تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 5 من 14 الأولىالأولى 1234567891011121314 الأخيرةالأخيرة
النتائج 81 إلى 100 من 262

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #81
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (79)

    من صــ 305 الى صـ
    ـ 312

    فما ذكره المتفلسفة من الحكمة العملية ليس فيها من الأعمال ما تسعد به النفوس، وتنجو من العذاب، كما أن ما ذكروه من الحكمة النظرية ليس فيها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فليس عندهم من العلم ما تهتدي به النفوس، ولا من الأخلاق ما هو دين حق، ولهذا لم يكونوا داخلين في أهل السعادة في الآخرة المذكورين في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]

    وهذه الفضائل الأربع التي ذكرها المتفلسفة لا بد منها في كمال النفس، وصلاحها، وتزكيتها. والمتفلسفة لم يحدوا ما يحتاج إليه بحد يبين مقدار ما تحصل به النجاة والسعادة. ولكن الأنبياء بينوا ذلك، وقد قال سبحانه: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33]

    فهذه الأنواع الأربعة هي التي حرمها تحريما مطلقا، لم يبح منها شيئا لأحد من الخلق، ولا في حال من الأحوال، بخلاف الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وغير ذلك، فإنه يحرم في حال، ويباح في حال.
    وأما الأربعة فهي محرمة مطلقا. فالفواحش متعلقة بالشهوة. والبغي بغير الحق يتعلق بالغضب، والشرك بالله فساد أصل العدل فإن الشرك ظلم عظيم، والقول على الله بلا علم فساد في العلم، فقد حرم سبحانه هذه الأربعة، وهي فساد الشهوة، والغضب، وفساد العدل، والعلم. وقوله: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} [الأعراف: 33] يتضمن تحريم أصل الظلم في حق الله، وذلك يستلزم إيجاب العدل في حق الله تعالى وهو عبادته وحده لا شريك له، فإن النفس لها القوتان: العلمية، والعملية، وعمل الإنسان عمل اختياري، والعمل الاختياري إنما يكون بإرادة العبد. وكل إنسان له إرادة، وعمل بإرادته فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث، وهمام» والإرادة لا بد لها من مراد، وكل مراد فإما أن يراد لنفسه، وإما أن يراد لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه.
    فالقوة العملية تستلزم أن يكون للإنسان مراد، وذلك المراد لنفسه هو علة فاعلة للعلة الفاعلة، ولهذا قيل: العامة تقول:قيمة كل امرئ ما يحسنه. والعارفون يقولون: قيمة كل امرئ ما يطلب. وفي بعض الكتب المتقدمة: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته. وهؤلاء المتفلسفة لم يذكروا هذا في كمال النفس، وإنما جعلوا كمالها العملي في تعديل الشهوة والغضب بالعفة، والحلم، وهذا غايته ترك الإسراف في الشهوة والغضب، والشهوة: هي جلب ما ينفع البدن ويبقي النوع، والغضب: دفع ما يضر البدن.

    ولم يتعرضوا لمراد الروح الذي يحبه لذاته. مع أنهم إنما تكلموا فيما يعود إلى البدن، وجعلوا ذلك إصلاحا للبدن الذي هو آلة للنفس، وجعلوا كمال النفس في مجرد العلم. وقد بسطنا غلطهم في هذا الأصل من وجوه في غير هذا الموضع، وبينا أن النفس لها كمال في العمل والإرادة، كما أن لها كمالا في العلم، وأن العلم المجرد ليس كمالا لها ولا صلاحا، ولو كان كمالا لم يكن ما عندهم من العلم ما هو كمال النفس، وبينا غلط الجهمية الذين قالوا: الإيمان هو مجرد العلم، وأن الصواب قول السلف والأئمة: إن الإيمان قول وعمل.

    أصله قول القلب، وعمل القلب المتضمن علم القلب وإرادته. وإذا كان لا بد للنفس من مراد محبوب لذاته لا تصلح إلا به، ولا تكمل إلا به، وذلك هو إلهها، فليس لها إله يكون به صلاحا إلا الله، ولهذا قال الله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]، وليس ذلك للإنسان فقط بل للملائكة والجن فإنهم كلهم أحياء عقلاء ناطقون، لهم علم وعمل اختياري، ولا صلاح لهم إلا بمرادهم المحبوب لذاته، وهو معبودهم، ولا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لنفسه إلا الله، فلو كان في السماوات والأرض إله إلا الله لفسدتا. فلهذا كان دين جميع الرسل عبادة الله وحده لا شريك له.
    وهؤلاء المتفلسفة لا يعرفون ذلك، فليس عندهم من صلاح النفس وكمالها في العلم والعمل ما تنجو به من الشقاء، فضلا عما تسعد به، ومما يبين ذلك أن أرسطو معلمهم الأول هو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى بالحركة الفلكية، فقالوا: الحركة الدورية حركة اختيارية نفسانية، فقوامه بحركته الاختيارية، وفساده بعدمها، وقوام حركته بما يتحرك لأجله، فإن الفاعل بالاختيار إنما قوامه بعلته الغائية التي يتحرك لأجلها، وغايته التي يتحرك لأجلها، هو العلة الأولى فإنه يتحرك للتشبه بها.

    فجعلوا قوام العالم كله بالعلة الأولى من حيث هو متشبه به؛ لأن المتحرك باختياره لا بد له من مراد. ومعلوم أن الحركة الإرادية تطلب مرادا محبوبا لنفسها، وتستلزم ذلك أعظم من استلزامها مشبها به، فإن كل متحرك بإرادة لا بد له من مراد محبوب لنفسه، فإن الإرادة لا بد لها من مراد، والمراد يكون إما مرادا لنفسه، وإما لغيره،

    والمراد لغيره إنما يراد لذلك الغير بدلا أن يكون ذلك الغير مرادا لنفسه، أو منتهى إلى مراد لنفسه، وإلا لزم التسلسل في العلل الغائبة، وذلك باطل كبطلان التسلسل في العلل الفاعلية بصريح العقل، واتفاق العقلاء، وبسط هذا له موضع آخر. وإذا كان الفاعل باختيار يستلزم مرادا لنفسه محبوبا، فلا بد أن يكون لما يتحرك في السماوات بإرادته سواء كان هؤلاء الملائكة، أو ما يسمونه هم نفسا من محبوب مراد لذاته، يكون هو الإله المعبود المراد بتلك الحركات، وكذلك نفس الإنسان حركتها بالإرادة من لوازم ذاتها، فلا بد لها من محبوب مراد لذاته، وهو الإله،
    وهذا المحبوب المراد لذاته هو الله تعالى، ويمتنع أن يكون غيره، كما قد بسط هذا في موضع آخر، وبين أنه يمتنع أن يكون موجودا بغيره، بل هو واجب الوجود بنفسه، فيمتنع أن يكون مرادا لغيره بل مراد لنفسه. وكما يمتنع أن يكون للعالم ربان قادران، يمتنع أن يكون للعالم إلهان معبودان، فإن كون أحدهما قادرا يناقض كون الآخر قادرا؛ لامتناع اجتماع القادرين على مقدور واحد، وامتناع كون أحدهما قادرا على الفعل حين يكون الآخر قادرا عليه، وامتناع ارتفاع قدرة أحدهما بقدرة الآخر مع التكافؤ.
    كذلك يمتنع أن يكون إلهان معبودان محبوبان لذاتهما؛ لأن كون أحدهما هو المعبود لذاته يناقضه أن يكون غيره معبودا لذاته، فإن ذلك يستلزم أن يكون بعض المحبة والعمل لهذا، وبعض ذلك لهذا، وذلك يناقض كون الحب والعمل كله لهذا، فإن الشركة نقص في الحب، فلا تكون حركة المتحرك بإرادته له، فلا يكون أحدهما معبودا معمولا له إلا إذا لم يكن الآخر كذلك،

    فإن العمل لهذا يناقض أن يكون له شريك فضلا عن أن يكون لغيره. وكل من أحب شيئين فإنما يحبهما لثالث غيرهما، وإلا فيمتنع أن يكون كل منهما محبوبا لذاته؛ إذ المحبوب لذاته هو الذي تريده النفس وتطلبه، وتطمئن إليه، بحيث لا يبقى لها مراد غيره، وهذا يناقض أن يكون له شريك.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #82
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (80)

    من صــ 313 الى صـ
    ـ 320


    والقول الثاني: قول من يقول: إن الله عوض الناس بالتكليف بالعبادات ليثيبهم على ذلك بعد الموت؛ فإن الإنعام بالثواب لا يحسن بدون التكليف؛ لما فيه من الإجلال، والتعظيم الذي لا يستحقه إلا مكلف، كما يقول ذلك القدرية من المسلمين وغيرهم وهؤلاء قد يجعلون الواجبات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية، وقد يقولون: إن الغاية المقصودة التي بها يحصل الثواب هو العمل، والعلم ذريعة إليه، حتى يقولوا مثل ذلك في معرفة الله تعالى، يقولون: إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العقلية العملية.
    ، والقول الثالث: قول من يقول: بل الله أمر بذلك لا لحكمة مطلوبة ولا بسبب، بل لمحض المشيئة، وهذا قول الجبرية المقابلين للقدرية كالجهم، والأشعري، وخلق كثير من المتكلمين والفقهاء، والصوفية، وغيرهم.
    القول الرابع: قول سلف الأمة وأئمتها، وهو أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها، وأن الله سبحانه محبوب مستحق للعبادة لذاته لا إله إلا هو، ولا يجوز أن يكون غيره محبوبا معبودا لذاته، وأنه سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، ويرضى عنهم، ويفرح بتوبة التائب، ويبغض الكافرين ويمقتهم، ويغضب عليهم ويذمهم، وأن في ذلك من الحكم البالغة، وكذلك من الأسباب ما يطول وصفه في هذا الخطاب كما قد بسط في موضعه؛ إذ المقصود هنا التنبيه على أن المسلمين في هذا أكمل من غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة. وإذا عرف مذاهب الناس في مقاصد العبادات فهم أيضا مختلفون في صفاتها، فمن الناس من يظن أن كل ما كان أشق على النفس وأشد إماتة لشهوتها فهو أفضل، وهذا مذهب كثير من المشركين الهند، وغيرهم، وكثير من أهل الكتاب اليهود، والنصارى، وكثير من مبتدعة المسلمين.
    والثاني: قول من يقول: إن أفضلها ما كان أدعى إلى تحصيل الواجبات العقلية
    . والثالث: قول من يقول: فضل بعضها على بعض لا علة له، بل يرجع إلى محض المشيئة.
    والرابع وهو الصواب: أن أفضلها ما كان لله أطوع، وللعبد أنفع. فما كان صاحبه أكثر انتفاعا به، وكان صاحبه أطوع لله به من غيره فهو أفضل، كما جاء في الحديث: «خير العمل أنفعه» وعلى كل قول فعبادات المسلمين أكمل من عبادات غيرهم، أما عن الأول فأولئك يقولون: كلما كانت الأعمال أشق على النفس فهي أفضل.

    ثم هؤلاء قد يفضلون الجوع، والسهر، والصمت، والخلوة، ونحو ذلك، كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين الهند، وغيرهم، ومن النصارى، ومبتدعة هذه الأمة، ولكن يقال لهم: الجهاد أعظم مشقة من هذا كله، فإنه بذل النفس، وتعريضها للموت، ففيه غاية الزهد المتضمن لترك الدنيا كلها، وفيه جهاد النفس في الباطن، وجهاد العدو في الظاهر، ومعلوم أن المسلمين أعظم جهادا من اليهود، والنصارى. فإن اليهود خالفوا موسى في الجهاد، وعصوه، والنصارى لا يجاهدون على دين، وأما على قول من يجعل العبادات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية، فلا ريب أن عبادات المسلمين - كصلاتهم وصيامهم وحجهم - أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية، من عبادات غيرهم التي ابتدعوها، فإنها متضمنة للظلم المنافي للعدل.
    وأما على قول نفاة التعليل، ورد ذلك إلى مشيئة الله: فيكون الأمر في ذلك راجعا إلى محض مشيئة الله، وتعبده للخلق، وحينئذ فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله الذي جاء به الرسل يكون متعبدا بما أمر الله به بخلاف من تكون عباداته قد ابتدعها أكابرهم من غير أن يأتيهم بها رسول الله من عند الله. وأما على القول الرابع: فإن علم أن الله أمر به يتضمن طاعة الله.
    وهذا إنما يكون في عبادات أمر الله بها، وهي عبادات المسلمين دون من ابتدع كثيرا من عباداتهم أكابرهم. وأما انتفاع العباد بها، فهذا يعرف بثمراتها ونتائجها وفوائدها، ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب. فليتدبر الإنسان عقول المسلمين وأخلاقهم، وعدلهم، يظهر له الفرق بينهم وبين غيرهم. ثم صفات عباداتهم فيها من الكمال، والاعتدال، كالطهارة، والاصطفاف، والركوع، والسجود، واستقبال بيت إبراهيم، الذي هو إمام الخلائق، والإمساك فيها عن الكلام، وما فيها من الخشوع، وتلاوة القرآن، واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره من الكتب لكل متدبر منصف، إلى أمثال ذلك من الأمور التي يظهر بها فضل عبادات المسلمين على عبادات غيرهم.
    وأما حكم المسلمين في الحدود والحقوق فلا يخفى على عاقل فضله. حتى إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذا لم يكن لهم شرع يحكم به الناس.
    وليس في الإنجيل حكم عام، بل عامته، وإنما فيه الأمر بالزهد، ومكارم الأخلاق، وهو مما يأمر به المسلمون أيضا. وقد ذكرنا في كون المسلمين معتدلين متوسطين بين اليهود والنصارى في التوحيد، والنبوات، والحلال، والحرام وغير ذلك، مما يبين أنهم أفضل من الأمتين، مع أن دلائل هذا كثيرة جدا، وإنما المقصود التنبيه على ذلك، وحينئذ ففضل الأمة يستلزم فضل متبوعها.

    (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ... (143)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    لما حولت [القبلة] ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}
    قال: أي إذا حولت؛ والمعنى أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم؛ فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء ولم يأمر الله قط أحدا أن يصلي إلى بيت المقدس لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة ولكن جعلناها أولا قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه فكان في شرعها هذه الحكمة.

    (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)
    [فصل: قياس النصارى كتبهم على القرآن قياس باطل]

    فحينئذ فقولهم: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول؟
    وذلك أنا أيضا إذا قلنا واحتججنا عليهم بمثل هذا القول إن الكتاب الذي بأيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟
    قال الحاكي عنهم: فقلت لهم هذا ما لا يجوز ولا يمكن لأحد أن يقوله ولا يمكن تغييره ولا تبديل حرف واحد منه.
    فقالوا سبحان الله العظيم! إذا كان الكتاب الذي لهم، الذي هو باللسان الواحد لا يمكن تبديله، ولا تغيير حرف واحد منه فكيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف نسخة وجاز عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة، وصارت في أيدي الناس يقرءونها باختلاف ألسنتهم على تشاسع بلدانهم.
    فمن الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا؟ ومن هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وغالبها حتى حكم على جميعها في أقطار الأرض وجمعها في أربع زوايا العالم حتى يغيرها؟
    وإن كان غير بعضها، وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأن كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن، فهذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله أبدا والجواب أن يقال:

    أولا: هذا الكلام منهم يدل على غاية جهلهم بما يقوله المسلمون في كتبهم، وتبين أنهم - لفرط جهلهم - يظنون أن المسلمين يقولون مقالة لا يخفى فسادها على من له أدنى عقل ومعرفة والمسلمون لا يشك أحد من الأمم أنهم أعظم الأمم عقولا وأفهاما وأتمهم معرفة وبيانا وأحسن قصدا وديانة وتحريا للصدق والعدل، وأنهم لم يحصل في النوع الإنساني أمة أكمل منهم ولا ناموس أكمل من الناموس الذي جاء به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وحذاق الفلاسفة معترفون لهم بذلك وأنه لم يقرع العالم ناموس أكمل من هذا الناموس.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #83
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (81)

    من صــ 321 الى صـ
    ـ 328

    وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ طُرُقِ الْمَعَارِفِ الْإِنْسَانِيَّ ةِ، وَأَنْوَاعِهَا فَإِنَّ النَّاسَ نَوْعَانِ:أَهل كِتَابٍ وَغَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، كَالْفَلَاسِفَة ِ وَالْهُنُودِ.
    وَالْعِلْمُ يُنَالُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَمَا يُحَصَّلُ بِهِمَا وَبِوَحْيِ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ.
    وَلِهَذَا قِيلَ: الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ الْبَصَرُ، وَالنَّظَرُ، وَالْخَبَرُ: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ وَالْوَحْيُ: الْحِسُّ وَالْقِيَاسُ، وَالنُّبُوَّةُ.

    فَأَهْلُ الْكِتَابِ امْتَازُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّة ِ.
    وَالْمُسْلِمُون َ حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّة ِ مَا كَانَ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَامْتَازُوا عَنْهُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ الْأُمَمُ وَمَا اتَّصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَقْلِيَّاتِ الْأُمَمِ هَذَّبُوهُ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَنَفَوْا عَنْهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَضَمُّوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
    وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِهِ أُمَّةً قَبْلَهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ مَعَ تَدَبُّرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ فَضْلِ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ.
    فَكَيْفَ يُظَنُّ مَعَ هَذَا بِالْمُسْلِمِين َ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ظَنَّهُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ الْجهال
    وَيُقَالُ: ثَانِيًا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
    أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ حُرِّفَتْ بَعْدَ انْتِشَارِهَا، وَكَثْرَةِ النُّسَخِ بِهَا، وَلَكِنَّ جَمِيعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُقُوعِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِيهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهَا.
    وَهَذَا مِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى جَمِيعُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَة ِ، فَإِنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامِهَا.
    وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى فِي فِرَقِهِمْ، أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِيمَا تُفَسِّرُ بِهِ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَة َ، وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى تُفَسِّرُ التَّوْرَاةَ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَة َ عَلَى الْإِنْجِيلِ بِمَا يُخَالِفُ مَعَانِيهَا وَأَنَّهَا بَدَّلَتْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فَصَارَ تَبْدِيلُ كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَة ِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى.
    وَأَمَّا تَغْيِيرُ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
    وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بُدِّلَ بَعْضُ أَلْفَاظِهَا، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
    الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قِيَاسَهُمْ كُتُبَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ كَمَا لا تسمع دعوى التبديل فيه، فكذلك في كتبهم - قياس باطل في معناه ولفظه.
    أما معناه: فكل ما أجمع المسلمون عليه من دينهم إجماعا ظاهرا معروفا عندهم فهو منقول عن الرسول نقلا متواترا، بل معلوما بالاضطرار من دينه، فإن الصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ووجوب العدل والصدق، وتحريم الشرك والفواحش والظلم، بل وتحريم الخمر والميسر والربا، وغير ذلك منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نقلا متواترا كنقل ألفاظ القرآن الدالة على ذلك.
    ومن هذا الباب عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -) وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، بل إلى الثقلين الإنس والجن وأنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم.
    فالمسلمون - عندهم منقولا عن نبيهم نقلا متواترا - ثلاثة أمور: لفظ القرآن ومعانيه التي أجمع المسلمون عليها والسنة المتواترة وهي الحكمة التي أنزلها الله عليه غير القرآن.
    كما قال - تعالى -:{كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة} [البقرة: 151].
    وقال - تعالى -:
    {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113].
    وقال - تعالى -:
    {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} [البقرة: 231].
    وقال - تعالى -:
    {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
    وبذلك دعا الخليل حيث قال لما بنى - هو وإسماعيل - الكعبة بأرض فاران المذكورة في الكتاب الأول قال - تعالى -:
    {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة: 127] (127) {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128] (128) {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 129].
    وقال - صلى الله عليه وسلم -: («ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»).
    فالمسلمون عندهم نقل متواتر عن نبيهم بألفاظ القرآن ومعانيه المتفق عليها وبالسنة المتواترة عنه مثل: كون الظهر والعصر والعشاء أربعا، وكون المغرب ثلاث ركعات، وكون الصبح ركعتين ومثل الجهر في العشائين والفجر والمخافتة في الظهر والعصر، ومثل كون الركعة فيها سجدتين، وكون الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعا، ورمي الجمرات كل واحدة سبع حصيات وأمثال ذلك.
    وأيضا فالمسلمون يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن المصاحف كما ثبت في الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا».
    يقول: ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب المتقدمة، فإنه لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا محفوظة في الصدور.
    والقرآن ما زال محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف، وعرض ذلك على صبيان المسلمين لعرفوا أنه قد غير المصحف، لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف، وأنكروا ذلك.
    وأهل الكتاب يقدر الإنسان منهم أن يكتب نسخا كثيرا من التوراة والإنجيل، ويغير بعضها، ويعرضها على كثير من علمائهم، ولا يعرفون ما غير منها إن لم يعرضوه على النسخ التي عندهم.
    ولهذا لما غير من نسخ التوراة راج ذلك على طوائف منهم ولم يعلموا التغيير.
    (وأيضا فالمسلمون لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين كما نقل العامة جليله، وليس هذا لأهل الكتاب).
    وأيضا فما ذكروه من أن كتبهم مكتوبة باثنين وسبعين لسانا هو أقرب إلى التغيير من الكتاب الواحد باللغة الواحدة; فإن هذا مما يحفظه الخلق الكثير فلا يقدر أحد أن يغيره.
    وأما الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا فإذا قدر أن بعض النسخ الموجودة ببعض الألسنة غير بعض ما فيها لم يعلم ذلك سائر أهل الألسن الباقية، بل ولم يعلم بذلك سائر أهل النسخ الأخرى فالتغيير فيها ممكن كما يمكن في نظائر ذلك.
    وما ادعوه من تعذر جمع جميع النسخ هو حجة عليهم فإن ذلك إذا كان متعذرا لم يمكن الجزم باتفاق جميع النسخ لواحد، حتى يشهد بأنها كلها متفقة لفظا ومعنى، بل إمكان التغيير فيها أيسر من إمكان الشهادة باتفاقها.
    ولهذا لا يمكن أحدا تغيير القرآن، مع كونه محفوظا في القلوب منقولا بالتواتر، مع أنا لا نشهد لجميع المصاحف بالاتفاق، بل قد يقع في بعض نسخ المصاحف ما هو غلط يعلمه حفاظ القرآن، ولا يحتاجون إلى اعتبار ذلك بمصحف آخر.
    وتلك الكتب لا يحفظ كلا منها قوم من أهل التواتر حتى تعتبر النسخ بها، ولكن لما كان الأنبياء - عليهم السلام - فيهم موجودين، كانوا هم المرجع للناس فيما يعتمدون عليه إذا غير بعض الناس شيئا من الكتب، فلما انقطعت النبوة فيهم أسرع فيهم التغيير.

    فلهذا بدل كثير من النصارى كثيرا من دين المسيح - عليه السلام - بعد رفعه بقليل من الزمان، وصاروا يبدلون شيئا بعد شيء، وتبقى فيهم طائفة متمسكة بدين الحق إلى أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم -.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #84
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (82)

    من صــ 329 الى صـ
    ـ 336

    وقد بقي من أولئك الذين على الدين الحق طائفة قليلة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي أنه قال:«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبيل مبعثه».
    وقد أدرك سلمان الفارسي - وكان قد تنصر بعد أن كان مجوسيا - طائفة ممن كانوا متبعين لدين المسيح - عليه السلام - واحدا بالموصل وآخر بنصيبين وآخر بعمورية.
    وكل منهم يخبره بأنه لم يبق على دين المسيح - عليه السلام - إلا قليل إلى أن قال له آخرهم: لم يبق عليه أحد، وأخبره أنه يبعث نبي بدين إبراهيم من جهة الحجاز فكان ذلك سبب هجرة سلمان إليه وإيمانه به.
    فالدين الذي اجتمع عليه - صلى الله عليه وسلم - المسلمون اجتماعا ظاهرا معلوما هو منقول عن نبيهم نقلا متواترا نقلوا القرآن ونقلوا سنته، وسنته مفسرة للقرآن مبينة له كما قال - تعالى - له:
    {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44].
    فبين ما أنزل الله لفظه ومعناه فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقا ظاهرا مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن فلم يكن - ولله الحمد - فيما اتفقت عليه الأمة شيء محرف مبدل من المعاني فكيف بألفاظ تلك المعاني.
    فإن نقلها والاتفاق عليها أظهر منه في الألفاظ فكان الدين الظاهر للمسلمين الذي اتفقوا عليه مما نقلوه عن نبيهم لفظه ومعناه فلم يكن فيه تحريف ولا تبديل لا للفظ ولا للمعنى بخلاف التوراة والإنجيل فإن من ألفاظها ما بدل معانيه وأحكامه اليهود والنصارى أو مجموعهما تبديلا ظاهرا مشهورا في عامتهم كما بدلت اليهود ما في الكتب المتقدمة من البشارة بالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وما في التوراة من الشرائع وأمره في بعض الأخبار.

    وكما بدلت النصارى كثيرا مما في التوراة والنبوات من الأخبار ومن الشرائع التي لم يغيرها المسيح، فإن ما نسخه الله على لسان المسيح من التوراة يجب اتباع المسيح فيه.

    وأما ما بدل بعد المسيح مثل استحلال لحم الخنزير وغيره مما حرمه الله ولم يبحه المسيح ومثل إسقاط الختان ومثل الصلاة إلى المشرق (وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان) واتخاذ الصور في الكنائس وتعظيم الصليب واتباع الرهبانية، فإن هذه كلها شرائع لم يشرعها نبي من الأنبياء لا المسيح، ولا غيره خالفوا بها شرع الله الذي بعث به الأنبياء من غير أن يشرعها الله على لسان نبي.
    الوجه الثالث أن القرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة - للموافق والمخالف - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إنه كلام الله لا كلامه وأنه مبلغ له عن الله وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلم به من السنة وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقا وعملا.
    فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلم أمته الكتاب والحكمة كما قال - تعالى -:
    {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164].
    وقال - تعالى -:
    {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231].
    وقال - تعالى -:
    {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113].
    وقال - تعالى -:
    {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
    وقال - تعالى -: عن الخليل وابنه إسماعيل.

    {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128] (128) {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة: 129].

    وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» فكان يعلم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه وهو الذي قال عنه:
    {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88].
    وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم فلا تصح صلاة إلا به وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه وفرق بينها وبين القرآن من وجوه.
    منها: أن القرآن معجز.
    ومنها: أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها.
    ومنها: أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العرب.
    وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها، فلا يجوز باتفاق المسلمين، بخلاف ما علمهم من الحكمة فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، ولا يقرأه الجنب كما دلت عليه سنته عند جماهير أمته، بخلاف ما ليس بقرآن.
    والقرآن تلقته الأمة منه حفظا في حياته، وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر وهو يقول إنه مبلغ له عن الله وهو كلام الله لا كلامه.
    وفي القرآن - ما يبين أنه كلام الله - نصوص كثيرة وكان الذين رأوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ونقلوا ما عاينوه من معجزاته وأفعاله وشريعته وما سمعوه من القرآن وحديثه ألوفا مؤلفة أكثر من مائة ألف رأوه وآمنوا به.
    وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى: فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا ولوقا ومرقس وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح، بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته.
    وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا.
    فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب وإن كان غالبها صحيحا.
    وما قاله - عليه السلام - فهو مبلغ له عن الله يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره كما قاله الرسول من السنة فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله.
    يقول الله - تعالى -: «من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب» ونحو ذلك ومنها ما يقوله هو ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله.
    وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به.
    وإذا كان الإنجيل يشبه السنة المنزلة فإنه يقع في بعض ألفاظها غلط كما يقع في كتب السيرة، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، ثم هذه الكتب قد اشتهرت واستفاضت بين المسلمين (فلا يمكن أحدا - بعد اشتهارها وكثرة النسخ بها - أن يبدلها كلها.

    لكن في بعض ألفاظها غلط وقع فيها قبل أن تشتهر، فإن المحدث - وإن كان عدلا - فقد يغلط) لكن ما تلقاه المسلمون بالقبول والتصديق والعمل من الأخبار فهو مما يجزم جمهور المسلمين بصدقه عن نبيهم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #85
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (83)

    من صــ 337 الى صـ
    ـ 344

    هذا مذهب السلف وعامة الطوائف كجمهور الطوائف الأربعة وجمهور أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم، لكن ظن بعض أهل الكلام أنه لا يجزم بصدقها لكون الواحد قد يغلط أو يكذب، وهذا الظن إنما يتوجه في الواحد الذي لم يعرف صدقه وضبطه أما إذا عرف صدقه وضبطه، إما بالمعجزات كالأنبياء وإما بتصديق النبي له فيما يقول وإما باتفاق الأمة المعصومة على صدقه واتفاقهم على العمل بخبره، أو اتفاقهم على قبول خبره وإقراره، وذكره من غير نكير، أو ظهور دلائل وشواهد وقرائن احتفت بخبره ونحو ذلك من الدلائل على صدق المخبر، فهذه يجب معها الحكم بصدقه وأنه لم يكذب ولم يغلط، وإن كان خبره لو تجرد عن تلك الدلائل أمكن كذبه أو غلطه كما أن الخبر المجرد لا يجزم بكذبه إلا بدليل يدل على ذلك إما قيام دليل عقلي قاطع أو سمعي قاطع على أنه بخلاف مخبره فيجزم ببطلان خبره وحينئذ فالمخبر إما كاذبا أو غالطا، وقد يعلم أحدهما بدليل.

    فالمسلمون عندهم من الأخبار عن نبيهم ما هو متواتر وما اتفقت الأمة المعصومة على تصديقه، وما قامت دلائل صدقه من غير هذه الجهة مثل: أن يخبر واحد أو اثنان أو ثلاثة بحضرة جمع كثير لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب بخبر يقولون إن أولئك عاينوه وشاهدوه فيقرونهم على هذا ولا يكذب به منهم أحد فيعلم بالعادة المطردة أنه لو كان كاذبا لامتنع اتفاق أهل التواتر على السكوت عن تكذيبه كما يمتنع اتفاقهم على تعمد الكذب.

    وإذا نقل الواحد والاثنان ما توجب العادة اشتهاره وظهوره ولم يظهر، ونقلوه مستخفين بنقله لم ينقلوه على رءوس الجمهور، علم أنهم كذبوا فيه.
    ودلائل صدق المخبر وكذبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها، ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة كتصديق الأمة المعصومة ودلالة العادات وغير ذلك وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور، فلو عدمت المصاحف من الأرض لم يقدح ذلك فيما حفظوه.
    بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عدمت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها إذ لا يحفظها - إن حفظها - إلا قليل لا يوثق بحفظهم فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها، وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه.
    ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين، ولا لهم كلام في نقلة العلم وتعديلهم وجرحهم ومعرفة أحوال نقلة العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ، بل قد علم أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذبوا المسيح.
    ثم كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد ولم تكن متواترة عنهم ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين.
    فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته وفيها ما هو غلط عليه، بلا شك، والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه ثم حدث به بعد سنين كثيرة، فإن الغلط في مثل هذا كثير ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا.
    وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح - عليه السلام -، بل شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا، بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود.
    (فبعض الناس يقولون: إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله: {ولكن شبه لهم} [النساء: 157] عن أولئك، ومن قال بالأول جعل الضمير في (شبه لهم) عن السامعين لخبر أولئك فإذا جاز أن يغلطوا في هذا، ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلونه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح، ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله الذي يجب اتباعه، سواء صلب أو لم يصلب، وما تواتر عنه فإنه يجب الإيمان به، سواء صلب أو لم يصلب.
    والحواريون مصدقون فيما ينقلونه عنه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر.

    وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب فمنهم من يقول المصلوب لم يكن المسيح، بل الشبه كما يقوله المسلمون ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح - عليه السلام - فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق،

    ولا الصيام الخمسين ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد والغطاس، وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين، مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح،، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم قالوا كانوا ثلاث مائة وثمانية عشر.
    واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب " القانون " بعضها منقول عن الأنبياء وبعضها منقول عن الحواريين وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع ويضعوا شرعا جديدا فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعا لم ينزل به كتاب ولا شرعه نبي.
    (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)

    [مسألة السعي بين الصفا والمروة]
    مسألة: (والسعي).

    يعني به بين الصفا والمروة.
    وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيه ; فروي عنه: أنه ركن لا يتم الحج والعمرة إلا به ; قال - في رواية الأثرم - فيمن انصرف، ولم يسع: يرجع فيسعى وإلا فلا حج له.
    وقال - في رواية ابن منصور - إذا بدأ بالصفا والمروة يرجع قبل البيت لا يجزئه.
    وقال - في رواية أبي طالب - في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن يسعى: فسدت عمرته وعليه مكانها، ولو طاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق أو يقصر فعليه دم، إنما العمرة الطواف والسعي، والحلاق.
    وروي عنه: أنه سنة، قال - في رواية أبي طالب -: فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة، أو تركه عامدا، فلا ينبغي له أن يتركه، وأرجو أن لا يكون عليه شيء.
    وقال - في رواية الميموني -: السعي بين الصفا والمروة تطوع، والحاج والقارن والمتمتع عند عطاء واحد إذا طافوا ولم يسعوا.
    وقال - في رواية حرب - فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة حتى أتى منزله لا شيء عليه.
    وقال القاضي في المجرد ... وغيره، هذا واجب يجبره دم، هذا هو الذي ذكره الشيخ في كتابه.
    فمن قال: إنه تطوع احتج بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]
    {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] فأخبر أنهما من شعائر الله، وهذا يقتضي أن الطواف بهما مشروع مسنون، دون زيادة على ذلك، إذ لو أراد زيادة لأمر بالطواف بهما كما قال: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198] ثم قال: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]، ورفع الجناح وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضت لهم في الطواف بهما - كما سيأتي إن شاء الله -: فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما. وكونهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك. فعلم أن الكلام خرج مخرج الندب إلى الطواف بهما، وإماطة الشبهة العارضة. فأما زيادة على ذلك: فلا. ثم قال تعالى: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] وإذا ندب الله إلى أمر وحسنه، ثم ختم ذلك بالترغيب في التطوع، كان دليلا على أنه تطوع، وإلا لم يكن بين فاتحة الآية وخاتمتها نسبة.
    وعن عطاء عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (أن لا يطوف بهما).
    وعن عطاء في قراءة ابن مسعود، أو في مصحف ابن مسعود، (أن لا يطوف بهما) رواهما أحمد في الناسخ والمنسوخ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #86
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (84)

    من صــ 345 الى صـ
    ـ 352

    وعن أنس قال: «كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى نزلت: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]» متفق عليه، لفظ مسلم، ولفظ البخاري: عن عاصم بن سليمان قال: " سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]، فذكر إلى " بهما ".
    فهذا أنس بن مالك: قد علم سبب نزول الآية، وقد كان يقول: " إنه تطوع " فعلم أنه فهم من الآية أنها خرجت مخرج الندب والترغيب في التطوع.
    وأما من قال: إنها واجبة - في الجملة - وهو الذي عليه جمهور أصحابنا، فإن الله قال: هما {من شعائر الله} [البقرة: 158] وكل ما كان من شعائر الله فلا بد من نسك واجب بهما كسائر الشعائر من عرفة ومزدلفة ومنى والبيت، فإن هذه الأمكنة جعلها الله يذكر فيها اسمه، ويتعبد فيها له، وينسك حتى صارت أعلاما، وفرض على الخلق قصدها، وإتيانها. فلا يجوز أن يجعل المكان شعيرة لله وعلما له، ويكون الخلق مخيرين بين قصده، والإعراض عنه ; لأن الإعراض عنه مخالف لتعظيمه، وتعظيم الشعائر واجب لقول الله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32] والتقوى واجبة على الخلق، وقد أمر الله بها، ووصى بها في غير موضع، وذم من لا يتقي الله، ومن استغنى عن تقواه توعده، وإذا كان الطواف بهما تعظيما لهما، وتعظيمهما من تقوى القلوب، والتقوى واجبة، كان الطواف بهما واجبا، وفي ترك الوقوف بهما ترك لتعظيمهما، كان ترك الحج بالكلية ترك لتعظيم الأماكن التي شرفها الله، وترك تعظيمها من فجور القلوب بمفهوم الآية.
    وأما قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فنفس تدل على أنه لم يقصد بذلك مجرد إباحة الوقوف، بحيث يستوي وجوده وعدمه، لأنهما جعلهما من شعائر الله، ثم قال: {فلا جناح عليه} [البقرة: 158] والحكم إذا تعقب الوصف بحرف الفاء، علم أنه علة، فيكون كونهما من شعائر الله موجبا لرفع الحرج، ثم أتبع ذلك بما يدل على الترغيب،
    وهو قوله: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] الآية. نعم هذه الصفة لا تستعمل إلا فيما يتوهم حظره كقوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة: 173] وقوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} [المائدة: 93] الآية، فإن المحرم للميتة موجود حال الاضطرار، والموجب للصلاة موجود حال السفر، كذلك هنا كانت هاتان الشعيرتان، قد انعقد لهما سبب من أمور الجاهلية، خيف أن يحرم التطوف بهما لذلك، وقد تقدم عن أنس أنهم كانوا يكرهون الطواف بهما حتى أنزل الله هذه الآية.
    وعن الزهري «عن عروة، قال: سألت عائشة، فقلت: " أرأيت قول الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158])، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا ابن أخي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله:
    {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية، قالت عائشة - رضي الله عنها -: وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر طواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله كنا نطوف بالصفا، وإن الله أنزل الطواف بالبيت، فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية.

    قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كلاهما ; في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت» " متفق عليه.

    وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: «قلت لعائشة - وأنا حديث السن - أرأيت قول الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول: كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]» متفق عليه، وفي لفظ لمسلم: «إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا، أهلوا لمناة في الجاهلية، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة ".»
    وفي لفظ له: «إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة».
    وقد روى الأزرقي عن ابن إسحاق أن عمرو بن لحي، نصب بين الصفا صنما يقال له: نهيك مجاود الريح، ونصب على المروة صنما يقال له: مطعم الطير، ونصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا، وهي التي كانت الأزد وغسان يحجونهما، ويعظمونهما فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من منى لم يحلقوا إلا عند مناة، وكانوا يهلون لها، ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة، لمكان الصنمين الذين عليهما: نهيك مجاود الريح، ومطعم الطير، فكان هذا الحي من الأنصار يهلون لمناة، قال: وكانت مناة للأوس والخزرج، وغسان من الأزد ومن كان بدينها من أهل يثرب، وأهل الشام، وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، وذكره بإسناده عن ابن السائب، قال: كانت صخرة لهذيل، وكانت بقديد.
    فقد تبين: أن الآية قصد بها رفع ما توهم الناس أن الصفا والمروة من جملة الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظمونها.
    أما الأنصار في الجاهلية: فكانوا يتركون الطواف بهما لأجل الصنم الذي كانوا يهلون له، ويحلون عنده مضاهاة بالصنمين الذين كانا على الصفا والمروة.
    وأما غيرهم فلكون أهل الجاهلية - غير الأنصار - كانوا يعظمونهما، ولم يجر لهما ذكر في القرآن. وهذا السبب يقتضي تعظيمهما وتشريفهما مخالفة للمشركين، وتعظيما لشعائر الله. فإن اليهود والنصارى لما أعرضوا عن تعظيم الكعبة قال الله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97]، وأوجب حجها على البيت، فإذا كانت الصفا والمروة مما أعرض عنه بعض المشركين وهو من شعائر الله، كان الأظهر إيجاب العبادة عنده كما وجبت العبادة عند البيت، ولذلك سن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة المشركين حيث كانوا يفيضون من المزدلفة، فأفاض من عرفات، وصارت الإفاضة من عرفات واجبة، ووقف إلى غروب الشمس فصار الوقوف بها واجبا. فقد رأينا كل مكان من الشعائر أعرض المشركون عن النسك فيه، أوجب الله النسك فيه.
    وأما قوله: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] فإن التطوع في الأصل مأخوذ من الطاعة وهو الاستجابة والانقياد، يقال: طوعت الشيء فتطوع أي سهلته فتسهل كما قال: {فطوعت له نفسه قتل أخيه} [المائدة: 30]، وتطوعت الخير إذا فعلته بغير تكلف وكراهية.
    ولما كانت مناسك الحج عبادة محضة، وانقيادا صرفا، وذلا للنفوس، وخروجا عن العز، والأمور المعتادة، وليس فيها حظ للنفوس، فربما قبحها الشيطان في عين الإنسان، ونهاه عنها، ولهذا قال: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] قال رجل من أهل العلم: هو طريق الحج، وقال بعد أن فرض: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] لعلمه أن من الناس من قد يكفر بهذه العبادة وإن لم يكفر بالصلاة والزكاة والصيام، فلا يرى حجه برا،
    ولا تركه إثما ثم الطواف بالصفا والمروة خصوصا فإنه مطاف بعيد وفيه عدو شديد وهو غير مألوف في غير الحج والعمرة، فربما كان الشيطان أشد تنفيرا عنهما، فقال سبحانه: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] فاستجاب لله وانقاد له، وفعل هذه العبادة طوعا، لا كرها، عبادة لله، وطاعة له ولرسوله. وهذا مبالغة في الترغيب فيهما ألا ترى أن الطاعة موافقة الأمر، وتطوع الخير خلاف تكرهه.

    فكل فاعل خير طاعة لله طوعا لا كرها، فهو متطوع خيرا، سواء كان واجبا، أو مستحبا، نعم ميز الواجب بأخص اسميه، فقيل: فرض، أو واجب وبقي الاسم العام في العرف غالبا على أدنى القسمين، كلغة الدابة والحيوان وغيرهما.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #87
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (85)

    من صــ 353 الى صـ
    ـ 360


    وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: طاف في عمرته، وفي حجته، والمسلمون معه بين الصفا والمروة، وقال:
    " «لتأخذوا عني مناسككم» "، والطواف بينهما من أكبر المناسك، وأكثرها عملا، وخرج ذلك منه مخرج الامتثال لأمر الله بالحج في قوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وفي قوله: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة: 196]، ومخرج التفسير والبيان لمعنى هذا الأمر، فكان فعله هذا على الوجوب، ولا يخرج عن ذلك إلا هيئات في المناسك وتتمات، وأما جنس تام من المناسك، ومشعر من المشاعر يقتطع عن هذه القاعدة، فلا يجوز أصلا، وبهذا احتج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
    قال عمرو بن دينار: " «سألنا ابن عمر عن رجل قدم بعمرة، فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة» " متفق عليه، وزاد البخاري: " «وسألنا جابر بن عبد الله، فقال: لا يقربنها حتى يطوف بالصفا والمروة» ".
    وأيضا: فما روى ابن عمر وعائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: " «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، وذكر الحديث» " متفق عليه. وهذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو للإيجاب لا سيما في العبادات المحضة، وفي ضمنه أشياء كلها واجب.
    وعن عائشة قالت: " «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل» " متفق عليه، فأمره بالحل بعد الطوافين، فعلم أنه لا يجوز التحلل قبل ذلك.
    وعن أبي موسى قال: " «أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأهللت» "، وفي لفظ: " «فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل» " متفق عليه. . .
    ثم من قال: هو واجب يجب بتركهما هدي، قال: قد دلت الأدلة على وجوبهما لكن لا يبلغ مبلغ الركن، لأن المناسك ; إما وقوف، أو طواف، والركن من جنس الوقوف نوع واحد، فكذلك الركن من جنس الطواف يجب أن يكون طوافا واحدا ; لأن أركان الحج لا يجوز أن تتكرر من جنس واحد كما لا يتكرر وجوبه بالشرع.
    ولأن الركن يجوز أن يكون مقصودا بإحرام، فإنه إذا وقف بعرفة، ثم مات فعل عنه سائر الحج، وتم حجه، وإذا خرج من مكة قبل طواف الزيارة رجع إليها محرما للطواف فقط. والسعي لا يقصد بإحرام، فهو كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار، ولأن نسبة الطواف بهما إلى الطواف بالبيت، كنسبة الوقوف بمزدلفة إلى وقوف عرفة، لأنه وقوف بعد وقوف، وطواف بعد طواف، ولأن الثاني لا يصح إلا تبعا للأول ; فإنه لا يجوز الطواف بهما إلا بعد الطواف بالبيت، ولا يصح الوقوف بمزدلفة إلا إذا أفاض من عرفات، وقد دل على ذلك قوله {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] وقوله: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] الآية، فإذا كان الوقوف المشروع بعد عرفة ليس بركن، فالطواف المشروع بعد طواف البيت أولى أن لا يكون ركنا ; لأن الأمر بذلك في القرآن أظهر ; وذلك لأن ما لا يفعل إلا تبعا لغيره، يكون ناقصا عن درجة ذلك المتبوع، والناقص عن الركن هو الواجب ; ولهذا كل ما يفعل بعد الوقوف بعرفة تبعا له فهو واجب، وطرد ذلك أركان الصلاة، فإن بعضها يجوز أن ينفرد عن بعض ;
    فإن القيام يشرع وحده في صلاة الجنازة، والركوع ابتداء في صلاة المسبوق، والسجود عند التلاوة والسهو، ولو عجز عن بعض أركان الصلاة أتى بما بعده، فعلم أنه ليس بعضها تبعا لبعض، وهنا إذا فاته الوقوف بعرفة لم يجز فعل ما بعده.
    ولأنه لو كان ركنا لشرع من جنسه ما ليس بركن كالوقوف من جنسه الوقوف بمزدلفة.
    ولأنه لو كان لتوقت أوله وآخره كالإحرام والطواف والوقوف، والسعي لا يتوقت.

    ومن قال: إنه ركن احتج على ذلك بما روت صفية بنت شيبة أخبرتني حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: " «نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن ميزره ليدور من شدة السعي، حتى أقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» "، وفي رواية: " «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبته من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» " رواه أحمد،ورواه أيضا عن صفية امرأة أخبرتها «أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة - يقول: كتب عليكم السعي فاسعوا» ".
    وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر به كما أمر بالطواف بالبيت في قرن واحد، وأمره على الوجوب كما تقدم، وما ثبت وجوبه: تعين فعله، ولم يجز أن يقام غيره مقامه إلا بدليل.
    وأيضا: فإنه نسك يختص بمكان، يفعل في الحج والعمرة، فكان ركنا كالطواف بالبيت، وذلك لأن تكرره في النسكين دليل على قوته.
    واختصاصه بمكان دليل على وجوب قصد ذلك الموضع، وقد قيل: نسك يتكرر في النسكين، فلم ينب عنه الدم كالطواف والإحرام.
    وأيضا: فإن الأصل في جميع الأفعال أن يكون ركنا، لكن ما يفعل بعد الوقوف لم يكن ركنا ; لأنه لو كان ركنا لفات الحج بفواته، والحاج إذا أدرك عرفة فقد أدرك الحج، والسعي لا يختص بوقت.
    وأيضا: فإن أفعال الحج على قسمين ; مؤقت وغير مؤقت، فالمؤقت إما أن يفوت بفوات وقته، أو يجبر بدم، لكون وقته إذا مضى لم يمكن فعله. وأما غير المؤقت: إذا كان واجبا فلا معنى لنيابة الدم عنه، لأنه يمكن فعله في جميع الأوقات، والطواف والسعي: ليسا بمؤقتين في الانتهاء فإلحاق أحدهما بالآخر أولى من إلحاقه بالمزدلفة ورمي الجمار ; لأن ذلك يفوت بخروج وقته، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين توابع الوقوف (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين؛ ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم. كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جو السماء.
    وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم. وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم. وتصرف القلوب عن اتباعهم وتقتضي متابعة الناس لهم فيها؛ هي من أعظم الظلم ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن إظهار غير العالم - وإن كان فيه نوع ضرر - فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل؛ فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو؛ ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة؛ لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين.
    فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم كلاهما ذنب عظيم؛ وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض إليهم؛ فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى مستحقه. وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أشد ضررا للأمة وضررا عليهم من إظهار غيرهم لذلك.
    ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي وفشله وتركه للجهاد ومعاونته للعدو: أكثر مما تستعظمه من غيره. وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع: أكثر مما تستعظم ذلك من غيره؛ بخلاف فسوق الجندي وظلمه وفاحشته؛ وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن. ومثل ذلك ولاة الأمور كل بحسبه من الوالي والقاضي؛ فإن تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة أو فعل ضد ذلك من العدوان عليهم: يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم.

    (والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب (166)

    وصف الذين آمنوا بأنهم أشد حبا لله من المشركين لأندادهم.
    وفي الآية " قولان ": قيل: يحبونهم كحب المؤمنين الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم لأوثانهم.
    وقيل: يحبونهم كما يحبون الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم وهذا هو الصواب؛ والأول قول متناقض وهو باطل فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين لله وتستلزم الإرادة والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل فيمتنع أن يكون الإنسان محبا لله ورسوله؛ مريدا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه.
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    من أحب غير الله ووالى غيره كره محب الله ووليه ومن أحب أحدا لغير الله كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه؛ فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة وذهابها عنه، فأي صداقة هذه ويحبون بقاء ذلك المحبوب ليستعملوه في أغراضهم وفيما يحبونه وكلاهما ضرر عليه. قال تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}. قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير الله، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.

    فالأعمال التي أراهم الله حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم مع بعض في الدنيا كانت لغير الله، ومنها الموالاة والصحبة والمحبة لغير الله. فالخير كله في أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #88
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (86)

    من صــ 361 الى صـ
    ـ 368


    فصل:
    ومما يحقق هذه الأمور أن المحب يجذب والمحبوب يجذب. فمن أحب شيئا جذبه إليه بحسب قوته ومن أحب صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته فإن المحب علته فاعلية والمحبوب علته غائية وكل منهما له تأثير في وجود المعلول والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته التي يتمثلها؛ فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها، لا أنها هي في نفسها قصد وفعل؛ فإن في المحبوب من المعنى المناسب ما يقتضي انجذاب المحب إليه كما ينجذب الإنسان إلى الطعام ليأكله وإلى امرأة ليباشرها وإلى صديقه ليعاشره وكما تنجذب قلوب المحبين لله ورسوله إلى الله ورسوله والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من الصفات التي يستحق لأجلها أن يحب ويعبد. بل لا يجوز أن يحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره لا لذاته والرب تعالى هو الذي يجب أن يحب لنفسه وهذا من معاني إلهيته و {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده وكل محبوب سواه إن لم يحب لأجله أو لما يحب لأجله فمحبته فاسدة. والله تعالى خلق في النفوس حب الغذاء وحب النساء لما في ذلك من حفظ الأبدان،

    وبقاء الإنسان؛ فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل. والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره.

    وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعا لمحبته فإن من تمام حبه حب ما يحبه وهو يحب الأنبياء والصالحين ويحب الأعمال الصالحة، فحبها لله هو من تمام حبه وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الله، فالمخلوق إذا أحب لله كان حبه جاذبا إلى حب الله وإذا تحاب الرجلان في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه؛ كان كل منهما جاذبا للآخر إلى حب الله كما قال تعالى: {حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتجالسين في وحقت محبتي للمتباذلين في وإن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله وهم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال يتباذلونها ولا أرحام يتواصلون بها إن لوجوههم لنورا وإنهم لعلى كراس من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس} فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته فازداد حبك لله.

    كما إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله والمرسلين وأصحابهم الصالحين وتصورتهم في قلبك فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم وبهم إذا كنت تحبهم لله فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله والمحب لله إذا أحب شخصا لله فإن الله هو محبوبه فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله.

    وهكذا إذا كان الحب لغير الله كما إذا أحب كل من الشخصين الآخر بصورة: كالمرأة مع الرجل فإن المحب يطلب المحبوب والمحبوب يطلب المحب بانجذاب المحبوب فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبا مجذوبا من الوجهين فيجب الاتصال ولو كان الحب من أحد الجانبين لكان المحب يجذب المحبوب والمحبوب يجذبه لكن المحبوب لا يقصد جذبه والمحب يقصد جذبه وينجذب وهذا " سبب التأثير في المحبوب " إما تمثل يحصل في قلبه فينجذب وإما أن ينجذب بلا محبة: كما يأكل الرجل الطعام ويلبس الثوب ويسكن الدار ونحو ذلك من المحبوبات التي لا إرادة لها.
    (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)
    وسئل:
    عن الاجتهاد؛ والاستدلال: والتقليد؛ والاتباع؟

    فأجاب: أما التقليد الباطل المذموم فهو: قبول قول الغير بلا حجة قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} في البقرة وفي المائدة وفي لقمان {أولو كان الشيطان يدعوهم} وفي الزخرف: {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} وفي الصافات: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} {فهم على آثارهم يهرعون} وقال: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} الآيات.
    وقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} وقال: {فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار} وفي الآية الأخرى: {من عذاب الله من شيء} وقال: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}.
    فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع الهوى إما للعادة والنسب كاتباع الآباء وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه وهذا يكون لمن لم يستقل بنفسه وهو الصغير: فإن دينه دين أمه فإن فقدت فدين ملكه وأبيه: فإن فقد كاللقيط فدين المتولي عليه وهو أهل البلد الذي هو فيه فأما إذا بلغ وأعرب لسانه فإما شاكرا وإما كفورا. وقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزل الله على رسله؛ فإنهم حجة الله التي أعذر بها إلى خلقه.
    والكلام في التقليد في شيئين: في كونه حقا؛ أو باطلا من جهة الدلالة. وفي كونه مشروعا؛ أو غير مشروع من جهة الحكم.
    أما الأول فإن التقليد المذكور لا يفيد علما؟ فإن المقلد يجوز أن يكون مقلده مصيبا: ويجوز أن يكون مخطئا وهو لا يعلم أمصيب هو أم مخطئ؟ فلا تحصل له ثقة ولا طمأنينة فإن علم أن مقلده مصيب كتقليد الرسول أو أهل الإجماع فقد قلده بحجة وهو العلم بأنه عالم وليس هو التقليد المذكور وهذا التقليد واجب؛ للعلم بأن الرسول معصوم؛ وأهل الإجماع معصومون.
    وأما تقليد العالم حيث يجوز فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن. كخبر الواحد والقياس؛ لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد كما يغلب على ظنه صدق المخبر لكن بين اتباع الراوي والرأي فرق يذكر إن شاء الله في موضع آخر. فإن اتباع الراوي واجب لأنه انفرد بعلم ما أخبر به: بخلاف الرأي فإنه يمكن أن يعلم من حيث علم ولأن غلط الرواية بعيد؛ فإن ضبطها سهل؛ ولهذا نقل عن النساء والعامة بخلاف غلط الرأي فإنه كثير؛ لدقة طرقه وكثرتها وهذا هو العرف لمن يجوز قبول الخبر مع إمكان مراجعة المخبر عنه ولا يجوز قبول المعنى مع إمكان معرفة الدليل.
    وأما العرف الأول فمتفق عليه بين أهل العلم؛ ولهذا يوجبون اتباع الخبر ولا يوجب أحد تقليد العالم على من أمكنه الاستدلال وإنما يختلفون في جوازه؛ لأنه يمكنه أن يعلم من حيث علم فهذه جملة.
    وأما تفصيلها فنقول: الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة: أصولها وفروعها على كل أحد. ومنهم من يحرم الاستدلال في الدقيق على كل أحد وهذا في الأصول والفروع وخيار الأمور أوساطها.
    (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    بين الله السمع عن الكفار في غير موضع كقوله: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} وقوله: {ولا يسمع الصم الدعاء} وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس الحركة وإيجاب علم القلب حركة القلب فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه فحيث انتفى موجب ذلك دل على انتفاء مبدئه؛ ولهذا قال تعالى:
    {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله}. ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة أي يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان لا يسمعون ما فيها - من تأليف الحروف المتضمنة للمعاني - السمع الذي لا بد أن يكون بالقلب مع الجسم؛ فقال تعالى: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يقول: هم يستجيبون {لقوم آخرين} وأولئك {لم يأتوك} وأولئك {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} يقولون لهؤلاء الذين أتوك: {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}.
    (ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)
    وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها}.

    وفي " سنن ابن ماجه " وغيره: {الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر}. وكذلك قال للرسل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} وقال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم}


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #89
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (87)

    من صــ 369 الى صـ
    ـ 376

    وقال الخليل: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} قال الله تعالى: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}. فالخليل إنما دعا بالطيبات للمؤمنين خاصة والله إنما أباح بهيمة الأنعام لمن حرم ما حرمه الله من الصيد وهو محرم والمؤمنون أمرهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروه. ولهذا ميز سبحانه وتعالى بين خطاب الناس مطلقا وخطاب المؤمنين فقال:
    {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}. فإنما أذن للناس أن يأكلوا مما في الأرض بشرطين: أن يكون طيبا وأن يكون حلالا.
    ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله}. فأذن للمؤمنين في الأكل من الطيبات ولم يشترط الحل، وأخبر أنه لم يحرم عليهم إلا ما ذكره؛ فما سواه لم يكن محرما على المؤمنين ومع هذا فلم يكن أحله بخطابه؛ بل كان عفوا كما في الحديث عن سلمان موقوفا ومرفوعا: {الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفي عنه}.
    وفي حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها}. وكذلك قوله تعالى {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة}. نفى التحريم عن غير المذكور فيكون الباقي مسكوتا عن تحريمه عفوا والتحليل إنما يكون بخطاب؛ ولهذا قال في سورة المائدة التي أنزلت بعد هذا: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين}. إلى قوله: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم}.
    ففي ذلك اليوم أحل لهم الطيبات وقبل هذا لم يكن محرما عليهم إلا ما استثناه. وقد {حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير} ولم يكن هذا نسخا للكتاب؛ لأن الكتاب لم يحل ذلك ولكن سكت عن تحريمه فكان تحريمه ابتداء شرع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي من طرق من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وأبي هريرة وغيرهم: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن؛ فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه}.
    وفي لفظ: {ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر. ألا وإني حرمت كل ذي ناب من السباع}. فبين أنه أنزل عليه وحي آخر وهو الحكمة غير الكتاب. وأن الله حرم عليه في هذا الوحي ما أخبر بتحريمه ولم يكن ذلك نسخا للكتاب؛ فإن الكتاب لم يحل هذه قط. إنما أحل الطيبات وهذه ليست من الطيبات وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}.
    فلم تدخل هذه الآية في العموم؛ لكنه لم يكن حرمها؛ فكانت معفوا عن تحريمها؛ لا مأذونا في أكلها. وأما " الكفار " فلم يأذن الله لهم في أكل شيء ولا أحل لهم شيئا ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه؛ بل قال: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}. فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالا؛ وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمن به؛ فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا.
    ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكا شرعيا؛ لأن الملك الشرعي هو القدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم والشارع لم يبح لهم تصرفا في الأموال إلا بشرط الإيمان؛ فكانت أموالهم على الإباحة. فإذا قهر طائفة منهم طائفة قهرا يستحلونه في دينهم وأخذوها منهم؛ صار هؤلاء فيها كما كان أولئك.

    والمسلمون إذا استولوا عليها، فغنموها ملكوها شرعا لأن الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم. ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض بالقهر الذي يستحلونه في دينهم ويجوز أن يشتري من بعضهم ما سباه من غيره؛ لأن هذا بمنزلة استيلائه على المباحات. ولهذا سمى الله ما عاد من أموالهم إلى المسلمين " فيئا "؛ لأن الله أفاءه إلى مستحقه أي: رده إلى المؤمنين به الذين يعبدونه ويستعينون برزقه على عبادته؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته.

    وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصدا للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه؛ فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر. فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر}. وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته} رواه أحمد وابن خزيمة في " صحيحه " وغيرهما. فأخبر أن الله يحب إتيان رخصه كما يكره فعل معصيته.
    وبعض الفقهاء يرويه: {كما يحب أن تؤتى عزائمه}. وليس هذا لفظ الحديث؛ وذلك لأن الرخص إنما أباحها الله لحاجة العباد إليها والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛ فهو يحب الأخذ بها لأن الكريم يحب قبول إحسانه وفضله؛ كما قال في حديث: {القصر صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته}. ولأنه بها تتم عبادته وطاعته.

    (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    والذين قالوا لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن " الباغي " هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله و " العادي " هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق. قالوا فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى وقالوا إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه. وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد.
    وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر. قالوا: ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية. وهذه حجج ضعيفة. أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية:
    الأنعام والنحل وفي المدنية: ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل والضرورة لا تختص بسفر ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصا بقطع الطريق والخروج على الإمام ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين؛ بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم فإنه قد يكون بلا سفر وقد يكون السفر المحرم بدونه.
    وأيضا فقوله {غير باغ} حال من {اضطر} فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال: {فلا إثم عليه} ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله ولا يتعدى. والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان. فالبغي ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم قال تعالى:
    {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال تعالى {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد؛ لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود كما قال تعالى: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} والإسراف مجاوزة الحد المباح وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم.
    (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176)
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ " نوعان ": نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق؛ فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل والألفاظ الشرعية لها حرمة. ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر ونطيعه في كل ما أوجب وأمر ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان وقد قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره.
    ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا بل يكون في قوله نوع من الصواب وقد يكون هذا مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه وقد يكون الصواب في قول ثالث.
    وكثير من الكتب المصنفة في " أصول علوم الدين " وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في " المسألة العظيمة " كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة. والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب؛ بل ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو مما نهيت الأمة عنه كما في قوله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
    وقد قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} وقال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}.

    وقد {خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا: أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه}. ومما أمر الناس به أن يعملوا بمحكم القرآن ويؤمنوا بمتشابهه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #90
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (88)

    من صــ 377 الى صـ
    ـ 384

    (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ... (177)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    وكذلك لفظ " البر " يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق وكذلك لفظ " التقوى " وكذلك " الدين أو دين الإسلام " وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم} الآية وقد فسر البر بالإيمان وفسر بالتقوى وفسر بالعمل الذي يقرب إلى الله والجميع حق وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر البر بالإيمان. قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقري والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: {جاء رجل إلى أبي ذر فسأله عن الإيمان فقرأ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية؛ فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فقرأ عليه الذي قرأت عليك فقال له الذي قلت لي.

    فلما أبى أن يرضى قال له: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها}. وقال: حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد {أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ عليه: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية} وروي بإسناده عن عكرمة قال: سئل الحسن بن علي بن أبي طالب مقبله من الشام عن الإيمان فقرأ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}

    وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه ورجل عصى الله فلم يطعه فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة وصار العاصي إلى الله فأدخله النار هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا. قال فذكرت ذلك لعطاء فقال: سلهم الإيمان طيب أو خبيث؟ فإن الله قال: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} فسألتهم فلم يجيبوني فقال بعضهم: إن الإيمان يبطن ليس معه عمل فذكرت ذلك لعطاء فقال:
    سبحان الله أما يقرءون الآية التي في البقرة: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}؟. قال: ثم وصف الله على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} - إلى قوله - {وأولئك هم المتقون} فقال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم.
    (فصل في حديث جبريل: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله وتؤمن بالبعث» لماذا قال: الإسلام هذه الخمس؟)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس؛ فلماذا قال: الإسلام هذه الخمس وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيام العبد بها يتم إسلامه وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده.
    و " التحقيق " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان. فيجب على كل من كان قادرا عليه ليعبد الله بها مخلصا له الدين. وهذه هي الخمس وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب لمصالح فلا يعم وجوبها جميع الناس؛ بل إما أن يكون فرضا على الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا؛ وإقراء وتحديث وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب له وعليه وقد يسقط بإسقاطه. وإذا حصلت المصلحة أو الإبراء إما بإبرائه وإما بحصول المصلحة فحقوق العباد مثل قضاء الديون ورد الغصوب والعواري والودائع والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض؛ إنما هي حقوق الآدميين وإذا أبرئوا منها سقطت.
    وتجب على شخص دون شخص في حال دون حال لم تجب عبادة محضة لله على كل عبد قادر؛ ولهذا يشترك فيها المسلمون واليهود والنصارى بخلاف الخمسة فإنها من خصائص المسلمين. وكذلك ما يجب من صلة الأرحام وحقوق الزوجة والأولاد والجيران والشركاء والفقراء.
    وما يجب من أداء الشهادة والفتيا والقضاء والإمارة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد؛ كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض لجلب منافع ودفع مضار لو حصلت بدون فعل الإنسان لم تجب؛ فما كان مشتركا فهو واجب على الكفاية وما كان مختصا فإنما يجب على زيد دون عمرو لا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحد قادر سوى الخمس؛ فإن زوجة زيد وأقاربه ليست زوجة عمرو وأقاربه فليس الواجب على هذا مثل الواجب على هذا بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقا ماليا فإنها واجبة لله؛ والأصناف الثمانية مصارفها؛ ولهذا وجبت فيها النية ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه ولم تطلب من الكفار.
    وحقوق العباد لا يشترط لها النية ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته ويطالب بها الكفار وما يجب حقا لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد وفيها شوب العقوبات فإن الواجب لله " ثلاثة أنواع ": عبادة محضة كالصلوات وعقوبات محضة كالحدود وما يشبهها كالكفارات. وكذلك كفارات الحج وما يجب بالنذر فإن ذلك يجب بسبب فعل من العبد وهو واجب في ذمته.
    وأما " الزكاة " فإنها تجب حقا لله في ماله. ولهذا يقال: ليس في المال حق سوى الزكاة أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال كما تجب النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم ويجب حمل العاقلة ويجب قضاء الديون ويجب الإعطاء في النائبة ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضا على الكفاية؛ إلى غير ذلك من الواجبات المالية. لكن بسبب عارض والمال شرط وجوبها كالاستطاعة في الحج فإن البدن سبب الوجوب والاستطاعة شرط والمال في الزكاة هو السبب والوجوب معه؛ حتى لو لم يكن في بلده من يستحقها حملها إلى بلدة أخرى وهي حق وجب لله تعالى. ولهذا قال: من قال من الفقهاء: إن التكليف شرط فيها فلا تجب على الصغير والمجنون.
    وأما عامة الصحابة والجمهور كمالك والشافعي وأحمد فأوجبوها في مال الصغير والمجنون لأن مالهما من جنس مال غيرهما ووليهما يقوم مقامهما بخلاف بدنهما.
    فإنه إنما يتصرف بعقلهما؛ وعقلهما ناقص. وصار هذا كما يجب العشر في أرضهما مع أنه إنما يستحقه الثمانية. وكذلك إيجاب الكفارة في مالهما. والصلاة والصيام إنما تسقط لعجز العقل عن الإيجاب لا سيما إذا انضم إلى عجز البدن كالصغير. وهذا المعنى منتف في المال فإن الولي قام مقامهما في الفهم كما يقوم مقامهما في جميع ما يجب في المال وأما بدنهما فلا يجب عليهما فيه شيء.
    (فصل جامع في الآية الكريمة)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    وهذه الآية عظيمة جليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الإيمان فنزلت وفي الترمذي عن فاطمة بنت قيس {عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية} "
    وقد دلت على أمور:
    أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون وعامة هذه الأمور فعل مأمور به.

    والثاني: أنه أخبر أن هذه الأمور هي البر وأهلها هم الصادقون يعني في قوله: (آمنا) وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها فعلم أن المأمور به أدخل في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه.

    وبهذه الأسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} {وإن الفجار لفي جحيم} وقال: {أم نجعل المتقين كالفجار} {إن المتقين في جنات ونهر} وقال: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها؛ لأنه أخبر أن أهلها هم الذين صدقوا في قولهم: وهم المتقون والصدق واجب والإيمان واجب إيجاب حقوق سوى الزكاة وقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا} وقوله لبني إسرائيل: {لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا}. وقوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} في " سبحان " " والروم " فإتيان ذي القربى حقه صلة الرحم والمسكين إطعام الجائع وابن السبيل قرى الضيف وفي الرقاب فكاك العاني واليتيم نوع من إطعام الفقير. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم " {عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني} "
    وفي الحديث الذي أفتى به أحمد: " {لو صدق السائل ما أفلح من رده} ".
    وأيضا فالرسول مثل نوح وهود وصالح وشعيب فاتحة دعواهم في هود: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وفي الشعراء:{ألا تتقون} {فاتقوا الله وأطيعون} وقال تعالى: {ولكن البر من اتقى} وقال تعالى: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} وقال تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} وقال: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين}.
    فقد بين أن الوفاء بالعهود من التقوى التي يحبها الله والوفاء بالعهود هو جملة المأمور به فإن الواجب إما بالشرع أو بالشرط وكل ذلك فعل مأمور به. وذلك وفاء بعهد الله وعهد العبيد؛ وذلك أن التقوى إما تقوى الله:

    وإما تقوى عذابه كما قال: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} فالتقوى اتقاء المحذور بفعل المأمور به وبترك المنهي عنه وهو بالأول أكثر وإنما سمي ذلك تقوى لأن ترك المأمور به وفعل المنهي عنه سبب الأمن من ذم الله وسخط الله وعذاب الله فالباعث عليه خوف الإثم بخلاف ما فيه منفعة وليس في تركه مضرة فإن هذا هو المستحب الذي له أن يفعله وله أن لا يفعله فذكر ذلك باسم التقوى ليبين وجوب ذلك وأن صاحبه متعرض للعذاب بترك التقوى. ونقول ثانيا: إنه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهي أن قيل ذلك كما في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى}



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #91
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (89)

    من صــ 385 الى صـ
    ـ 392

    بفعل المأمور به كما ذكر معها البر وكما في قول نوح: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وذلك لأن هذه التقوى مستلزمة لفعل المأمور به. ونقول
    ثالثا: إن أكثر بني آدم قد يفعل بعض المأمور به ولا يترك المنهي عنه إلا الصديقون كما قال سهل؛ لأن المأمور به له مقتضى في النفس وأما ترك المنهي عنه إلى خلاف الهوى ومجاهدة النفس فهو أصعب وأشق فقل أهله ولا يمكن أحدا أن يفعله إلا مع فعل المأمور به لا تتصور تقوى وهي فعل ترك وقط؛ فإن من ترك الشرك واتباع الهوى المضل واتباع الشهوات المحرمات فلا بد أن يفعل من المأمور به أمورا كثيرة تصده عن ذلك فتقواهم تحفظ لهم حسناتهم التي أمروا بها وتمنعهم من السيئات التي تضرهم بخلاف من فعل ما أمر به وما نهي عنه مثلا؛ فإن وجود المنهي عنه يفسد عليه من المأمور به ما يفسد فلا يسلم له؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى كما قال تعالى: {والعاقبة للتقوى} {والعاقبة للمتقين} {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}.
    وذلك لأن المتقين بمنزلة من أكل الطعام النافع واتقى الأطعمة المؤذية فصح جسمه وكانت عاقبته سليمة. وغير المتقي بمنزلة من خلط من الأطعمة؛ فإنه وإن اغتذى بها لكن تلك التخاليط قد تورثه أمراضا إما مؤذية؛ وإما مهلكة. ومع هذا فلا يقول عاقل إن حاجته وانتفاعه بترك المضر من الأغذية أكثر من حاجته وانتفاعه بالأغذية النافعة بل حاجته وانتفاعه بالأغذية التي تناولها أعظم من انتفاعه بما تركه منها بحيث لو لم يتناول غذاء قط لهلك قطعا وأما إذا تناول النافع والضار فقد يرجى له السلامة؛ وقد يخاف عليه العطب وإذا تناول النافع دون الضار حصلت له الصحة والسلامة. فالأول نظير من ترك المأمور به
    والثاني نظير من فعل المأمور به والمنهي عنه وهو المخلط الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. والثالث نظير المتقي الذي فعل ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فعظم أمر التقوى لتضمنها السلامة مع الكرامة لا لأجل السلامة فقط؛ فإنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار فمن سلم من النار دخل الجنة ومن لم ينعم عذب فليس في الآدميين من يسلم من العذاب والنعيم جميعا. فتدبر هذا فكل خصلة قد أمر الله بها أو أثنى عليها ففيها فعل المأمور به ولا بد: تضمنا أو استلزاما وحمدها لنيل الخير عن الشر والثواب عن العقاب.
    (فصل: في اليتيم وتعظيم أمره)
    وقال - قدس الله روحه -:
    فصل:

    " اليتيم " في الآدميين من فقد أباه؛ لأن أباه هو الذي يهذبه؛ ويرزقه؛ وينصره: بموجب الطبع المخلوق؛ ولهذا كان تابعا في الدين لوالده؛ وكان نفقته عليه وحضانته عليه والإنفاق هو الرزق. و " الحضانة " هي النصر لأنها الإيواء ودفع الأذى. فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه؛ لأن الإنسان ظلوم جهول والمظلوم عاجز ضعيف فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضى ومن جهة ضعف المانع ويتولد عنه فسادان: ضرر اليتيم؛ الذي لا دافع عنه ولا يحسن إليه وفجور الآدمي الذي لا وازع له. فلهذا أعظم الله أمر اليتامى في كتابه في آيات كثيرة مثل قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} - إلى قوله - {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين}

    وقوله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} وقوله: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} - إلى قوله - {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا} وقوله:

    {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} - إلى قوله - {وبذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن} - إلى قوله - {وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} وقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} وقوله: في الأنعام: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} وقوله:
    {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا} وقوله: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} وقوله: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة} وقوله: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {فذلك الذي يدع اليتيم} {ولا يحض على طعام المسكين}.

    (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178)
    قال أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى -:

    في قوله تعالى {كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية وفيها قولان:
    أحدهما: أن القصاص هو القود وهو أخذ الدية بدل القتل كما جاء عن ابن عباس أنه كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فجعل الله في هذه الأمة الدية فقال: {فمن عفي له من أخيه شيء} والعفو هو أن يقبل الدية في العمد {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كان على بني إسرائيل والمراد على هذا القول أن يقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. قال قتادة: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وكان الحي إذا كان فيهم عدد وعدة فقتل عبدهم عبد قوم آخرين قالوا: لن يقتل به إلا حر تعززا على غيرهم وإن قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين قالوا لن يقتل بها إلا رجلا فنزلت هذه الآية وهذا قول أكثر الفقهاء وقد ذكر ذلك الشافعي وغيره.
    ويحتج بها طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد على أن الحر لا يقتل بالعبد لقوله: {والعبد بالعبد} فينقض ذلك عليه بالمرأة فإنه قال: {والأنثى بالأنثى} وطائفة من المفسرين لم يذكروا إلا هذا القول.
    " القول الثاني " أن القصاص في القتلى يكون بين الطائفتين المقتتلتين قتال عصبية وجاهلية فيقتل من هؤلاء ومن هؤلاء أحرار وعبيد ونساء فأمر الله تعالى بالعدل بين الطائفتين بأن يقاص دية حر بدية حر ودية امرأة بدية امرأة وعبد بعبد فإن فضل لإحدى الطائفتين شيء بعد المقاصة فلتتبع الأخرى بمعروف ولتؤد الأخرى إليها بإحسان وهذا قول الشعبي وغيره وقد ذكره محمد بن جرير الطبري وغيره وعلى هذا القول فإنه إذا جعل ظاهر الآية لزمته إشكالات؛ لكن المعنى الثاني هو مدلول الآية ومقتضاه ولا إشكال عليه؛ بخلاف القول الأول يستفاد من دلالة الآية كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى وما ذكرناه يظهر من وجوه.
    أحدها أنه قال: {كتب عليكم القصاص في القتلى} و " القصاص " مصدر قاصه يقاصه مقاصة وقصاصا ومنه مقاصة الدينين أحدهما بالآخر والقصاص في القتلى إنما يكون إذا كان الجميع قتلى كما ذكر الشعبي فيقاص هؤلاء القتلى بهؤلاء القتلى أما إذا قتل رجل رجلا فالمقتول ميت فهنا المقتول لا مقاصة فيه ولكن القصاص أن يمكن من قتل القاتل لا غيره وفي اعتبار المكافآت فيه قولان للفقهاء قيل: تعتبر المكافآت فلا يقتل مسلم بذمي ولا حر بعبد وهو قول الأكثرين مالك والشافعي وأحمد وقيل لا تعتبر المكافآت كقول أبي حنيفة والمكافآت لا تسمى قصاصا.
    وأيضا فإنه قال: {كتب عليكم القصاص} وإن أريد بالقصاص المكافآت فتلك لم تكتب وإن أريد به استيفاء القود فذلك مباح للولي إن شاء اقتص وإن شاء لم يقتص فلم يكتب عليه الاقتصاص وقد أورد هذا السؤال بعضهم وقال: هو مكتوب على القاتل أن يمكن من نفسه فيقال له: هو تعالى قال:
    {كتب عليكم القصاص في القتلى} وليس هذا خطابا للقاتل وحده بل هو خطاب لأولياء المقتول بدليل قوله تعالى {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} ثم لا يقال للقاتل: كتب عليك القصاص في المقتول فإن المقتول لا قصاص فيه.
    و " أيضا " فنفس انقياد القاتل للولي ليس هو قصاصا؛ بل الولي له أن يقتص وله أن لا يقتص وإنما سمي هذا قودا لأن الولي يقوده وهو بمنزلة تسليم السلعة إلى المشتري ثم قال تعالى: {الحر بالحر} فكيف يقال مثل هذا قصده القاتل؛ بل هذا خطاب للأمة بالمقاصة والمعادلة في القتل.
    {والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: كتاب الله القصاص لما كسرت الربيع سن جارية وامتنعوا من أخذ الأرش فقال أنس بن النضر: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أنس كتاب الله القصاص فرضي القوم بالأرش فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} كقوله تعالى:

    {والجروح قصاص} يعني " كتاب الله " أن يؤخذ العضو بنظيره فهذا قصاص لأنه مساواة ولهذا كانت المكافآت في الأعضاء والجروح معتبرة باتفاق العلماء وإن قيل القصاص هو أن يقتل قاتله لا غيره فهو خلاف الاعتداء قيل: نعم وهذا قصاص في الأحياء لا في القتلى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #92
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (90)

    من صــ 393 الى صـ
    ـ 400



    (الثاني أنه قال: {في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} ومعلوم باتفاق المسلمين أن العبد يقتل بالعبد وبالحر والأنثى تقتل بالأنثى وبالذكر والحر يقتل بالحر وبالأنثى أيضا عند عامة العلماء وقيل:
    يشترط أن تؤدى تمام ديته وإذا كان كذلك فقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} إنما يدل على مقاصة الحر بالحر ومعادلته به ومقابلته به وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى وهذا إنما يكون إذا كانوا مقتولين فيقابل كل واحد بالآخر وينظر أيتعادلان أم يفضل لأحدهما على الآخر فضل أما في القتلى فلا يختص هذا بهذا باتفاق المسلمين.
    (الثالث أنه قال: {فمن عفي له من أخيه شيء} لفظ (عفي)هنا قد استعمل متعديا؛ فإنه قال: (عفي) (شيء) ولم يقل: (عفا) (شيئا) وهذا إنما يستعمل في الفعل كما قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} وأما العفو عن القتل فذاك يقال فيه عفوت عن القاتل فولي المقتول بين خيرتين: بين أن يعفو عن القتل ويأخذ الدية فلم يعف له شيء؛ بل هو عفا عن القتل وإذا عفا فإما أن يستحق الدية بنفسه أو بغير رضا القاتل على قولين. وقد قال بعضهم: {من أخيه} أي من دم أخيه أي ترك له القتل ورضي بالدية؛ والمراد القاتل يعني أن القاتل عفي له من دم أخيه المقتول أي ترك له القتل فيكون التقدير أن الولي عفا للقاتل من دم المقتول شيئا وهذا كلام لا يعرف لا يقال: عفوت لك شيئا ولا يقال: عفوت من دم القاتل وإنما الذي يقال: إنه عفا عن القاتل فأين هذا من هذا؟.
    وأما على القول الأول فالمتقاصان إذا تعادا القتلى فمن عفي له أي فضل له من مقاصة أخيه مقاصة أخرى أي هذا الذي فضل له فضل كما يقال: أبقي له من جهة أخيه بقية {فاتباع بالمعروف} فهذا المستحق للفضل يتبع المقاص الآخر بالمعروف وذلك يؤدي إلى هذا بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} أي من أن كل طائفة تؤدي قتلى الأخرى فإن في هذا تثقيلا عظيما له {ولكم في القصاص حياة} فإنهم إذا تعادوا القتلى وتقاصوا وتعادلوا لم يبق واحدة تطلب الأخرى بشيء فحيي هؤلاء وحيي هؤلاء بخلاف ما إذا لم يتقاصوا فإنهم يتقاتلون وتقوم بينهم الفتن التي يموت فيها خلائق كما هو معروف في فتن الجاهلية والإسلام إنما تقع الفتن لعدم المعادلة والتناصف بين الطائفتين وإلا فمع التعادل والتناصف الذي يرضى به أولو الألباب لا تبقى فتنة. وقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك} فطلب من الطائفة الأخرى مالا أو قوما أو آذاهم بسبب ما بينهم من الدم {فله عذاب أليم} وهذا كقوله:

    {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} و " الأخوة " هنا كالأخوة هناك وهذا في قتلى الفتن.

    وأما إذا قتل رجل رجلا من غير فتنة فهم كانوا يعرفون أن القاتل يقتل لكن كانت الطائفة القوية تطلب أن تقتل غير القاتل أو من هو أكثر من القاتل أو اثنين بواحد وإذا كان القاتل منها لم تقتل به من هو دونه كما قيل: إنه كان بين قريظة والنضير لكن هذا لم تثر به الفتن بل فيه ظلم الطائفة القوية للضعيفة ولم يكن في الأمم من يقول إن القاتل الظالم المتعدي مطلقا لا يقتل فهذا لم يكن عليه أحد من بني آدم؛ بل كل بني آدم مطبقون على أن القاتل في الجملة يقتل لكن الظلمة الأقوياء يفرقون بين قتيل وقتيل.

    وقول من قال: إن قوله: {ولكم في القصاص حياة} معناه أن القاتل إذا عرف أنه يقتل كف فكان في ذلك حياة له وللمقتول يقال له: هذا معنى صحيح؛ ولكن هذا مما يعرفه جميع الناس وهو مغروز في جبلتهم وليس في الآدميين من يبيح قتل أحد من غير أن يقتل قاتله؛ بل كلهم مع التساوي يجوزون قتل القاتل ولا يتصور أن الناس. . . (1)

    إذا كان كل من قدر على غيره قتله وهو لا يقتل يرضى بمال وإذا كان هذا المعنى من أوائل ما يعرفه الآدميون ويعلمون أنهم لا يعيشون بدونه صار هذا مثل حاجتهم إلى الطعام والشراب والسكنى فالقرآن أجل من أن يكون مقصوده التعريف بهذه الأمور البديهية؛ بل هذا مما يدخل في معناه وهو أنه إذا كتب عليهم القصاص في المقتولين أنه يسقط حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى فجعل دية هذا كدية هذا ودم هذا كدم هذا متضمن لمساواتهم في الدماء والديات وكان بهذه المقاصة لهم حياة من الفتن التي توجب هلاكهم كما هو معروف وهذا المعنى مما يستفاد من هذه الآية فعلم أن دم الحر وديته كدم الحر وديته فيقتل به وإذا علم أن التقاص يقع للتساوي في الديات علم أن للمقتول دية.

    ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة فيدل على أن الله أوجب العدل والإنصاف في أمر القتلى فمن قتل غير قاتله فهو ظالم والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل. وقد ذكر سبحانه هذا المعنى في قوله: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} وإذا دلت على العدل في القود بطريق اللزوم والتنبيه ذهب الإشكال ولم يقل: فلم لا قال: والعبد بالعبد والحر؟ فإنه لم يكن المقصود أنه يقاص به في القتلى ومعلوم أنه إنما يقاص الحر بالحر لا بالمرأة والمرأة بالمرأة لا بالحر والعبد بالعبد. فظهرت فائدة التخصيص به والمقابلة في الآية.
    ودلت الآية حينئذ على أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى؛ إذا كانا متساويين في الدم وبدله هو الدية ولم ينتف أن يقتل عبد بحر وأنثى بذكر ولا لها مفهوم ينفي ذلك؛ بل كما دلت على ذلك بطريق التنبيه والفحوى والأولى كذلك تدل على هذا أيضا؛ فإنه إذا قتل العبد بالعبد فقتله بالحر أولى وإذا قتلت المرأة بالمرأة فقتلها بالرجل أولى.
    وأما قتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى فالآية لم تتعرض له لا بنفي ولا إثبات ولا لها مفهوم يدل عليه لا مفهوم موافقة ولا مخالفة؛ فإنه إذا كان في المقاصة يقاس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لتساوي الديات دل ذلك على قتل النظير بالنظير والأدنى بالأعلى. يبقى قتل الأعلى الكثير الدية بالأدنى القليل الدية ليس في الآية تعرض له فإنه لم يقصد بها ابتداء القود وإنما قصد المقاصة في القتلى لتساوي دياتهم.
    فإن قيل: دية الحر كدية الحر ودية الأنثى كدية الأنثى ويبقى العبيد قيمتهم متفاضلة؟.
    قيل: عبيدهم كانوا متقاربين القيمة وقوله: {والعبد بالعبد} قد يراد به بالعبد المماثل به كما يقال: ثوب بثوب وإن كان أحدهما أغلى قيمة فذاك مما عفي له وقد يعفى إذا لم تعرف قيمتهم وهو الغالب فإن المقتولين في الفتن عبيدهم الذين يقاتلون معهم وهم يكونون تربيتهم عندهم لم يشتروهم فهذا يكون مع العلم بتساوي القيمة ومع الجهل بتفاضلها؛ فإن المجهول كالمعدوم ولو أتلف كل من الرجلين ثوب الآخر ولا يعلم واحد منهما قيمة واحد من الثوبين قيل ثوب بثوب وهذا لأن الزيادة محتملة من الطرفين:
    يحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى ويحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى وليس ترجيح أحدهما أولى من الآخر والأصل براءة ذمة كل واحد من الزيادة فلا تشتغل الذمة بأمر مشكوك فيه لو كان الشك في أحدهما فكيف إذا كان من الطرفين؟. فظهر حكمة قوله: {والعبد بالعبد} وظهر بهذا أن القرآن دل على ما يحتاج الخلق إلى معرفته والعمل به ويحقن به دماؤهم ويحيون به ودخل في ذلك ما ذكره الآخرون من العدل في القود.

    ودلت الآية على أن القتلى يؤخذ لهم ديات فدل على ثبوت الدية على القاتل وأنها مختلفة باختلاف المقتولين وهذا مما من الله به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أثبت القصاص والدية. وأما كون العفو هو قبول الدية في العمد وأنه يستحقها العافي بمجرد عفوه فالآية لم تتعرض لهذا.

    ودلت هذه الآية على أن الطوائف الممتنعة تضمن كل منهما ما أتلفته الأخرى من دم ومال بطريق الظلم لقوله: {من أخيه} بخلاف ما أتلفه المسلمون للكفار والكفار للمسلمين. وأما القتال بتأويل " كقتال أهل الجمل وصفين " فلا ضمان فيه أيضا بطريق الأولى عند الجمهور فإنه إذا كان الكفار المتأولون لا يضمنون فالمسلمون المتأولون أولى أن لا يضمنوا. ودلت الآية على أن هذا الضمان على مجموع الطائفة يستوي فيه الردء والمباشر لا يقال: انظروا من قتل صاحبكم هذا فطالبوه بديته بل يقال: ديته عليكم كلكم فإنكم جميعا قتلتموه؛ لأن المباشر إنما تمكن بمعاونة الردء له وعلى هذا دل قوله:
    {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} فإن أولئك الكفار كان عليهم مثل صداق هذه المرأة التي ذهبت إليهم فإذا لم يؤدوه أخذ من أموالهم التي يقدر المسلمون عليها مثل امرأة جاءت منهم يستحقون صداقها فيعطي المسلم زوج تلك المرتدة صداقها من صداق هذه المسلمة المهاجرة التي يستحقه الكفار لكونها أسلمت وهاجرت وفوتت زوجها بضعها كما فوتت المرتدة بضعها لزوجها وإن كان زوج المهاجرة ليس هو الذي تزوج بالمرتدة لأن الطائفة لما كانت ممتنعة يمنع بعضها بعضا صارت كالشخص الواحد.
    ولهذا لما قتل خالد من قتل من بني جذيمة وداهم النبي صلى الله عليه وسلم من عنده؛ لأن خالدا نائبه وهو لا يمكنهم من مطالبته وحبسه لأنه متأول وكذلك عمرو بن أمية وعاقلته خالد بن الوليد لأنه قتل هذا على سبيل الجهاد لا لعداوة تخصه وقد تنازع الفقهاء في خطأ ولي الأمر هل هو في بيت المال أو على ذمته؟ على قولين.
    ولهذا كان ما غنمته السرية يشاركها فيه الجيش وما غنمه الجيش شاركته فيه السرية لأنه إنما يغنم بعضهم بظهر بعض فإذا اشتركوا في المغرم اشتركوا في المغنم وكذلك في العقوبة يقتل الردء والمباشر من المحاربين عند جماهير الفقهاء كما قتل عمر رضي الله عنه ربيئة المحاربين وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد وهو مذهب مالك في القتل قودا وفي السراق أيضا.
    وبيان دلالة الآية على ذلك أن المقتولين إذا حبس حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى فالحر من هؤلاء ليس قاتله هو ولي الحر من هؤلاء؛ بل قد يكون غيره وكذلك العبد من هؤلاء ليس قاتله هو سيد العبد من هؤلاء؛ بل قد يكون غيره؛ لكن لما كانوا مجتمعين متناصرين على قتال أولئك ومحاربتهم كان من قتله بعضهم فكلهم قتله وكلهم يضمنونه؛ ولهذا ما فضل لأحد الطائفتين يؤخذ من مال الأخرى.

    فإن قيل: إذا كان مستقرا في فطر بني آدم أن القاتل الظالم لنظيره يستحق أن يقتل وليس في الآدميين من يقول إنه لا يقتل فما الفائدة في قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها} - أي في التوراة - {أن النفس بالنفس والعين بالعين} الآية. إذا كان مثل هذا الشرع يعرفه العقلاء كلهم؟. قيل لهم: فائدته بيان تساوي دماء بني إسرائيل وأن دماءهم
    __________
    Q (1) بياض بالأصل



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #93
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (91)

    من صــ 401 الى صـ
    ـ 408

    فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي فِطْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ لِنَظِيرِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْتَلُ وَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} - أَيْ فِي التَّوْرَاةِ - {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الْآيَةَ.
    إذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْعِ يَعْرِفُهُ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ؟. قِيلَ لَهُمْ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ تَسَاوِي دِمَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَ لِشَرِيفِهِمْ مَزِيَّةٌ عَلَى ضَعِيفِهِمْ وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَّا الطَّوَائِفُ الْخَارِجُونَ عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَدْ لَا يَقْتُلُونَ الشَّرِيفَ وَإِذَا كَانَ الْمَلِكُ عَادِلًا فَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَحَكَمَ أَيْضًا فِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِتَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ فَالْمُسْلِمُ الْحُرُّ يُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ الْحُرِّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
    وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ بِآيَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ لِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} و " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا " فَإِنَّهُ يُقَالُ: الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّفْسَ مِنْهُمْ بِالنَّفْسِ مِنْهُمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَافِرٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَتِهِمْ إبْقَاءُ كَافِرٍ بَيْنَهُمْ لَا بِجِزْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَهَذَا مِثْلُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَتَيْن ِ أَنَّ دَمَ الْكَافِرِ يُكَافِئُ دَمَ الْمُسْلِمِ؛ بَلْ جَعْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الْوَاجِبُ لِلْمُكَافَآتِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ - سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا - لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِلْمُكَافَأَةِ فِيهِ؛ نَعَمْ يُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ عَلَى الْعَبْدِ.
    وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ؛ بَلْ مَا رُوِيَ {مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ بِهِ} وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ ظَالِمًا كَانَ الْإِمَامُ وَلِيَّ دمه؛ لأن القاتل كما لا يرث المقتول إذا كان حرا فكذلك لا يكون ولي دمه إذا كان عبدا؛ بل هذا أولى كيف يكون ولي دمه وهو القاتل؟ بل لا يكون ولي دمه؛ بل ورثة القاتل السيد؛ لأنهم ورثته وهو بالحياة ولم يثبت له ولاية حتى تنتقل إليهم فيكون وليه الإمام. وحينئذ فللإمام قتله فكل من قتل عبده كان للإمام أن يقتله. و " أيضا " فقد ثبت بالسنة والآثار أنه إذا مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما وقتله أشد أنواع المثل فلا يموت إلا حرا؛ لكن حريته لم تثبت في حال الحياة حتى يرثه عصبته؛ بل حريته ثبتت حكما وهو إذا كان عتق كان ولاؤه للمسلمين فيكون الإمام هو وليه فله قتل قاتل عبده.
    وقد يحتج بهذا من يقول: إن قاتل عبد غيره لسيده قتله وإذا دل الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح والقول الآخر ليس معه نص صريح ولا قياس صحيح وقد قال الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: من قتل ولا ولي له كان الإمام ولي دمه فله أن يقتل وله أن يعفو على الدية؛ لا مجانا. يؤيد هذا أن من قال: لا يقتل حر بعبد يقول: إنه لا يقتل الذمي الحر بالعبد المسلم. قال الله تعالى في كتابه: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} فالعبد المؤمن خير من الذمي المشرك فكيف لا يقتل به والعبد المؤمن مثل الحرائر المؤمنات كما دلت عليه هذه الآية وهو قول جماهير السلف والخلف وهذا قوي على قول أحمد؛ فإنه يجوز شهادة العبد كالحر؛ بخلاف الذمي فلماذا لا يقتل الحر بالعبد وكلهم مؤمنون وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون تتكافأ دماؤهم}.
    (ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون (179)
    فصل:
    والقصاص في الجراح أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة؛ فإذا قطع يده اليمنى من مفصل فله أن يقطع يده كذلك. وإذا قلع سنه فله أن يقلع سنه. وإذا شجه في رأسه أو وجهه فأوضح العظم فله أن يشجه كذلك. وإذا لم تمكن المساواة: مثل أن يكسر له عظما باطنا أو يشجه دون الموضحة فلا يشرع القصاص؛ بل تجب الدية المحدودة أو الأرش.

    وأما القصاص في الضرب بيده أو بعصاه أو سوطه مثل أن يلطمه أو يلكمه أو يضربه بعصا ونحو ذلك: فقد قالت طائفة من العلماء: إنه لا قصاص فيه؛ بل فيه التعزير لأنه لا تمكن المساواة فيه. والمأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. قال أبو فراس: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر حديثا قال فيه: ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم؛ ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم.
    فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه فوثب عمرو بن العاص فقال يا أمير المؤمنين: إن كان رجل من المسلمين أمر على رعية فأدب رعيته أإنك لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس محمد بيده إذا لأقصنه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم. رواه الإمام أحمد وغيره. ومعنى هذا إذا ضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز. فأما الضرب المشروع فلا قصاص فيه بالإجماع إذ هو واجب أو مستحب أو جائز.
    (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)
    (فصل في الحكمة من تحريم بعض المفطرات)

    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    جماع معنى الصيام في أصل اللغة: الكف والإمساك والامتناع, وذلك هو السكون, وضده الحركة, ولهذا قرن الله تعالى بين الصوم والصلاة؛ لأن الصلاة حركة إلى الحق, والصوم سكون عن الشهوات, فيعم الإمساك عن القول والعمل من الناس والدواب وغيرها.
    قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم.
    وقال الخليل: الصيام قيام بلا عمل, والصيام الإمساك عن الطعام, وقد قال تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} [مريم: 26]؛ أي: صمتا, ويقال: صام الفرس: إذا قام على غير اعتلاف, ويقال: هو الذي أمسك عن الصهيل, قال النابغة الذبياني:
    خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
    ومصام الفرس ومصامته موقوفه, وصامت الريح إذا ركدت فلم تتحرك, وصامت البكرة إذا لم تدر, وصام النهار صوما إذا قام قائم الظهيرة واعتدل كأن الشمس سكنت عن الحركة في رأي العين.
    ثم خص في لسان الشرع والعرف الغالب ببعض أنواعه, وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع, ويتبع ذلك الإمساك عن الرفث والجهل وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه؛ فإن الإمساك عن هذه الأشياء في زمن الصوم أوكد منه في غير زمن الصوم, وإذا كان هذا الوقت قد حظر فيه المباح في غيره؛ فالمحظور في غيره أولى؛ كالحرم والإحرام والشهر الحرام, وقد يتبعه الاعتكاف؛ لأنه حبس النفس في مكان مخصوص؛ فهو من جنس الصوم, يقال منه: صام يصوم صوما وصياما.
    وسمي الصيام الصبر.
    ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تعدل صوم الدهر».
    وقد قيل: إنه عني بقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]؛ لأن الصائم يصبر نفسه عن شهواتها.
    وسمي أيضا السياحة.
    (فصل: تحريم الجماع والفطر به لحكمة، والفطر بالحيض لحكمة)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    وتحريم الجماع والفطر به لحكمة والفطر بالحيض لحكمة فإن الحيض لا يقال فيه إنه يحرم وهذا لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض كذلك تنقسم عللها. فنقول: أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام - كما سنبينه إن شاء الله تعالى - فإنه من نوع الاستفراغ لا الامتلاء كالأكل والشرب ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {عن الله تعالى: قال: الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي} فترك الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن والجماع من أعظم نعيم البدن وسرور النفس وانبساطها هو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
    والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات فهذا المعنى في الجماع أبلغ فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات ويضعف إرادتها عن العبادات أعظم؛ بل الجماع هو غاية الشهوات وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار فوجب عليه العتق أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع لأن هذا أغلظ وداعيه أقوى والمفسدة به أشد. فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع.
    وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذاك حكمة أخرى فصار فيهما كالأكل والحيض وهو في ذلك أبلغ منهما فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض. فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس فنقول: إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء.
    والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع وأمر بالاقتصاد في العبادات؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور ونهى عن الوصال وقال: " {أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى} فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية.

    فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل وقال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات؛ بخلاف الأمة الوسط العدل فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث. وإذا كان كذلك فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى وإلا فإذا مكن من هذا ضره وكان متعديا في عبادته لا عادلا.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #94
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (92)

    من صــ 409 الى صـ
    ـ 416


    والخارجات نوعان: نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه أو على وجه لا يضره فهذا لا يمنع منه كالأخبثين فإن خروجهما لا يضره ولا يمكنه الاحتراز منه أيضا. ولو استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره بل ينفعه.

    وكذلك إذا ذرعه القيء لا يمكنه الاحتراز منه وكذلك الاحتلام في المنام لا يمكنه الاحتراز منه وأما إذا استقاء فالقيء يخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل في المعدة وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة فهو يخرج المني الذي هو مستحيل في المعدة عن الدم فهو يخرج الدم الذي يتغذى به ولهذا كان خروج المني إذا أفرط فيه يضر الإنسان ويخرج أحمر.
    والدم الذي يخرج بالحيض فيه خروج الدم والحائض يمكنها أن تصوم في غير أوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها فكان صومها في تلك الحال صوما معتدلا لا يخرج فيه الدم الذي يقوي البدن الذي هو مادته وصومها في الحيض يوجب أن يخرج فيه دمها الذي هو مادتها ويوجب نقصان بدنها وضعفها وخروج صومها عن الاعتدال فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض. بخلاف المستحاضة؛ فإن الاستحاضة تعم أوقات الزمان وليس لها وقت تؤمر فيه بالصوم وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه: كذرع القيء وخروج الدم بالجراح والدمامل والاحتلام ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه. فلم يجعل هذا منافيا للصوم كدم الحيض.
    وسئل:
    عن رجل باشر زوجته وهو يسمع المتسحر يتكلم فلا يدري: أهو يتسحر؟ أم يؤذن؟ ثم غلب على ظنه أنه يتسحر فوطئها وبعد يسير أضاء الصبح فما الذي يجب عليه؟ أفتونا مأجورين.
    فأجاب:
    هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال: أحدها: عليه القضاء والكفارة. هذا إحدى الروايتين عن أحمد. وقال مالك: عليه القضاء لا غير وهذه الرواية الأخرى عنه وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما.
    والثالث: لا قضاء ولا كفارة عليه. وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو أظهر الأقوال؛ ولأن الله تعالى عفا عن الخطأ والنسيان وأباح سبحانه وتعالى الأكل والشرب. والجماع حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. والشاك في طلوع الفجر يجوز له الأكل والشرب والجماع بالاتفاق ولا قضاء عليه إذا استمر الشك.
    وقال شيخ الإسلام - في موضع آخر -:
    هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:

    أحدها: أن عليه القضاء والكفارة وهو المشهور من مذهب أحمد.
    والثاني: أن عليه القضاء وهو قول ثان في مذهب أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك.
    والثالث: لا قضاء عليه ولا كفارة. وهذا قول طوائف من السلف: كسعيد بن جبير ومجاهد والحسن وإسحاق وداود وأصحابه والخلف. وهؤلاء يقولون: من أكل معتقدا طلوع الفجر ثم تبين له أنه لم يطلع. فلا قضاء عليه.
    وهذا القول أصح الأقوال وأشبهها بأصول الشريعة ودلالة الكتاب والسنة وهو قياس أصول أحمد وغيره فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ. وهذا مخطئ وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر واستحب تأخير السحور ومن فعل ما ندب إليه وأبيح له لم يفرط فهذا أولى بالعذر من الناسي والله أعلم.
    وسئل - رحمه الله -:
    عن رجل أراد أن يواقع زوجته في شهر رمضان بالنهار فأفطر بالأكل قبل أن يجامع ثم جامع فهل عليه كفارة أم لا؟ وما على الذي يفطر من غير عذر؟
    فأجاب:
    الحمد لله، هذه المسألة فيها قولان للعلماء مشهوران: أحدهما: تجب وهو قول جمهورهم: كمالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.
    والثاني: لا تجب وهو مذهب الشافعي وهذان القولان مبناهما: على أن الكفارة سببها الفطر من الصوم أو من الصوم الصحيح بجماع أو بجماع وغيره على اختلاف المذاهب. فإن أبا حنيفة يعتبر الفطر بأعلى جنسه ومالك يعتبر الفطر مطلقا فالنزاع بينهما إذا أفطر بابتلاع حصاة أو نواة ونحو ذلك. وعن أحمد رواية أنه إذا أفطر بالحجامة كفر كغيرها من المفطرات. بجنس الوطء فأما الأكل والشرب ونحوهما فلا كفارة في ذلك. ثم تنازعوا هل يشترط الفطر من الصوم الصحيح؟
    فالشافعي وغيره يشترط ذلك فلو أكل ثم جامع أو أصبح غير ناو للصوم ثم جامع أو جامع وكفر ثم جامع: لم يكن عليه كفارة؛ لأنه لم يطأ في صوم صحيح. وأحمد في ظاهر مذهبه وغيره يقول: بل عليه كفارة في هذه الصور ونحوها؛ لأنه وجب عليه الإمساك في شهر رمضان فهو صوم فاسد فأشبه الإحرام الفاسد. وكما أن المحرم بالحج إذا أفسد إحرامه لزمه المضي فيه بالإمساك عن محظوراته فإذا أتى شيئا منها كان عليه ما عليه من الإحرام الصحيح وكذلك من وجب عليه صوم شهر رمضان إذا وجب عليه الإمساك فيه وصومه فاسد لأكل أو جماع أو عدم نية فقد لزمه الإمساك عن محظورات الصيام. فإذا تناول شيئا منها كان عليه ما عليه في الصوم الصحيح.
    وفي كلام الموضعين عليه القضاء. وذلك لأن هتك حرمة الشهر حاصلة في الموضعين؛ بل هي في هذا الموضع أشد؛ لأنه عاص بفطره أولا فصار عاصيا مرتين فكانت الكفارة عليه أوكد ولأنه لو لم تجب الكفارة على مثل هذا لصار ذريعة إلى ألا يكفر أحد فإنه لا يشاء أحد أن يجامع في رمضان إلا أمكنه أن يأكل ثم يجامع بل ذلك أعون له على مقصوده فيكون قبل الغدا عليه كفارة وإذا تغدى هو وامرأته ثم جامعها فلا كفارة عليه وهذا شنيع في الشريعة لا ترد بمثله.
    فإنه قد استقر في العقول والأديان أنه كلما عظم الذنب كانت العقوبة أبلغ وكلما قوي الشبه قويت والكفارة فيها شوب العبادة وشوب العقوبة وشرعت زاجرة وماحية فبكل حال قوة السبب يقتضي قوة المسبب. ثم الفطر بالأكل لم يكن سببا مستقلا موجبا للكفارة. كما يقوله أبو حنيفة ومالك فلا أقل أن يكون معينا للسبب المستقل بل يكون مانعا من حكمه وهذا بعيد عن أصول الشريعة. ثم المجامع كثيرا ما يفطر قبل الإيلاج فتسقط الكفارة عنه بذلك على هذا القول وهذا ظاهر البطلان والله أعلم.
    وسئل:
    عما إذا قبل زوجته أو ضمها فأمذى. هل يفسد ذلك صومه؟ أم لا؟
    فأجاب:
    يفسد الصوم بذلك عند أكثر العلماء.
    وسئل:
    عن الميت في أيام مرضه أدركه شهر رمضان ولم يكن يقدر على الصيام وتوفي وعليه صيام شهر رمضان وكذلك الصلاة مدة مرضه ووالديه بالحياة. فهل تسقط الصلاة والصيام عنه إذا صاما عنه وصليا؟ إذا وصى أو لم يوص؟
    فأجاب:
    إذا اتصل به المرض ولم يمكنه القضاء فليس على ورثته إلا الإطعام عنه.

    وأما الصلاة المكتوبة فلا يصلي أحد عن أحد ولكن إذا صلى عن الميت واحد منهما تطوعا وأهداه له أو صام عنه تطوعا وأهداه له نفعه ذلك والله أعلم.

    (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)

    وقد أجمعت الأمة إجماعا ظاهرا على وجوب صيام شهر رمضان, وأنه الشهر التاسع من شهور العام بين شعبان وشوال, والأفضل أن يقال: جاء شهر رمضان, وصمنا شهر رمضان؛ موافقة للفظ القرآن وأكثر الأحاديث.
    فأما إطلاق رمضان عليه:
    فقال القاضي وغيره: يكره إطلاق هذا الاسم عليه من غير قرينة تدل على أن المراد به الشهر؛ لأن الله سبحانه قال: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185].

    8 - ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لا تقولوا جاء رمضان؛ فإن رمضان اسم الله, ولكن قولوا: جاء شهر رمضان».


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #95
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (93)

    من صــ 417 الى صـ
    ـ 424


    رواه أحمد بن عدي.
    وفي رواية: «لا تقولوا جاء رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله, ولكن قولوا: جاء شهر رمضان».
    9 - وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شهر رمضان؟ فقال: «أرمض الله فيه ذنوب المؤمنين فغفرها لهم».
    10 - وقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسموا رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل؛ فانسبوه إليه كما نسبه لكم في القرآن». رواه ابن شاهين.

    وظاهر الأثر المذكور يقتضي كراهة إطلاق رمضان عليه بكل حال؛ لأنه نهى أن يقال: جاء رمضان, ومعلوم أن هذه قرينة, ونهى عن تسمية رمضان.

    11 - وقد روى أبو سعيد الأشج وغيره عن مجاهد: أنه كره أن يقول: رمضان, ويقول: شهر رمضان؛ كما سمى الله شهر رمضان.
    ولعل وجه هذا أن كان له أصل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما كان يرمض الذنوب في هذا الشهر على الشهر فيحرقها ويفنيها؛ كان هذا من أسمائه, لكن على هذا التقدير لا يسمى الشهر رمضان, لا مطلقا ولا مقيدا؛ لأن الاسم لله سبحانه, اللهم إلا أن يقال: الاسم مشترك يسمى به الله سبحانه ويسمى به الشهر, فيجوز مع القرينة أن يعنى به الشهر؛ كما قد قيل مثل هذا في الرب والملك والسيد ونحو هذا.
    وقال غيره من أصحابنا كابن الجوزي: لا يكره تسميته رمضان بحال.
    12 - وهذا هو المعروف من كلام أحمد؛ فإنه دائما يطلق رمضان ولا يحترز عن ذلك؛ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان؛ فتحت أبواب الجنة». متفق عليه.
    13 - وعنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلا أن يكون رجلا كان يصوم صوما؛ فليصمه». رواه الجماعة.
    14 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه». متفق عليه.
    15 - وعمن سمع في فلق في رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من صام رمضان. متفق عليهما.
    16 - 18 - وعن أبي أيوب وجابر وثوبان, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان, ثم أتبعه بست من شوال ... » وذكر الحديث. رواه مسلم وغيره.
    19 - وعن سلمة بن المحبق؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع؛ فليصم رمضان حيث أدركه». وفي لفظ: «من أدركه رمضان في السفر». رواهما أبو داوود.
    20 - 21 - وعن أبي هريرة وعن عائشة: أن رجلا قال: يا رسول الله! أصبت أهلي في رمضان. متفق عليهما.
    وهذا كثير في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    وأما عن أصحابه؛ فأكثر من أن يحصى.
    قالوا: ولأنه لم يذكر أحد في أسماء الله رمضان, ولا يجوز أن يسمى به إجماعا.
    والحديثان المتقدمان لا أصل لهما: أما الأول؛ فإن مداره على أبي معشر, والثاني مداره على إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن هشام بن عروة.
    وأما قوله سبحانه: {شهر رمضان}؛ فكقولهم: شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر, وهو من باب إضافة الاسم العام إلى الخاص؛ كما يقال: يوم الأحد ويوم الخميس.

    قال بعض أهله. . .: ما كان في أوله رأس الشهور؛ فإن الغالب أن يذكر بإضافة الشهر إليه دون ما لم يكن كذلك, فيقولون: المحرم, وصفر, وشهر ربيع الأول, شهر ربيع الآخر, رجب, شعبان, شهر رمضان.

    وأما اشتقاقه:
    فقال القاضي: قيل: سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب؛ أي: يحرقها ويهلكها. وقد تقدم الرواية بذلك.
    22 - وعن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون لأي شيء سمي شعبان؟». قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «لأنه يتشعب فيه خير كثير, وإنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب (يعني: يحرق الذنوب)». رواه ابن شاهين وغيره.
    وهذا المعنى لا يخالف ما يذكره أهل اللغة؛ فإنهم يزعمون أن أسماء الشهور لما نقلوها عن اللغة القديمة؛ سموها بالأزمنة التي وقعت فيها, فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر, فسمي بذلك؛ كما سموا شوالا؛ لأن الإبل تشول بأذنابها, وسموا شعبان؛ لانشعاب القبائل فيه, وغير ذلك.
    وهذا لأن الرمض شدة وقع الشمس على الرمل وغيره, والأرض رمضا, ورمض يومنا يرمض رمضا: اشتد حره, ورمضت قدمي, ورمض الفصيل: أصابه حر الرمضا.
    فاجتمع في رمضان أن وقت التسمية كان زمن حر, ثم إن الله فرض صومه, والصوم فيه العطش والحرارة, ثم إنه يوجب التقوى فتحرق الذنوب وتهلكها, وقد يلهم الله خلقه أن يسموا الشيء باسم لمعنى يعلمه هو ويبينه فيما بعد وإن لم يعلموا ذلك حين الوضع والتسمية؛ كما سموا النبي صلى الله عليه وسلم محمدا.
    وغير مستنكر أن يكون ما اشتق منه الاسم قد تضمن معاني كثيرة, يفطن بعض لبعضها.
    وأيضا؛ فإن هذه التسمية لغوية شرعية, فجاز أن يكون له باعتبار كل واحد من التسميتين معنى غير الآخر, وقد قيل: هو اسم موضوع لغير معنى؛ كسائر الشهور.
    وقيل: شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه, وقد سمي بذلك لأن الله حين فرضه كان وقت الحر. وهذا ضعيف؛ لأن تسميته رمضان متقدمة على فرضه, ولأنه لما فرض؛ كان في أوائل الربيع الذي تسميه العرب الصيف؛ فإن أول رمضان فرض كانت فيه وقعة بدر, وقد أنزل الله عليهم فيها ماء من البسماء, والقيظ العظيم لا ينزل فيه مطر.
    (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)
    وقال شيخ الإسلام:
    فصل:

    قال الله تعالى {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} و " اللام " إما متعلقة بمذكور: أي {يريد الله بكم اليسر}. . . ولتكملوا العدة}. كما قال: {يريد الله ليبين لكم}. أو بمحذوف: أي ولتكملوا العدة شرع ذلك. وهذا أشهر لأنه قال: {ولعلكم تشكرون} فيجب على الأول أن يقال ويريد لعلكم تشكرون وفيه وهن.
    لكن يحتج للأول بقوله تعالى في آية الوضوء: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} فإن آية الصيام وآية الطهارة متناسبتان في اللفظ والمعنى فقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} بمنزلة قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} وقوله: {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} كقوله: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}.
    والمقصود هنا: أن الله سبحانه أراد شرعا: التكبير على ما هدانا ولهذا قال من قال من السلف: كزيد بن أسلم هو التكبير تكبير العيد واتفقت الأمة على أن صلاة العيد مخصوصة بتكبير زائد ولعله يدخل في التكبير صلاة العيد كما سميت الصلاة تسبيحا وقياما وسجودا وقرآنا وكما أدخلت صلاتا الجمع في ذكر الله في قوله: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} وأريد الخطبة والصلاة بقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} ويكون لأجل أن الصلاة لما سميت تكبيرا خصت بتكبير زائد كما أن صلاة الفجر لما سميت قرآنا خصت بقرآن زائد وجعل طول القراءة فيها عوضا عن الركعتين في الصلاة الرباعية.

    وكذلك " صلاة الليل " لما سميت قياما بقوله: {قم الليل} خصت بطول القيام فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام والركوع والسجود بالليل ما لا يطيله بالنهار. ولهذا قال بعض السلف: إن التطويل بالليل أفضل وإن تكثير الركوع والسجود بالنهار أفضل.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #96
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (94)

    من صــ 425 الى صـ
    ـ 432

    وكان التكبير أيضا مشروعا في خطبة العيد زيادة على الخطب الجمعية وكان التكبير أيضا مشروعا عندنا وعند أكثر العلماء من حين إهلال العيد إلى انقضاء العيد إلى آخر الصلاة والخطبة؛ لكن هل يقطعه المؤتم إذا شهد المصلى لكونه مشغولا بعد ذلك بانتظار الصلاة؟ أو يقطعه بالشروع في الصلاة للاشتغال عنه بعد ذلك بالصلاة والخطبة أو لا يقطعه إلى انقضاء الخطبة؟ فيه خلاف عن أحمد وغيره.
    والصحيح أنه إلى آخر العيد. وقد قال تعالى في الحج {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فقيل: الأيام المعلومات. هي أيام الذبح وذكر اسم الله التسمية على الأضحية والهدي وهو قول مالك في رواية.
    وقيل: هي أيام العشر وهو المشهور عن أحمد وقول الشافعي وغيره. ثم ذكر اسم الله فيها هو ذكره في العشر بالتكبير عندنا وقيل هو ذكره عند رؤية الهدي وأظنه مأثورا عن الشافعي. وفي صحيح البخاري أن ابن عمر وابن عباس كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وفي الصحيح عن أنس أنهم كانوا غداة عرفة وهم ذاهبون من منى إلى عرفة يكبر منهم المكبر فلا ينكر عليه ويلبي الملبي فلا ينكر عليه وفي أمثلة الأحاديث المرفوعة مثل قوله: {فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد}.
    وعلى قول أصحابنا يكون ذكر اسم الله على ما رزقهم كقوله {على ما هداكم} وكقوله: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} وكقوله: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم} - إلى قوله - {فاذكروني أذكركم}. وعلى القول الآخر يكون مثل قوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} وقوله: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} ويدل عليه قوله: {من بهيمة الأنعام} فيدل على أن (ما موصولة لا مصدرية بمعنى على الذي رزقهم من بهيمة الأنعام وكذلك قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} وعلى قولنا يكون ذكر اسم الله عليها وقت الذبح ووقت السوق بالتلبية عندها وبالتكبير. يدل عليه أنه لو أراد مجرد التسمية لم يكن للأضحية بذلك اختصاص فإن اسمه مذكور عند كل ذبح لا فرق في ذلك بين الأضحية وغيرها فما وجب فيها وجب في غيرها وما لم يجب لم يجب.
    (فصل في أن التحميد قرين التسبيح وأن التهليل قرين التكبير)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    ولما قال سبحانه: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} ذكر التكبير والشكر كما في قوله: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} والشكر يكون بالقول وهو الحمد ويكون بالعمل كما قال تعالى: {اعملوا آل داود شكرا} فقرن بتكبير الأعياد الحمد. فقيل: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد؛ لأنه قد طلب فيه التكبير والشكر.
    ولهذا روي في الأثر أنه يقال فيه: {الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا} ليجمع بين التكبير والحمد حمد الشكر كما جمع بين التحميد تحميد الثناء والتكبير في قوله: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} فأمر بتحميده وتكبيره. ومعلوم أن الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن أربع " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " وهي شطران: فالتسبيح قرين التحميد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم} أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة.
    وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي ذر {أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده}. وفي القرآن {ونحن نسبح بحمدك} {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}. {فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن} هكذا في الصحاح عن عائشة فجعل قوله: " سبحانك اللهم وبحمدك " تأويل {فسبح بحمد ربك} وقد قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار}وقال: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} {وله الحمد في السماوات والأرض} والآثار في اقترانهما كثيرة.
    وأما التهليل فهو قرين التكبير كما في كلمات الأذان: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم بعد دعاء العباد إلى الصلاة: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فهو مشتمل على التكبير والتشهد أوله وآخره. وهو ذكر لله تعالى وفي وسطه دعاء الخلق إلى الصلاة والفلاح. فالصلاة هي العمل. والفلاح هو ثواب العمل لكن جعل التكبير شفعا والتشهد وترا فمع كل تكبيرتين شهادة؛ وجعل أوله مضاعفا على آخره ففي أول الأذان يكبر أربعا ويتشهد مرتين والشهادتان جميعا باسم الشهادة وفي آخره التكبير مرتان فقط مع التهليل الذي لم يقترن به لفظ الشهادة ولا الشهادة الأخرى.
    وهذا والله أعلم بمنزلة الركعتين الأوليين من الصلاة مع الركعتين الأخريين فإن الأوليين فضلتا بقراءة السورة وبالجهر في القراءة فحصل الفضل في قدر القراءة ووصفها كما أن الشطر الأول من الأذان فضل في قدر الذكر وفي وصفه لكن الوصف هنا كون التوحيد قرن به لفظ أشهد ولهذا حذف في الإقامة عند من يختار إيتارها وهي إقامة بلال - ما فضل به من القدر كما يخفض من صوت الإقامة لأن هذا المزيد من جنس الأصل فأشبه حذف الركعتين الأخريين في صلاة المسافر.
    وأما الكلمات الأصول فلم يحذف منها شيء. وهكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وصلاة الكسوف وغيرهما تطويل أول العبادة على آخرها؛ لأسباب تقتضي ذلك. وكما جمع بين التكبير والتهليل في الأذان جمع بينهما في تكبير الأشراف فكان على الصفا والمروة وإذا علا شرفا في غزوة أو حجة أو عمرة يكبر ثلاثا. ويقول: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده} يفعل ذلك ثلاثا.
    وهذا في الصحاح وكذلك على الدابة كبر ثلاثا وهلل ثلاثا فجمع بين التكبير والتهليل. وكذلك حديث عدي بن حاتم الذي رواه أحمد والترمذي فيه {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عدي ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل تعلم من لا إله إلا الله؟ يا عدي ما يفرك أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله} فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين التهليل والتكبير.
    وفي صحيح مسلم حديث أبي مالك الأشعري {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو قال تملأ ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} فأخبر أنه يملأ ما بين السماء والأرض وهذا أعظم من ملئه للميزان. وفي الحديث الذي في الموطأ حديث طلحة بن عبد الله بن كريز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}.
    فجمع في هذا الحديث بين " أفضل الدعاء وأفضل الثناء فإن الذكر نوعان: دعاء وثناء فقال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة. وأفضل ما قلت هذا الكلام ". ولم يقل أفضل ما قلت يوم عرفة هذا الكلام. وإنما هو أفضل ما قلت مطلقا. وكذلك في حديث رواه ابن أبي الدنيا {أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله}.

    وأيضا ففي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} فقد صرح بأن أعلى شعب الإيمان هي هذه الكلمة.

    وأيضا ففي صحيح مسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أبي: أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهنك العلم أبا المنذر} فأخبر في هذا الحديث الصحيح أنها أعظم آية في القرآن وفي ذاك أنها أعلى شعب الإيمان وهذا غاية الفضل فإن الأمر كله مجتمع في القرآن والإيمان فإذا كانت أعظم القرآن وأعلى الإيمان ثبت لها غاية الرجحان.
    وأيضا فإن التوحيد أصل الإيمان وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار وهو ثمن الجنة ولا يصح إسلام أحد إلا به ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء فمنزلته منزلة الأصل ومنزلة التحميد والتسبيح منزلة الفرع.
    وأيضا فإنه مشروع على وجه التعظيم والجهر وعند الأمور العظيمة مثل الأذان الذي ترفع به الأصوات وعند الصعود على الأماكن العالية لما في ذلك من العلو والرفعة ويجهر بالتكبير في الصلوات وهو المشروع في الأعياد.
    {وقال جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك} رواه أبو داود وغيره. فبين أن التكبير مشروع عند العلو من الأمكنة والأفعال كما في الصلاة والأذان والتسبيح مشروع عند الانخفاض في الأمكنة والأفعال كما في السجود والركوع.

    ولهذا كانت السنة في التسبيح الإخفاء حين شرع فلم يشرع من الجهر به والإعلان ما شرع من ذلك في التكبير والتهليل ومعلوم أن الزيادة في وصف الذكر إنما هو للزيادة في أمره.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #97
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (95)

    من صــ 433 الى صـ
    ـ 440


    وأما حديث أبي ذر: {أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده} فيشبه والله أعلم أن يكون هذا في الكلام الذي لا يسن فيه الجهر كما في الركوع والسجود ونحوه ولا يلزم أن يكون أفضل مطلقا بدليل أن قراءة القرآن أفضل من الذكر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها في الركوع والسجود. وقال: {إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم}.

    وهنا أصل ينبغي أن نعرفه. وهو أن الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة لم يجب أن يكون أفضل في كل حال ولا لكل أحد بل المفضول في موضعه الذي شرع فيه أفضل من الفاضل المطلق كما أن التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن ومن التهليل والتكبير والتشهد في آخر الصلاة والدعاء بعده أفضل من قراءة القرآن. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا أو إسلاما} ثم أتبع ذلك بقوله: {ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه} فذكر الأفضل فالأفضل في الإمامة ثم بين أن صاحب المرتبة ذا السلطان مثل الإمام الراتب كأمير الحرب في العهد القديم وكأئمة المساجد ونحوهم مقدمون على غيرهم وإن كان غيرهم أفضل منهم وهذا كما أن الذهب أفضل من الحديد والنورة وقد تكون هذه المعادن مقدمة على الذهب عند الحاجة إليها دونه وهذا ظاهر.
    وكذلك أيضا: أكثر الناس يعجزون عن أفضل الأعمال فلو أمروا بها لفعلوها على وجه لا ينتفعون به أو ينتفعون انتفاعا مرجوحا فيكون في حق أحد هؤلاء العمل الذي يناسبه وينتفع به أفضل له مما ليس كذلك. ولهذا يكون الذكر لكثير من الناس أفضل من قراءة القرآن؛ لأن الذكر يورثه الإيمان والقرآن يورثه العلم والعلم بعد الإيمان.

    قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} والقرآن يحتاج إلى فهم وتدبر وقد يكون عاجزا عن ذلك لكن هؤلاء يغلطون فيعتقد أحدهم أن الذكر أفضل مطلقا؛ وليس كذلك بل قراءة القرآن في نفس الأمر أفضل من الذكر بإجماع المسلمين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم {أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر} رواه مسلم. {وقال له رجل: إني لا أستطيع أن أحمل من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني في صلاتي.

    فقال: قل: سبحان الله والحمد لله ولا إلا إلا الله والله أكبر} ولهذا كان العلماء على أن الذكر في الصلاة بدل عن القراءة لا يجوز الانتقال إليه إلا عند العجز عن القراءة بمنزلة التيمم مع الوضوء وبمنزلة صيام الشهرين مع العتق والصيام مع الهدي. وفي الحديث الذي في الترمذي {ما تقرب العباد إلى الله بأفضل مما خرج منه} يعني القرآن وفي حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله أهلين من الناس قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته} وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم أهل القرآن في المواطن كما قدمهم يوم أحد في القبور فأذن لهم أن يدفنوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد وقال: قدموا إلى القبلة أكثرهم قرآنا.
    {فقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما سئل: أي الكلام أفضل: فقال: سبحان الله وبحمده} هذا خرج على سؤال سائل. فربما علم من حال السائل حالا مخصوصة كما أنه لما قال: {أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله} إلى آخره. أراد بذلك من الذكر لا من القراءة فإن قراءة القرآن أفضل من جنس الذكر من حيث الجملة وإن كان هذا الكلام قد يكون أفضل من القراءة كما أن الشهادتين في وقت الدخول في الإسلام أو تجديده أو عندما يقتضي ذكرهما مثل عقب الوضوء ودبر الصلاة والأذان وغير ذلك: أفضل من القراءة.
    وكذلك في موافقة المؤذن فإنه إذا كان يقرأ وسمع المؤذن فإن موافقته في ذكر الأذان أفضل له حينئذ من القراءة حتى يستحب له قطع القراءة لأجل ذلك؛ لأن هذا وقت هذه العبادة يفوت بفوتها والقراءة لا تفوت. فنقول: الأحوال ثلاثة: حال يستحب فيها الإسرار ويكره فيها الجهر؛ لأنها حال انخفاض كالركوع والسجود. فهنا التسبيح أفضل من التهليل والتكبير وكذلك في بطون الأودية وأما ما السنة فيه الجهر والإعلان كالإشراف والأذان فالسنة فيه التهليل والتكبير وأما ما يشرع فيه الأمران فقد يكون هذا.
    فصل:
    وإذا عرف أن التحميد قرين التسبيح وأن التهليل قرين التكبير ففي تكبير الأعياد جمع بين القرينين فجمع بين التكبير والتهليل وبين التكبير والتحميد لقوله: {ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} فإن الهداية اقتضت التكبير عليها. فضم إليه قرينه وهو التهليل. والنعمة اقتضت الشكر عليها فضم إليه أيضا التحميد وهذا كما أن ركوب الدابة لما اجتمع فيه أنه شرف من الأشراف وأنه موضع نعمة كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع عليها بين الأمرين فإنه قال سبحانه: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} فأمر بذكر نعمة الله عليه وذكرها بحمدها وأمر بالتسبيح الذي هو قرين الحمد {فكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بالدابة فوضع رجله في الغرز قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال:
    الحمد لله ثم قال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ثم حمد ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال: لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك وقال: ضحكت من ضحك الرب إذا قال العبد ذلك يقول الله: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري}.
    فذكر بعد ذلك ذكر الأشراف وهو التكبير مع التهليل وختمه بالاستغفار لأنه مقرون بالتوحيد كما قد رتب اقتران الاستغفار بالتوحيد في غير موضع كقوله: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} وقوله: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم} وقوله: {فاستقيموا إليه واستغفروه} فكان ذكره على الدابة مشتملا على الكلمات الأربع الباقيات الصالحات مع الاستغفار. فهكذا ذكر الأعياد اجتمع فيه التعظيم والنعمة فجمع بين التكبير والحمد. فالله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا. وقد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثا ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فيشبهه بذكر الأشراف في تثليثه وضم التهليل إليه وهذا اختيار الشافعي.
    وأما أحمد وأبو حنيفة وغيرهما فاختاروا فيه ما رووه عن طائفة من الصحابة ورواه الدارقطني من حديث جابر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الله أكبر الله أكبر لا إلا إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد} فيشفعونه مرتين ويقرنون به في إحداهما التهليل وفي الأخرى الحمد تشبيها له بذكر الأذان. فإن هذا به أشبه لأنه متعلق بالصلاة ولأنه في الأعياد التي يجتمع فيها اجتماعا عاما كما أن الأذان لاجتماع الناس فشابه الأذان في أنه تكبير اجتماع لا تكبير مكان وأنه متعلق بالصلاة لا بالشرف فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان وهو في كل مرة مشفوع وكل المأثور حسن. ومن الناس من يثلثه أول مرة ويشفعه ثاني مرة وطائفة من الناس تعمل بهذا.
    وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها وكما قلنا في أنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الاستعاذات وأنواع القراءات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة وسجود السهو والقنوت قبل الركوع وبعده والتحميد بإثبات الواو وحذفها وغير ذلك لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل ولا يكره الآخر. ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معا ولا بقراءتين معا ولا بصلاتي خوف معا وإن فعل ذلك مرتين كان ذلك منهيا عنه فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة ومكروه أخرى.
    وسئل:
    هل أراد الله - تعالى - المعصية من خلقه أم لا؟
    فأجاب:
    لفظ " الإرادة " مجمل له معنيان: فيقصد به المشيئة لما خلقه ويقصد به المحبة والرضا لما أمر به. فإن كان مقصود السائل: أنه أحب المعاصي ورضيها وأمر بها فلم يردها بهذا المعنى فإن الله لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء بل قال لما نهى عنه: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها}. وإن أراد أنها من جملة ما شاءه وخلقه فالله خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا يكون في الوجود إلا ما شاء.
    وقد ذكر الله في موضع أنه يريدها وفي موضع أنه لا يريدها والمراد بالأول أنه شاءها خلقا وبالثاني أنه لا يحبها ولا يرضاها أمرا كما قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} وقال نوح: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم} وقال في الثاني: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما} {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} وقال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} وقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.
    (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186)
    سئل شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:

    عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك.
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله: فهذا حق. فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه وما أعده لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه ولا يعرفون ما يستحقه الله تعالى من أسمائه الحسنى: وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل؛ الذين أرسلهم الله إلى عباده.
    فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة. وأما المخالفون للرسل: فإنهم ملعونون وهم عن ربهم ضالون محجوبون.

    قال تعالى: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} {ونحشره يوم القيامة أعمى}.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #98
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (96)

    من صــ 441 الى صـ
    ـ 448


    {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقال تعالى عن أهل النار: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} وقال تعالى:

    {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} وقال تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون} وقال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا} {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
    ومثل هذا في القرآن كثير. وهذا مما أجمع عليه جميع أهل الملل من المسلمين؛ واليهود؛ والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله
    أمره وخبره. قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل. والسور التي أنزلها الله بمكة مثل: الأنعام؛ والأعراف؛ وذوات: (الر) و (حم) و (طس) ونحو ذلك؛ هي متضمنة لأصول الدين كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر. وقد قص الله قصص الكفار الذين كذبوا الرسل وكيف أهلكهم؛ ونصر رسله والذين آمنوا.
    قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} {إنهم لهم المنصورون} {وإن جندنا لهم الغالبون}. وقال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}. فهذه الوسائط: تطاع وتتبع ويقتدى بها. كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} وقال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وقال: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.

    وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم؛ يسألونه ذلك ويرجون إليه فيه: فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء؛ يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار.

    لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها حتى قال: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} وقال تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}.
    وقالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة: فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء: لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا وأنهم يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} فبين سبحانه:أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات: فهو كافر بإجماع المسلمين. وقد قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون}
    {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} وقال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} {لقد جئتم شيئا إدا} {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} {أن دعوا للرحمن ولدا} {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} {لقد أحصاهم وعدهم عدا} {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} وقال تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}.

    وقال {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله}. وقال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} وقال تعالى: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}. ومثل هذا كثير في القرآن.

    ومن سوى الأنبياء - من مشايخ العلم والدين - فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغونهم؛ ويعلمونهم؛ ويؤدبونهم؛ ويقتدون بهم؛ فقد أصاب في ذلك. وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة قاطعة لا يجتمعون على ضلالة وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول؛ إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق؛ بل كل أحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك: إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {العلماء ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر}.
    وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه - كالحجاب الذين بين الملك ورعيته - بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه؛ فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم؛ فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله؛ كما أن الوسائط عند الملوك: يسألون الملوك الحوائج للناس؛ لقربهم منهم والناس يسألونهم؛ أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك؛ أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج. فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه: فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون لله شبهوا المخلوق بالخالق
    وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء: ما لم تتسع له هذه الفتوى. فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس: يكونون على أحد وجوه ثلاثة: - إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه.
    ومن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بتلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم: فهو كافر بل هو - سبحانه - يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وهو السميع البصير}. يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل. ولا يتبرم بإلحاح الملحين. الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته ودفع أعدائه - إلا بأعوان يعينونه - فلا بد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه.
    والله - سبحانه - ليس له ظهير ولا ولي من الذل. قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} وقال تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا}. وكل ما في الوجود من الأسباب: فهو خالقه وربه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه؛ بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم - في الحقيقة - شركاؤهم في الملك. والله تعالى: ليس له شريك في الملك بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
    والوجه الثالث: أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم: إلا بمحرك يحركه من خارج. فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظمه أو من يدل عليه؛ بحيث يكون يرجوه ويخافه: تحركت إرادة الملك
    وهمته في قضاء حوائج رعيته إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه.
    والله تعالى: هو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض: فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك فهو الذي خلق ذلك كله وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلم أو من يرجوه الرب ويخافه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت؛ ولكن ليعزم المسألة؛ فإنه لا مكره له}. والشفعاء الذين يشفعون عنده: لا يشفعون إلا بإذنه كما قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}. فبين أن كل من دعي من دونه ليس له ملك ولا شرك في الملك ولا هو ظهير.

    وأن شفاعتهم لا تنفع إلا لمن أذن له. وهذا بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك وقد يكون شريكا لهم في الملك وقد يكون مظاهرا لهم معاونا لهم على ملكهم وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك هم وغيرهم والملك يقبل شفاعتهم: تارة بحاجته إليهم وتارة لخوفه منهم وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافأتهم ولإنعامهم عليه؛ حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد؛ حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك ويقبل شفاعة مملوكه؛ فإذا لم يقبل شفاعته؛ يخاف أن لا يطيعه أو أن يسعى في ضرره.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #99
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (97)

    من صــ 449 الى صـ
    ـ 456

    وشفاعة العباد بعضهم عند بعض: كلها من هذا الجنس. فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة. والله تعالى: لا يرجو أحدا ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني قال تعالى: {ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} إلى قوله: {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض}.

    والمشركون: يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة. قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} وقال تعالى: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون}.

    وأخبر عن المشركين أنهم قالوا ": {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال تعالى: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
    أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}.
    فأخبر أن ما يدعي من دونه لا يملك كشف ضر ولا تحويله وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه. فهو - سبحانه - قد نفى ما من الملائكة والأنبياء؛ إلا من الشفاعة بإذنه والشفاعة هي الدعاء.

    ولا ريب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع والله قد أمر بذلك لكن الداعي الشافع: ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله له في ذلك فلا يشفع شفاعة نهي عنها؛ كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة. قال تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}. وقال تعالى في حق المنافقين: {سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم}.

    وقد ثبت في الصحيح: أن الله نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين والمنافقين وأخبر أنه لا يغفر لهم. كما في قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} وقد قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} - في الدعاء - ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله. مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم أو المغفرة للمشركين ونحو ذلك. أو يسأله ما فيه معصية الله كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان.
    فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة: شفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان. ولو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه؛ فإنهم معصومون أن يقروا على ذلك. كما قال نوح: {إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} قال تعالى: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} {قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين}. وكل داع شافع دعا الله - سبحانه وتعالى - وشفع: فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة فهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله - سبحانه وتعالى -.
    وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله - سبحانه وتعالى - والله يقدر له من الأسباب - من دعاء الخلق وغيرهم - ما شاء. والدعاء مشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى: فطلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويطلبون منه الدعاء؛ بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بالعباس عمه والناس يطلبون الشفاعة يوم القيامة من الأنبياء

    ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وله شفاعات يختص بها - ومع هذا - فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقد {قال لعمر لما أراد أن يعتمر وودعه: يا أخي لا تنسني من دعائك}.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته أن يدعوا له؛ ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم، بل أمره بذلك لهم كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها مع أنه صلى الله عليه وسلم له مثل أجورهم في كل ما يعملونه فإنه قد صح عنه أنه قال: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا} وهو داعي الأمة إلى كل هدى فله مثل أجورهم في كل ما اتبعوه فيه.
    وكذلك إذا صلوا عليه فإن الله يصلي على أحدهم عشرا وله مثل أجورهم مع ما يستجيبه من دعائهم له فذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجرهم عليه وصار ما حصل له به من النفع نعمة من الله عليه وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: {ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك مثل ذلك} وفي حديث آخر: {أسرع الدعاء دعوة غائب لغائب}.
    فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو له وإن كان الداعي دون المدعو له فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له. فمن قال لغيره ادع لي وقصد انتفاعهما جميعا بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى فهو نبه المسئول وأشار عليه بما ينفعهما، والمسئول فعل ما ينفعهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى؛ فيثاب المأمور على فعله والآمر أيضا يثاب مثل ثوابه؛ لكونه دعا إليه لا سيما ومن الأدعية ما يؤمر بها العبد كما قال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} فأمره بالاستغفار ثم قال: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}.
    فذكر - سبحانه - استغفارهم واستغفار الرسول لهم إذ ذاك مما أمر به الرسول حيث أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ولم يأمر الله مخلوقا أن يسأل مخلوقا شيئا لم يأمر الله المخلوق به بل ما أمر الله العبد أمر إيجاب أو استحباب؛ ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة إلى الله وصلاح لفاعله وحسنة فيه وإذا فعل ذلك كان أعظم لإحسان الله إليه وإنعامه عليه.

    بل أجل نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم للإيمان. والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة والحسنات وكلما ازداد العبد عملا للخير. ازداد إيمانه. هذا هو الإنعام الحقيقي المذكور في قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} وفي قوله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم}. بل نعم الدنيا بدون الدين هل هي من نعمه أم لا؟ فيه قولان مشهوران للعلماء من أصحابنا وغيرهم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #100
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (98)

    من صــ 457 الى صـ
    ـ 464


    والتحقيق: أنها نعمة من وجه وإن لم تكن نعمة تامة من وجه وأما الإنعام بالدين الذي ينبغي طلبه فهو ما أمر الله به من واجب ومستحب فهو الخير الذي ينبغي طلبه باتفاق المسلمين وهو النعمة الحقيقية عند أهل السنة إذ عندهم أن الله هو الذي أنعم بفعل الخير. والقدرية عندهم إنما أنعم بالقدرة عليه الصالحة للضدين فقط.

    والمقصود هنا: أن الله لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا إلا ما كان مصلحة لذلك المخلوق إما واجب أو مستحب. فإنه سبحانه لا يطلب من العبد إلا ذلك فكيف يأمر غيره أن يطلب منه غير ذلك؟ بل قد حرم على العبد أن يسأل العبد ماله إلا عند الضرورة. وإن كان قصده مصلحة المأمور أو مصلحته ومصلحة المأمور فهذا يثاب على ذلك وإن كان قصده حصول مطلوبه من غير قصد منه لانتفاع المأمور فهذا من نفسه أتى ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط بل قد نهى عنه إذ هذا سؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته والله يأمرنا أن نعبده ونرغب إليه، ويأمرنا أن نحسن إلى عباده وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا فلم يقصد الرغبة إلى الله ودعائه وهو الصلاة.
    ولا قصد الإحسان إلى المخلوق الذي هو الزكاة وإن كان العبد قد لا يأثم بمثل هذا السؤال؛ لكن فرق ما بين ما يؤمر به العبد وما يؤذن له فيه ألا ترى أنه قال في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: أنهم لا يسترقون. وإن كان الاسترقاء جائزا. وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع.
    والمقصود هنا: أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك؛ بل هذا دين المشركين عباد الأوثان كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله؛ وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} أي فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر والنهي وليؤمنوا بي أن أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع. وقال تعالى: {فإذا فرغت فانصب}. {وإلى ربك فارغب} وقال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} وقال تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}. وقال تعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن}. وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به حتى لا يخاف أحد غير الله ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عليه.

    وقال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} أي يخوفكم أولياءه {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} وقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله} وقال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.

    فبين أن الطاعة لله ورسوله وأما الخشية فلله وحده. وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله} ونظيره قوله تعالى {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته ويحسم عنهم مواد الشرك؛ إذ هذا تحقيق قولنا لا إله إلا الله فإن الإله هو الذي تألهه القلوب؛ لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والرجاء والخوف حتى قال لهم: {لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد؛ ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد} {وقال له رجل: ما شاء الله وشئت.
    فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده} وقال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وقال: {من حلف بغير الله فقد أشرك} وقال لابن عباس: {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما أنت لاق؛ فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشيء كتبه الله لك ولو جهدت أن تضرك لم تضرك إلا بشيء كتبه الله عليك} وقال أيضا: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله} وقال: {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد} وقال: {لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم} وقال في مرضه: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور
    أنبيائهم مساجد} يحذر ما صنعوا قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره؛ ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وهذا باب واسع.
    ومع علم المؤمن أن الله رب كل شيء ومليكه: فإنه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب كما جعل المطر سببا لإنبات النبات. قال الله تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة} وكما جعل الشمس والقمر سببا لما يخلقه بهما وكما جعل الشفاعة والدعاء سببا لما يقضيه بذلك مثل صلاة المسلمين على جنازة الميت؛ فإن ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها ويثيب عليها المصلين عليه؛ لكن ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
    أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب بل لا بد معه من أسباب أخر ومع هذا فلها موانع. فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع: لم يحصل المقصود وهو - سبحانه - ما شاء كان - وإن لم يشأ الناس - وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله. الثاني: أن لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم فمن أثبت شيئا سببا بلا علم أو يخالف الشرع: كان مبطلا مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم {: أنه نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل}.
    الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سببا إلا أن تكون مشروعة؛ فإن العبادات مبناها على التوقيف؛ فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره - وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه -
    وكذلك لا يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة - وإن ظن ذلك - فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان فلا يحل له ذلك إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به إذ الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فما أمر الله به: فمصلحته راجحة وما نهى عنه: فمفسدته راجحة وهذه الجمل: لها بسط لا تحتمله هذه الورقة. والله أعلم.

    وسئل أحمد ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:
    عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بعيره: يطلب إزالة المرض الذي بهم ويقول: يا سيدي أنا في جيرتك أنا في حسبك فلان ظلمني فلان قصد أذيتي ويقول: إن المقبور يكون واسطة بينه وبين الله تعالى وفيمن ينذر للمساجد والزوايا والمشايخ - حيهم وميتهم - الدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك يقول: إن سلم ولدي فللشيخ علي كذا وكذا وأمثال ذلك.

    وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذاك الواقع؟ وفيمن يجيء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويمسح القبر بيديه ويمسح بهما وجهه وأمثال ذلك؟ وفيمن يقصده بحاجته ويقول: يا فلان ببركتك أو يقول: قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ؟ وفيمن يعمل السماع ويجيء إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدي شيخه على الأرض ساجدا.

    وفيمن قال: إن ثم قطبا غوثا جامعا في الوجود؟ أفتونا مأجورين وابسطوا القول في ذلك.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •