تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 14 الأولىالأولى 12345678910111213 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 262

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (39)

    من صــ 8 الى صـ
    ـ 14

    فهؤلاء هم الذين أمر الله عباده أن يسألوا هداية صراطهم.
    وأما النصارى الذين كانوا على دين المسيح قبل النسخ والتبديل فهم من المنعم عليهم، كما أن اليهود الذين كانوا على دين موسى قبل النسخ والتبديل كانوا من المنعم عليهم.

    وأما النصارى بعد النسخ والتبديل فهم من الضالين، لا من المنعم عليهم عند الله ورسوله، كما قال - تعالى -:
    {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
    وقال - تعالى -:
    {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} [مريم: 38].
    وعباد الأصنام من الضالين المغضوب عليهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون رواه الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
    وسبب ذلك أن اليهود يعرفون الحق ولا يعملون به، والنصارى يعبدون بلا علم، وقد وصف الله اليهود بأعمال، والنصارى بأعمال، فوصف اليهود بالكبر والبخل والجبن والقسوة وكتمان العلم وسلوك سبيل الغي وهو سبيل الشهوات والعدوان.
    وذكر عن النصارى الغلو والبدع في العبادات والشرك والضلال واستحلال محارم الله، فقال - تعالى -:
    {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171] (171) {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172] (172)
    {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 173].
    وقال - تعالى -:
    {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27].

    أي لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، لم نكتب عليهم الرهبانية، بل هم ابتدعوها ومع ابتداعهم إياها فما رعوها حق رعايتها، وكل بدعة ضلالة فهم مذمومون على ابتداع الرهبانية وعلى أنهم لم يرعوها حق رعايتها.
    وأما ما كتب عليهم من ابتغاء رضوان الله فيحصل بفعل ما شرعه الله لهم من واجب ومستحب، فإن ذلك هو الذي يرضاه، ومن فعل ما يرضاه الله فقد فعل ما كتب عليه، ويحصل رضوان الله أيضا بمجرد فعل الواجبات، وهذا هو الذي كتب على العباد، فإذا لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله كان ابتغاء رضوانه واجبا، فما ليس بواجب لا يشترط في حصول ما كتب عليهم.
    ولهذا ضعف أحمد بن حنبل وغيره الحديث المروي: أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله، فإن من صلى في آخر الوقت كما أمر فقد فعل الواجب، وبذلك يرضى الله عنه وإن كان فعل المستحبات والمسابقة إلى الطاعات أبلغ في إرضاء الله، ويحصل له بذلك من رضوان الله ومحبته ما لا يحصل بمجرد الواجبات.
    كما قال موسى - عليه السلام -.
    {وعجلت إليك رب لترضى} [طه: 84].

    وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله - تعالى -: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي فلئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته»، ولا بد له منه فقوله حتى أحبه يريد المحبة المطلقة الكاملة.
    وأما أصل المحبة: فهي حاصلة بفعل الواجبات، فإن الله يحب المتقين والمقسطين، ومن أدى الواجبات فهو من المتقين المقسطين.
    وقال - تعالى - فيهم:
    {وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] (30) {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].
    وقال - تعالى -:
    {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].

    وهو - سبحانه - خاطب النصارى بهذا لأن النصارى يعتمدون في دينهم على ما يقوله كبراؤهم الذين وضعوا لهم القوانين والنواميس ويسوغون لأكابرهم الذين صاروا عندهم عظماء في الدين أن يضعوا لهم شريعة وينسخوا بعض ما كانوا عليه قبل ذلك، لا يردون ما يتنازعون فيه من دينهم إلى الله ورسله، بحيث لا يمكنون أحدا من الخروج عن كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل وعن اتباع ما جاء به المسيح، ومن قبله من الأنبياء - عليهم السلام -.
    ولهذا قال - تعالى -:
    {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} [المائدة: 68].
    بل ما وضعه لهم أكابرهم من القوانين الدينية والنواميس الشرعية بعضها ينقلونه عن الأنبياء، وبعضها عن الحواريين، وكثير من ذلك ليس منقولا، لا عن الأنبياء، ولا عن الحواريين، بل من وضع أكابرهم وابتداعهم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (40)

    من صــ 15 الى صـ
    ـ 21

    المحرمات، وابتدعوا لهم الصوم وقت الربيع، وجعلوه خمسين يوما، وابتدعوا لهم أعيادهم، كعيد الصليب، وغيره من الأعياد.
    وكذلك «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم لما سمعه يقرأ هذه الآية:
    {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31].

    فقال: لم يعبدوهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم» ولهذا قال - تعالى -:
    {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
    فإنهم يتبعون أهواء أكابرهم الذين مضوا من قبلهم، وأولئك ضلوا من قبل هؤلاء وأضلوا أتباعهم، وهم كثيرون، وضلوا عن سواء السبيل، وهو وسط السبيل، وهو الصراط المستقيم، فإن كانوا هم وأتباعهم ضالين عن الصراط المستقيم، فكيف يجوز أن يأمر الله عباده أن يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم، ويعني به صراط هؤلاء الضالين المضلين عن سواء السبيل، وهو الصراط المستقيم.
    وقد قال - سبحانه -: ولا تتبعوا أهواء هؤلاء لأن أصل ابتداعهم هذه البدعة من أنفسهم مع ظن كاذب، فكانوا ممن قيل فيهم:
    {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23].
    وممن قيل فيه.
    {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50].
    وسبب ذلك أن المسيح - صلى الله عليه وسلم - لما رفع إلى السماء وعاداه اليهود، وعادوا أتباعه عداوة شديدة، وبالغوا في أذاهم وإذلالهم وطلب قتلهم ونفيهم، صار في قلوبهم من بغض اليهود، وطلب الانتقام منهم ما لا يوصف، فلما صار لهم دولة وملك مثل ما صار لهم في دولة قسطنطين، صاروا يريدون مقابلة اليهود.
    كما جرت العادة في مثل ذلك بين الطوائف المتقابلة المتنازعين في الملك، والمتنازعين في البدع كالخوارج، والروافض،والجبر ية مع القدرية والمعطلة مع الممثلة، وكالدولتين المتنازعتين على الملك والأهواء بمنزلة قيس ويمن، وأمثال ذلك.
    إذا ظهرت طائفة على الأخرى بعدما آذتها الأخرى وانتقمت منها تريد أن تأخذ بثأرها، ولا تقف عند حد العدل، بل تعتدي على تلك كما اعتدت تلك عليها.
    فصار النصارى يريدون مناقضة اليهود فأحلوا ما يحرمه اليهود كالخنزير وغيره، وصاروا يمتحنون من دخل في دينهم بأكل الخنزير، فإن أكله وإلا لم يجعلوه نصرانيا.
    وتركوا الختان، وقالوا: إن المعمودية عوض عنه، وصلوا إلى قبلة غير قبلة اليهود.
    وكان اليهود قد أسرفوا في ذم المسيح - عليه السلام - وزعموا أنه ولد زنا، وأنه كذاب ساحر.

    فغلوا هؤلاء في تعظيم المسيح، وقالوا: إنه الله وابن الله، وأمثال ذلك، وصار من يطلب أن يقول فيه القول العدل مثل كثير من علمائهم وعبادهم، يجمعون له مجمعا ويلعنونه فيه على وجه التعصب، واتباع الهوى، والغلو فيمن يعظمونه، كما يجري مثل ذلك لأهل الأهواء، كالفلاة في بعض المشايخ، وبعض أهل البيت، وبعض العلماء وبعض الملوك، وبعض القبائل وبعض المذاهب، وبعض الطرائق، فإنما كان مصدر ضلالهم أهواء نفوسهم، قال - تعالى - للنصارى الذين كانوا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم:
    {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
    وأما قولهم إن الصراط هو المذهب أي الطريق، وهذه لفظة رومية لأن الطريق بالرومية اسطراطا.
    فيقال لهم: الصراط في لغة العرب: هو الطريق يقال هو الطريق الواضح ويقال هو الطريق المحدود بجانبين الذي لا يخرج عنه، ومنه الصراط المنصوب على جهنم، وهو الجسر الذي يعبر عليه المؤمنون إلى الجنة، وإذا عبر عليه الكفار سقطوا في جهنم، ويقال فيه: معنى الاستواء والاعتدال الذي يوجب سرعة العبور عليه، وفيه ثلاث لغات، هي ثلاث قراءات: الصراط، والسراط، والزراط، وهي لغة عربية عرباء ليست من المعرب، ولا مأخوذة من لغة الروم كما زعموا.
    ويقال أصله من قولهم: سرطت الشيء أسرطه سرطا، إذا ابتلعته واسترطته ابتلعته، فإن المبتلع يجري بسرعة في مجرى محدود.
    ومن أمثال العرب: لا تكن حلوا فتسترط، ولا مرا فتعفى، من قولهم: أعفيت الشيء، إذا أزلته من فيك لمرارته، ويقال فلان يسترط ما يأخذ من الدين.

    وحكى يعقوب بن السكيت: الأخذ سريط، والقضاء ضريط، والسرطاط: الفالوذج، لأنه يسترط استراطا، وسيف سراطي، أي قاطع فإنه ماض سريع المذهب في مضربه.
    فالصراط: هو الطريق المحدود المعتدل الذي يصل سالكه إلى مطلبه بسرعة، وقد ذكر الله لفظ الصراط في كتابه في غير موضع، ولم يسم الله سبيل الشيطان سراطا، بل سماها سبلا، وخص طريقه باسم الصراط، كقوله - تعالى -:{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153].
    وفي السنن عن عبد الله بن مسعود قال: «خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا، وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه من أجابه قذفه في النار ثم قرأ:
    {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]».
    فسمى - سبحانه - طريقه صراطا، وسمى تلك سبلا، ولم يسمها صراطا كما سماها سبيلا، وطريقه يسميه سبيلا كما يسميه صراطا.
    وقال - تعالى -: عن موسى وهارون:{وآتيناهم ا الكتاب المستبين} [الصافات: 117] (117) {وهديناهما الصراط المستقيم} [الصافات: 118].
    وقال - تعالى -:
    {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} [الفتح: 1] (1) {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} [الفتح: 2] (2) {وينصرك الله نصرا عزيزا} [الفتح: 3].

    وهذه الهداية الخاصة التي أعطاه إياها بعد فتح الحديبية أخص مما تقدم فإن السالك إلى الله لا يزال يتقرب إليه بشيء بعد شيء، ويزيده الله هدى بعد هدى، وأقوم الطريق وأكملها الطريق التي بعث الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال - تعالى -:
    {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9].


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (41)

    من صــ 22 الى صـ
    ـ 28

    فصل
    ويستحب التأمين بعد الفاتحة, والسنة للمصلي إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} أن يقول: آمين, ويقولها الإمام والمأموم والمنفرد, يجهر بها الإمام والمأموم فيما يجهر بقراءته تبعاً للفاتحة, وكذلك المنفرد إن جهر؛ لما روى أبو هريرة: أّنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا, فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه الجماعة.

    وقال ابن شهاب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «آمين» وفي رواية أحمد والنسائي: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا آمِينَ, فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ, وَإِنَّ الإِمَامَ يَقُولُ: آمِينَ, فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
    وقد تقدم عن بلالٍ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسْبِقْنِي بِآمِينَ» , وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ بالتَّكْبِيرِ, وَيَفْتَتِحُ قِرَاءَتَهُ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: آمِينَ» رواه.
    وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «إِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَلاَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ: آمِينَ حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الأَوَّلِ» رواه أبو داود وابن ماجة وقال: «حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الأَوَّلِ, فَيَرْتَجُّ الْمَسْجِدُ» , وفي رواية قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} رفع صوته بآمين, ويأمرنا بذلك» رواه الأثرم, وفي رواية: «كَانَ إِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ آمِينَ وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن.
    وفي روايةٍ: قال: «آمين» يمد بها صوته. وقال الدارقطني:حديث صحيح. وعن وائل بن حجر قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, فَجَهَرَ بِآمِينَ».
    فهذه كلها نصوص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالتأمين, وقد أمر المأمومين أن يؤمنوا مع تأمين الإمام, وظاهره أنهم يؤمنون مثل تأمينه؛ لأن التأمين في حقهم أوكد؛ لكونهم أمروا به, فإذا كان هو يجهر به فالمأموم أولى, وقد تقدم التصريح بذلك, ولذلك فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر بالجهر به, وأجمعوا* على ذلك, فروى إسحاق بن راهويه عن عطاء قال: أدركت مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} سمعت لهم ضجَّة بآمين, وعن عكرمة قال: أدركت الناس في هذا المسجد ولهم ضجة بآمين, قال إسحاق: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بآمين، حتى يسمعوا للمسجد رِجَّة.
    ولأن المؤمّن داع, ولهذا قال الله سبحانه لموسى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} وإنما كان يدعو موسى ويُؤَمِّن هارون.
    وقد شرع التأمين للقارئ ومستمعه, حتى الملائكة في السماء تقول: آمين.
    وإذا ترك الإمام التأمين أو الجهر به أمَّن المأموم وجهر به, وسواء كان قريباً من الإمام يسمع قراءته ويسمع همهمته, أو كان لا يسمع له صوتاً, فإنه يؤمن, ثم إن كان في قراءةٍ تركها وأمَّن, ثم يبني على قراءته.
    وإذا ترك التأمين في موضعه لم يأتِ به بعد ذلك, مثل أن يأخذ في قراءة السورة حتى يشرع في القراءة, فقد فات في محله فلا يعيده, وإن ذكر قبل أن يطول الفصل أتى به؛ لأن محله باقٍ, ولا يجب عليه سجود السهو, نص عليه؛ لأنه دعاء لا يتميز بفعل فلم يشرع له سجود السهو, كالتعوذ من أربع في التشهد.
    وفيه لغتان: «أمين» على وزن فعلي, و «آمين» على وزن فاعيل, فالياء ممدودة فيهما, وفي إحدى اللغتين يأتي بألفٍ ممدودة بعد الهمزة, فيجتمع فيه كلمتان, وقال القاضي والآمدي: هذه اللغة أشبه بالسنة؛ لأنَّ في حديث «مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» ولا حجة فيه؛ لأن مدّ الصوت قد يكون في الياء, وهو أظهر منه في الألف, فإن قال: «آمِّين» بتشديد الميم, وأتى بألف, أو لم يأت بها, قال الآمدي لا يجوز؛ لأن «آمِّين» قاصدين, من قوله تعالى: {وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}.
    ومعناها: اللهم استجب, وهي عند أهل العربية من أسماء الأفعال, التي يطلب بها, مثل: هلم وهيئت, ولذلك بُنيت.
    وتركها مكروه, قال أحمد: «آمين» أَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا» فهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم أوكد من الفعل. وقياس قول أبي بكر وجوبها, عن أبي مُصبِّح المقرائي قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري, وكان من الصحابة, فيتحدث أحسن الحديثِ, فإذا دعا الرجل منا قال: اختمه بآمين, فإن «آمين» مثل الطابع على الصحيفة. قال أبو زهير: أخبركم عن ذلك, خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ, فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ, فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
    «أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ؟ قَالَ: «بِآمِينَ» فَمَا مَرَّ أَنْ خَتَمَ بِآمِينَ هَذَا أَوْجَبَ, فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, فَأَتَى الرَّجُلَ فَقَالَ: «اخْتِمُ يَا فُلاَنُ بِآمِينَ وَأَبْشِرْ» رواه أبو داود.
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى: آمِينَ فَأَكْثِرُوا مِنْ آمِينَ» رواه النجاد.
    فإن قال: آمين رب العالمين, فقال القاضي والآمدي وغيرهما: قياس قول أحمد أنه غير مستحب, كما لم يستحب الزيادة على تكبيرة الافتتاح, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وهو صلى الله عليه وسلم إنما قال: آمين, من غير زيادة.
    الى اللقاء مع سورة سُورَةُ الْبَقَرَةِ



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (42)

    من صــ 29 الى صـ
    ـ 35

    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
    فَصْلٌ:

    وَقَدْ ذَكَرْت فِي مَوَاضِعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " مِنْ تَقْرِيرِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْهَادِي لِلْمُتَّقِينَ فَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الْهُدَى ثُمَّ الْكَافِرِينَ ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ . فَهَذِهِ " جُمَلٌ خَبَرِيَّةٌ " ثُمَّ ذَكَرَ " الْجُمَلَ الطَّلَبِيَّةَ " فَدَعَا النَّاسُ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَرْشِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ الثِّمَارِ رِزْقًا لِلْعِبَادِ ثُمَّ قَرَّرَ " الرِّسَالَةَ " وَذَكَرَ " الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ " ثُمَّ ذَكَرَ مَبْدَأَ " النُّبُوَّةِ وَالْهُدَى " وَمَا بَثَّهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَإِسْجَادَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ لِمَا شَرَّفَهُ مِنْ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا تَقْرِيرٌ لِجِنْسِ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَقَصَّ جِنْسَ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى خِطَابِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ وَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْرِيرَ نُبُوَّتِهِ إذْ هُوَ قَرِينُ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ،وَمُوسَ ى الَّذِي هُوَ نَظِيرُهُ وَهُمَا اللَّذَانِ احْتَجَّا وَمُوسَى قَتَلَ نَفْسًا فَغَفَرَ لَهُ وَآدَمُ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي قِصَّةِ مُوسَى رَدٌّ عَلَى الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِجِنْسِ النُّبُوَّاتِ وَلَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ مَا جَاءُوا بِهِ وَقَدْ يَتَأَوَّلُونَ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِ نُبُوَّتِهِ وَذَكَرَ حَالَ مَنْ عَدَلَ عَنْ النُّبُوَّةِ إلَى السِّحْرِ وَذَكَرَ النَّسْخَ الَّذِي يُنْكِرُهُ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَ النَّصَارَى وَأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. كُلُّ هَذَا فِي تَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْوَحْدَانِيَّ ةِ وَالرِّسَالَةِ. ثُمَّ أَخَذَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ إمَامٌ وَبِنَاءَ الْبَيْتِ الَّذِي بِتَعْظِيمِهِ يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَمَّا سِوَاهُمْ وَذَكَرَ اسْتِقْبَالَهُ وَقَرَّرَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمِلَّةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: أَهْلُ الْقِبْلَةِ كَمَا يُقَالُ: {مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ}.
    وَذَكَرَ مِنْ " الْمَنَاسِكِ " مَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ مَكَانٌ وَزَمَانٌ و " الْعُمْرَةَ " لَهَا مَكَانٌ فَقَطْ وَالْعُكُوفُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ شُرِعَ فِيهِ؛ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَا بِمَكَانِ وَلَا بِزَمَانِ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَتَقَيَّدُ بِاسْتِقْبَالِه ِ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَةَ:
    مِنْ الْعُكُوفِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَالطَّوَافُ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ فَقَطْ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ بِالْجَبَلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ جَوَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّوَافِ بِهِمَا لِأَجْلِ إهْلَالِهِمْ لِمَنَاةَ وَجَوَابًا لِقَوْمِ تَوَقَّفُوا عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا. وَجَاءَ ذِكْرُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَة ِ بِالْبَيْتِ - بَلْ وَبِالْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ - بَعْدَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِمَا وَكَانَ ذَلِكَ مِفْتَاحَ الْجِهَادِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى الصَّبْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ أَمْرِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ لَا يُخَالِفُونَ فِيهِ فَلَا يَقُومُ أَمْرُ الْبَيْتِ إلَّا بِالْجِهَادِ عَنْهُ وَذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَالْمَقْدُورِ وَبَيَّنَّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْبُشْرَى لِلصَّابِرِينَ فَإِنَّهَا أُعْطِيَتْ مَا لَمْ تُعْطَ الْأُمَمُ قَبْلَهَا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَشَعَائِرِهَا كَالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَة ِ بِالْبَيْتِ؛ وَلِهَذَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ لِدُخُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا الْجِهَادُ فَهُوَ أَعْظَمُ سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَ: {الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
    وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِذَمِّهِ لِكَاتِمِ الْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَ ذَلِكَ. فَفِي أَوَّلِهَا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَفِي أَثْنَائِهَا. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} فـ " الْأَوَّلُ " نَهْيٌ عَامٌّ و " الثَّانِي " نَهْيٌ خَاصٌّ وَذَكَرَهَا بَعْدَ الْبَيْتِ لَيُنْتَهَى عَنْ قَصْدِ الْأَنْدَادِ الْمُضَاهِيَةِ لَهُ وَلِبَيْتِهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْمَقَابِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَحَّدَ نَفْسَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِهِ مِنْ الْآيَاتِ.
    ثُمَّ ذَكَرَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَأَطْلَقَ الْأَمْرَ فِي الْمَطَاعِمِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّ ةِ وَشِعَارُهَا وَهُوَ الْبَيْتُ وَذَكَرَ سَمَاحَتَهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُبَاحَةِ وَفِي الدِّمَاءِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْقِصَاصِ وَمِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَة َ بِالزَّمَانِ فَذَكَرَ الْوَصِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَة َ بِالْمَوْتِ ثُمَّ الصِّيَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَمَضَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الِاعْتِكَافِ ذَكَرَهُ فِي عِبَادَاتِ الْمَكَانِ وَعِبَادَاتِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَبِالزَّمَانِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا بِوَقْتِ الصِّيَامِ وَوَسَّطَهُ أَوَّلًا بَيْنَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ تُشْرَعُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْعُكُوفُ بَيْنَهُمَا.
    ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ لِعَيْنِهِ كَالْمَيِّتَةِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ كَالرِّبَا وَالْمَغْصُوبِ فَأَتْبَعَ الْمَعْنَى الثَّابِتَ بِالْمُحَرَّمِ الثَّابِتِ تَحْرِيمُهُ لِعَيْنِهِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ عِبَادَاتِ الزَّمَانِ الْمُنْتَقِلِ الْحَرَامَ الْمُنْتَقِلَ؛ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الْآيَةَ وَهِيَ أَعْلَامُ الْعِبَادَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَلِلْحَجِّ لِأَنَّ الْبَيْتَ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ فَكَانَ هَذَا أَيْضًا فِي أَنَّ الْحَجَّ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ كَأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِالْبَيْتِ الْمَكَانِيِّ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ مَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
    وَذَكَرَ " الْمُحْصَرَ " وَذَكَرَ تَقْدِيمَ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ وَهُوَ الْهَدْيُ عَنْ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّفْسِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَأَنَّ الْمُتَحَلِّلَ يَخْرُجُ مِنْ إحْرَامِهِ فَيَحِلُّ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ مَا يَحِلُّ عَيْنَ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِمَحْظُورِ سِوَاهُ. وَذَكَرَ " التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ " لِتَعَلُّقِهِ بِالزَّمَانِ مَعَ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَتَّى لَا يَكُونَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَهُوَ الْأُفُقِيُّ - فَإِنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ التَّمَتُّعُ فِي حَقِّهِ لِتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ عَنْهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ حَاضِرٌ فسيان عِنْدَهُ تَمَتَّعَ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرَ وَقْتَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَذَكَرَ الْإِحْرَامَ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ وَمَكَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ:

    {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} وَلَمْ يَقُلْ: وَالْعُمْرَةَ لِأَنَّهَا تُفْرَضُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ السُّنَّةَ فَرْضُ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَمَنْ فَرَضَ قَبْلَهُ خَالَفَ السُّنَّةَ فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ كَالنَّذْرِ - إذْ لَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِلْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ - وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ الْإِحْرَامَ وَيَسْقُطُ الْحَجُّ وَيَكُونُ مُعْتَمِرًا وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ.

    ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِهِ وَقَضَاؤُهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَضَاءُ التَّفَثِ وَالْإِحْلَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْعِبَادَاتِ الزَّمَانِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ . وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَمَعَ الصَّلَوَاتِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَكَانِيٌّ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الْآيَةَ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا تُضَافُ هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَى مَكَانِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ مِنًى وَإِلَى عَمَلِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلَةَ جَمْعٍ وَلَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيَوْمَ الْعِيدِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتُضَافُ إلَى الْأَعْمَالِ وَأَمَاكِنِ الْأَعْمَالِ؛ إذْ الزَّمَانُ تَابِعٌ لِلْحَرَكَةِ وَالْحَرَكَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَكَانِ. فَتَدَبَّرْ تَنَاسُبَ الْقُرْآنِ وَارْتِبَاطَ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَكَيْفَ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْحَجِّ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ:
    مَعَ ذَكَرِ بَيْتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهِ وَمَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ الْأَهِلَّةَ فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمُقَاصَّةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ كَوْنِ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.
    وَذَكَرَ أَنَّ " الْبِرَّ " لَيْسَ أَنْ يُشْقِيَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَيَفْعَلَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ يَبْرُزُ لِلسَّمَاءِ فَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفِ بَيْتِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ دُخُولَ بَيْتِهِ لَا يَأْتِيهِ إلَّا مِنْ ظَهْرِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهِلَالَ الَّذِي جُعِلَ مِيقَاتًا لِلْحَجِّ شَرْعٌ مِثْلُ هَذَا وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ شَرْعَ التَّقْوَى ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ وَالْوَالِدَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ وَالرِّبَا وَالدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ خَتَمَهَا بِالدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْمُتَضَمِّنِ وَضْعَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَطَلَبَ النَّصْرِ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ.
    وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (43)

    من صــ 36 الى صـ
    ـ 42

    (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
    (فَصْلٌ: في المراد من الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ)
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -
    فَصْلٌ:

    قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلن الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}
    قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: " الْغَيْبُ " هُوَ اللَّهُ أَوْ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. فَفِي مَوْضِعٍ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا وَفِي مَوْضِعٍ جَعَلَهُ نَفْسَهُ غَيْبًا.
    وَلِهَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِي نَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي - يَقُولُونَ: بِقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَيُرِيدُونَ بِالْغَائِبِ اللَّهَ وَيَقُولُونَ: قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ ثَابِتٌ بِالْحَدِّ وَالْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ وَالشَّرْطِ، كَمَا يَقُولُونَ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
    وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ رَأْسِ الْعَيْنِ وَقَالَ: لَا يُسَمَّى اللَّهُ غَائِبًا وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْن ِ أَنَّ اسْمَ " الْغَيْبِ وَالْغَائِبِ " مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ نُدْرِكْهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ يُدْرِكْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا غَابَ عَنْ الْآخَرِ مَغِيبًا مُطْلَقًا لَمْ يُدْرِكْ هَذَا هَذَا وَلَا هَذَا هَذَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِيدٌ عَلَى الْعِبَادِ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فَلَيْسَ هُوَ غَائِبًا وَإِنَّمَا لَمَّا لَمْ يَرَهُ الْعِبَادُ كَانَ غَيْبًا؛ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِغَائِبِ؛ فَإِنَّ " الْغَائِبَ "
    اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِك غَابَ يَغِيبُ فَهُوَ غَائِبٌ وَاللَّهُ شَاهِدٌ غَيْرُ غَائِبٍ وَأَمَّا " الْغَيْبُ " فَهُوَ مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ غَيْبًا وَكَثِيرًا مَا يُوضَعُ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ كَالْعَدْلِ وَالصَّوْمِ وَالزُّورِ وَمَوْضِعَ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَدِرْهَمٍ ضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَلِهَذَا يَقْرِنُ الْغَيْبَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَالشَّهَادَةُ هِيَ الْمَشْهُودُ أَوْ الشَّاهِدُ وَالْغَيْبُ هُوَ إمَّا الْمَغِيبُ عَنْهُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ نَقِيضَ الشَّهَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْغَائِبِ الَّذِي غَابَ عَنَّا فَلَمْ نَشْهَدْهُ فَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ أَيْ لَيْسَ هُوَ بِنَفْسِهِ غَائِبًا وَإِنَّمَا غَابَ عَنْ الْغَيْرِ أَوْ غَابَ الْغَيْرُ عَنْهُ.
    وَقَدْ يُقَالُ اسْمُ " الشَّهَادَةِ وَالْغَيْبِ " يَجْمَعُ النِّسْبَتَيْنِ فَالشَّهَادَةُ مَا شَهِدْنَا وَشَهِدْنَاهُ وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنَّا وَغِبْنَا عَنْهُ فَلَمْ نَشْهَدْهُ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَعْنَى فِي كَوْنِهِ غَيْبًا هُوَ انْتِفَاءُ شُهُودِنَا لَهُ وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فَلَوْ قَالُوا: قِيَاسُ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ لَكَانَتْ الْعِبَارَةُ مُوَافَقَةً وَأَمَّا قِيَاسُ الْغَائِبِ فَفِيهِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَكِنْ مُوَافَقَةٌ فِي الْمَعْنَى؛ فَلِهَذَا حَصَلَ فِي إطْلَاقِهِ التَّنَازُعُ.
    (فَصْلٌ: أَصْلُ الْإِيمَانِ " تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ)
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:

    و" أَصْلُ الْإِيمَانِ " تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ} {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: خِلَّتَانِ تُسْأَلُ الْعِبَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْهُمَا: عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَعَمَّا أَجَابُوا الرُّسُلَ. وَلِهَذَا يُقَرِّرُ اللَّهُ هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ بَلْ يُقَدِّمُهُمَا عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الْأُصُولِ: مِثْلَمَا ذَكَرَ فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ " فَإِنَّهُ افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ كَانَ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَإِنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهَا نِفَاقٌ؛ بَلْ إمَّا مُؤْمِنٌ؛ وَإِمَّا كَافِرٌ.
    و " الْبَقَرَةُ " مَدَنِيَّةٌ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي ذِكْرِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ . وَافْتَتَحَهَا بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاء ِ وَوَسَّطَهَا بِذَلِكَ وَخَتَمَهَا بِذَلِكَ. قَالَ فِي أَوَّلِهَا: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
    وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أَنَّهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَالْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} وَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
    وَمَنْ قَالَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أَرَادَ بِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ:
    فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ فَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ.
    وَقَالَ فِي وَسَطِ السُّورَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ وَقَدْ قَالَ فِي أَثْنَائِهَا: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.
    ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْخَلْقِ قَرَّرَ أُصُولَ الدِّينِ. فَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ أَوَّلًا ثُمَّ النُّبُوَّةَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثُمَّ قَرَّرَ النُّبُوَّةَ بِقَوْلِهِ:
    {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}.
    ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ. فَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْمَعَادَ. وَهَذِهِ أُصُولُ الْإِيمَانِ.
    وَفِي آلِ عِمْرَانَ قَالَ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}. فَذَكَرَ التَّوْحِيدَ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ثَانِيًا وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ كَمَا قَالَ: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}.
    وَلَفْظُ " الْفُرْقَانَ " يَتَنَاوَلُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِثْلَ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ: كَالْحَيَّةِ وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ. وَالْقُرْآنُ فُرْقَانٌ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِلْمٌ عَظِيمٌ. وَهُوَ أَيْضًا فُرْقَانٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَرَّقَ بِبَيَانِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وَلِهَذَا فَسَّرَ جَمَاعَةٌ الْفُرْقَانَ هُنَا بِهِ.
    وَلَفْظُ " الْفُرْقَانِ " أَيْضًا يَتَنَاوَلُ نَصْرَ اللَّهِ لِأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكَ أَعْدَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَعْلَامِ قَالَ تَعَالَى: {إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.
    وَالْآيَاتُ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللَّهُ دِلَالَةً عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ مِمَّا يُنَزِّلُهُ كَمَا قَالَ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} وَقَالَ: {إنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.
    وَالْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ. وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ يُونُسَ " قَالَ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ثُمَّ قَالَ: {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} وَفِي سُورَةِ " الم السَّجْدَةُ " قَالَ تَعَالَى: {الم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
    {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} وَقَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى}.
    وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَوْلُهُ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ثُمَّ قَالَ:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَقَوْلُهُ:
    {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِسُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ تَارَةً وَتَارَةً قَوْله تَعَالَى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ} الْآيَاتُ. وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (44)

    من صــ 43 الى صـ
    ـ 49

    وهذا باب واسع؛ لأن الناس مضطرون إلى هذين الأصلين فلا ينجون من العذاب ولا يسعدون إلا بهما. فعليهم أن يؤمنوا بالأنبياء وما جاءوا به وأصل ما جاءوا به أن لا يعبدوا إلا الله وحده كما قال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
    والأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ كلامه وأمره ونهيه ووعده ووعيده وأنبائه التي أنبأ بها عن أسمائه وصفاته وملائكته وعرشه وما كان وما يكون وليسوا وسائط في خلقه لعباده ولا في رزقهم وإحيائهم وإماتتهم ولا جزائهم بالأعمال وثوابهم وعقابهم ولا في إجابة دعواتهم وإعطاء سؤالهم؛ بل هو وحده خالق كل شيء وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وقال تعالى:
    {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} {وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون} كما قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}.
    فبين أن كل ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون مثقال ذرة ولا لأحد منهم شرك معه ولا له ظهير منهم فلم يبق إلا الشفاعة {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فالأمر في الشفاعة إليه وحده كما قال تعالى: {قل لله الشفاعة جميعا} وقال: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة}.
    وقوله {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} استثناء منقطع في أصح القولين.
    فانقسم الناس فيهم " ثلاثة أقسام ": قوم أنكروا توسطهم بتبليغ الرسالة فكذبوا بالكتب والرسل: مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون وغيرهم ممن يخبر الله أنهم كذبوا المرسلين؛ فإنهم كذبوا جنس الرسل؛ يؤمنوا ببعضهم دون بعض.
    ومن هؤلاء منكرو النبوات من البراهمة وفلاسفة الهند المشركين وغيرهم من المشركين وكل من كذب الرسل لا يكون إلا مشركا وكذلك من كذب ببعضهم دون بعض كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا}.
    فكل من كذب محمدا أو المسيح أو داود أو سليمان أو غيرهم من الأنبياء الذين بعثوا بعد موسى: فهو كافر قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} وقال تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} وقال تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} والفلاسفة والملاحدة وغيرهم منهم من يجعل النبوات من جنس المنامات ويجعل مقصودها التخييل فقط. قال تعالى: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر} فهؤلاء مكذبون بالنبوات.
    ومنهم من يجعلهم مخصوصين بعلم ينالونه بقوة قدسية بلا تعلم؛ ولا يثبت ملائكة تنزل بالوحي. ولا كلاما لله يتكلم به بل يقولون إنه لا يعلم الجزئيات فلا يعلم لا موسى ولا محمدا ولا غيرهما من الرسل ويقولون: خاصية النبي - هذه القوة العلمية القدسية - قوة يؤثر بها في العالم وعنها تكون الخوارق وقوة تخيلية وهو أن تمثل له الحقائق في صور خيالية في نفسه فيرى في نفسه أشكالا نورانية ويسمع في نفسه كلاما. فهذا هو النبي عندهم. وهذه الثلاث توجد لكثير من آحاد العامة الذين غيرهم من النبيين أفضل منهم.
    وهؤلاء وإن كانوا أقرب من الذين قبلهم فهم من المكذبين للرسل. وكثير من أهل البدع يقر بما جاءوا به إلا في أشياء تخالف رأيه فيقدم رأيه على ما جاءوا به ويعرض عما جاءوا به فيقول: إنه لا يدري ما أرادوا به أو يحرف الكلم عن مواضعه. وهؤلاء موجودون في أهل الكتاب وفي أهل القبلة ولهذا ذكر الله في أول البقرة المؤمنين والكافرين؛ ثم ذكر المنافقين وبسط القول فيهم.
    وقسم ثان غلوا في الأنبياء والصالحين وفي الملائكة أيضا: فجعلوهم وسائط في العبادة فعبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى وصوروا تماثيلهم وعكفوا على قبورهم.
    وهذا كثير في النصارى ومن ضاهاهم من ضلال أهل القبلة؛ ولهذا ذكر الله هذا الصنف في القرآن في " آل عمران " وفي " براءة " في ضمن الكلام على النصارى وقال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
    وهذا الذي أمره الله أن يقوله لهم هو الذي كتب إلى هرقل ملك الروم.
    وهؤلاء قد يظنون أنهم إذا استشفعوا بهم شفعوا لهم وأن من قصد معظما من الملائكة والأنبياء فاستشفع به شفع له عند الله كما يشفع خواص الملوك عندهم. وقد أبطل الله هذه الشفاعة في غير موضع من القرآن وبين الفرق بينه وبين خلقه؛ فإن المخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه ويقبل الشفاعة لرغبة أو رهبة أو محبة أو نحو ذلك فيكون الشفيع شريكا للمشفوع إليه. وهذه الشفاعة منتفية في حق الله قال تعالى:
    {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}. وهؤلاء يحجون إلى قبورهم ويدعونهم؛ وقد يسجدون لهم وينذرون لهم وغير ذلك من أنواع العبادات.
    وهؤلاء أيضا مشركون. وأكثر المشركين يجمعون بين التكذيب ببعض ما جاءوا به وبين الشرك فيكون فيهم نوع من الشرك بالخالق وتكذيب رسله ومنهم من يجمع بين الشرك والتعطيل. فيعطل الخالق أو بعض ما يستحقه من أسمائه وصفاته.
    فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء بل يثبتون أنهم وسائط في التبليغ عن الله ويؤمنون بهم ويحبونهم ولا يحجون إلى قبورهم ولا يتخذون قبورهم مساجد. وذلك تحقيق " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ". فإظهار ذكرهم وما جاءوا به هو من الإيمان بهم وإخفاء قبورهم لئلا يفتتن بها الناس هو من تمام التوحيد وعبادة الله وحده. والصحابة وأمة محمد قاموا بهذا.
    ولهذا تجد عند علماء المسلمين من أخبار أهل العلم والدين: من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. من مشايخ العلم والدين والعدل من ولاة الأمور: ما يوجب معرفة ذلك الشخص والثناء عليه والدعاء له وأن يكون له لسان صدق وما ينتفع به: إما كلام له ينتفع به وإما عمل صالح يقتدى به فيه. فإن العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - يقصد الانتفاع بما قالوه وأخبروا به وأمروا به والاقتداء بهم فيما فعلوه - صلوات الله عليهم أجمعين.
    (فصل: أفضل العبادات البدنية الصلاة)
    قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -

    وأفضل العبادات البدنية الصلاة وفيها القراءة والذكر والدعاء وكل واحد في موطنه مأمور به ففي القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن وفي الركوع والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر بالتسبيح والذكر وفي آخرها يؤمر بالدعاء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في آخر الصلاة ويأمر بذلك والدعاء في السجود حسن مأمور به ويجوز الدعاء في القيام أيضا وفي الركوع وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور به.
    وقد سأل الخليل وغيره قال تعالى عنه: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء} {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} وقال تعالى:
    {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (45)

    من صــ 50 الى صـ
    ـ 56

    (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12)
    فصل:
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    ومن هذا الباب لفظ " الصلاح " و " الفساد ": فإذا أطلق الصلاح تناول جميع الخير وكذلك الفساد يتناول جميع الشر كما تقدم في اسم الصالح وكذلك اسم المصلح والمفسد قال تعالى في قصة موسى: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} وقال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}. والضمير عائد على المنافقين في قوله:
    {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} وهذا مطلق يتناول من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيكون بعدهم؛ ولهذا قال سلمان الفارسي: إنه عنى بهذه الآية قوما لم يكونوا خلقوا حين نزولها وكذا قال السدي عن أشياخه: الفساد الكفر والمعاصي. وعن مجاهد: ترك امتثال الأوامر واجتناب النواهي. والقولان معناهما واحد. وعن ابن عباس: الكفر. وهذا معنى قول من قال: النفاق الذي صافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين. وعن أبي العالية ومقاتل: العمل بالمعاصي. وهذا أيضا عام كالأولين.
    وقولهم: {إنما نحن مصلحون} فسر بإنكار ما أقروا به أي: إنا إنما نفعل ما أمرنا به الرسول.
    وفسر: بأن الذي نفعله صلاح ونقصد به الصلاح وكلا القولين يروى عن ابن عباس وكلاهما حق فإنهم يقولون هذا وهذا، يقولون الأول لمن لم يطلع على بواطنهم ويقولون الثاني لأنفسهم ولمن اطلع على بواطنهم. لكن الثاني يتناول الأول؛ فإن من جملة أفعالهم إسرار خلاف ما يظهرون وهم يرون هذا صلاحا قال مجاهد: أرادوا أن مصافاة الكفار صلاح لا فساد. وعن السدي: إن فعلنا هذا هو الصلاح وتصديق محمد فساد، وقيل: أرادوا أن هذا صلاح في الدنيا فإن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمنوا بمتابعته وإن كانت للكفار؛ فقد أمنوهم بمصافاتهم. ولأجل القولين قيل في قوله: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} أي لا يشعرون أن ما فعلوه فساد لا صلاح. وقيل: لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم.
    والقول الأول يتناول الثاني؛ فهو المراد كما يدل عليه لفظ الآية. وقال تعالى {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} وقال {قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين} وقول يوسف {توفني مسلما وألحقني بالصالحين}. وقد يقرن أحدهما بما هو أخص منه كقوله: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} قيل: بالكفر وقيل: بالظلم؛ وكلاهما صحيح وقال تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا} وقد تقدم قوله تعالى {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}.
    وقال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} وقتل النفس الأول من جملة الفساد لكن الحق في القتل لولي المقتول وفي الردة والمحاربة والزنا؛ الحق فيها لعموم الناس؛ ولهذا يقال: هو حق لله ولهذا لا يعفى عن هذا كما يعفى عن الأول لأن فساده عام قال تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} الآية.
    قيل: سبب نزول هذه الآية العرنيون الذين ارتدوا وقتلوا وأخذوا المال.
    وقيل: سببه ناس معاهدون نقضوا العهد وحاربوا. وقيل: المشركون؛ فقد قرن بالمرتدين المحاربين وناقضي العهد المحاربين وبالمشركين المحاربين.
    وجمهور السلف والخلف على أنها تتناول قطاع الطريق من المسلمين والآية تتناول ذلك كله؛ ولهذا كان من تاب قبل القدرة عليه من جميع هؤلاء فإنه يسقط عنه حق الله تعالى.
    وكذلك قرن " الصلاح والإصلاح بالإيمان " في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}. {فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. ومعلوم أن الإيمان أفضل الإصلاح وأفضل العمل الصالح كما جاء في الحديث الصحيح أنه {قيل: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله}. وقال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى}.
    وقال: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة}. وقال: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}. وقال في القذف: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}. وقال في السارق: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه}.
    وقال: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما}. ولهذا شرط الفقهاء في أحد قوليهم في قبول شهادة القاذف أن يصلح وقدروا ذلك بسنة كما فعل عمر بصبيغ بن عسل لما أجله سنة، وبذلك أخذ أحمد في توبة الداعي إلى البدعة أنه يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغ بن عسل.
    (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    قال غير واحد من السلف في صفة المنافقين الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة أنهم أبصروا ثم عموا وعرفوا ثم أنكروا وآمنوا ثم كفروا. وكذلك قال قتادة ومجاهد: ضرب المثل لإقبالهم على المؤمنين؛ وسماعهم ما جاء به الرسول وذهاب نورهم قال: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} إلى ما كانوا عليه.
    وأما قول من قال: المراد بالنور ما حصل في الدنيا من حقن دمائهم وأموالهم فإذا ماتوا سلبوا ذلك الضوء كما سلب صاحب النار ضوءه؛ فلفظ الآية يدل على خلاف ذلك فإنه قال: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} {صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
    ويوم القيامة يكونون في العذاب كما قال تعالى: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم} الآية وقد قال غير واحد من السلف: إن المنافق يعطى يوم القيامة نورا ثم يطفأ.
    ولهذا قال تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا}. قال المفسرون: إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة.
    قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نورا يوم القيامة؛ فأما المنافق فيطفأ نوره وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق فهو يقول: {ربنا أتمم لنا نورنا} وهو كما قال: فقد ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة وأبي سعيد - وهو ثابت من وجوه أخر - عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    ورواه مسلم من حديث جابر وهو معروف من حديث ابن مسعود وهو أطولها - ومن حديث أبي موسى في الحديث الطويل الذي يذكر فيه أنه {ينادى يوم القيامة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد؛ فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك وهذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم: فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه}.
    وفي رواية: {فيكشف عن ساقه} وفي رواية فيقول: {هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون: نعم. فيكشف عن ساقه فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه. فتبقى ظهورهم مثل صياصي البقر فيرفعون رءوسهم فإذا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويطفأ نور المنافقين فيقولون ذرونا نقتبس من نوركم}.
    فبين أن المنافقين يحشرون مع المؤمنين في الظاهر كما كانوا معهم في الدنيا ثم وقت الحقيقة هؤلاء يسجدون لربهم وأولئك لا يتمكنون من السجود فإنهم لم يسجدوا في الدنيا له بل قصدوا الرياء للناس والجزاء في الآخرة هو من جنس العمل في الدنيا فلهذا أعطوا نورا ثم طفئ لأنهم في الدنيا دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه.
    ولهذا ضرب الله لهم المثل بذلك. وهذا المثل هو لمن كان فيهم آمن ثم كفر وهؤلاء الذين يعطون في الآخرة نورا ثم يطفأ. ولهذا قال: {فهم لا يرجعون} إلى الإسلام في الباطن وقال قتادة ومقاتل: لا يرجعون عن ضلالهم وقال السدي: لا يرجعون إلى الإسلام يعني في الباطن وإلا فهم يظهرونه وهذا المثل إنما يكون في الدنيا وهذا المثل مضروب لبعضهم وهم الذين آمنوا ثم كفروا.
    وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
    فصل:

    المثل في الأصل هو الشبيه وهو نوعان لأن القضية المعينة إما أن تكون شبها معينا أو عاما كليا فإن القضايا الكلية التي تعلم وتقال هي مطابقة مماثلة لكل ما يندرج فيها وهذا يسمى قياسا في لغة السلف واصطلاح المنطقيين وتمثيل الشيء المعين بشيء معين هو أيضا يسمى قياسا في لغة السلف واصطلاح الفقهاء وهو الذي يسمى قياس التمثيل.

    ثم من متأخري العلماء - كالغزالي وغيره - من ادعى أن حقيقة القياس إنما يقال على هذا وما يسميه تأليف القضايا الكلية قياسا فمجاز من جهة أنه لم يشبه فيه شيء بشيء وإنما يلزم من عموم الحكم تساوي أفراده فيه ومنهم من عكس كأبي محمد بن حزم فإنه زعم أن لفظ القياس إنما ينبغي أن يكون في تلك الأمور العامة وهو القياس الصحيح.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (46)

    من صــ 57 الى صـ
    ـ 63

    والصواب ما عليه السلف من اللغة الموافقة لما في القرآن كما سأذكره أن كليهما قياس وتمثيل واعتبار وهو في قياس التمثيل ظاهر وأما قياس التكليل والشمول فلأنه يقاس كل واحد من الأفراد بذلك المقياس العام الثابت في العلم والقول وهو الأصل كما يقاس الواحد بالأصل الذي يشبهه فالأصل فيهما هو المثل والقياس هو ضرب المثل وأصله - والله أعلم -
    تقديره فضرب المثل للشيء تقديره له كما أن القياس أصله تقدير الشيء بالشيء ومنه ضرب الدرهم وهو تقديره وضرب الجزية والخراج وهو تقديرهما والضريبة المقدرة والضرب في الأرض لأنه يقدر أثر الماشي بقدره وكذلك الضرب بالعصا لأنه تقدير الألم بالآلة وهو جمعه وتأليفه وتقديره كما أن الضريبة هي المال المجموع والضريبة الخلق وضرب الدرهم جمع فضة مؤلفة مقدرة وضرب الجزية والخراج إذا فرضه وقدره على مر السنين والضرب في الأرض الحركات المقدرة المجموعة إلى غاية محدودة ومنه تضريب الثوب المحشو وهو تأليف خلله طرائق طرائق. ولهذا يسمون الصورة القياسية الضرب كما يقال للنوع الواحد ضرب لتألفه واتفاقه وضرب المثل لما كان جمعا بين علمين يطلب منهما علم ثالث كان بمنزلة ضراب الفحل الذي يتولد عنه الولد ولهذا يقسمون الضرب إلى ناتج وعقيم كما ينقسم ضرب الفحل للأنثى إلى ناتج وعقيم وكل واحد من نوعي ضرب المثل - وهو القياس - تارة يراد به التصوير وتفهيم المعنى وتارة يراد به الدلالة على ثبوته والتصديق به فقياس تصور وقياس تصديق فتدبر هذا. وكثيرا ما يقصد كلاهما فإن ضرب المثل يوضح صورة المقصود وحكمه.

    وضرب الأمثال في المعاني نوعان هما نوعا القياس: " أحدهما " الأمثال المعينة التي يقاس فيها الفرع بأصل معين موجود أو مقدر وهي في القرآن بضع وأربعون مثلا كقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} إلى آخره وقوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} وقوله:
    {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب} الآية {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين}. فإن التمثيل بين الموصوفين اللذين يذكرهم من المنافقين والمنفقين المخلصين منهم والمرائين وبين ما يذكره سبحانه من تلك الأمثال هو من جنس قياس التمثيل الذي يقال فيه: مثل الذي يقتل بكودين القصار كمثل الذي يقتل بالسيف ومثل الهرة تقع في الزيت كمثل الفأرة تقع في السمن ونحو ذلك؛ ومبناه على الجمع بينهما؛ والفرق في الصفات المعتبرة في الحكم المقصود إثباته أو نفيه وقوله: مثله كمثل كذا. تشبيه للمثل العلمي بالمثل العلمي لأنه هو الذي بتوسطه يحصل القياس فإن المعتبر ينظر في أحدهما فيتمثل في علمه وينظر في الآخر فيتمثل في علمه ثم يعتبر أحد المثلين بالآخر فيجدهما سواء فيعلم أنهما سواء في أنفسهما لاستوائهما في العلم ولا يمكن اعتبار أحدهما بالآخر في نفسه حتى يتمثل كل منهما في العلم فإن الحكم على الشيء فرع على تصوره؛ ولهذا والله أعلم يقال مثل هذا كمثل. . . (1)
    وبعض المواضع يذكر سبحانه الأصل المعتبر به ليستفاد حكم الفرع منه من غير تصريح بذكر الفرع كقوله: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر} إلى قوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} فإن هذا يحتاج إلى تفكر؛ ولهذا سأل عمر عنها من حضره من الصحابة فأجابه ابن عباس بالجواب الذي أرضاه.
    ونظير ذلك ذكر القصص؛ فإنها كلها أمثال هي أصول قياس واعتبار ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها لأن كل إنسان له في حالة منها نصيب فيقال فيها: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} ويقال عقب حكايتها: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} ويقال: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} إلى قوله: {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} والاعتبار هو القياس بعينه كما قال ابن عباس لما سئل عن دية الأصابع فقال هي سواء واعتبروا ذلك بالأسنان أي قيسوها بها فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع فكذلك الأصابع ويقال:
    اعتبرت الدراهم بالصنجة إذا قدرتها بها. " النوع الثاني " الأمثال الكلية وهذه التي أشكل تسميتها أمثالا كما أشكل تسميتها قياسا حتى اعترض بعضهم قوله: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} فقال:
    أين المثل المضروب؟ وكذلك إذا سمعوا قوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} يبقون حيارى لا يدرون ما هذه الأمثال وقد رأوا عدد ما فيه من تلك الأمثال المعينة بضعا وأربعين مثلا. وهذه " الأمثال " تارة تكون صفات وتارة تكون أقيسة فإذا كانت أقيسة فلا بد فيها من خبرين هما قضيتان وحكمان وأنه لا بد أن يكون أحدهما كليا؛ لأن الأخبار التي هي القضايا لما انقسمت إلى معينة ومطلقة وكلية وجزئية وكل من ذلك انقسم إلى خبر عن إثبات وخبر عن نفي فضرب المثل الذي هو القياس لا بد أن يشتمل على خبر عام وقضية كلية وذلك هو المثل الثابت في العقل الذي تقاس به الأعيان المقصود حكمها فلولا عمومه لما أمكن الاعتبار لجواز أن يكون المقصود حكمه خارجا عن العموم؛ ولهذا يقال:

    لا قياس عن قضيتين جزئيتين بل لا بد أن تكون إحداهما كلية ولا قياس أيضا عن سالبتين؛ بل لا بد أن تكون إحداهما موجبة وإلا فالسلبان لا يدخل أحدهما في الآخر فلا بد فيه من خبر يعم.
    وجملة ما يضرب من الأمثال ستة عشر؛ لأن الأولى إما جزئية وإما كلية مثبتة أو نافية فهذه أربعة إذا ضربتها في أربعة صارت ستة عشر تحذف منهما الجزئيتان سواء كانتا موجبتين أو سالبتين أو إحداهما سالبة والأخرى موجبة فهذه ست من ستة عشر والسالبتان سواء كانتا جزئيتين أو كليتين أو إحداهما دون الأخرى؛ لكن إذا كانتا جزئيتين سالبتين فقد دخلت في الأول يبقى ضربان محذوفين من ستة عشر.
    ويحذف منهما السالبة الكلية الصغرى مع الكبرى الموجبة الجزئية؛ لأن الكبرى إذا كانت جزئية لم يجب أن يلاقيها السلب؛ بخلاف الإيجاب فإن الإيجابين الجزئيين يلتقيان وكذلك الإيجاب الجزئي مع السلب الكلي يلتقيان لاندراج ذلك الموجب تحت السلب العام.
    يبقى من الستة عشر ستة أضرب فإذا كانت إحداهما موجبة كلية جاز في الأخرى الأقسام الأربعة وإذا كانت سالبة كلية جاز أن تقارنها الموجبتان لكن تقدم مقارنة الكلية لها ولا بد في الجزئية أن تكون صغرى وإذا كانت موجبة جزئية جاز أن تقارنها الكليتان وقد تقدمتا وإذا كانت سالبة جزئية لم يجز أن يقارنها إلا موجبة كلية وقد تقدمت فيقر الناتج ستة والملغى عشرة وبالاعتبارين تصير ثمانية. فهذه الضروب العشرة مدار ثمانية منها على الإيجاب العام ولا بد في جميع ضروبه من أحد أمرين إما إيجاب وعموم وإما سلب وخصوص فنقيضان لا يفيد اجتماعهما فائدة؛ بل إذا اجتمع النقيضان من نوعين كسالبة كلية وموجبة جزئية فتفيد بشرط كون الكبرى هي العامة فظهر أنه لا بد في كل قياس من ثبوت وعموم إما مجتمعين في مقدمة وإما مفترقين في المقدمتين.
    وأيضا مما يجب أن يعلم أن غالب الأمثال المضروبة والأقيسة إنما يكون الخفي فيها إحدى القضيتين وأما الأخرى فجلية معلومة فضارب المثل وناصب القياس إنما يحتاج أن يبين تلك القضية الخفية فيعلم بذلك المقصود لما قاربها في الفعل من القضية السلبية والجلية هي الكبرى التي هي أعم.
    فإن الشيء كلما كان أعم كان أعرف في العقل لكثرة مرور مفرداته في العقل وخير الكلام ما قل ودل؛ فلهذا كانت الأمثال المضروبة في القرآن تحذف منها القضية الجلية لأن في ذكرها تطويلا وعيا وكذلك ذكر النتيجة المقصودة بعد ذكر المقدمتين يعد تطويلا. واعتبر ذلك بقوله:
    {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ما أحسن هذا البرهان فلو قيل بعده: وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله لكان هذا من الكلام الغث الذي لا يناسب بلاغة التنزيل وإنما ذلك من تأليف المعاني في العقل مثل تأليف الأسماء من الحروف في الهجاء والخط إذا علمنا الصبي الخط نقول: " با " " سين " " ميم " صارت (بسم) فإذا عقل لم يصلح له بعد ذلك أن يقرأه تهجيا فيذهب ببهجة الكلام؛ بل قد صار التأليف مستقرا وكذلك النحوي إذا عرف أن " محمد رسول الله " مبتدأ وخبر لم يلف كلما رفع مثل ذلك أن يقول: لأنه مبتدأ وخبر. فتأليف الأسماء من الحروف لفظا ومعنى وتأليف الكلم من الأسماء وتأليف الأمثال من الكلم جنس واحد.

    ولهذا كان المؤلفون للأقيسة يتكلمون أولا في مفردات الألفاظ والمعاني التي هي الأسماء ثم يتكلمون في تأليف الكلمات من الأسماء الذي هو الخبر والقصة والحكم ثم يتكلمون في تأليف الأمثال المضروبة الذي هو " القياس " و " البرهان " و " الدليل " و " الآية "
    __________
    Q (1) بياض بالأصل

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (47)

    من صــ 64 الى صـ
    ـ 70

    و " الْعَلَامَةُ ". فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ كَمَالِ الْقُرْآنِ تَرْكَهُ فِي أَمْثَالِهِ الْمَضْرُوبَةِ وَأَقْيِسَتِهِ الْمَنْصُوبَةِ لِذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْجَلِيَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمَعْلُومَةِ ثُمَّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ النَّتِيجَةِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ؛ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِذِكْرِ مَا يُسْتَفَادُ ذِكْرُهُ وَيُنْتَفَعُ بِمَعْرِفَتِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ الْبُرْهَانُ وَأَمَّا مَا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ فَذِكْرُهُ عَيٌّ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك خَطَأُ قَوْمٍ مِنْ البيانيين الْجُهَّالِ والمنطقيين الضُّلَّالِ حَيْثُ قَالَ بَعْضُ أُولَئِكَ:
    الطَّرِيقَةُ الْكَلَامِيَّةُ الْبُرْهَانِيَّ ةُ فِي أَسَالِيبِ الْبَيَانِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا قَلِيلًا وَقَالَ الثَّانِي:
    إنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بُرْهَانٌ تَامٌّ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا الطَّرِيقَةُ الْبُرْهَانِيَّ ةُ الْمُسْتَقِيمَة ُ لِمَنْ عَقَلَ وَتَدَبَّرَ. و " أَيْضًا " فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ مَدَارَ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَنَصْبَ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَبَرٍ إلَّا وَهُوَ إمَّا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ: سَالِبٌ أَوْ مُوجَبٌ فَالْمُعَيَّنُ خَاصٌّ مَحْصُورٌ وَالْجُزْئِيُّ أَيْضًا خَاصٌّ غَيْرُ مَحْصُورٍ وَالْمُطْلَقُ إمَّا عَامٌّ وَإِمَّا فِي مَعْنَى الْخَاصِّ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْرِفَ " صِيَغَ النَّفْيِ وَالْعُمُومِ " فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَبْلَغِ نِظَامٍ.
    مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " صِيغَةَ الِاسْتِفْهَامِ " يَحْسَبُ مَنْ أَخَذَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْقِيَاسِ الْمَضْرُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةُ وَهَذِهِ طَلَبِيَّةٌ فَإِذَا تَأَمَّلَ وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِفْهَامَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ كَثِيرًا مِنْهَا إنَّمَا هِيَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مَعْنَاهُ الذَّمُّ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ إنْكَارًا شَرْعِيًّا أَوْ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالسَّلْبُ إنْ كَانَ إنْكَارَ وُجُودٍ وَوُقُوعٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
    {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْآيَةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} وَقَوْلُهُ فِي تَعْدِيدِ الْآيَاتِ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ أَفَعَلَ هَذِهِ إلَهٌ مَعَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى مَا فَعَلَهَا إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وَمَا مَعَهَا.
    وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدْ يُعَبَّرُ فِي اللُّغَةِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ أَوْ بِالْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ اللُّغَةِ؛ لَكِنْ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ كَأَمْثَالِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ قَالَ كَلِمَةً مَنْظُومَةً أَوْ مَنْثُورَةً لِسَبَبِ اقْتَضَاهُ فَشَاعَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى يُصَارَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلِّ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهَا فَكَأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ المثلية نُقِلَتْ بِالْعُرْفِ مِنْ الْمَعْنَى الْخَاصِّ إلَى الْعَامِّ كَمَا تُنْقَلُ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ فَهَذَا نَقْلٌ فِي الْجُمْلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " هُوَ مُوَازٍ لِقَوْلِهِمْ: " أَنْتَ جَنَيْت هَذَا " لِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ قِيلَ ابْتِدَاءً لِمَنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالْإِيكَاءِ وَالنَّفْخِ ثُمَّ صَارَ مَثَلًا عَامًّا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ:
    " الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ " مِثْلُ قَوْلِك " فَرَّطْت وَتَرَكْت الْحَزْمَ وَتَرَكْت مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَ " وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ قِيلَتْ لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ. وَكَذَلِكَ " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " أَيْ أَتَخَافُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الظَّاهِرِ الْحَسَنِ بَاطِنٌ رَدِيءٌ؟ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْبَيَانِ يَدْخُلُ فِي اللُّغَةِ وَالْخِطَابِ فَالْمُتَكَلِّم ُ بِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَيِّنِ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إذْ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهَذَا تَطَلُّبُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جِنْسِ تَطَلُّبِ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفِيَّةِ فَهُوَ نَظَرٌ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى لَا نَظَرٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
    {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنْك شُبْهَةً لَفْظِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً . وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ اللُّغَوِيَّةُ أَنْوَاعٌ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا أَجْنَاسُهَا وَهِيَ مُعْلِنَةٌ بِبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَبَرَاعَةِ بَيَانِهِ اللَّفْظِيِّ وَاَلَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ يَتَكَلَّمُونَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ صَارَتْ مَثَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَصِيرُ الْكَلِمَةُ مَثَلًا حَتَّى يَتَمَثَّلَ بِهَا الضَّارِبُ فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنْ تَمَثَّلَ بِهَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ} وَكَقَوْلِهِ: {مُسَعِّرُ حَرْبٍ} وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ هُوَ نَفْيٌ مُضَمَّنٌ دَلِيلَ النَّفْيِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مُقَابَلَتُهُ بِمَنْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْفِي بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ إلَّا مَا ظَهَرَ بَيَانُهُ أَوْ اُدُّعِيَ ظُهُورُ بَيَانِهِ فَيَكُونُ ضَارِبُهُ إمَّا كَامِلًا فِي اسْتِدْلَالِهِ وَقِيَاسِهِ وَإِمَّا جَاهِلًا كَاَلَّذِي قَالَ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}.
    إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِتَسْمِيَتِهِ مَثَلًا وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ. . . (1) {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} وَاَلَّذِي يَلِيهِ {إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الْآيَةَ {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}.
    وَاَلَّذِي بَعْدَهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ مِثْلُ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فِي الثَّلَاثَةِ {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَوْلُهُ: {أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ}.
    وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ} الْآيَةَ وَيُسَمَّى جِدَالًا {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} {إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الْآيَةَ {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} {إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ} وَقَوْلُ يُوسُفَ {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الْآيَةَ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلَى قَوْلِهِ:
    {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلَى آخِرِهِ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} وَاَلَّذِي بَعْدَهُ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} فِي مَوْضِعَيْنِ
    {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا} بَعْدَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالتَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الْقِصَّةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهَا بَرَاهِينُ وَحُجَجٌ تُفِيدُ تَصَوُّرًا أَوْ تَصْدِيقًا {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}
    {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} {مَثَلُ نُورِهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الْمَثَلَيْنِ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَأُولَئِكَ فِي الظُّلُمَاتِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} - ف " التَّفْسِيرُ " يَعُمُّ التَّصْوِيرَ وَيَعُمُّ التَّحْقِيقَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَامِ الْمَشْرُوحِ - {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} الْآيَةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} إلَى قَوْلِهِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا} {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} إلَى آخِرِهِ لَمَّا أَوْرَدُوهُ نَقْضًا عَلَى قَوْلِهِ: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فَهُمْ الَّذِينَ ضَرَبُوهُ جَدَلًا {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} إلَى قَوْلِهِ:
    {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} الْآيَةَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ولِلَّذِينَ آمَنُوا {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} {كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} {كَالْفَرَاشِ} و {كَالْعِهْنِ}.
    (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

    وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ؛ جُعِلُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا أَوْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ صَارُوا كَالصُّمِّ الْعُمْيِ الْبُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ نَفْسُ قُلُوبِهِمْ عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}

    " وَالْقَلْبُ " هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ وَإِذَا صَلَحَ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَفْقَهُهُ وَإِنْ فَقِهَ بَعْضَ الْفِقْهِ لَمْ يَفْقَهْ فِقْهًا تَامًّا فَإِنَّ الْفِقْهَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ وَبُغْضَ الْمَكْرُوهِ؛ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لَمْ يَكُنْ التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ يُنْفَى كَقَوْلِهِ لِلَّذِي أَسَاءَ فِي صَلَاتِهِ: {صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ}. فَنَفَى الْإِيمَانَ حَيْثُ نَفَى مِنْ هَذَا الْبَابِ.
    __________
    Q (1) بياض بالأصل


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (48)

    من صــ 71 الى صـ
    ـ 77

    (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
    (فَصْلٌ)
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:

    وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُنَافِقِينَ فَضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا هَلْ الْمَثَلَانِ مَضْرُوبَانِ لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ هَذَا الْمَثَلُ لِبَعْضِهِمْ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ ". وَ " الثَّانِي " هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ قَالَ:
    {أَوْ كَصَيِّبٍ} وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مَثَلُهُمْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ بَلْ بَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ (أَوْ بَلْ يَذْكُرْ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: (أَوْ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ - كَقَوْلِهِمْ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين - لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالطَّلَبَ لَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِتَشْكِيكِ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ الْإِبْهَامِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِالْأَمْثَالِ الْبَيَانَ وَالتَّفْهِيمَ لَا يُرِيدُ التَّشْكِيكَ وَالْإِبْهَامَ. وَالْمَقْصُودُ تَفْهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْمَثَلِ الْأَوَّلِ ": {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وَقَالَ فِي " الثَّانِي ":
    {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَبَيَّنَ فِي " الْمَثَلِ الثَّانِي " أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } وَفِي " الْأَوَّلِ " كَانُوا يُبْصِرُونَ ثُمَّ صَارُوا {فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}.
    وَفِي " الثَّانِي " {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} الْبَرْقُ {مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} فَلَهُمْ " حَالَانِ ": حَالُ ضِيَاءٍ وَحَالُ ظَلَامٍ وَالْأَوَّلُونَ بَقُوا فِي الظُّلْمَةِ. فَالْأَوَّلُ حَالُ مَنْ كَانَ فِي ضَوْءٍ فَصَارَ فِي ظُلْمَةٍ وَالثَّانِي حَالُ مَنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا فِي ضَوْءٍ وَلَا فِي ظُلْمَةٍ بَلْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجِبُ مَقَامَهُ وَاسْتِرَابَتَه ُ. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ضَرَبَ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا مَثَلَيْنِ بِحَرْفِ (أَوْ) فَقَالَ:
    {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} " فَالْأَوَّلُ "
    مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ؛ فَلِهَذَا مَثَّلَ بِسَرَابِ بِقِيعَةِ وَ " الثَّانِي " مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ صَاحِبُهُ شَيْئًا بَلْ هُوَ فِي {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} مِنْ عِظَمِ جَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ جَاهِلًا ضَالًّا فِي ظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ.
    وَ " أَيْضًا " فَقَدْ يَكُونُ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ تَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ مَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ هُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ لِاخْتِلَافِ الْمَثَلَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِهَذَا لَمْ يُضْرَبْ لِلْإِيمَانِ إلَّا مَثَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَضُرِبَ مَثَلُهُ بِالنُّورِ وَأُولَئِكَ ضُرِبَ لَهُمْ الْمَثَلُ بِضَوْءِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
    كَالسَّرَابِ بِالْقِيعَةِ أَوْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَة ِ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِمَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ أَوْ هُوَ مُضْطَرِبٌ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ بَاطِنًا وَهَذَا مِمَّا اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ قَدْ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا.
    فَصْلٌ:
    وَأَمَّا " الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ " فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ {أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّعْدِ قَالَ: مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ مَعَهُ مخاريق مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ}. وَفِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ للخرائطي: عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّعْدِ فَقَالَ: " مَلَكٌ وَسُئِلَ عَنْ الْبَرْقِ فَقَالَ:

    مخاريق بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - مخاريق مِنْ حَدِيدٍ بِيَدِهِ ". وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَقْوَالٌ لَا تُخَالِفُ ذَلِكَ. كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ اصْطِكَاكُ أَجْرَامِ السَّحَابِ بِسَبَبِ انْضِغَاطِ الْهَوَاءِ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّعْدَ مَصْدَرُ رَعَدَ يَرْعَدُ رَعْدًا. وَكَذَلِكَ الرَّاعِدُ يُسَمَّى رَعْدًا.
    كَمَا يُسَمَّى الْعَادِلُ عَدْلًا. وَالْحَرَكَةُ تُوجِبُ الصَّوْتَ وَالْمَلَائِكَة ُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ السَّحَابَ وَتَنْقُلُهُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ فَهِيَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَصَوْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عَنْ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِهِ الَّذِي هُوَ شَفَتَاهُ وَلِسَانُهُ وَأَسْنَانُهُ وَلَهَاتُهُ وَحَلْقُهُ. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلرَّبِّ. وَآمِرًا بِمَعْرُوفِ وَنَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ. فَالرَّعْدُ إذًا صَوْتٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ وَكَذَلِكَ الْبَرْقُ قَدْ قِيلَ: لَمَعَانُ الْمَاءِ أَوْ لَمَعَانُ النَّارِ وَكَوْنُهُ لَمَعَانَ النَّارِ أَوْ الْمَاءِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ اللَّامِعُ مِخْرَاقًا بِيَدِ الْمَلَكِ فَإِنَّ النَّارَ الَّتِي تَلْمَعُ بِيَدِ الْمَلَكِ كَالْمِخْرَاقِ مِثْلَ مُزْجِي الْمَطَرِ. وَالْمَلَكُ يُزْجِي السَّحَابَ كَمَا يُزْجِي السَّائِقُ لِلْمَطِيِّ.
    وَالزَّلَازِلُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ كَمَا يُخَوِّفُهُمْ بِالْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْحَوَادِثُ لَهَا أَسْبَابٌ وَحِكَمٌ فَكَوْنُهَا آيَةً يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ هِيَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ.
    وَأَمَّا أَسْبَابُهُ: فَمِنْ أَسْبَابِهِ انْضِغَاطُ الْبُخَارِ فِي جَوْفِ الْأَرْضِ كَمَا يَنْضَغِطُ الرِّيحُ وَالْمَاءُ فِي الْمَكَانِ الضَّيِّقِ فَإِذَا انْضَغَطَ طَلَبَ مَخْرَجًا فَيَشُقُّ وَيُزَلْزِلُ مَا قَرُبَ مِنْهُ مِنْ الْأَرْضِ.
    وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: إنَّ الثَّوْرَ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ فَيُحَرِّكُ الْأَرْضَ فَهَذَا جَهْلٌ وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَبُطْلَانَهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا تُزَلْزَلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
    فَصْلٌ فِي " قُدْرَةِ الرَّبِّ " عَزَّ وَجَلَّ

    قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: " طَائِفَةٌ " تَقُولُ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ. وَ " طَائِفَةٌ " تَقُولُ: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ يَخُصُّ مِنْهُ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ.
    وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ النُّظَّارِ وَهُوَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَيْسَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الْمَعْدُومِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ. وَلَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ؛ وَلَكِنْ يُقَدَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الذِّهْنِ ثُمَّ يُحْكَمُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَارِجِ؛ إذْ كَانَ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ وَتَصَوُّرُهُ فِي الْأَذْهَانِ؛ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ: بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ تَجْتَمِعُ
    الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الشَّيْءِ فَهَلْ يُمْكِنُ فِي الْخَارِجِ أَنْ يَجْتَمِعَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ. كَمَا تَجْتَمِعُ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ. فَيُقَالُ: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُقَدَّرُ اجْتِمَاعُ نَظِيرِ الْمُمْكِنِ ثُمَّ يُحْكَمُ بِامْتِنَاعِهِ وَأَمَّا نَفْسُ اجْتِمَاعِ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُمْكِنُ وَلَا يُعْقَلُ فَلَيْسَ بِشَيْءِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَلَا فِي الْأَذْهَانِ. فَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
    (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
    (فَصْلٌ)
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

    اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهَا أَنْ تَكُونَ حَلَالًا مُطْلَقًا لِلْآدَمِيِّينَ وَأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُلَابَسَتُهَا وَمُبَاشَرَتُهَ ا وَمُمَاسَّتُهَا وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ وَمَقَالَةٌ عَامَّةٌ وَقَضِيَّةٌ فَاضِلَةٌ عَظِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ وَاسِعَةُ الْبَرَكَةِ يَفْزَعُ إلَيْهَا حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَعْمَالِ وَحَوَادِثِ النَّاسِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ عَشَرَةٌ - مِمَّا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ - وَهِيَ: كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْظُومَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}. ثُمَّ مَسَالِكُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَمَنَاهِجُ الرَّأْيِ وَالِاسْتِبْصَا رِ.
    الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الْكِتَابُ وَهُوَ عِدَّةُ آيَاتٍ. الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ لِلنَّاسِ مُضَافًا إلَيْهِمْ بِاللَّامِ وَاللَّامُ حَرْفُ الْإِضَافَةِ وَهِيَ تُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقَه ُ إيَّاهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ مَوَارِدَ اسْتِعْمَالِهَا . كَقَوْلِهِمْ: الْمَالُ لِزَيْدِ وَالسَّرْجُ لِلدَّابَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مُمَلَّكِينَ مُمَكَّنِينَ لِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ الْخَبَائِثُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِفْسَادِ لَهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ أَوْ مَعَادِهِمْ فَيَبْقَى الْبَاقِي مُبَاحًا بِمُوجِبِ الْآيَةِ.
    الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} دَلَّتْ الْآيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ وَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَشْيَاءُ مُطْلَقَةً مُبَاحَةً لَمْ يَلْحَقْهُمْ ذَمٌّ وَلَا تَوْبِيخٌ إذْ لَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَجْهُولًا أَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.
    الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ. وَمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ فَهُوَ حَلَالٌ إذْ لَيْسَ إلَّا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ.
    الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَإِذَا كَانَ مَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرًا لَنَا جَازَ اسْتِمْتَاعُنَا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #51
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (49)

    من صــ 78 الى صـ
    ـ 84

    الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الْآيَةَ فَمَا لَمْ يَجِدْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَمَا لَمْ يُحَرَّمْ فَهُوَ حِلٌّ وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} الْآيَةَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ: (إنَّمَا) يُوجِبُ حَصْرَ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي؛ فَيَجِبُ انْحِصَارُ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذُكِرَ وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُحِيطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
    الصِّنْفُ الثَّانِي: السُّنَّةُ وَاَلَّذِي حَضَرَنِي مِنْهَا حَدِيثَانِ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ}.
    دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِتَحْرِيمِ خَاصٍّ لِقَوْلِهِ لَمْ يُحَرَّمْ وَدَلَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ الْمَسْأَلَةِ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهَا بِدُونِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ. الثَّانِي: رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: {سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ}.
    فَمِنْهُ دَلِيلَانِ:
    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْتَى بِالْإِطْلَاقِ فِيهِ. الثَّانِي قَوْلُهُ: {وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ} نَصَّ فِي أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ وَتَسْمِيَتُهُ هَذَا عَفْوًا كَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ هُوَ الْإِذْنُ فِي التَّنَاوُلِ بِخِطَابِ خَاصٍّ وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ مِنْ التَّنَاوُلِ كَذَلِكَ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لَمْ يُؤْذِنْ بِخِطَابِ يَخُصُّهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فَيُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ لَا عِقَابَ إلَّا بَعْدَ الْإِرْسَالِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِقَابٌ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا.
    وَفِي السُّنَّةِ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
    الصِّنْفُ الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَشَهَادَةُ شُهَدَاءِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِينَ هُمْ عُدُولُ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَعْصُومِينَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالَةٍ الْمَفْرُوضِ اتِّبَاعُهُمْ. وَذَلِكَ أَنِّي لَسْت أَعْلَمُ خِلَافَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّالِفَيْنِ: فِي أَنَّ مَا لَمْ يَجِئْ دَلِيلٌ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ وَأَحْسَبُ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا كَالْيَقِينِ.
    (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
    (فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَقٌّ، وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ قَوْلٌ مَهْجُورٌ)
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:

    وَقَوْلُهُ:
    أَوْ كَانَ فَاللَّازِمُ مِنْ كَوْنِهِ ... حُدُوثُهُ وَالْقَوْلُ مَهْجُورُ
    كَأَنَّهُ يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَوْ كَانَ اللَّهُ مُقَدِّرًا لَهَا عَالِمًا بِهَا فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا بِهَا مُقَدِّرًا لَهَا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ حُدُوثُ الْعِلْمِ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّبُّ عَالِمًا بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَلَا مُقَدِّرًا لَهَا حَتَّى فُعِلَتْ وَهَذَا الْقَوْلُ مَهْجُورٌ بَاطِلٌ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَى بُطْلَانِهِ سَلَفُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَهُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ تُبَيِّنُ فَسَادَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ عَمَّا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَلْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَغَيْرِ مَلَائِكَتِهِ قَالَ تَعَالَى:
    {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَالْمَلَائِكَة ُ حَكَمُوا بِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ؛ كَمَا قَالُوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ثُمَّ قَالَ: {إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَتَضَمَّنَ هَذَا مَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ آدَمَ وَإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِم َا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ.
    وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ آدَمَ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ لَوْلَا خُرُوجُهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَمْ يَصِرْ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْكُنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ بِقَوْلِهِ:
    {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} {إنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} نَهَاهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ طَاعَةِ إبْلِيسَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخُرُوجِ وَقَدْ عَلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِسَبَبِ طَاعَتِهِ إبْلِيسَ وَأَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.

    وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّهُ قَدَّرَ خُرُوجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِدُخُولِهَا بِقَوْلِهِ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ}

    وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ عَدَاوَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
    وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ فِي قَسَمِهِ وَصِدْقُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ.
    وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ غَيْرَ مَقْدُورَةٍ لَهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ إنْ شَاءُوا عَصَوْهُ فَمَلَأَهَا؛ وَإِنْ شَاءُوا أَطَاعُوهُ فَلَمْ يَمْلَأْهَا. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْصُونَهُ فَأَقْسَمَ عَلَى جَزَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عِلْمَهُ بِالْمُسْتَقْبَ لِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمٌ لِخَلْقِهِ لَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمَلَائِكَة ِ وَالْبَشَرِ وَلَكِنَّ عِلْمَهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ؛ فَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ مَقْدُورِهِ وَمُرَادِهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهَا كَمَا يَعْلَمُ مَخْلُوقَاتُهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.

    وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوهَا. وَقَالَ تَعَالَى:

    {قُلْ لِلْمُخَلَّفِين َ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُم ْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ دُعَاءِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى جِهَادِ هَؤُلَاءِ؛ وَدُعَاؤُهُ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. بَلْ الْعِلْمُ بِالْمُسْتَقْبَ لِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ يَحْصُلُ لِآحَادِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاء ِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَاصِلًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَ ةِ مِنْ أُمَّتِهِ وَغَيْرِ أُمَّتِهِ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّ ابْنَهُ الْحَسَنَ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أُولَى الطَّائِفَتَيْن ِ بِالْحَقِّ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ قَوْمًا يَرْتَدُّونَ بَعْدَهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ تَكُونُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ؛ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ شُهَدَاءَ وَإِخْبَارُهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلُوا وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شرقي دِمَشْقَ وَقَتْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ عَلَى بَابِ لُدٍّ. وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ؛ وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ:
    {يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ آيَتُهُمْ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا مُخَدَّجَ الْيَدِ عَلَى يَدِهِ مِثْلُ الْبِضْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ تدردر} وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ لَمَّا قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بالنهروان وَوُجِدَ هَذَا الشَّخْصُ كَمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِخْبَارُهُ بِقِتَالِ التُّرْكِ وَصِفَتُهُمْ حَيْثُ قَالَ:
    {لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الْأَعْيُنِ حُمْرَ الْخُدُودِ دُلُفَ الْأَنْفِ يَنْتَعِلُونَ الشَّعْرَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمِطْرَقَةُ} وَقَدْ قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ هَؤُلَاءِ التُّرْكَ وَغَيْرَهُمْ لَمَّا ظَهَرُوا وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَخْبَارِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ وَهُوَ إنَّمَا يَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا كَانَ هُوَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَكَيْفَ الَّذِي خَلَقَهُ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ.
    وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِيطُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ - لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ - إلَّا مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى:
    إنَّنِي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَلَمَّا نَقَرَ الْعُصْفُورُ فِي الْبَحْرِ قَالَ لَهُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَائِلُ فِي حَقِّ مُوسَى:
    {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نَفْيَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَوَادِثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلٌ وَغُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ يَنْفُونَ ذَلِكَ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #52
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (50)

    من صــ 85 الى صـ
    ـ 91

    وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}. وَقَوْلُهُ: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ.
    وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا: لِنَرَى. وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: لِنَعْلَمَهُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ وَهَذَا الْمُتَجَدِّدُ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلنُّظَّارِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُتَجَدِّدُ هُوَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومِ فَقَطْ وَتِلْكَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:
    بَلْ الْمُتَجَدِّدُ عِلْمٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ} فَقَدْ أَخْبَرَ بِتَجَدُّدِ الرُّؤْيَةِ فَقِيلَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَقِيلَ الْمُتَجَدِّدُ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَمَنْ قَالَ هَذَا وَهَذَا وَحُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَعَامَّةُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَهَذَا مِمَّا هَجَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ فَرَّ مِنْ تَجَدُّدِ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَقَالَ بِلَوَازِمِ ذَلِكَ، فَخَالَفَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مَا أَوْجَبَ ظُهُورَ بِدْعَةٍ اقْتَضَتْ أَنْ يَهْجُرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَيُحَذِّرَ مِنْهُ.
    وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحَارِثَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. والمتأخرون مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلِ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَقٌّ وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ قَوْلٌ مَهْجُورٌ كَمَا قَالَهُ النَّاظِمُ إنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ فَإِنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ. فَكَيْفَ الْعِلْمُ الْمُتَقَدِّمُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَبْدِ مَجْبُورًا لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا فِعْلَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةُ.
    سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
    عَنْ صَالِحِي بَنِي آدَمَ وَالْمَلَائِكَة ِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
    فَأَجَابَ:

    بِأَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّهَايَةِ وَالْمَلَائِكَة َ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ الْبِدَايَةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْآنَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى مُنَزَّهُونَ عَمَّا يُلَابِسُهُ بَنُو آدَمَ مُسْتَغْرِقُونَ فِي عِبَادَةِ الرَّبِّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْآنَ أَكْمَلُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَصِيرُ صَالِحُو الْبَشَرِ أَكْمَلَ مِنْ حَالِ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَتَبَيَّنُ سِرُّ التَّفْضِيلِ وَتَتَّفِقُ أَدِلَّةُ الْفَرِيقَيْنِ وَيُصَالَحُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى حَقِّهِ (*).
    وَسُئِلَ: عَنْ " الْمُطِيعِينَ " مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؟
    فَأَجَابَ:

    قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ جَعَلْت بَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَشْرَبُونَ وَيَتَمَتَّعُون َ فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْت لَهُمْ الدُّنْيَا قَالَ: لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ قَالَ: لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ: كُنْ فَكَانَ} ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد فِي كِتَابِ " السُّنَنِ " (*) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
    وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ فَقِيلَ لَهُ: وَلَا جِبْرِيلُ وَلَا ميكائيل فَقَالَ لِلسَّائِلِ: " أَتَدْرِي مَا جِبْرِيلُ وَمَا ميكائيل؟ إنَّمَا جِبْرِيلُ وميكائيل خَلْقٌ مُسَخَّرٌ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمَا عَلِمْت عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُنْتَسِبِين َ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاء َ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَلَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " مُصَنَّفٌ " مُفْرَدٌ ذَكَرْنَا فِيهِ الْأَدِلَّةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
    (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
    (فَصْلٌ)
    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:

    وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {الرَّحْمَنِ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. و {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}. وَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}. فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْإِنْسَانَ الْمَنْطِقَ كَمَا يُلْهِمُ غَيْرَهُ.
    وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا كَانَ قَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ تِلْكَ اللُّغَاتِ اتَّصَلَتْ إلَى أَوْلَادِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِهَا فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ بَنُوهُ وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ عَامَ الطُّوفَانِ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلُ السَّفِينَةِ انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ إلَّا أَوْلَادَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ.
    فَإِنَّ " اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ " كَالْفَارِسِيَّ ةِ وَالْعَرَبِيَّة ِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّة ِ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْأَنْوَاعِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، وَالْعَرَبُ أَنْفُسُهُمْ لِكُلِّ قَوْمٍ لُغَاتٌ لَا يَفْهَمُهَا غَيْرُهُمْ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُنْقَلَ هَذَا جَمِيعُهُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ وَأُولَئِكَ جَمِيعُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسْلٌ وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِنُوحِ وَجَمِيعُ النَّاسِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: سَامُ وحام ويافث كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}.
    فَلَمْ يَجْعَلْ بَاقِيًا إلَّا ذُرِّيَّتَهُ وَكَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ أَوْلَادَهُ ثَلَاثَةٌ ". رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَذَا كُلِّهِ وَيَمْتَنِعُ نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ هَذِهِ اللُّغَةَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ، وَإِذَا كَانَ النَّاقِلُ ثَلَاثَةً؛ فَهُمْ قَدْ عَلَّمُوا أَوْلَادَهُمْ، وَأَوْلَادُهُمْ عَلَّمُوا أَوْلَادَهُمْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاتَّصَلَتْ. وَنَحْنُ نَجِدُ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ يَتَكَلَّمُ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ بِلُغَةِ لَا تَعْرِفُهَا الْأُخْرَى وَالْأَبُ وَاحِدٌ، لَا يُقَالُ:

    إنَّهُ عَلَّمَ أَحَدَ ابْنَيْهِ لُغَةً وَابْنَهُ الْآخَرَ لُغَةً؛ فَإِنَّ الْأَبَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ابْنَانِ وَاللُّغَاتُ فِي أَوْلَادِهِ أَضْعَافُ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ عَادَةَ بَنِي آدَمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ لُغَتَهُمْ الَّتِي يُخَاطِبُونَهُم ْ بِهَا أَوْ يُخَاطِبُهُمْ بِهَا غَيْرُهُمْ فَأَمَّا لُغَاتٌ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَا فَلَا يُعَلِّمُونَهَا أَوْلَادَهُمْ.
    __________
    Q (*) وهذا الكلام ذكره ابن القيم رحمه الله في (بدائع الفوائد) 3/ 163 عن شيخه رحمه الله، وعنه نقل، لوجود تعليقه على الفتوى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #53
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (51)

    من صــ 92 الى صـ
    ـ 98




    وأيضا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم. والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها الله آدم قولان معروفان عن السلف. (أحدهما): أنه إنما علمه أسماء من يعقل واحتجوا بقوله: {ثم عرضهم على الملائكة}. قالوا: وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل، وما لا يعقل يقال فيها: عرضها. ولهذا قال أبو العالية: علمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة؛ ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: علمه أسماء ذريته وهذا يناسب الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم " {إن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته؛ فرآهم فرأى فيهم من يبص. فقال: يا رب من هذا؟ قال: ابنك داود} ".
    فيكون قد أراه صور ذريته أو بعضهم وأسماءهم وهذه أسماء أعلام لا أجناس. (والثاني): أن الله علمه أسماء كل شيء وهذا هو قول الأكثرين كابن عباس وأصحابه؛ قال ابن عباس: علمه حتى الفسوة والفسية والقصعة والقصيعة، أراد أسماء الأعراض والأعيان مكبرها ومصغرها.
    والدليل على ذلك ما ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الشفاعة: " {إن الناس يقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء} ".
    وأيضا قوله: " الأسماء كلها " لفظ عام مؤكد؛ فلا يجوز تخصيصه بالدعوى. وقوله: {ثم عرضهم على الملائكة} لأنه اجتمع من يعقل ومن لا يعقل فغلب من يعقل. كما قال: {فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع}. قال عكرمة: علمه أسماء الأجناس دون أنواعها كقولك: إنسان وجن وملك وطائر. وقال مقاتل وابن السائب وابن قتيبة: علمه أسماء ما خلق في الأرض من الدواب والهوام والطير.
    ومما يدل على أن هذه اللغات ليست متلقاة عن آدم؛ أن أكثر اللغات ناقصة عن اللغة العربية ليس عندهم أسماء خاصة للأولاد والبيوت والأصوات وغير ذلك مما يضاف إلى الحيوان؛ بل إنما يستعملون في ذلك الإضافة. فلو كان آدم عليه السلام علمها الجميع لعلمها متناسبة، وأيضا فكل أمة ليس لها كتاب ليس في لغتها أيام الأسبوع، وإنما يوجد في لغتها اسم اليوم والشهر والسنة؛ لأن ذلك عرف بالحس والعقل؛ فوضعت له الأمم الأسماء؛ لأن التعبير يتبع التصور، وأما الأسبوع فلم يعرف إلا بالسمع، لم يعرف أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش إلا بأخبار الأنبياء الذين شرع لهم أن يجتمعوا في الأسبوع يوما يعبدون الله فيه ويحفظون به الأسبوع الأول الذي بدأ الله فيه خلق هذا العالم؛ ففي لغة العرب والعبرانيين، ومن تلقى عنهم، أيام الأسبوع؛ بخلاف الترك ونحوهم؛ فإنه ليس في لغتهم أيام الأسبوع لأنهم لم يعرفوا ذلك فلم يعبروا عنه. فعلم أن الله ألهم النوع الإنساني أن يعبر عما يريده ويتصوره بلفظه وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم وهم علموا كما علم وإن اختلفت اللغات. وقد أوحى الله إلى موسى بالعبرانية وإلى محمد بالعربية؛ والجميع كلام الله، وقد بين الله بذلك ما أراد من خلقه وأمره، وإن كانت هذه اللغة ليست الأخرى، مع أن العبرانية من أقرب اللغات إلى العربية حتى إنها أقرب إليها من لغة بعض العجم إلى بعض. فبالجملة نحن ليس غرضنا إقامة الدليل على عدم ذلك؛ بل يكفينا أن يقال:
    هذا غير معلوم وجوده بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة؛ وإذا سمي هذا توقيفا؛ فليسم توقيفا وحينئذ فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس؛ فقد قال ما لا علم له به. وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال.
    (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)
    سئل الشيخ - رحمه الله -: عن " آدم " لما خلقه الله ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته: هل سجد ملائكة السماء والأرض؟ أم ملائكة الأرض خاصة؟ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد؟ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة الخلد الموجودة؟ أم جنة في الأرض خلقها الله له؟ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الأرض؟ أم من أرض إلى أرض مثل بني إسرائيل.
    فأجاب:
    الحمد لله. بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم وللاستغراق؛ فإن قوله: {الملائكة} يقتضي جميع الملائكة؛ فإن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم: كقوله: " رب الملائكة والروح " فهو رب جميع الملائكة
    الثاني: {كلهم} وهذا من أبلغ العموم.
    الثالث قوله: {أجمعون} وهذا توكيد للعموم. فمن قال إنه لم يسجد له جميع الملائكة؛ بل ملائكة الأرض فقد رد القرآن بالكذب والبهتان وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى؛ وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة الذين يجعلون " الملائكة " قوى النفس الصالحة " والشياطين " قوى النفس الخبيثة ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل؛ ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب " رسائل إخوان الصفا " وأمثالهم من القرامطة الباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة. وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه. ومذهب المسلمين واليهود والنصارى: ما أخبر الله به في القرآن ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين؛ لكن أبوهم إبليس هو كان مأمورا فامتنع وعصى وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود وبعضهم من الجن لأن له قبيلا وذرية ولكونه خلق من نار والملائكة خلقوا من نور. والتحقيق: أنه كان منهم باعتبار صورته وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله ولم يخرج من السجود لآدم أحد من الملائكة:
    لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا غيرهما. وما ذكره صاحب خواص القرآن وأمثاله من خلاف فأقوالهم باطلة قد بينا فسادها وبطلانها بكلام مبسوط ليس هذا موضعه. وهذا مما استدل به أهل السنة على أن آدم وغيره من الأنبياء والأولياء أفضل من جميع الملائكة؛ لأن الله أمر الملائكة بالسجود له إكراما له؛ ولهذا قال إبليس: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي} فدل على أن آدم كرم على من سجد له. و " الجنة " التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السنة والجماعة:
    هي جنة الخلد ومن قال: إنها جنة في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة. والكتاب والسنة يردان هذا القول وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول.
    قال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} إلى قوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} فقد أخبر أنه سبحانه أمرهم بالهبوط وأن بعضهم عدو لبعض ثم قال: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}. وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض وإنما أهبطوا إلى الأرض؛ فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده؛ وكذلك قال في الأعراف لما قال إبليس {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} {قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها}.
    فقوله: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم؛ فإن الضمير في قوله: {منها} عائد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ وهذا بخلاف قوله: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} فإنه لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه وقال هنا: {اهبطوا} لأن الهبوط يكون من علو إلى سفل وعند أرض السراة حيث كان بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه ومن هبط من جبل إلى واد قيل له: هبط. (وأيضا فإن بني إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال: نزل فيها؛ لأن في عادته أنه يركب في سيره فإذا وصل نزل عن دوابه. يقال: نزل العسكر بأرض كذا ونزل القفل بأرض كذا؛ لنزولهم عن الدواب. ولفظ النزول كلفظ الهبوط فلا يستعمل هبط إلا إذا كان من علو إلى سفل.
    وقوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} {قال اهبطوا} الآيتين. فقوله هنا بعد قوله: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} يبين أنهم هبطوا إلى الأرض من غيرها وقال: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك بمكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون وإنما صاروا إليه لما أهبطوا من الجنة.
    والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته فلماذا أخرجتنا وذريتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه فهل تجد في التوراة: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال نعم قال: فلماذا تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق؟ فقال: فحج آدم موسى} " وموسى إنما لام آدم لما حصل له وذريته بالخروج من الجنة من المشقة والنكد فلو كان ذلك بستانا في الأرض لكان غيره من بساتين الأرض يعوض عنه. (وآدم عليه السلام احتج بالقدر؛ لأن العبد مأمور على أن يصبر على ما قدره الله من المصائب ويتوب إليه ويستغفره من الذنوب والمعائب. والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #54
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (52)

    من صــ 99 الى صـ
    ـ 105



    فصل في المسألة المشهورة بين الناس في " التفضيل بين الملائكة والناس "
    قال شيخ الإسلام:

    الكلام إما أن يكون في التفضيل بين الجنس: الملك والبشر؛ أو بين صالحي الملك والبشر.
    أما الأول وهو أن يقال: أيما أفضل: الملائكة أو البشر؟ فهذه كلمة تحتمل أربعة أنواع: (*)
    النوع الأول أن يقال: هل كل واحد من آحاد الناس أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة؟ فهذا لا يقوله عاقل فإن في الناس: الكفار والفجار والجاهلين والمستكبرين والمؤمنين وفيهم من هو مثل البهائم والأنعام السائمة بل الأنعام أحسن حالا من هؤلاء كما نطق بذلك القرآن في مواضع مثل قوله تعالى. {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}
    وقال وثالثها: أن هؤلاء لهم العقاب والنكال والخزي على ما يأتونه من الأعمال الخبيثة فهذا يقتل وهذا يعاقب وهذا يقطع وهذا يعذب ويحبس هذا في العقوبات المشروعة. وأما العقوبات المقدرة فقوم أغرقوا وقوم أهلكوا بأنواع العذاب وقوم ابتلوا بالملوك الجائرة: تحريقا وتغريقا وتمثيلا وخنقا وعمى. والبهائم في أمان من ذلك. ورابعها: أن لفسقة الجن والإنس في الآخرة من الأهوال والنار والعذاب والأغلال وغير ذلك مما أمنت منه البهائم ما بين فضل البهائم على هؤلاء إذا أضيف إلى حال هؤلاء. وخامسها: أن البهائم جميعها مؤمنة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مسبحة بحمده قانتة له وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {أنه ليس على وجه الأرض شيء إلا وهو يعلم أني رسول الله إلا فسقة الجن والإنس} ". النوع الثاني أنه يقال: مجموع الناس أفضل من مجموع الملائكة من غير توزيع الأفراد وهذا على القول بتفضيل صالحي البشر على الملائكة فيه نظر؛ لا علم لي بحقيقته فإنا نفضل مجموع القرن الثاني على القرن الثالث مع علمنا أن كثيرا من أهل القرن الثالث أفضل من كثير من أهل القرن الثاني.
    النوع الثالث أنا إذا قابلنا الفاضل بالفاضل والذي يلي الفاضل بمن يليه من الجنس الآخر فأي القبيلين أفضل؟ فهذا مع القول بتفضيل صالحي البشر يقال: لا شك أن المفضولين من الملائكة أفضل من كثير من البشر وفاضل البشر أفضل من فاضليهم لكن التفاوت الذي بين " فاضل الطائفتين " أكثر والتفاوت بين " مفضولهم " هذا غير معلوم والله أعلم بخلقه. النوع الرابع أن يقال: حقيقة الملك والطبيعة الملكية أفضل أم حقيقة البشر والطبيعة البشرية؟ وهذا كما أنا نعلم أن حقيقة الحي إذ هو حي أفضل من الميت وحقيقة القوة والعلم من حيث هي كذلك أفضل من حقيقة الضعف والجهل وحقيقة الذكر أفضل من حقيقة الأنثى وحقيقة الفرس أفضل من حقيقة الحمار وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل: كالحمار والفأرة والفرس الزمن والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر والقوي الفاجر مع الضعيف الزمن.
    والوجه في انحصار القسمة في هذه الأنواع - فإن كثيرا من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبها لفقد التمييز والتفضيل - أن كل شيء إما أن نقيده من جهة الخصوص أو العموم أو الإطلاق. فإذا قلت: بشر وملك. إما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خاصا أو جميع جنس البشر فيكون عاما أو تريد البشر مطلقا مجردا عن قيد العموم والخصوص وضبطه القليل والكثير والنوع الأول في التفضيل عموما وخصوصا والثاني عموما والثالث خصوصا والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة. فنقول حينئذ: المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك وبعضهم على تفضيل البشر وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره. لكن الذي سنح لي - والله أعلم بالصواب - أن حقيقة الملك أكمل وأرفع وحقيقة الإنسان أسهل وأجمع.
    وتفسير ذلك: أنا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية والتبعية: اللازمة الغالبة الحياة والعلم والقدرة: في اللذات والشهوات وجدنا أولا خلق الملك أعظم صورة ومحله أرفع وحياته أشد وعلمه أكثر وقواه أشد وطهارته ونزاهته أتم ونيل مطالبه أيسر وأتم وهو عن المنافي والمضاد أبعد لكن تجد هذه الصفات للإنسان - بحسب حقيقته - منها أوفر حظا ونصيبا من الحياة والخلق والعلم والقدرة والطهارة وغير ذلك. وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الأشياء: حسا وعقلا وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه وهو يأكل ويشرب وينكح ويتمنى ويتغذى ويتفكر إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يشاركه فيها الملك. لكن حظ الملك من القدر المشترك الذي بينهما أكثر وما اشتركا فيه من الأمور أفضل بكثير مما اختص به الإنسان. " مثاله ": مثل رجل معه مائة دينار وآخر معه خمسون درهما أو خمسون دينارا أو خمسون فلسا وإذا كان الأمر كذلك ففصل الجواب كما سبق. وإن أردت الإطلاق: فالحقيقة الملكية بلوازمها أفضل من الحقيقة الإنسانية بلوازمها هذا لا شك فيه فإنما يلزم حقيقة الإنسان من حياة وحس وعلم وعمل ونيل لذة وإدراك شهوة ليست بشيء.
    وإنما تعددت أصنافه إلى ما يشبه حقيقة الملك؛ كحال من علم من كل شيء طرفا ليس بالكثير إلى حال من أتقن العلم بالله وبأسمائه وآياته ولا يشبه حال من معه درهم إلى حال من معه درة ولا يشبه حال من يسوس الناس كلهم إلى حال من يسوس إنسانا وفرسا. وقد دل على هذا دلالة بينة قوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} فدل على أنهم لم يفضلوا على الجميع وقوله: {ممن} للتبعيض. فإن قلت: هذا الاستدلال مفهوم للمخالف وأنت مخالف لهذا منازع فيه.
    فيقال لك: تخصيص الكثير بالذكر لا يدل على مخالفة غيره بنفي ولا إثبات وأيضا فإن مفهومه: أنهم لم يفضلوا على ما سوى الكثير فإذا لم يفضلوا فقد يساوون بهم وقد يفضل أولئك عليهم فإن الأحوال ثلاثة: إما أن يفضلوا على من بقي أو يفضل أولئك عليهم أو يساوون بهم.
    قال: واختلاف الحقائق والذوات لا بد أنها تؤثر في اختلاف الأحكام والصفات وإذا اختلفت حقيقة البشر والملك فلا بد أن يكون أحد الحقيقتين أفضل فإن كونهما متماثلتين متفاضلتين ممتنع. وإذا ثبت أن أحدهما أفضل بهذه القضية المعقولة؛ وثبت عدم فضل البشر بتلك الكلمة الإلهية؛ ثبت فضل الملك وهو المطلوب.
    وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة: أن الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة. وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة على البشر وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ومنهم من يقف ولا يقطع فيهما بشيء. وحكي عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة وربما حكي ذلك عن بعض من يدعي السنة ويواليها. وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال: أما الملائكة المدبرون للسموات والأرض وما بينهما والموكلون ببني آدم؛ فهؤلاء أفضل من هؤلاء الملائكة. وأما الكروبيون الذين يرتفعون عن ذلك فلا أحد أفضل منهم وربما خص بعضهم نبينا صلى الله عليه وسلم. واستثناؤه من عموم البشر إما تفضيلا على جميع أعيان الملائكة أو على المدبرين منهم أمر العالم.
    هذا ما بلغني من كلمات الآخرين في هذه المسألة. وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتى رأيتها أثرية سلفية صحابية فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها فقلنا حينئذ بما قاله السلف فروى أبو يعلى الموصلي في " كتاب التفسير " المشهور له عن عبد الله بن سلام - وكان عالما بالكتاب الأول والكتاب الثاني - إذ كان كتابيا وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخاتمة ووصية معاذ عند موته وأنه أحد العلماء الأربعة الذين يبتغى العلم عندهم. قال: ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم الحديث عنه. قلت:
    ولا جبرائيل ولا ميكائيل قال: يا ابن أخي أوتدري ما جبرائيل وميكائيل؟ إنما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر مثل: الشمس والقمر؛ وما خلق الله تعالى خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم. وروى عبد الله في " التفسير " (*) وغيره عن معمر عن زيد بن أسلم أنه قال: {قالت الملائكة: يا ربنا جعلت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون فاجعل لنا الآخرة. فقال: وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان}.
    __________


    وأريد أن أنبه إلى أمرين:
    الأمر الأول: أن هذه الرسالة أشك في نسبتها لشيخ الإسلام رحمه الله، فمن قرأ للشيخ وعرف نفسه في رسائله وفتاواه سيعرف هذا جيدا، فإما أن يكون أصلها للشيخ رحمه الله وخلط كلامه بكلام غيره ولم يميز بين الكلامين، أو أنها لأحد تلاميذه المتأثرين به، ونحو ذلك، أما أن تكون جميع هذه الرسالة للشيخ فهو مما أستبعده والله أعلم، فالطريقة التي كتبت بها هذه الرسالة مغايرة لطريقة الشيخ في الجملة، وسأذكر هنا بعض الأمثلة على ذلك:
    1 - ص 359 (هذا هو العجب العجيب).
    2 - ص 364 (فافهم هذا فإن تحته سر)
    3 - ص 365، 366 (فافهم هذا فإنه مجلاة شبهة ومصفاة كدر).
    4 - ص 366 (والله أكبر كبيرا)
    5 - ص 374، 375 (فلا تلجن باب إنكار، ورد وإمساك وإغماض ردا لظاهره وتعجبا من باطنه حفظا لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن جناب مولاك، إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وتوق التمثيل والتشبيه، ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم، الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعر، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور).
    6 - ص 352 (لا علم لي بحقيقته) وص 353 (هذا غير معلوم والله أعلم بخلقه)، وص 354 (لكن الذي سنح لي والله أعلم بالصواب)، وص 361 (ولعل ذلك والله أعلم بحقائق الأمور)، ص 364 (ولا حاجة بنا إلى تفسير كلام ربنا بآرائنا والله أعلم بتفسيره).
    7 - ص 374 (وهذا بحر يغرق فيه السابح، لا يخوضه إلا كل مؤيد بنور الهداية، وإلا وقع إما في تمثيل، أو في تعطيل. فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة، وفوق كل ذي علم عليم)
    8 - ص 375 (ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا لا يكون إلا على أيدى الملائكة وهو والله باطل).
    9 - ص 379 (فهذا هداك الله وجه التفضيل بالأسباب المعلومة، ذكرنا منه أنموذجا) وص 381 (فاعلم - نو الله قلبك وشرح صدرك للإسلام -).
    ثانيا: وصف المخالفين له بما لم يعهد عنه، نحو:
    1 - ص 358 (وقد قال بعض الأغبياء: إن السجود إنما كان لله وجعل آدم قبلة لهم).
    2 - ص 362 (فاعلم أن المقالة أولا ليس معها ما يوجب قبولها، لا مسموع، ولا معقول، إلا خواطر، وسوانح، ووساوس، مادتها من عرش إبليس).
    3 - ص 363 (ومن اختلج في سره وجه الخصوص بعد هذا التحقيق والتوكيل فليعز نفسه في الاستدلال بالقرآن والفهم، فإنه لا يثق بشئ يؤخذ منه، ياليت شعري! لو كانت الملائكة كلهم سجدوا وأراد الله أن يخبرنا بذلك، فأي كلمة أتم وأعم، أم يأتي قول يقال: أليس هذا من أبين البيان؟)
    4 - ص 376 (وليس كما زعم هذا الغبي).
    5 - ص 391 (وهذا من أوضح الكلام لمن له فقه بالعربية ونعوذ بالله من التنطع).
    ثالثا: قوله ص 379 في معرض تفضيله صالحي البشر على الملائكة (وأين هم عن الذين: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن سن سنة حسنة؟ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومضر)؟ وأين هم من الأقطاب، والأوتاد، والأغواث، والأبدال، والنجباء؟).
    وقد علق الجامع على رحمه الله على الجملة الأخيرة بقوله (هكذا بالأصل)، وهذا يدل على أنه استنكر مثل هذه العبارة، والشيخ رحمه الله له كلام على إبطال هذه الأسماء وأنها لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ومن ذلك:
    قوله في الفتاوى 11/ 433 (أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة،
    والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة: فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى؛ ولا هي أيضا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، ولا ضعيف. . . الخ الفتوى وهي طويلة مفصلة).
    وقال في (المنهاج) 1/ 93 (وأيضا فجميع هذه الألفاظ لفظ الغوث والقطب والأوتاد والنجباء وغيرها لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد معروف أنه تكلم بشيء منها ولا أصحابه ولكن لفظ الأبدال تكلم به بعض السلف ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف).
    وفي الجملة: فهذه الرسالة نفسها ليس نفس شيخ الإسلام رحمه الله في رسائله، والله أعلم.
    الأمر الثاني: أنه حصل تصحيفات يسيرة في هذه الرسالة، ومن ذلك:
    1 - ص 353 (وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل؛ كالحمار والفأرة والفرس الزمن، والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر)
    قلت: (كالحمار والفأرة) صوابه: (كالحمار الفاره)
    2 - ص 357 (وروى عبد الله في (التفسير))، وذكر هذا الأثر سابقا ص 244 وقال فيه (عبد الله في (السنن)) وجاء في ص 369 (السنة) وهو الأظهر، والله أعلم.
    3 - ص 360 (والبهائم لا تعبد الله)، ولعله: لا تعبد إلا الله.
    4 - ص 364 (وإذا كانت القصة قد تكررت وليس فيها ما يدل على الخصوص فليس دعوى الخصوص فيها من البهتان).
    قلت: ويظهر أن العبارة: (كان دعوى الخصوص فيها من البهتان) أو (فإن دعوى الخصوص)، ونحو ذلك.
    5 - ص 368: ذكر الدليل الثامن، ثم في السطر الثاني عشر قال: (ثم ذكر ما رواه الخلال. . .)، وهذا يجل على أمرين:
    الأول: حصول اختصار، لأن (الدليل التاسع) و (العاشر) لم تذكر مسبوقة بالرقم - وإن كانت قد ذكرت أحاديث -، وإنما ذكر ص 370 (الدليل الحادي عشر).
    والثاني: أن هذه النسخة متصرف فيها.
    6 - ص 369 (فلا يقول مثل هذا القول إلا عن. . . [وأشار الجامع رحمه الله إلى أن هنا بياضا في الأصل] بين والكذب على الله عز وجل أعظم من الكذب على رسوله).
    قلت: ويظهر أن العبارة (إلا عن علم بين) أو نحوها.
    7 - ص 373 (وأما الملائكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك، فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة، وتصديق. . .).
    قلت: ويظهر أن العبارة (وليست الجنة مخلوقة لهم).
    8 - ص 347 (إن إجلاسه على العرش منكرا) والصواب: (منكر)
    9 - ص 387: (ولا يقال إنه لما لم يقرن بالإنكار دل على أنه حق، فإن قولهن {ما هذا بشرا } خطأ. وقولهن: {إن هذا إلا ملك كريم} خطأ أيضا في غيبتهن عنه أنه بشر وإثباتهن أنه ملك، وإن لم يقرن بالإنكار، [دل على أنه حق، وأن قولهن: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} خطأ في نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملائكية، وإن لم يقرن بالإنكار] لغيبة عقولهن عند رؤيته، فلم يلمن في تلك الحال على ذلك).
    قلت: والذي يظهر أن ما بين المعقوفتين مكرر، والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #55
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (53)

    من صــ 106 الى صـ
    ـ 112


    وَكَذَلِكَ قِصَّةُ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ لِآدَمَ وَلَعْنُ الْمُمْتَنِعِ عَنْ السُّجُودِ لَهُ وَهَذَا تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ لَهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ: إنَّ السُّجُودَ إنَّمَا كَانَ لِلَّهِ وَجَعْلِ آدَمَ قِبْلَةً لَهُمْ يَسْجُدُونَ إلَيْهِ كَمَا يَسْجُدُ إلَى الْكَعْبَةِ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا أَنَّ السُّجُودَ إلَى الْكَعْبَةِ لَيْسَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لِلْكَعْبَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ حُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ حُرْمَتِهَا وَقَالُوا: السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ بَلْ كُفْرٌ.
    وَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَفَرْضِهِ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُسْمَعُ قَوْلُهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: - أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لِآدَمَ: وَلَمْ يَقُلْ: إلَى آدَمَ. وَكُلُّ حَرْفٍ لَهُ مَعْنَى وَمِنْ التَّمْيِيزِ فِي اللِّسَانِ أَنْ يُقَالَ: سَجَدْت لَهُ وَسَجَدْت إلَيْهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وَقَالَ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
    وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى: أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ وَأَمَّا الْكَعْبَةُ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يُصَلِّي إلَى عَنَزَةٍ وَلَا يُقَالُ لِعَنَزَةِ وَإِلَى عَمُودِ شَجَرَةٍ وَلَا يُقَالُ لِعَمُودِ وَلَا لِشَجَرَةِ؛ وَالسَّاجِدُ لِلشَّيْءِ يَخْضَعُ لَهُ بِقَلْبِهِ وَيَخْشَعُ لَهُ بِفُؤَادِهِ؛ وَأَمَّا السَّاجِدُ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يُوَلِّي وَجْهَهُ وَبَدَنَهُ إلَيْهِ ظَاهِرًا كَمَا يُوَلِّي وَجْهَهُ إلَى بَعْضِ النَّوَاحِي إذَا أَمَّهُ كَمَا قَالَ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. وَالثَّانِي: أَنَّ آدَمَ لَوْ كَانَ قِبْلَةً لَمْ يَمْتَنِعْ إبْلِيسُ مِنْ السُّجُودِ أَوْ يَزْعُمْ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ. فَإِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ تَكُونُ أَحْجَارًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَفْضِيلٌ لَهَا عَلَى الْمُصَلِّينَ إلَيْهَا وَقَدْ يُصَلِّي الرَّجُلُ إلَى عَنَزَةَ وَبَعِيرٍ وَإِلَى رَجُلٍ وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُفَضَّلٌ بِذَلِكَ فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَرَّ الشَّيْطَانُ؟ هَذَا هُوَ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ وَالثَّالِثُ:
    أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ آدَمَ قِبْلَةً فِي سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَانَتْ الْقِبْلَةُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلَ مِنْهُ بِآلَافِ كَثِيرَةٍ إذْ جُعِلَتْ قِبْلَةً دَائِمَةً فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّلَوَاتِ؛ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ الطَّوِيلَةُ الَّتِي قَدْ جُعِلَتْ عَلَمًا لَهُ وَمِنْ أَفْضَلِ النِّعَمِ عَلَيْهِ وَجَاءَتْ إلَى الْعَالِمِ بِأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ بِهَا وَامْتَنَّ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْكَعْبَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ مَا أُوتِيَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْبِ مِنْ الرَّحْمَنِ أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ الْكَعْبَةِ؛ وَالْكَعْبَةُ إنَّمَا وُضِعَتْ لَهُ وَلِذُرِّيَّتِه ِ؛ أَفَيُجْعَلُ مِنْ جَسِيمِ النِّعَمِ عَلَيْهِ أَوْ يُشَبَّهُ بِهِ فِي شَيْءٍ نَزْرًا قَلِيلًا جِدًّا هَذَا مَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إنْ قِيلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ فَهِيَ كَلِمَةٌ عَامَّةٌ تَنْفِي بِعُمُومِهَا جَوَازَ السُّجُودِ لِآدَمَ وَقَدْ دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ سَجَدُوا لَهُ وَالْعَامُّ لَا يُعَارِضُ مَا قَابَلَهُ مِنْ الْخَاصِّ.
    وَثَانِيهَا: أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ حَرَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا دَلِيلَ وَأَمَّا الثَّانِي فَمَا الْحُجَّةُ فِيهِ؟
    وَثَالِثُهَا أَنَّهُ حَرَامٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ حَرَامٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَالثَّانِي حَقٌّ وَلَا شِفَاءَ فِيهِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُحَرَّمَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ؟ وَرَابِعُهَا: أَبُو يُوسُفَ وَإِخْوَتُهُ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَيُقَالُ: كَانَتْ تَحِيَّتَهُمْ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ السُّجُودَ حَرَامٌ مُطْلَقًا؟ وَقَدْ كَانَتْ الْبَهَائِمُ تَسْجُدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَهَائِمُ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ. فَكَيْفَ يُقَالُ يَلْزَمُ مِنْ السُّجُودِ لِشَيْءِ عِبَادَتُهُ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا} لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَعْبُدَ.

    وَسَابِعُهَا (1): وَفِيهِ التَّفْسِيرُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْخُضُوعُ وَالْقُنُوتُ بِالْقُلُوبِ وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّ ةِ وَالْعُبُودِيَّ ةِ فَهَذَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ بَاطِلٌ. وَأَمَّا السُّجُودُ فَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ إذْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَسْجُدَ لَهُ وَلَوْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرِهِ لَسَجَدْنَا لِذَلِكَ الْغَيْرِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ أَحَبَّ أَنْ نُعَظِّمَ مَنْ سَجَدْنَا لَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ لَمْ يَجِبْ أَلْبَتَّةَ فِعْلُهُ فَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لَهُ وَقُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَيْهِ وَهُوَ لِآدَمَ تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ وَتَعْظِيمٌ. وَسُجُودُ إخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ تَحِيَّةٌ وَسَلَامٌ أَلَا تَرَى أَنَّ يُوسُفَ لَوْ سَجَدَ لِأَبَوَيْهِ تَحِيَّةً لَمْ يُكْرَهْ لَهُ.

    وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ آدَمَ سَجَدَ لِلْمَلَائِكَةِ بَلْ لَمْ يُؤْمَرْ آدَمَ وَبَنُوهُ بِالسُّجُودِ إلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَعَلَّ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ - لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ وَهُمْ صَالِحُو بَنِي آدَمَ لَيْسَ فَوْقَهُمْ أَحَدٌ يُحْسِنُ السُّجُودُ لَهُ إلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُمْ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ مَزِيَّةٌ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ السُّجُودُ وَمَنْ سِوَاهُمْ فَقَدْ سَجَدَ لَهُمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِلْأَبِ الْأَقْوَمُ وَمِنْ الْبَهَائِمِ لِلِابْنِ الْأَكْرَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمْ يَسْبِقْ لِآدَمَ مَا يُوجِبُ الْإِكْرَامَ لَهُ بِالسُّجُودِ فَلَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ هذي بِهِ بَعْضُ مَنْ اعْتَزَلَ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ نَعَمْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَيَادِيهِ وَآلَائِهِ عَلَى عِبَادِهِ لَيْسَتْ بِسَبَبِ مِنْهُمْ وَلَوْ كَانَتْ بِسَبَبِ مِنْهُمْ فَهُوَ الْمُنْعِمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَهُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ وَيَشْكُرُهُمْ عَلَى نِعَمِهِ؛ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ لَا حَاجَةَ لَنَا إلَى بَيَانِهِ هَاهُنَا.
    وَقَوْلُهُ: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} فَإِنَّهُ إنْ سُلِّمَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَالْقَصْدُ مِنْهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْفَضْلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْبُدُ غَيْرَهُ ثُمَّ هَذَا عَامٌّ وَتِلْكَ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فَيُسْتَثْنَى آدَمَ ثُمَّ يُقَالُ: السُّجُودُ عَلَى ضَرْبَيْنِ سُجُودُ عِبَادَةٍ مَحْضَةٍ وَسُجُودُ تَشْرِيفٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَ قُلْت إنَّهُ كَذَلِكَ؟ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ.
    وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ مَلَائِكَةٌ فِي الْأَرْضِ فَقَطْ؛ لَا مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ دُونَ الكروبيين وَانْتَحَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِي نَ وَاسْتَنْكَرَ سُجُودَ الْأَعْلَيَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ مَعَ عَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ إلَى مَا سِوَى اللَّهِ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ: " إنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ خَلْقٌ لَا يَدْرُونَ: أَخُلِقَ آدَمَ أَمْ لَا "؟ وَنَزَعَ بِقَوْلِهِ: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} وَالْعَالُونَ هُمْ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ السَّمَاءِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَوَّلًا لَيْسَ مَعَهَا مَا يُوجِبُ قَبُولَهَا؛ لَا مَسْمُوعٌ وَلَا مَعْقُولٌ إلَّا خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ وَوَسَاوِسُ مَادَّتُهَا مِنْ عَرْشِ إبْلِيسَ يَسْتَفِزُّهُمْ بِصَوْتِهِ لِيَرُدَّ عَنْهُمْ النِّعْمَةَ الَّتِي حَرَصَ عَلَى رَدِّهَا عَنْ أَبِيهِمْ قَدِيمًا أَوْ مَقَالَةٌ قَدْ قَالَهَا مَنْ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ لَكِنَّ مَعَنَا مَا يُوجِبُ رَدَّهَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا:
    أَنَّهُ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْلِيدِ فَتَقْلِيدُهُمْ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَخِلَافُ نَصِّهِ فَإِنَّ الِاسْمَ الْمَجْمُوعَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الْجِنْسِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ يَقْتَضِي جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا مُقْتَضَى اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَالْعُدُولُ عَنْ مُوجِبِ الْقَوْلِ الْعَامِّ إلَى الْخُصُوصِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ مَعْدُومٌ.
    وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَالِاسْتِغْرَا قَ لَكَانَ تَوْكِيدُهُ بِصِيغَةِ كُلٍّ مُوجِبَةً لِذَلِكَ وَمُقْتَضِيَةً لَهُ ثُمَّ لَوْ لَمْ يُفِدْ تِلْكَ الْإِفَادَةَ لَكَانَ قَوْلُهُ أَجْمَعُونَ تَوْكِيدًا وَتَحْقِيقًا بَعْدَ تَوْكِيدٍ وَتَحْقِيقٍ وَمَنْ نَازَعَ فِي مُوجِبِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِيهَا بَعْدَ تَوْكِيدِهَا بِمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بَلْ إنَّمَا يُجَاءُ بِصِيغَةِ التَّوْكِيدِ قَطْعًا لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ وَأَشْبَاهِهِ. وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ السَّلَف أَنَّهُ قَالَ:
    مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا فِي الْقُرْآنِ مَا يَرُدُّهَا وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ فَلَعَلَّ قَوْلَهُ: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} جِيءَ بِهِ لِزَعْمِ زَاعِمٍ يَقُولُ: إنَّمَا سَجَدَ لَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ لَا كُلُّهُمْ وَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ رَدًّا لِمَقَالَةِ هَؤُلَاءِ. وَمَنْ اخْتَلَجَ فِي سِرِّهِ وَجْهَ الْخُصُوصِ بَعْدَ هَذَا التَّحْقِيقِ وَالتَّوْكِيدِ فَلْيَعُزْ نَفْسَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْقُرْآنِ وَالْفَهْمِ فَإِنَّهُ لَا يَثِقُ بِشَيْءِ يُؤْخَذُ مِنْهُ يَا لَيْتَ شِعْرِي لَوْ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ سَجَدُوا وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخْبِرَنَا بِذَلِكَ فَأَيُّ كَلِمَةٍ أَتَمُّ وَأَعَمُّ أَمْ يَأْتِي قَوْلٌ يُقَالُ: أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْبَيَانِ؟.
    وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَكَرَّرَتْ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ {وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ} وَكَذَلِكَ فِي مُحَاجَّةِ مُوسَى وَآدَمَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقَوْلَ الْعَامَّ إذَا قُرِنَ بِهِ الْخَاصُّ وَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ الْبَيَانُ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ لِئَلَّا يَقَعَ السَّامِعُ فِي اعْتِقَادِ الْجَهْلِ؛ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ دَلِيلُ تَخْصِيصٍ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِالْعُمُومِ. وَقَالَ آخَرُونَ - وَهُوَ الْأَصْوَبُ -: يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لَكِنْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ وَإِذَا كَانَتْ الْقِصَّةُ قَدْ تَكَرَّرَتْ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَيْسَ دَعْوَى الْخُصُوصِ فِيهَا مِنْ الْبُهْتَانِ. وَأَمَّا إنْكَارُهُمْ لِسُجُودِ الكروبيين فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّهُمْ سَجَدُوا طَاعَةً وَعِبَادَةً لِرَبِّهِمْ وَزَادَ قَائِلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا وَالْحِكَايَاتُ الْمُرْسَلَةُ لَا تُقِيمُ حَقًّا وَلَا تَهْدِمُ بَاطِلًا؛ وَتَفْسِيرُهُمْ {الْعَالِينَ} بالكروبيين قَوْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مُتَّبَعٍ. وَلَا فِي اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ: {أَسْتَكْبَرْتَ} أَطَلَبْت أَنْ تَكُونَ كَبِيرًا مِنْ هَذَا الْوَقْتِ؟ أَمْ كُنْت عَالِيًا قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ بِآرَائِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَفْسِيرِهِ. وَهَاهُنَا (سُؤَالٌ ثَالِثٌ وَهُوَ: أَنَّ السُّجُودَ لَهُ قَدْ يَكُونُ السَّاجِدُونَ سَجَدُوا لَهُ مَعَ فَضْلِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْفَاضِلَ قَدْ يَخْدُمُ الْمَفْضُولَ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى غَيْرُ مُسْتَنْكَرَةٍ؛ فَإِنَّ سَيِّدَ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ لَكِنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَعُودُ إلَيْهِ ثَوَابُهَا وَتَمَامُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ يَحْصُلُ بِنَفْعِ خَلْقِهِ فَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يُورَدَ عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِتَدْبِيرِهِمْ لَنَا فَفَضَّلَهُمْ عَلَيْنَا لِكَثْرَةِ مَنْفَعَتِهِمْ لَنَا وَأَمَّا نَفْسُ السُّجُودِ فَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلسُّجُودِ لَهُ إلَّا مُجَرَّدَ تَعْظِيمٍ وَتَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَلَا يَصْلُحُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ أَسْفَلَ مِمَّنْ دُونَهُ وَتَحْتَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْمُحَقَّقُ؛ لَا الْمُتَوَهَّمُ؛ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ تَحْتَهُ سِرًّا.
    __________

    Q (1) هكذا بالأصل





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #56
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (54)

    من صــ 113 الى صـ
    ـ 118



    الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ قَصَصًا عَنْ إبْلِيسَ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}؟. فَإِنَّ هَذَا نَصٌّ فِي تَكْرِيمِ آدَمَ عَلَى إبْلِيسَ إذْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لَهُ. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَلَائِكَة ُ لَمْ يَخْلُقْهُمْ بِيَدِهِ بَلْ بِكَلِمَتِهِ وَهَذَا يَقُولُهُ جَمِيعُ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ سُنِّيُّهُمْ وَمُبْتَدِعُهُم ْ - بَلْ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّ النَّاسَ فِي يَدَيْ اللَّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: -
    أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: يَدَا اللَّهِ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ جَمِيعِ صِفَاتِهِ:

    مِنْ حَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَلَامِهِ. فَيُثْبِتُونَ جَمِيعَ صِفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُ وَإِنْ شَارَكَتْ أَسْمَاءُ صِفَاتِهِ أَسْمَاءَ صِفَاتِ غَيْرِهِ. كَمَا أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً قَدْ يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ مِثْلُ: رَءُوفٌ رَحِيمٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ حَلِيمٌ صَبُورٌ شَكُورٌ قَدِيرٌ مُؤْمِنٌ عَلِيٌّ عَظِيمٌ كَبِيرٌ مَعَ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمُمَاثَلَة ِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالتَّنْزِيهِ وَنِسْبَةُ صِفَاتِهِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ خَلْقِهِ إلَيْهِ وَالنِّسْبَةُ وَالْإِضَافَةُ تُشَابِهُ النِّسْبَةَ وَالْإِضَافَةَ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَاءَ الِاشْتِرَاكُ فِي أَسْمَائِهِ وَأَسْمَاءِ صِفَاتِهِ كَمَا شُبِّهَتْ الرُّؤْيَةُ بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تَشْبِيهًا لِلرُّؤْيَةِ لَا لِلْمَرْئِيِّ كَمَا ضَرَبَ مَثَلَهُ مَعَ عِبَادِهِ الْمَمْلُوكِينَ كَمَثَلِ بَعْضِ خَلْقِهِ مَعَ مَمْلُوكِيهِمْ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ مِجْلَاةُ شُبْهَةٍ وَمِصْفَاةُ كَدَرٍ فَجَمِيعُ مَا نَسْمَعُهُ وَيُنْسَبُ إلَيْهِ وَيُضَافُ: مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ:
    هُوَ كَمَا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَيَصْلُحُ لِذَاتِهِ. وَالْفَرِيقَانِ الْآخَرَانِ - أَهْلُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ -: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَدٌ كَيَدِي - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ - وَأَهْلُ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ يَقُولُونَ: الْيَدَانِ هُمَا: النِّعْمَتَانِ وَالْقُدْرَتَان ِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا. وَبِكُلِّ حَالٍ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ لِآدَمَ فَضِيلَةً وَمَزِيَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ إذْ خَلَقَهُ بِيَدِهِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ فِي النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى آدَمَ حِينَ قَالَ لَهُ مُوسَى: " خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ ". وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فِي النِّعَمِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ الَّذِي شُورِكَ فِيهَا فَهَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ كَمَا ذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : " {لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ كُنْ فَكَانَ} ".
    (الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَاسْمُ {الْعَالَمِينَ} يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَفِيهِ نَظَرٌ؟ لِأَنَّ أَصْنَافَ الْعَالَمِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ أَصْنَافِ الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْآدَمِيُّونَ فَقَطْ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} وَهُمْ كَانُوا لَا يَأْتُونَ الْبَهَائِمَ وَلَا الْجِنَّ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْعَالَمِينَ أَهْلُ زَمَنٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. فَقَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} الْآيَةَ. تَحْتَمِلُ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بَنُو آدَمَ فَقَطْ.
    وَلِلْمُحْتَجِّ بِهَا أَنْ يَقُولَ: اسْمُ الْعَالَمِينَ عَامٌّ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ اللَّهُ وَهِيَ آيَاتٌ لَهُ وَدَلَالَاتٌ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا أُولُو الْعِلْمِ مِنْهُمْ مِثْلُ: الْمَلَائِكَةُ فَيَجِبُ إجْرَاءُ الِاسْمِ عَلَى عُمُومِهِ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْخُصُوصَ. وَقَدْ احْتَجَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الْآيَةَ. وَهُوَ دَلِيلٌ ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ بِالضِّدِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. (الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِ الْخَلِيفَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
    " أَوَّلُهُمَا " أَنَّ الْخَلِيفَةَ يُفَضَّلُ عَلَى مَنْ هُوَ خَلِيفَةٌ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ وَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. " وَثَانِيهُمَا ": أَنَّ الْمَلَائِكَةَ طَلَبَتْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْلَافُ فِيهِمْ وَالْخَلِيفَةُ مِنْهُمْ حَيْثُ قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الْآيَةَ. فَلَوْلَا أَنَّ الْخِلَافَةَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ أَعْلَى مِنْ دَرَجَاتِهِمْ لَمَّا طَلَبُوهَا وَغَبَطُوا صَاحِبَهَا.
    الدَّلِيلُ السَّابِعُ (1): تَفْضِيلُ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْعِلْمِ حِينَ سَأَلَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عِلْمِ الْأَسْمَاءِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ؛ وَاعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَهَا فَأَنْبَأَهُمْ آدَمَ بِذَلِكَ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
    وَالدَّلِيلُ الثَّامِنُ (2): وَهُوَ أَوَّلُ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَزَوَالُ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ وَالْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ} ".
    وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ . ثُمَّ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ فِي آخِرِهِ: اُدْنُوا وَوَسِّعُوا لِمَنْ خَلْفَكُمْ فَدَنَا النَّاسُ وَانْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنُوَسِّعُ لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ لِلنَّاسِ؟ قَالَ: لِلْمَلَائِكَةِ إنَّهُمْ إذَا كَانُوا مَعَكُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ وَلَا مِنْ خَلْفِكُمْ وَلَكِنْ عَنْ أَيْمَانِكُمْ وَشَمَائِلِكُمْ . قَالُوا: وَلَمْ لَا يَكُونُونَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا؟ أَمِنْ فَضْلِنَا عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْ فَضْلِهِمْ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ} ".

    رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَفِيهِ الْقَطْعُ بِفَضْلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لَكِنْ لَا يُعْرَفُ حَالُ إسْنَادِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ إسْنَادِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رويم قَالَ: أَخْبَرَنِي الْأَنْصَارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: رَبَّنَا خَلَقْتنَا وَخَلَقْت بَنِي آدَمَ فَجَعَلْتهمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ وَيَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ وَيَنَامُونَ وَيَسْتَرِيحُون َ وَلَمْ تَجْعَلْ لَنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاجْعَلْ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ}. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ مَوْقُوفًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ.

    وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ زِيدَ فِي عِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَوَرَعِهِ حَتَّى إنْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لَيَدَعُ مَجَالِسَ قَوْمِهِ وَيَأْتِيَ مَجْلِسَهُ فَلَامَهُ الزُّهْرِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتَفِعُ؛ أَوْ قَالَ يَجِدُ صَلَاحَ قَلْبِهِ. وَقَدْ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوُ أَرْبَعُمِائَةِ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ أَدْنَى خَصْلَةٍ فِيهِمْ الْبَاذِلُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا يَسْتَأْثِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَا يَقُولُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ إلَّا عَنْ. . . (3) بَيِّنٍ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِهِ. وَأَقَلُّ مَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ أَنَّ السَّلَف الْأَوَّلِينَ كَانُوا يَتَنَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ: أَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إنَّمَا ظَهَرَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَشَتُّتِ الْأَهْوَاءِ بِأَهْلِهَا وَتَفَرُّقِ الْآرَاءِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقِرّ ِ عِنْدَهُمْ.
    الدَّلِيلُ الْحَادِي عَشَرَ (4): أَحَادِيثُ الْمُبَاهَاةِ مِثْلُ: {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِالْحَاجِّ وَكَذَلِكَ يُبَاهِي بِهِمْ الْمُصَلِّينَ يَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَالْمُبَاهَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْأَفَاضِلِ. فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَخْبَارُ رَوَاهَا آحَادٌ غَيْرُ مَشْهُورِينَ وَلَا هِيَ بِتِلْكَ الشُّهْرَةِ فَلَا تُوجِبُ عِلْمًا وَالْمَسْأَلَةُ عِلْمِيَّةٌ. قُلْنَا: " أَوَّلًا " مَنْ قَالَ إنَّ الْمُطْلَقَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ نَقِيضُهُ؟ بَلْ يَكْفِي فِيهَا الظَّنُّ الْغَالِبُ وَهُوَ حَاصِلٌ. ثُمَّ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
    عِلْمِيَّةٌ؟ أَتُرِيدُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ؟ فَهَذَا مُسْلِمٌ. وَلَكِنْ كُلُّ عَقْلٍ رَاجِحٌ يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ فَإِنَّهُ عِلْمٌ وَإِنْ كَانَ فِرْقَةٌ مِنْ النَّاسِ لَا يُسَمَّوْنَ عِلْمًا إلَّا مَا كَانَ يَقِينًا لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ} وَقَدْ اسْتَوْفَى الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنْ أُرِيدَ عِلْمِيَّةٌ: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الِاسْتِيقَانُ؛ فَهَذَا لَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَوَجَبَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْكَلَامِ فِي كُلِّ أَمْرٍ غَيْرِ عِلْمِيٍّ إلَّا بِالْيَقِينِ وَهُوَ تَهَافُتٌ بَيِّنٌ.
    __________

    Q (1، 2) هكذا بالأصل
    Q (1) بياض بالأصل
    والظاهر أن العبارة: (إلا عن علم بين) أو نحوها.
    Q (4) هكذا بالأصل



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #57
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (55)

    من صــ 119 الى صـ
    ـ 125


    ثم نقول: هي بمجموعها وانضمام بعضها إلى بعض ومجيئها من طرق متباينة قد توجب اليقين لأولي الخبرة بعلم الإسناد وذوي البصيرة بمعرفة الحديث ورجاله فإن هذا علم اختصوا به كما اختص كل قوم بعلم؛ وليس من لوازم حصول العلم لهم حصوله لغيرهم إلا أن يعلموا ما علموا مما به يميزون بين صحيح الحديث وضعيفه.
    والعلوم على اختلاف أصنافها وتباين صفاتها لا توجب اشتراك العقلاء فيها لا سيما السمعيات الخبريات وإن زعم فرقة من أولي الجدل أن الضروريات يجب الاشتراك فيها فإن هذا حق في بعض الضروريات؛ لا في جميعها مع تجويزنا عدم الاشتراك في شيء من الضروريات لكن جرت سنة الاشتراك بوقوع الاشتراك في بعضها فغلط أقوام فجعلوا وجوب الاشتراك في جميعها فجحدوا كثيرا من العلم الذي اختص به غيرهم.
    ثم نقول: لو فرضنا أنها لا تفيد العلم وإنما تفيد ظنا غالبا؛ أو أن المطلوب هو الاستيقان؛ فنقول: المطلوب حاصل بغير هذه الأحاديث وإنما هي مؤكدة مؤيدة لتجتمع أجناس الأدلة على هذه المقالة.
    الدليل الثاني عشر (1): قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملائكة وتروى على رءوس الناس ولو كان هذا منكرا لأنكروه فدل على اعتقادهم ذلك. وهذا إن لم يفد اليقين القاطع فإن بعض الظن لم يقصر عن القوي الغالب وربما اختلف ذلك باختلاف الناس واختلاف أحوالهم.
    الدليل الثالث عشر (2): وهو البحث الكاشف عن حقيقة المسألة - وهو أن نقول: التفضيل إذا وقع بين شيئين فلا بد من معرفة الفضيلة ما هي؟ ثم ينظر أيهما أولى بها؟.
    وأيضا فإنا إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة ونالوا الزلفى وسكنوا الدرجات العلى وحياهم الرحمن وخصهم بمزيد قربه وتجلى لهم؛ يستمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وقامت الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم. فلينظر الباحث في هذا الأمر فإن أكثر الغالطين لما نظروا في الصنفين رأوا الملائكة بعين التمام والكمال ونظروا الآدمي وهو في هذه الحياة الخسيسة الكدرة التي لا تزن عند الله جناح بعوضة وليس هذا بالإنصاف. فأقول: فضل أحد الذاتين على الأخرى إنما هو بقربها من الله تعالى ومن مزيد اصطفائه وفضل اجتبائه لنا وإن كنا نحن لا ندرك حقيقة ذلك. هذا على سبيل الإجمال وعلى حسب الأمور التي هي في نفسها خبر محض وكمال صرف مثل الحياة والعلم والقدرة والزكاة والطهارة والطيب والبراءة من النقائص والعيوب فنتكلم على الفضلين: (أما الأول: فإن جنة عدن خلقها الله تعالى وغرسها بيده ولم يطلع على ما فيها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وقال لها: تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون.
    جاء ذلك في أحاديث عديدة وأنه ينظر إليها في كل سحر وهي داره فهذه كرامة الله تعالى لعباده المؤمنين التي لم يطلع عليها أحد من الملائكة ومعلوم أن الأعلين مطلعون على الأسفلين من غير عكس ولا يقال: هذا في حق المرسلين فإنها إنما بنيت لهم لكن لم يبلغوا بعد إبان سكناها وإنما هي معدة لهم؛ فإنهم ذاهبون إلى كمال ومنتقلون إلى علو وارتفاع وهو جزاؤهم وثوابهم. وأما الملائكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة (3)
    وتصديق هذا قوله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}. فحقيقة ما أعده الله لأوليائه غيب عن الملائكة وقد غيب عنهم أولا حال آدم في النشأة الأولى وغيرها. وفضل عباد الله الصالحين يبين فضل الواحد من نوعهم؛ فالواحد من نوعهم إذا ثبت فضلهم على جميع الأعيان والأشخاص ثبت فضل نوعهم على جميع الأنواع إذ من الممتنع ارتفاع شخص من أشخاص النوع المفضول إلى أن يفوق جميع الأشخاص والأنواع الفاضلة فإن هذا تبديل الحقائق وقلب الأعيان عن صفاتها النفسية؛ لكن ربما فاق بعض أشخاص النوع الفاضل مع امتياز ذلك عليه بفضل نوعه وحقيقته كما أن في بعض الخيل ما هو خير من بعض الخيل ولا يكون خيرا من جميع الخيل. إذا تبين هذا فقد حدث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون: أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه. روى ذلك محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد؛ في تفسير:
    {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وذكر ذلك من وجوه أخرى مرفوعة وغير مرفوعة قال ابن جرير: وهذا ليس مناقضا لما استفاضت به الأحاديث من أن المقام المحمود هو الشفاعة باتفاق الأئمة من جميع من ينتحل الإسلام ويدعيه لا يقول إن إجلاسه على العرش منكرا (4) - وإنما أنكره بعض الجهمية ولا ذكره في تفسير الآية منكر -. وإذا ثبت فضل فاضلنا على فاضلهم ثبت فضل النوع على النوع أعني صالحنا عليهم.
    " وأما الذوات " فإن ذات آدم خلقها الله بيده وخلقها الله على صورته ونفخ فيه من روحه ولم يثبت هذا لشيء من الذوات وهذا بحر يغرق فيه السابح لا يخوضه إلا كل مؤيد بنور الهداية وإلا وقع إما في تمثيل أو في تعطيل. فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة وفوق كل ذي علم عليم. وليوقن كل الإيقان بأن ما جاءت به الآثار النبوية حق ظاهرا وباطنا وإن قصر عنه عقله ولم يبلغه علمه
    {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} فلا تلجن باب إنكار ورود إمساك وإغماض - ردا لظاهره وتعجبا من باطنه - حفظا لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن جناب مولاك. إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وتوق التمثيل والتشبيه ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم؛ الذي هو أحد من السيف؛ وأدق من الشعر ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
    وأما الصفات التي تتفاضل فمن ذلك الحياة السرمدية والبقاء الأبدي في الدار الآخرة وليس للملك أكثر من هذا؛ وإن كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين حتى لا يبقى إلا البقاء وغير ذلك من العلم الذي امتازت به الملائكة.
    فنقول: غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للآخر فإن الوحي للرسل على أنحاء كما قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فبين أن الكلام للبشر على ثلاثة أوجه: منها واحد يكون بتوسط الملك. ووجهان آخران ليس للملك فيهما وحي وأين الملك من ليلة المعراج ويوم الطور وتعليم الأسماء وأضعاف ذلك؟.
    ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا لا يكون إلا على أيدي الملائكة - وهو والله باطل - فكيف يصنعون بيوم القيامة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {فيفتح الله علي من محامده والثناء عليه بأشياء يلهمنيها لم يفتحها على أحد قبلي} ". وإذا تبين هذا: أن العلم مقسوم من الله؛ وليس كما زعم هذا الغبي بأنه لا يكون إلا بأيدي الملائكة على الإطلاق وهو قول بلا علم بل الذي يدل عليه القرآن أن الله تعالى اختص آدم بعلم لم يكن عند الملائكة وهو علم الأسماء الذي هو أشرف العلوم وحكم بفضله عليهم لمزيد العلم فأين العدول عن هذا الموضع إلى بنيات الطريق؟ ومنها القدرة. وزعم بعضهم أن الملك أقوى وأقدر وذكر قصة جبرائيل بأنه شديد القوى وأنه حمل قرية قوم لوط على ريشة من جناحه فقد آتى الله بعض عباده أعظم من ذلك فأغرق جميع أهل الأرض بدعوة نوح وقال النبي صلى الله عليه وسلم " {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} " {ورب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره} وهذا عام في كل الأشياء وجاء تفسير ذلك في آثار: إن من عباد الله من لو أقسم على الله أن يزيل جبلا أو الجبال عن أماكنها لأزالها وأن لا يقيم القيامة لما أقامها وهذا مبالغة. ولا يقال:
    إن ذلك يفضل بقوة خلقت فيه وهذا بدعوة يدعوها لأنهما في الحقيقة يؤولان إلى واحد هو مقصود القدرة ومطلوب القوة وما من أجله يفضل القوي على الضعيف. ثم هب أن هذا في الدنيا فكيف تصنعون في الآخرة؟ وقد جاء في الأثر: " {يا عبدي أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون يا عبدي أنا الحي الذي لا يموت أطعني أجعلك حيا لا تموت} " وفي أثر: " {إن المؤمن تأتيه التحف من الله: من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت} " فهذه غاية ليس وراءها مرمى كيف لا وهو بالله يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي؟ فلا يقوم لقوته قوة. وأما الطهارة والنزاهة والتقديس والبراءة عن النقائص والمعائب والطاعة التامة الخاصة لله التي ليس معها معصية ولا سهو ولا غفلة وإنما أفعالهم وأقوالهم على وفق الأمر فقد قال قائل من أين للبشر هذه الصفات؟ وهذه الصفات على الحقيقة هي أسباب الفضل كما قيل: لا أعدل بالسلامة شيئا. فالجواب من وجوه:
    أحدها: إنا إذا نظرنا إلى هذه الأحوال في الآخرة كانت في الآخرة للمؤمنين على أكمل حال وأتم وجه وقد قدمنا أن الكلام ليس في تفضيلهم في هذه الحياة فقط بل عند الكمال والتمام والاستقرار في دار الحيوان وفيه وجه قاطع لكل ما كان من جنس هذا الكلام فأين هم من أقوام تكون وجوههم مثل القمر ومثل الشمس لا يبولون ولا يتمخطون ولا يبصقون ما فيهم ذرة من العيب ولا من النقص
    __________

    Q (1) هكذا بالأصل
    Q (2) هكذا بالأصل
    Q (3) الظاهر أن العبارة: (وليست الجنة مخلوقة لهم).
    Q (4) الصواب: منكر




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #58
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (56)

    من صــ 126 الى صـ
    ـ 132


    الوجه الثاني: إن هذا بعينه هو الدليل على فضل الآدمي والملائكة مخلوقون على طريقة واحدة وصفة لازمة لا سبيل إلى انفكاكهم عنها والبشر بخلاف ذلك.
    (الوجه الثالث: أن ما يقع من صالحي البشر من الزلات والهفوات ترفع لهم به الدرجات وتبدل لهم السيئات حسنات فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ومنهم من يعمل سيئة تكون سبب دخول الجنة ولو لم يكن - العفو أحب إليه لما ابتلي بالذنب أكرم الخلق عليه وكذلك فرحه بتوبة عبيده وضحكه من علم العبد أنه لا يغفر الذنوب إلا الله فافهم هذا فإنه من أسرار الربوبية وبه ينكشف سبب مواقعة المقربين الذنوب.
    (الوجه الرابع: ما روي:" أن الملائكة لما استعظمت خطايا بني آدم ألقى الله تعالى على بعضهم الشهوة فواقعوا الخطيئة " وهو احتجاج من الله تعالى على الملائكة، وأما العبادة فقد قالوا إن الملائكة دائمو العبادة والتسبيح ومنهم قيام لا يقعدون وقعود لا يقومون وركوع لا يسجدون وسجود لا يركعون {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}.
    والجواب: أن الفضل بنفس العمل وجودته لا بقدره وكثرته كما قال تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} وقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} ورب تسبيحة من إنسان أفضل من ملء الأرض من عمل غيره وكان إدريس يرفع له في اليوم مثل عمل جميع أهل الأرض؛ وإن الرجلين ليكونان في الصف وأجر ما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض.
    وقد روي:" {أن أنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين} ". وقد قالوا: إن علماء الآدميين مع وجود المنافي والمضاد أحسن وأفضل. ثم هم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس؛ وأما النفع المتعدي والنفع للخلق وتدبير العالم فقد قالوا هم تجري أرزاق العباد على أيديهم وينزلون بالعلوم والوحي ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملائكة. والجواب:
    أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين وشفاعته في البشر كي يحاسبوا وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة. ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملائكة وأين هم من قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}؟ وأين هم عن الذين: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن سن سنة حسنة؟ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم " {إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومضر} "؟ وأين هم من الأقطاب والأوتاد والأغواث؛ والأبدال والنجباء؟ (1).
    فهذا - هداك الله - وجه التفضيل بالأسباب المعلومة؛ ذكرنا منه أنموذجا نهجنا به السبيل وفتحنا به الباب إلى درك فضائل الصالحين من تدبر ذلك وأوتي منه حظا رأى وراء ذلك ما لا يحصيه إلا الله وإنما عدل عن ذلك قوم لم يكن لهم من القول والعلم إلا ظاهره ولا من الحقائق إلا رسومها؛ فوقعوا في بدع وشبهات وتاهوا في مواقف ومجازات وها نحن نذكر ما احتجوا به.
    (الحجة الأولى: قوله تعالى {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} والذي يريد إثبات ذل الأعاظم وانقياد الأكابر: إنما يبدأ بالأدنى فالأدنى مترقيا إلى الأعلى فالأعلى ليرقى المخاطب في فهم عظمة من انقيد له وأطيع درجة درجة؛ وإلا فلو فوجئ بانقياد الأعظم ابتداء: لما حصل تبين مراتب العظمة؛ ولو وقع ذكر الأدنى بعد ذلك ضائعا؛ بل يكون رجوعا ونقصا. ولهذا جرت فطرة الخلق أن يقال: فلان لا يأتيني وفلان يأتيني أي كيف يستنكف عن الإتيان إلي؟ وفلان أكرم منه وأعظم وهو يأتيني ولا يقال لا يأبى فلان أن يكرمك ولا من هو فوقه.
    فالانتقال من المسيح إلى الملائكة دليل على فضلهم؛ كيف وقد نعتوا بالقرب الذي هو عين الفضائل و " الجواب ": زعم القاضي أن هذا ليس من عطف الأعلى على الأدنى؛ وإنما هو عطف ساذج. قال: وذلك أن قوما عبدوا المسيح وزعموا أنه ابن الله سبحانه وقوما عبدوا الملائكة وزعموا أنها بنات الله كما حكى الله تعالى عن الفريقين فبين الله تعالى في هذه: أن هؤلاء الذين عبدتموهم من دوني هم عبادي لن يستنكفوا عن عبادتي وأنهما لو استنكفا عن عبادتي لعذبتهما عذابا أليما والمسيح هو الظاهر وهو من نوع البشر وهذا الكلام فيه نظر. والله أعلم بحقيقته.
    ثم نقول: إن كان هذا هو المراد فلا كلام وإن أريد أن الانتقال من الأدنى إلى الأعلى: فاعلم - نور الله قلبك وشرح صدرك للإسلام - أن للملائكة خصائص ليست للبشر؛ لا سيما في الدنيا. هذا ما لا يستريب فيه لبيب أنهم اليوم على مكان وأقرب إلى الله وأظهر جسوما وأعظم خلقا وأجمل صورا وأطول أعمارا وأيمن آثارا إلى غير ذلك من الخصال الحميدة مما نعلمه ومما لا نعلمه. وللبشر أيضا خصائص ومزايا؛ لكن الكلام في مجموع كل واحدة من المزيتين أيهما أفضل: هذا طريق ممهد لهذه الآية وما بعدها.
    وهو وراء ذلك؛ فحيث جرى ما يوجب تفضيل الملك فلما تميزوا به واختصوا به من الأمور التي لا تنبغي لمن دونهم فيها أن يتفضل عليهم فيما هو من أسبابها. وذلك أن المسيح لو فرض استنكافه عن عبادة الله: فإنما هو لما أيده الله من الآيات كما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى وغير ذلك؛ ولأنه خرج في خلقه عن بني آدم وفي عزوفه عن الدنيا وما فيها: أعطي الزهد؛ وما من صفة من هذه الصفات إلا والملائكة أظهر منه فيها فإنهم كلهم خلقوا من غير أبوين ومن غير أم؛ وقد كان فرس جبريل يحيى به التراب الذي يمر عليه؛ وعلم ما يدخر العباد في بيوتهم على الملائكة سهل.
    وفي حديث {أبرص وأقرع وأعمى: أن الملك مسح عليهم فبرءوا} " فهذه الأمور التي من أجلها عبد المسيح وجعل ابن الله عز وجل للملائكة منها أوفر نصيب وأعلى منها وأعظم مما للمسيح وهم لا يستنكفون عن عبادته فهو أحق خلق أن لا يستنكف؛ وأما القرب من الله والزلفى لديه فأمور وراء هذه الآيات.
    وأيضا فأقصى ما فيها تفضيلهم على المسيح؛ إذ هو في هذه الحياة الدنيا؛ وأما إذا استقر في الآخرة وكان ما كان مما لست أذكر: فمن أين يقال إنهم هناك أفضل منه؟.
    (الحجة الثانية: قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} ومثله في هود فالاحتجاج في هذا من وجوه: - أحدها: أنه قرن استقرار خزائنه وعلم الغيب بنفي القول بأنه ملك وسلبها عن نفسه في نسق واحد فإذا كان حال من يعلم الغيب ويقدر على الخزائن أفضل من حال من لا يكون كذلك: وجب أن يكون حال الملك أفضل من حال من ليس بملك وإن كان نبينا كما في الآية. وثانيها: أنه إنما نفى عن نفسه حالا أعظم من حاله الثابتة ولم ينف حالا دون حاله؛ لأن من اتصف بالأعلى فهو على ما دونه أقدر؛ فدل على أن حال الملك أفضل من حاله أن يكون ملكا وهو المطلوب.
    وثالثها: ما ذكر القاضي أنه لولا ما استقر في نفوس المخاطبين من أن الملك أعظم؛ لما حسن مواجهتهم بسلب شيء هو دون مرتبته وهذا الاعتقاد الذي كان في نفوس المخاطبين: أمر قرروا عليه ولم ينكره عليهم فثبت أنه حق. والجواب من وجوه: (أحدها: أنه نفى أن يكون عالما بالغيب وعنده خزائن الله ونفى أن يكون ملكا لا يأكل ولا يشرب ولا يتمتع؛ وإذا نفى ذلك عن نفسه: لم يجب أن يكون الملك أفضل منه ألا ترى أنه لو قال: ولا أنا كاتب ولا أنا قارئ لم يدل على أن الكاتب والقارئ أفضل ممن ليس بكاتب ولا قارئ فلم يكن في الآية حجة.
    وأيضا ما قال القاضي إنهم طلبوا صفات الألوهية وهي العلم والقدرة والغنى: وهي: أن يكون عالما بكل شيء قديرا على كل شيء غنيا عن كل شيء - فسلب عن نفسه صفات الألوهية ولهذا قالوا: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} وقال تعالى: محتجا عنه: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} فكأنهم أرادوا منه صفة الملائكة أن يكون متلبسا بها فإن الملائكة صمد لا يأكلون ولا يشربون والبشر لهم أجواف يأكلون ويشربون؛ فكان الأمر إلى هذه الصفة وهذا بين إن شاء الله.
    (وثانيها: أن الآخر أكمل في أمر من الأمور فنفى عن نفسه حال الملك في ذلك ولم يلزم أن يكون له فضيلة يمتاز بها وقد تقدم مثل هذا فيما ذكر من حال الملك وعظمته وأنه ليس للبشر من نوعه مثله؛ ولكن لم لا قلت من غير نوعه للبشر ما هو أفضل منه؟. ولهذا إذا سئل الإنسان عما يعجز عنه: قد يقول لست بملك وإن كان المؤمن أفضل من حال الجن والملك من الملوك. (وثالثها أن أقصى ما فيه تفضيل الملك في تلك الحال ولو سلم ذلك لم ينف أن يكون فيما بعد أفضل من الملك؛ ولهذا تزيد قدرته وعلمه وغناه في الآخرة وهذا كما لو قال الصبي:

    لا أقول إني شيخ ولا أقول إني عالم ومن الممكن ترقيه إلى ذلك وأكمل منه. (الحجة الثالثة: قول إبليس لآدم وحواء: {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} تقديره كراهة أن تكونا أو لئلا تكونا؛ فلولا أن كونهما ملكين حالة هي أكمل من كونهما بشرين: لما أغراهما بها ولما ظنا أنها هي الحالة العليا؛ ولهذا قرنها بالخلود والخالد أفضل من الفاني والملك أطول حياة من الآدمي فيكون أعظم عبادة وأفضل من الآدمي.
    __________
    Q (1) هكذا بالأصل


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #59
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (57)

    من صــ 133 الى صـ
    ـ 139



    والجواب من وجوه:

    أحدها: ما ذكره القاضي أن قوله: {إلا أن تكونا ملكين} ظن أن الملائكة خير منهما كما ظن أنه خير من آدم وكان مخطئا. وقوله: {أو تكونا من الخالدين} ظنا منه أنهما يؤثران الخلود؛ لما في ذلك من السلامة من الأمراض والأسقام والأوجاع والآفات والموت؛ لأن الخالد في الجنة هذه حاله ولم يخرج هذا مخرج التفضيل على الأنبياء ألا ترى أن الحور والولدان المخلوقين في الجنة خالدون فيها وليسوا بأفضل من الأنبياء؟ وثانيها أن الملك أفضل من بعض الوجوه وكذلك الخلود آثر عندهما فمالا إليه.
    وثالثها: أن حالهما تلك كانت حال ابتداء لا حال انتهاء فإنهما في الانتهاء قد صارا إلى الخلود الذي لا حظر فيه ولا معه ولا يعقبه زوال وكذلك يصيران في الانتهاء إلى حال هي أفضل وأكمل من حال الملك الذي أراداها أولا وهذا بين.
    الحجة الرابعة: قوله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} فبدأ بهم والابتداء إنما يكون بالأفضل والأشرف فالأفضل والأشرف كما بدأ بذلك في قوله: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فبدأ بالأكمل والأفضل.
    والجواب: أن الابتداء قد يكون كثيرا بغير الأفضل بل يبتدأ بالشيء لأسباب متعددة كما في قوله تعالى {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم} ولم يدل ذلك على أن نوحا أفضل من إبراهيم والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل؛ وكذلك قوله: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} لا يدل على أن المسلم أفضل من المؤمن؛ فلعله - والله أعلم - إنما بدأ بهم لأن الملائكة أسبق خلقا ورسالة؛ فإنهم أرسلوا إلى الجن والإنس؛ فذكر الأول فالأول: في الخلق والرسالة: على ترتيبهم في الوجود. وقد قال تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} والذكور أفضل من الإناث.
    وقال: {والتين والزيتون} {والشمس وضحاها} الآيات. و {فيهما فاكهة ونخل ورمان} إلى غير ذلك ولم يدل التقديم في شيء من هذه المواضع على فضل المبدوء به فعلم أن التقديم ليس لازما للفضل.
    (الحجة الخامسة: قوله تعالى {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} فدل على أن الملك أفضل من البشر وهن إنما أردن أن يتبين لهن حال هي أعظم من حال البشر. وقد أجابوا عنه بجوابين.
    أحدهما أنهن لم يعتقدن أن الملائكة أحسن من جميع النبيين وإن لم يروهم لمخبر أخبرهم فسكن إلى خبره فلما هالهن حسنه قلن: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} لأن هذا الحسن ليس بصفة بشر. وثانيهما: أنهن اعتقدن أن الملائكة خير من النبيين فكان هذا الاعتقاد خطأ منهن ولا يقال إنه لما لم يقرن بالإنكار دل على أنه حق فإن قولهن:
    {ما هذا بشرا} خطأ. وقولهن: {إن هذا إلا ملك كريم} خطأ أيضا في غيبتهن (*) عنه أنه بشر وإثباتهن أنه ملك وإن لم يقرن بالإنكار: دل على أنه حق وأن قولهن: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} خطأ في نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملائكية؛ وإن لم يقرن بالإنكار لغيبة عقولهن عند رؤيته فلم يلمن في تلك الحال على ذلك. وأقول أيضا: إن النسوة لم يكن يقصدن أنه نبي؛ بل ولا أنه من الصالحين إذ ذاك ولم يشهدن له فضلا على غيره من البشر في الصلاح والدين وإنما شهدن بالفضل في الجمال والحسن وسباهن جماله فشبهنه بحال الملائكة وليس هذا من التفضيل في شيء من الذي نريد.
    ثم نقول: إذا كان التفضيل بالجمال حقا: فقد ثبت أن أهل الجنة تدخل الزمرة الأولى ووجوههم كالشمس والذين يلونهم كالقمر الحديث؛ فهذه حال السعداء عند المنتهى وإن كان في الجمال والملك تفضيل: فإنما هو في هذه الحياة الدنيا؛ لعلم علمه النساء وأكثر الناس.
    وأما ما فضل الله عباده الصالحين وما أعده الله من الكرامة: فأكثر الناس عنه بمعزل ليس لهم نظر إليه وكذلك ما آتاهم الله من العلم الذي غبطتهم الملائكة به من أول ما خلقهم وهو مما به يفضلون. فهذا الجواب وما قبله.
    (الحجة السادسة: قوله تعالى {إنه لقول رسول كريم} {ذي قوة عند ذي العرش مكين} {مطاع ثم أمين} فهذه صفة جبرائيل. ثم قال: {وما صاحبكم بمجنون} فوصف جبرائيل بالكرم والرسالة والقوة والتمكين عنده وأنه مطاع وأنه أمين فوصفه بهذه الصفات الفاضلة ثم عطف عليه بقوله: {وما صاحبكم بمجنون} فأضاف الرسول البشري إلينا وسلب عنه الجنون وأثبت له رؤية جبرائيل ونفى عنه البخل والتهمة وفي هذا تفاوت عظيم بين البشر والملائكة وبين الصفات والنعم وهذا قاله بعض المعتزلة زل به عن سواء السبيل. والجواب: أولا: أين هو من قوله: {ألم نشرح لك صدرك} إلى آخرها وقوله: {والضحى} {والليل إذا سجى}؟ وقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} الآيات: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}؟.
    وأين هو عن قصة المعراج التي تأخر فيها جبرائيل عن مقامه؟ ثم أين هو عن الخلة؟ وهو التقريب؛ فهذا نزاع من لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم قدره.
    ثم نقول ثانيا: لما كان جبرائيل هو الذي جاء بالرسالة وهو صاحب الوحي وهو غيب عن الناس؛ لم يروه بأبصارهم ولم يسمعوا كلامه بآذانهم وزعم زاعمون أن الذي يأتيه شيطان يعلمه ما يقول أو أنه إنما يعلمه إياه بعض الإنس. أخبر الله العباد أن الرسول الذي جاء به ونعته أحسن النعت.
    وبين حاله أحسن البيان وذلك كله إنما هو تشريف لمحمد صلى الله عليه وسلم ونفى عنه ما زعموه وتقرير للرسالة؛ إذ كان هو صاحبه الذي يأتي بالوحي فقال: {إنه لقول رسول كريم} أي أن الرسول البشري لم ينطق به من عند نفسه وإنما هو مبلغ يقول ما قيل له؛ فكان في اسم الرسول إشارة إلى محض التوسط والسعاية.
    ثم وصفه بالصفات التي تنفي كل عيب؛ من القوة والمكنة والأمانة والقرب من الله سبحانه فلما استقر حال الرسول الملكي بين أنه من جهته وأنه لا يجيء إلا بالخير. وكان الرسول البشري معلوم ظاهره عندهم وهو الذي يبلغهم الرسالة ولولا هؤلاء لما أطاقوا الأخذ عن الرسول الملكي؛ وإنما قال: {صاحبكم} إشارة إلى أنه قد صحبكم سنين قبل ذلك ولا سابقة له بما تقولون فيه وترمونه؛ من الجنون والسحر وغير ذلك؛ وأنه لولا سابقته وصحبته إياكم لما استطعتم الأخذ عنه؛ ألا تسمعه يقول:{ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} - تمييزا - من المرسلين؛ ثم حقق رسالته بأنه رأى جبرائيل وأنه مؤتمن على ما يأخذه عنه فقام أمر الرسالة بهاتين الصفتين وجاء على الوجه الأبلغ والأكمل والأصلح. وقد احتجوا بآيات تقدم التنبيه على مقاصدها؛ من وصف الملائكة بالتسبيح والطاعة والعبادة وغير ذلك.
    (الحجة السابعة: الحديث المشهور الصحيح عن الله عز وجل أنه قال: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} ".
    والملأ الذي يذكر الله الذاكر فيه هم: (الملائكة وقد نطق الحديث بأنهم أفضل من الملأ الذين يذكر العبد فيهم ربه وخير منهم وقد قال بعضهم: وكم من ملإ ذكر الله فيه والرسول حاضر فيهم؛ بل وقع ذلك في مجالس الرسول كلهم فأين العدول عن هذا الحديث الصحيح الجواب:
    أن هذا الحديث صحيح وهو أجود وأقوى ما احتجوا به وقد أجابوا عنه بوجهين:
    أحدهما أضعف من الآخر وهو أن الخير يجوز أن يرجع إلى الذكر لا إلى المذكور فيهم تقديره ذكرته ذكرا خيرا من ذكره لأن ذكر الله كلامه وهذا ليس بشيء فإن الخير مجرور صفة للملإ وقد وصل بقوله منهم ولم يقل منه ولولا ذلك المعنى لقيل ذكرته في ملإ خيرا منه بالنصب وصلة الضمير الذكر. وهذا من أوضح الكلام لمن له فقه بالعربية ونعوذ بالله من التنطع.
    (وثانيهما أنه محمول على ملأ خير منه ليس فيهم نبي فإن الحديث عام عموما مقصودا شاملا كيف لا؛ والأنبياء والأولياء هم أهل الذكر ومجالسهم مجالس الرحمة؟ فكيف يجيء استثناؤهم؟ لكن هنا أوجه متوجهة: - (أحدها: " أن الملأ الأعلى " الذين يذكر الله من ذكره فيهم: هم صفوة الملائكة وأفضلهم والذاكر فيهم للعبد هو الله يقال ينبغي أن يفرض على موازنة أفضل بني آدم يجتمعون في مجلس نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كان أفضل البشر لكن الذين حوله ليس أفضل من بقي من البشر الفضلاء فإن الرسل والأنبياء أفضل منهم.
    (وثانيها: أن مجلس أهل الأرض إن كان فيه جماعة من الأنبياء يذكر العبد فيهم ربه: فالله تعالى يذكر العبد في جماعات من الملائكة أكثر من أولئك فيقع الخير للكثرة التي لا يقوم لها شيء فإن الجماعة كلما كثروا كانوا خيرا من القليل. (وثالثها: أنه لعله في الملإ الأعلى جماعة من الأنبياء يذكر الله العبد فيهم؛ فإن أرواحهم هناك.
    __________

    Q (*) كذا، وهو تصحيف صوابه: نفيهن.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #60
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (58)

    من صــ 140 الى صـ
    ـ 146


    ورابعها: أن من الناس من فرق بين الخير والأفضل فيقال الخير للأنفع

    وخامسها: أنه لا يدل على أن الملأ الأعلى أفضل من هؤلاء الذاكرين إلا في هذه الدنيا وفي هذه الحال لأنهم لم يكملوا بعد ولم يصلحوا أن يصيروا أفضل من الملأ الأعلى فالملأ الأعلى خير منهم في هذه الحالة كما يكون الشيخ العاقل خيرا من عامة الصبيان لأنه إذ ذاك فيه من الفضل ما ليس في الصبيان ولعل في الصبيان في عاقبته أفضل منه بكثير ونحن إنما نتكلم على عاقبة الأمر ومستقره. فليتدبر هذا فإنه جواب معتمد إن شاء الله؛ والله سبحانه أعلم بحقائق خلقه وأفاضلهم وأحكم في تدبيرهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    هذا ما تيسر تعليقه وأنا عجلان في حين من الزمان والله المستعان وهو المسئول أن يهدي قلوبنا ويسدد ألسنتنا وأيدينا والحمد لله رب العالمين.
    (وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35)
    (فصل في الرد على ابن إسرائيل وشيخه)

    قال ابن إسرائيل الأمر أمران: أمر بواسطة وأمر بغير واسطة فالأمر الذي بالوسائط رده من شاء الله وقبله من شاء الله والأمر الذي بغير واسطة لا يمكن رده وهو قوله تعالى {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}. فقال له فقير: إن الله قال لآدم بلا واسطة: لا تقرب الشجرة - فقرب وأكل.
    فقال: صدقت وذلك أن آدم إنسان كامل؛ ولذلك قال شيخنا علي الحريري: آدم صفي الله تعالى كان توحيده ظاهرا وباطنا فكان قوله لآدم " لا تقرب الشجرة " ظاهرا وكان أمره " كل " باطنا فأكل فكذلك قوله تعالى. وإبليس كان توحيده ظاهرا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرا فلم يسجد. فغير الله عليه وقال: {اخرج منها}.
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرا وباطنا فكان قوله " لا تقرب " ظاهرا وكان أمره " بكل " باطنا. فيقال: إن أريد بكونه قال " كل " باطنا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع ودين: فهذا كذب وكفر وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه: فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
    وإن قيل: إن آدم شهد الأمر الكوني القدري وكان مطيعا لله بامتثاله له. كما يقول هؤلاء: إن العارف الشاهد للقدر يسقط عنه الملام. فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام فهو كفر باتفاق المسلمين.
    فيقال: الأمر الكوني يكون موجودا قبل وجود المكون لا يسمعه العبد وليس امتثاله مقدورا له بل الرب هو الذي يخلق ما كونه بمشيئته وقدرته والله تعالى ليس له شريك في الخلق والتكوين. والعبد وإن كان فاعلا بمشيئته وقدرته والله خالق كل ذلك فتكوين الله للعبد ليس هو أمرا لعبد موجود في الخارج يمكنه الامتثال وكذلك ما خلقه من أحواله وأعماله: خلقه بمشيئته وقدرته و: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر.
    وأكل آدم من الشجرة وغير ذلك من الحوادث: داخل تحت هذا كدخول آدم؛ فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم. فقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن: " كل " مثل قوله إنه قال للكافر اكفر وللفاسق افسق والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق والعصاة: بفعل الكفر والفسوق والعصيان وإن كان ذلك واقعا بمشيئته وقدرته وخلقه وأمره الكوني فالأمر الكوني ليس هو أمرا للعبد أن يفعل ذلك الأمر بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال.
    فهو سبحانه الذي خلق الإنسان هلوعا {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى أنه قال لهم كونوا كذلك فيكونون كذلك كما قال للجماد: كن فيكون.
    فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن؛ بخلاف ما أمره في الظاهر بل أمره بالطاعة باطنا وظاهرا ونهاه عن المعصية باطنا وظاهرا وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنا وظاهرا وخلق العبد وجميع أعماله باطنا وظاهرا وكون ذلك بقوله " كن " باطنا وظاهرا.

    [قاعدة: وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر بل القدر يؤمن به ولا يحتج به والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض]

    فإن القدر إن كان حجة وعذرا: لزم أن لا يلام أحد؛ ولا يعاقب ولا يقتص منه وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه - إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته - أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب عليه ولا يذمه؛ وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحد أن يفعله فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.
    ولو كان القدر حجة وعذرا: لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار ولا كان جهاد الكفار جائزا ولا إقامة الحدود جائزا ولا قطع السارق ولا جلد الزاني ولا رجمه ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه.
    ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم: لم تذهب إليه أمة من الأمم ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة؛ إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعا من الشرع فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده.
    لكن الشرائع تتنوع: فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل وتارة لا تكون كذلك ثم المنزلة: تارة تبدل وتغير - كما غير أهل الكتاب شرائعهم - وتارة لا تغير ولا تبدل وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل.
    وأما القدر: فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه فإذا فعل فعلا محرما بمجرد هواه وذوقه ووجده؛ من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر كما قال المشركون: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} قال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} فبين أنهم ليس عندهم علم بها كانوا عليه من الدين وإنما يتبعون الظن.
    والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر فإنه لو خرب أحد الكعبة؛ أو شتم إبراهيم الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الدين وما فعله هو أيضا من المقدور.
    فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
    فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر إن كان الاحتجاج به صحيحا ولكن كانوا يتعمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون. {وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام - فيما قال لموسى - لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ فحج آدم موسى} لم يكن آدم عليه السلام محتجا على فعل ما نهي عنه بالقدر ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا فكيف آدم وموسى؟.
    وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها كيف وقد قال موسى {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}
    وقال: {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} وهذا باب واسع. وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة؛ ولهذا قال: {لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة}؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •