما: أن ينقل ما سمع أو رأى. والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا أو مذهب أهل السنة كذا قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله وإن لم يكن فلان قال ذلك. ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرا.

    ألا ترى أن كثيرا من المصنفين يقولون: مذهب الشافعي أو غيره كذا ويكون منصوصه بخلافه؟ وعذرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط لا من جهة النص؟. وكذلك هذا لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي والخوارج يكفرون بالمعاصي. ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر -:

    أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرا لزم انتفاء الشكر بانتفائها ومتى انتفى الشكر خلفه الكفر ولهذا قال: إنهم بنوا على ذلك: التكفير بالذنوب. فلهذا عزي إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر. قلت: كما أن كثيرا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة. قال: وهذا خطأ لأن التكفير نوعان: أحدهما: كفر النعمة. والثاني: الكفر بالله. والكفر الذي هو ضد الشكر:
    إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله. فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة لا الكفر بالله. قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله فمن ترك الأعمال شاكرا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله. والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية. كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان. وهو الاعتقاد.

    ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة - التي هي ذات شعب وأجزاء - زوال اسمها كالإنسان إذا قطعت يده أو الشجرة إذا قطع بعض فروعها. قال الصدر ابن المرحل: فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة كما خالفوا الخوارج في جعله كافرا بالله. قال الشيخ تقي الدين: أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا فعمن تنقل من أصحابي هذا؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة حيث أطلقته الشريعة.

    قال ابن المرحل: إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا. قال الشيخ تقي الدين: - ولا أصحابك خالفوه. فإن أصحابك قد تأولوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق - مثل ترك الصلاة. وقتال المسلمين - على أن المراد به كفر النعمة. فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة.
    فعلم أنهم موافقو الحسن لا مخالفوه. ثم عاد ابن المرحل فقال: أنا أنقل هذا عن المصنف. والنقل ما يمنع لكن يستشكل. قال الشيخ تقي الدين: إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق مع أنهم صرحوا في غير موضع:
    أن الشكر يكون بالقول والعمل والاعتقاد. وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه. ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق: إخراج الأعمال أن تكون شكرا لله. بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال. وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل.
    وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ " الحمد " " والشكر " مثل كتب التفسير واللغة وشروح الحديث يعرفه آحاد الناس. والكتاب والسنة قد دلا على ذلك.
    فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا فقال: - الحسن البصري يسمى الفاسق منافقا وأصحابك لا يسمونه منافقا. قال الشيخ تقي الدين له: بل يسمى منافقا النفاق الأصغر لا النفاق الأكبر. والنفاق يطلق على النفاق الأكبر الذي هو إضمار الكفر وعلى النفاق الأصغر الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات. قال له ابن المرحل: - ومن أين قلت: إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا؟.
    قال الشيخ تقي الدين: - هذا مشهور عند العلماء. وبذلك فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره. وحكوه عن العلماء. وقال غير واحد من السلف " كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك ".
    وإذا كان النفاق جنسا تحته نوعان فالفاسق داخل في أحد نوعيه.
    قال ابن المرحل: كيف تجعل النفاق اسم جنس وقد جعلته لفظا مشتركا وإذا كان اسم جنس كان متواطئا والأسماء المتواطئة غير المشتركة فكيف تجعله مشتركا متواطئا ". قال الشيخ تقي الدين: أنا لم أذكر أنه مشترك.
    وإنما قلت: يطلق على هذا وعلى هذا والإطلاق أعم. ثم لو قلت: إنه مشترك لكان الكلام صحيحا. فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئين بطريق التواطؤ وبطريق الاشتراك. فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر وإبطان المعصية تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن عند قوم باعتبار الاشتراك وعند قوم باعتبار التواطؤ. ولهذا سمي مشككا. قال ابن المرحل: - كيف يكون هذا؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره.
    قال له الشيخ تقي الدين: - المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر. وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز واللفظ يطلق على كل منهما فقد يطلق عليهما باعتبار ما به تمتاز كل ماهية عن الأخرى. فيكون مشتركا كالاشتراك اللفظي. وقد يكون مطلقا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين. فيكون لفظا متواطئا.
    قلت: ثم إنه في اللغة يكون موضوعا للقدر المشترك ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله: في هذا تارة وفي هذا تارة. فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز.
    وقد يكون قرينة مثل لام التعريف أو الإضافة تكون هي الدالة على ما به الامتياز مثال ذلك: " اسم الجنس " إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة إذا غلب على الفرس قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينها وبين سائر الدواب.
    فيكون متواطئا. وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب ويصير استعماله في الفرس: تارة بطريق التواطؤ وتارة بطريق الاشتراك. وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علما بالغلبة:
    مثل ابن عمرو والنجم فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو. فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ. وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم ومن بني عمرو.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (17)

    من صــ 353 الى صــ 359


    فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي.
    وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده يصح استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام فيكون بطريق التواطؤ وبالوضع الثاني فيصير بطريق الاشتراك.

    ولفظ " النفاق " من هذا الباب. فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه. وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين. ثم إبطان ما يخالف الدين إما أن يكون كفرا أو فسقا.
    فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار. وإن أظهر أنه صادق أو موف أو أمين وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك. فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقا.
    فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ. وعلى هذا؛ فالنفاق اسم جنس تحته نوعان. ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين مثل قوله {إن المنافقين في الدرك الأسفل} و {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} والمنافق هنا: الكافر. وقد يراد به النفاق في فروعه. مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
    {آية المنافق ثلاث} وقوله {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا} وقول ابن عمر: فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث. ثم يخرج فيقول بخلافه " كنا نعد هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاقا " فإذا أردت به أحد النوعين. فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد؛ والإضافة. فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئا كما إذا قال الرجل: جاء القاضي.
    وعنى به قاضي بلده لكون اللام للعهد. كما قال سبحانه: {فعصى فرعون الرسول} أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى لا نفس لفظ " رسول ".
    وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه فيصير مشتركا بين اللفظ العام والمعنى الخاص. فكذلك قوله {إذا جاءك المنافقون} فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد والمنافق المعهود: هو الكافر.
    أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر. وقوله صلى الله عليه وسلم {ثلاث من كن فيه كان منافقا} يعني به منافقا بالمعنى العام وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن. فإطلاق لفظ " النفاق " على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق.
    كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك. وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة. ويكون متواطئا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ " منافق " بل لام التعريف.
    وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه إما لغلبة الاستعمال أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع. مثل تعريف الإضافة أو تعريف اللام. فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال: إن اللفظ مشترك. وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيا على مواطأته. فلهذا صح أن يقال " النفاق " اسم جنس تحته نوعان. لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئا.
    وصح أن يقال: هو مشترك بين النفاق في أصل الدين وبين مطلق النفاق في الدين. لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر.
    بحث ثان
    وهو أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص.

    فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات والشكر لا يكون إلا على الإحسان. والشكر أعم من جهة ما به يقع فإنه يكون بالاعتقاد والقول والفعل. والحمد يكون بالفعل أو بالقول أو بالاعتقاد. أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجا الحنبلي: أن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته فلا يكون فرقا في الحقيقة والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات لا لما خرج عنها.
    فقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: - المعاني على قسمين: مفردة ومضافة. فالمعاني المفردة: حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها. وأما المعاني الإضافية فلا بد أن يوجد في حدودها تلك الإضافات. فإنها داخلة في حقيقتها. ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات فتكون المتعلقات جزءا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود.
    والحمد والشكر معلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلقهما. فيكون متعلقهما داخلا في حقيقتهما. فاعترض الصدر ابن المرحل: بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية.
    فلا يكون للحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية. فإن المتعلق صفة نسبية. والنسب أمور عدمية. وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة. لأن العدم لا يكون جزءا من الوجود. فقال الشيخ تقي الدين: قولك: ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية. ليس على العموم.
    بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية وقد لا يكون. وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين: ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية. ثم الصفات المتعلقة نوعان: أحدهما: إضافة محضة. مثل الأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحوها.
    فهذه الصفة هي التي يقال فيها: هي مجرد نسبة وإضافة. والنسب أمور عدمية. والثاني صفة ثبوتية مضافة إلى غيرها كالحب والبغض والإرادة والكراهة والقدرة وغير ذلك من الصفات فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب. فالحب معروض للإضافة بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة. ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة. فالإضافة يقال فيها: إنها عدمية.
    قال: وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية كالحب. قال ابن المرحل: الحب أمر عدمي. لأن الحب نسبة والنسب عدمية. قال الشيخ تقي الدين: كون الحب والبغض والإرادة والكراهة أمرا عدميا باطل. بالضرورة.
    وهو خلاف إجماع العقلاء. ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله. فإنه زعم أنها صفة سلبية. بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره. وأطبق الناس على بطلان هذا القول. وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدا من العقلاء قال: إنه عدمي. فأصر ابن المرحل على أن الحب - الذي هو ميل القلب إلى المحبوب - أمر عدمي. وقال: المحبة: أمر وجودي.
    قال الشيخ تقي الدين: - المحبة هي الحب. فإنه يقال: أحبه وحبه حبا ومحبة. ولا فرق. وكلاهما مصدر. قال ابن المرحل: وأنا أقول: إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي. قال له الشيخ تقي الدين: الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم.
    وكون الحب والبغض أمرا وجوديا معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية. فإذا صار محبا فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب.
    ومن يحس ذلك من نفسه يجده كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه. ودليل ذلك: أنك تقول: أحب يحب محبة. ونقيض أحب: لم يحب. ولم يحب صفة عدمية ونقيض العدم الإثبات. قال ابن المرحل: هذا ينتقض بقولهم: امتنع يمتنع؛ فإن نقيض الامتناع: لا امتناع.
    وامتناع صفة عدمية. قال الشيخ تقي الدين: الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي. حتى تقوم به صفة. وإنما هو معلوم بالعقل.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (18)

    من صــ 360 الى صــ 366


    وباعتبار كونه معلوما له ثبوت علمي وسلب هذا الثبوت العلمي: عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا: نقيض العدم ثبوت وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب. فإنك تشير إلى عين خارجة وتقول: هذا الحي صار محبا بعد أن لم يكن محبا. فتخبر عن الوجود الخارجي.
    فإذا كان نقيضها عدما خارجيا كانت وجودا خارجيا.
    وفي الجملة: فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة. فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية. قلت: وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير: صفات وجودية. ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة. وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة.
    فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه. وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه. فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير.
    وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما. فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما. وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكر حقيقتهما. والدليل على هذا: أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر
    فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر. قلت: ولو قيل: إنه ليس هذا إلا أمرا عدميا. فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة. كما أن من عرف الأب من حيث هو أب. فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة التي هي نسبة وإضافة. وإن كان الأب أمرا وجوديا.
    فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وإن لم يكن هذا المتعلق عارضا لصفة ثبوتية. فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق. كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة الذي هو التعلق. وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وهذا التعلق جزء من هذا المسمى. بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد. ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر.
    فإذا كان فهمها موقوفا على فهم متعلقهما فوقوفه على فهم التعلق أولى. فإن التعلق فرع على المتعلق. وتبع له. فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق. فتوقفه على فهم التعلق أولى. وإن كان التعلق أمرا عدميا. والله أعلم.

    قال له الشيخ تقي الدين ابن تيمية: - قوله: {وأحل الله البيع} قد أتبع بقوله {وحرم الربا} وعامة أنواع الربا يسمى بيعا. والربا - وإن كان اسما مجملا - فهو مجهول. واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة المستثنى فيبقى المراد إحلال البيع الذي ليس بربا.

    فما لم يثبت أن الفرد المعين ليس بربا لم يصح إدخاله في البيع الحلال. وهذا يمنع دعوى العموم. وإن كان الربا اسما عاما فهو مستثنى من البيع أيضا. فيبقى البيع لفظا مخصوصا. فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق. قال ابن المرحل: - هذا من باب التخصيص. وهنا عمومان تعارضا وليس من باب الاستثناء. فإن صيغ الاستثناء معلومة.
    وإذا كان هذا تخصيصا لم يمنع ادعاء العموم فيه. قال الشيخ تقي الدين: - هذا كلام متصل بعضه ببعض وهو من باب التخصيص المتصل. وتسميه الفقهاء استثناء كقوله: له هذه الدار ولي منها هذا البيت. فإن هذا بمنزلة قوله: إلا هذا البيت. وكذلك لو قال: أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانا وهو منهم. كان بمنزلة قوله: إلا فلانا. وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله: أحل الله البيع إلا ما كان منه ربا.
    فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعا فهو مخطئ. قال ابن المرحل: أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا. قال له الشيخ تقي الدين: وهذا كان المقصود. ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق؛ فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض. وهذا كلام بين. وادعى مدع. أن فيه قولين.
    أحدهما: أنه عام مخصوص. والثاني: أنه عموم مراد. فقال الشيخ تقي الدين: فإن دعوى أنه عموم مراد: باطل قطعا فإنا نعلم أن كثيرا من أفراد البيع حرام. فاعترض ابن المرحل: بأن تلك الأفراد حرمت بعدما أحلت.
    فيكون نسخا. قال الشيخ تقي الدين: - فيلزم من هذا أن لا نحرم شيئا من البيوع بخبر واحد ولا بقياس. فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك. وإنما يجوز تخصيصه به. وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة.
    قال ابن المرحل: رجعت عن هذا السؤال؛ لكن أقول هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعا في الشرع. فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي. قال الشيخ تقي الدين: البيع ليس من الأسماء المنقولة؛ فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي؛ لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطا. كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضا بحسب اصطلاحهم. وهكذا سائر أسماء العقود مثل الإجارة والرهن والهبة والقرض والنكاح. إذا أريد به العقد وغير ذلك: هي باقية على مسمياتها.
    والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها. مثل الصلاة والزكاة والتيمم. فحينئذ يحتاج إلى النقل. ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة. قال ابن المرحل: أصحابي قد قالوا: إنها منقولة. قال الشيخ تقي الدين: لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير: أحل الله البيع الصحيح الشرعي.
    أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال. وهذا - مع أنه مكرر - فإنه يمنع الاستدلال بالآية. فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي. ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية.
    قال ابن المرحل: - متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعا في اللغة.

    قلت: هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل وإذا كان بيعا في الشرع دخل في الآية. قال الشيخ تقي الدين: هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول. لم يصح إدخال فرد فيه. حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه.
    وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمي في اللغة صلاة وزكاة وتيمما وصوما وبيعا وإجارة ورهنا: أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار. وعلى هذا التقدير:
    فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها. وإنما يقال: الأصل عدم النقل إذا لم يثبت. بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل.
    فصل:
    قال الله عز وجل في أول السورة: {الحمد لله رب العالمين} فبدأ بهذين الاسمين: الله والرب. و " الله " هو الإله المعبود فهذا الاسم أحق بالعبادة؛ ولهذا يقال: الله أكبر. الحمد لله سبحان الله لا إله إلا الله و " الرب " هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة.

    ولهذا يقال: {رب اغفر لي ولوالدي} {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
    فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الرب. فالاسم الأول يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه وما خلق له وما فيه صلاحه وكماله وهو عبادة الله والاسم الثاني يتضمن خلق العبد ومبتداه وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثاني يدخل في الأول دخول الربوبية في الإلهية والربوبية تستلزم الألوهية أيضا. والاسم " الرحمن " يتضمن كمال التعليقين وبوصف الحالين فيه تتم سعادته في دنياه وأخراه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (19)

    من صــ 367 الى صــ 373



    ولهذا قال تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} فذكر هنا الأسماء الثلاثة:
    (الرحمن و (ربي و (الإله وقال: {عليه توكلت وإليه متاب} كما ذكر الأسماء الثلاثة في أم القرآن؛ لكن بدأ هناك باسم الله؛ولهذا بدأ في السورة بـ (إياك نعبد) فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة؛ لأن تلك السورة فاتحة الكتاب وأم القرآن فقدم فيها المقصود الذي هو العلة الغائية فإنها علة فاعلية للعلة الغائية.
    وقد بسطت هذا المعنى في مواضع؛ في أول " التفسير " وفي " قاعدة المحبة والإرادة " وفي غير ذلك.
    فصل:
    ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له والإنابة إليه. ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية وقد أخبر عنهم أنهم {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال:
    {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} فأخبر أنهم مقرون بربوبيته وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم.

    وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به في الباطن من الأحوال التي بها يتصرفون وهؤلاء من جنس الملوك وقد ذم الله عز وجل في القرآن هذا الصنف كثيرا فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون في الحقائق ويعملون عليها وهم لعمري في نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به والله سبحانه أعلم.
    فصل:
    وذلك أن الإنسان بل وجميع المخلوقات عباد لله تعالى فقراء إليه مماليك له وهو ربهم ومليكهم وإلههم لا إله إلا هو فالمخلوق ليس له من نفسه شيء أصلا؛ بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه وغير ذلك إنما هو من خلق الله والله عز وجل رب ذلك كله ومليكه وبارئه وخالقه ومصوره.
    وإذا قلنا ليس له من نفسه إلا العدم فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود؛ بل العدم ليس بشيء وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود؛ بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة وبينهما فرق وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقه وأبدعه الفاعل وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل فإنه يفضي إلى التسلسل والدور؛ ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس؛ فإنه ليس أحد العدمين مميزا لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلا وإن كان يعقل أن عدم المقتضي أولى بعدم الأثر من العكس فهذا لأنه لما كان وجود المقتضي هو المفيد لوجود المقتضي صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية؛ لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضي أو لوجود المانع.
    وبعد قيام المقتضي لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين؛ فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه ويمنعه المانع المنافي وهو أمر موجود وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه. وهذا معنى قول المسلمين:
    ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته لا يكون شيء بدونها بحال فليس لنا سبب يقتضي وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده بل مشيئته هي السبب الكامل فمع وجودها لا مانع ومع عدمها لا مقتضى {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}.
    وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلا؛ بل ما بنا من نعمة فمن الله وإذا مسنا الضر فإليه نجأر والخير كله بيديه كما قال: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقال: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار الذي في صحيح البخاري:
    {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} وقال في دعاء الاستفتاح الذي في صحيح مسلم:{لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك تباركت ربنا وتعاليت}. وذلك أن الشر إما أن يكون موجودا أو معدوما فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها مثل عدم الحياة أو العلم أو السمع أو البصر أو الكلام أو العقل أو العمل الصالح على تنوع أصنافه مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه ورجائه وخشيته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة من الأقوال والأفعال.
    فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات؛ لكن هذا العدم ليس بشيء أصلا حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى الله وإنما هو من لوازم النفس التي هي حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت؛ فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم وبعد أن خلقت - وقد خلقت ضعيفة ناقصة - فيها النقص والضعف والعجز فإن هذه الأمور عدمية فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته وعدم مقتضيه وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء الله تعالى.
    و " نكتة الأمر " أن هذا الشر والسيئات العدمية ليست موجودة حتى يكون الله خالقها فإن الله خالق كل شيء.
    والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها وتارة إلى وجود مانعها فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين:
    أما " الأول " فلأنه الحق المبين فلا يقال عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها.
    وأما " الثاني " - وهو وجود المانع - فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضي ولو شاء فعلها لما منعه مانع وهو - سبحانه - لا يمنع نفسه ما شاء فعله؛ بل هو فعال لما يشاء؛ ولكن الله قد يخلق هذا سببا ومقتضيا ومانعا فإن جعل السبب تاما لم يمنعه شيء وإن لم يجعله تاما منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة ولوجود المانع منه أخرى.
    أما عدم السبب فظاهر فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة ولو كان منه شيء لكان سببا فأضيف إليه لعدم السبب؛ ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة الله له فما لم يصدر منه كان لعدم السبب.
    وأما وجود المانع المضاد له المنافي فلأن نفسه قد تضيق وتضعف وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة في نفسها متنافية في حقه فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره أو الكلام في شيء أو النظر فيه أو إرادته أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر وإن كان ذلك خيرا لضيقه وعجزه؛ فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعا وصادا عن آخر.
    والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته فعاد إلى العدم الذي هو منه والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى الله تعالى وأما إن كان الشيء موجودا كالألم وسبب الألم فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شرا على الإطلاق ولا شرا محضا وإنما هو شر في حق من تألم به وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد. ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلا {آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره} وفي الحديث الذي رواه أبو داود:
    {لو أنفقت ملء الأرض ذهبا لما قبله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك} فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شرا ومن تنعم به فهو في حقه خير كما {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من قص عليه أخوه رؤيا أن يقول:
    خيرا تلقاه وشرا توقاه خيرا لنا وشرا لأعدائنا} فإنه إذا أصاب العبد شر سر قلب عدوه؛ فهو خير لهذا وشر لهذا؛ ومن لم يكن له وليا ولا عدوا فليس في حقه خيرا ولا شرا وليس في مخلوقات الله ما يؤلم الخلق كلهم دائما ولا ما يؤلم جمهورهم دائما؛ بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم في أغلب الأوقات كالشمس والعافية فلم يكن في الموجودات التي خلقها الله ما هو شر مطلقا عاما.
    فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص وفيه وجه آخر هو به خير وحسن وهو أغلب وجهيه كما قال تعالى: {أحسن كل شيء خلقه} وقال تعالى:
    {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال تعالى: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} وقال: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا}. وقد علم المسلمون أن الله لم يخلق شيئا ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره ولا يكون في المخلوقات شر محض لا خير فيه ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه؛ وبهذا يظهر معنى قوله:
    {والشر ليس إليك} وكون الشر لم يضف إلى الله وحده؛ بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثانى
    الحلقة (20)

    من صــ 374 الى صـ
    ـ 380
    فهذا الشر الموجود الخاص المقيد سببه: إما عدم وإما وجود؛ فالعدم مثل عدم شرط أو جزء سبب إذ لا يكون سببه عدما محضا فإن العدم المحض لا يكون سببا تاما لوجود؛ ولكن يكون سبب الخير واللذة قد انعقد ولا يحصل الشرط فيقع الألم؛ وذلك مثل عدم فعل الواجبات الذي هو سبب الذم والعقاب ومثل عدم العلم الذي هو سبب ألم الجهل وعدم السمع والبصر والنطق الذي هو سبب الألم بالعمى والصمم والبكم وعدم الصحة والقوة الذي هو سبب الألم والمرض والضعف. فهذه المواضع ونحوها يكون الشر أيضا مضافا إلى العدم المضاف إلى العبد حتى يتحقق قول الخليل:
    {وإذا مرضت فهو يشفين} فإن المرض وإن كان ألما موجودا فسببه ضعف القوة وانتفاء الصحة الموجودة وذلك عدم هو من الإنسان المعدوم بنفسه حتى يتحقق قول الحق {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقوله: {قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} ونحو ذلك فيما كان سببه عدم فعل الواجب وكذلك قول الصحابي: وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.
    يبين ذلك أن المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته فإنه إذا كان عالما بمضرتها وهو غني عنها امتنع أن يفعلها والجهل أصله عدم والحاجة أصلها العدم.
    فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم والغنى ولهذا يقول في القرآن: {ما كانوا يستطيعون السمع} {أفلم تكونوا تعقلون}؟ {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} {فهم على آثارهم يهرعون} إلى نحو هذه المعاني. وأما الموجود الذي هو سبب الشر الموجود الذي هو خاص كالآلام مثل الأفعال المحرمة من الكفر الذي هو تكذيب أو استكبار والفسوق الذي هو فعل المحرمات ونحو ذلك.
    فإن ذلك سبب الذم والعقاب وكذلك تناول الأغذية الضارة وكذلك الحركات الشديدة المورثة للألم فهذا الوجود لا يكون وجودا تاما محضا؛ إذ الوجود التام المحض لا يورث إلا خيرا كما قلنا إن العدم المحض لا يقتضي وجودا؛ بل يكون وجودا ناقصا إما في السبب وإما في المحل كما يكون سبب التكذيب عدم معرفة الحق والإقرار به وسبب عدم هذا العلم والقول عدم أسبابه من النظر التام والاستماع التام لآيات الحق وأعلامه.
    وسبب عدم النظر والاستماع: إما عدم المقتضي فيكون عدما محضا وإما وجود مانع من الكبر أو الحسد في النفس {والله لا يحب كل مختال فخور} وهو تصور باطل وسببه عدم غنى النفس بالحق فتعتاض عنه بالخيال الباطل.
    و " الحسد " أيضا سببه عدم النعمة التي يصير بها مثل المحسود أو أفضل منه؛ فإن ذلك يوجب كراهة الحاسد لأن يكافئه المحسود أو يتفضل عليه. وكذلك الفسوق كالقتل والزنا وسائر القبائح إنما سببها حاجة النفس إلى الاشتفاء بالقتل والالتذاذ بالزنا وإلا فمن حصل غرضه بلا قتل أو نال اللذة بلا زنا لا يفعل ذلك والحاجة مصدرها العدم وهذا يبين - إذا تدبره الإنسان - أن الشر الموجود إذا أضيف إلى عدم أو وجود فلا بد أن يكون وجودا ناقصا فتارة يضاف إلى عدم كمال السبب أو فوات الشرط وتارة يضاف إلى وجود ويعبر عنه تارة بالسبب الناقص والمحل الناقص وسبب ذلك إما عدم شرط أو وجود مانع والمانع لا يكون مانعا إلا لضعف المقتضي وكل ما ذكرته واضح بين إلا هذا الموضع ففيه غموض يتبين عند التأمل وله طرفان:
    " أحدهما " أن الموجود لا يكون سببه عدما محضا. و " الثاني " أن الموجود لا يكون سببا للعدم المحض وهذا معلوم بالبديهة أن الكائنات الموجودة لا تصدر إلا عن حق موجود.
    ولهذا كان معلوما بالفطرة أنه لا بد لكل مصنوع من صانع كما قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم خلقوا أنفسهم؟.
    ومن المتكلمين من استدل على هذا المطلوب بالقياس وضرب المثال. والاستدلال عليه ممكن ودلائله كثيرة. والفطرة عند صحتها أشد إقرارا به وهو لها أبده وهي إليه أشد اضطرارا من المثال الذي يقاس به.
    وقد اختلف أهل الأصول في العلة الشرعية هل يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي فيها مع قولهم: إن العدمي يعلل بالعدمي؟ فمنهم من قال:
    يعلل به ومنهم من أنكر ذلك ومنهم من فصل بين ما لا يجوز أن يكون علة للوجود في قياس العلة ويجوز أن تكون علته له في قياس الدلالة فلا يضاف إليه في قياس الدلالة وهذا فصل الخطاب وهو أن قياس الدلالة يجوز أن يكون العدم فيه علة وجزءا من علة؛ لأن عدم الوصف قد يكون دليلا على وصف وجودي يقتضي الحكم.
    وأما " قياس العلة " فلا يكون العدم فيه علة تامة؛ لكن يكون جزءا من العلة التامة وشرطا للعلة المقتضية التي ليست بتامة وقلنا: جزء من العلة التامة. وهو معنى كونه شرطا في اقتضاء العلة الوجودية وهذا نزاع لفظي فإذا حققت المعاني ارتفع. فهذا في بيان أحد الطرفين وهو أن الموجود لا يكون سببه عدما محضا.
    وأما " الطرف الثاني " وهو أن الموجود لا يكون سببا لوجود يستلزم عدما فلأن العدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود بل يكفي فيه عدم السبب الموجود؛ ولأن السبب الموجود إذا أثر فلا بد أن يؤثر شيئا والعدم المحض ليس بشيء فالأثر الذي هو عدم محض بمنزلة عدم الأثر؛ بل إذا أثر الإعدام فالإعدام أمر وجودي فيه عدم فإن جعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا أمر معقول أما جعل المعدوم معدوما فلا يعقل إلا بمعنى الإبقاء على العدم والإبقاء على العدم يكفي فيه عدم الفاعل والفرق معلوم بين عدم الفاعل وعدم الموجب في عدم العلة وبين فاعل العدم وموجب العدم وعلة العدم. والعدم لا يفتقر إلى الثاني؛ بل يكفي فيه الأول.
    فتبين بذلك الطرفان وهو أن العدم المحض الذي ليس فيه شوب وجود لا يكون وجودا ما: لا سببا ولا مسببا ولا فاعلا ولا مفعولا أصلا فالوجود المحض التام الذي ليس فيه شوب عدم لا يكون سببا لعدم أصلا ولا مسببا عنه ولا فاعلا له ولا مفعولا أما كونه ليس مسببا عنه ولا مفعولا له فظاهر وأما كونه ليس سببا له فإن كان سببا لعدم محض فالعدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود وإن كان لعدم فيه وجود فذاك الوجود لا بد له من سبب ولو كان سببه تاما وهو قابل لما دخل فيه عدم؛ فإنه إذا كان السبب تاما والمحل قابلا وجب وجود المسبب فحيث كان فيه عدم فلعدم ما في السبب أو في المحل فلا يكون وجودا محضا.

    فظهر أن السبب حيث تخلف حكمه إن كان لفوات شرط فهو عدم وإن كان لوجود مانع فإنما صار مانعا لضعف السبب وهو أيضا عدم قوته وكماله فظهر أن الوجود ليس سبب العدم المحض وظهر بذلك القسمة الرباعية وهي أن الوجود المحض لا يكون إلا خيرا.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •