تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: واجب النصرة في سياسة (دولة المرابطين) - تقرير

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي واجب النصرة في سياسة (دولة المرابطين) - تقرير

    واجب النصرة في سياسة (دولة المرابطين) - تقرير

    أحمد الشجاع




    "لم نسمع شيئاً حتى الآن من هذه الدول.. إنني متعجب جداً من أن كافة التعهدات بالمساعدة قادمة من أوروبا وشمال إفريقيا.. حتى الدول المتضررة مثل كينيا وأثيوبيا وأوغندا مستعدة للمشاركة في المساعدة".
    “.. لم يتضح حتى قيام الدول العربية الغنية بتقديم مساعدات لأشقائهم (في الصومال)، أرى ذلك أمراً مثيراً للقلق بشدة وأتساءل: أين الإنسانية هنا؟”.
    لم يطلق هذه الكلمات لسان مسؤول أو عالم مسلم، أو أي مسلم يهمه أمر دينه وأمته..بل إن صاحب هذه الكلمات هو وزير التنمية الألماني - ديرك نيبل - الذي دعا العرب يوم 30 يوليو الماضي إلى المساعدة في إنقاذ المسلمين الصوماليين من كارثة المجاعة التي حلت بهم.
    لقد ماتت الضمائر، وانتكست المشاعر، وانعدمت الأحاسيس عند المسلمين عموماً والعرب خصوصاً..ملايين المسلمين يقتلهم الجوع في القرن الإفريقي وغيره من بلاد الإسلام، ولا مغيث لهم من إخوانهم – خاصة الأغنياء - إلا ما ندر وعلى استحياء وربما بتأفف. ولم نسمع صوت مسلم يرتفع من أجل هؤلاء المساكين.
    بينما نجد في الأمم الأخرى من ينادي ويتحرك لإنقاذ إخواننا في الصومال بصرف النظر عن المقاصد والدوافع.
    لقد أصبح المسلمون أبعد ما يكون عن مبدأ النصرة والتعاون والإخوة والتكاتف؛ وهذا ما جعل الآخرين يهزؤون بنا كما فعل الوزير الألماني، وكما فعل آخرون من قبل.
    هذا الموقف وغيره يظهر أن الفرق كبير والبون شاسع بين حال المسلمين اليوم، وحالهم في زمن العزة والكرامة.
    غياب المسلمين اليوم عن دينهم جعلهم أعداءً فيما بينهم، وأصبحوا يداسون تحت أقدام الأمم الأخرى.
    والتقرير التالي يظهر أن مبدأ النصرة والتعاون بين المسلمين والتلاحم لا يكون إلا في ظل رابطة الدين.. وأن هذا المبدأ هو السبب الرئيس في جعل مرتبة المسلمين فوق الأمم.
    وفي إغاثة (المرابطين) لإخوانهم في الأندلس خير دليل على ذلك؛ ففي أيام فقط تغيرت نظرة نصارى الأندلس إلى المسلمين هناك.
    فبعد أن كان المسلمون في نظرهم جبناء أغبياء ضعفاء مهانين، أصبحوا قوة يعمل لها ألف حساب، وأعزة لا يقبلون الضيم والإذلال؛ كل ذلك بعد أن هب المرابطون لنجدة إخوانهم، واجتمعت كلمتهم وتوحدت صفوفهم وتألفت قلوبهم في ظل منهج الإسلام.
    حال الأندلس
    استطاع عبدُ الرحمن الداخل أن يُؤسِّسَ إمارة أموية في الأَنْدَلُس سنة 138هـ، وبدأ عصر الخلافة الأموية في الأَنْدَلُس سنة (316هـ - 929م) عندما أعلنها عبد الرحمن الناصر الذي اشتهر بالحزم والذكاء والعدل، والعقل والشَّجَاعَة وحبه للإصلاح وحرصه عليه.
    ووحَّد الأَنْدَلُس بالقُوَّة والسياسة، وأعاد وحدتها وقوتها ومكانتها، وحارب المتمردين من حكام الشَّمَال الإسباني، وأخضعهم لشروطه..وكان سبب إعلانه الخلافة في الأَنْدَلُس ضعف الخلافة العباسية، وظهور الدولة العُبيدية في الشَّمَال الإفريقي، فأعلن الخلافة، وتلقَّب بأمير المؤمنين الناصر لدين الله. وفى عام 400هـ - 1009م بدأ ظهور عصر الطوائف في الأَنْدَلُس، الذي دام حتى عام 484هـ - 1091م.
    وكان ذلك بسبب سقوط الخلافة الأموية التي نخرتها الأطماع والأحقاد والصراعات الدَّاخليَّة على الحكم، وسعيُ بعض الشخصيات للمجد الشخصي متناسياً في ذلك مصالح الأمة وضرورة وحدتها لتقف صفًا واحدًا أمام أعدائها.
    لقد انقسمت الأَنْدَلُس إلى دويلات، واتخذ حكامها ألقابهم تبعاً لحجم دويلاتهم فأحدهم: ملك أو أمير، أو والٍ أو قاض.
    ونظراً لاختلاف القوى والرياسات، فقد أخذ القوي يبطش بالأضعف، والأضعفُ يدرأ الخطر بالتحالف مع جاره القوي، وأحيانًا يستنجد بأمراء النصارى مقابل ثمن باهظ.
    وتكوَّنت من هذه الدويلات أربع دِوَل رئيسية:
    1- في جنوب الأَنْدَلُس: حكم الأدارسة الأفارقة أو بنو حمود أصحاب مالقة، وحالفهم أمير غرناطة وقرمونة، وألبيرة وجيان وأستجة، فضلاً عن حكمهم مليلة وطنجة وسبتة في شمال المغرب.
    2- (بنو عباد) أمراء إشبيلية، أقوى ملوك الطوائف، ومن حلفائهم بنو جهور في قُرْطُبَة، وبنو الأفطس أصحاب بطليوس في جنوب وغرب الأَنْدَلُس.
    3- (بنو ذي النون) أمراء طُلَيْطِلَة، الذين حكموا أواسط إسبانيا، والذين وقفوا في وجه بني عباد، وكلفهم ذلك دفع جزية لملك قشتالة النصراني التماساً لعونه ضد إخوانهم المسلمين.
    4- (بنو عامر) في بلنسية ومرسية الذين حكموا في شرقي إسبانيا، وطبقًا لظروفهم، فقد كانوا يحالفون الأدارسة تارة أو بني عباد، أو بني ذي النون تارة أخرى. وبسط بنو عامر نفوذهم على الثغور الممتدة من مرية حتى مصبِّ نهر أبرة سنة 1051م.
    الصراع بين طليطلة وقرطبة
    عندما تولى المأمون يحيى بن ذي النُّون عام 1043م، إمارة طُلَيْطِلَة اغتنم عون حليفه القوى عبد العزيز بن أبى عامر، واستأجر الفرسان النصارى من القشتاليين ليبطش بمحمد بن جهور أمير قُرْطُبَة، فتدخل بنو عباد أصحاب إشبيلية، وبنو الأفطس أصحاب بطليوس للوقوف ضد صاحب طُلَيْطِلَة الذي كان يهددهم جميعاً، وسار أمراء لبلة وولبة وجزيرة شليطش للانضمام إلى الحلف الذي تزعمه صاحب لبلة عبد العزيز اليحصبى ليعقد محالفة مع قُرْطُبَة.
    تحرَّك الجميع تطبيقاً لهذا التحالف لإنجاد قُرْطُبَة، فانتهز ابن عباد أمير إشبيلية هذه الفرصة واكتفى بإرسال خمسمائة فارس إلى ابن جهور، وزحف في جيش قوى على لبلة، وولبة وجزيرة شليطش وأكسونية، واستولى عليها، ثم فتح قرمونة سنة 1053م.
    طالت الحرب بين طُلَيْطِلَة وقُرْطُبَة، ودامت أعواماً، وكانت سجالاً، وأراد المأمون صاحب طُلَيْطِلَة حسم الموقف، فأوقع بقوات قُرْطُبَة وحليفاتها هزيمة شديدة، واستطاع الوصول إلى قُرْطُبَة فحاصرها، فبادرت إشبيلية إلى إغاثتها، فأرسل ابن عباد ابنه محمداً على رأس جيش قوى فيه وزيره أبو بكر محمد بن عمار الموصوف برجاحة عقله، وشدة ذكائه، وزوَّدهما بخطة وأوامر سرية خاصَّة.
    واستطاع جيش ابن عباد أن يفك الحصار عن قُرْطُبَة، واضطرَّ الطليطليون لرفع الحصار، وارتدوا عنها، وخرج القرطبيون ليطاردوا أعداءهم فأتموا بذلك هزيمة الطليطليين.
    ونُفِّذَتْ خُطَّةُ ابن عباد السرية، وكان محتواها دخول قُرْطُبَة عندما يخرج منها أهلها خلف الطليطليين، ودخلتها قوات ابن عباد دون معارضة، واحتلت مراكزها الحصينة قبل أن يفطن القرطبيون إلى أن مَن جاء لنُصرَتِهم غدرَ بهم؛ وبذلك سقطت دولة بني جهور في قُرْطُبَة.
    وأصبح ابن عباد - أمير إشبيلية - أقوى أمراء الأَنْدَلُس المُسْلِمة، وتخوَّف المأمون أمير طُلَيْطِلَة من قُوَّة ابن عباد أمير إشبيلية التي نمت نمواً سريعاً، وبخاصَّة بعد أن حالفه العامريون أمراء قسطلون ومربيطر وشاطبة المرية ودانية؛ فحاول التحالف مع صهره زوج ابنته عبد الملك المظفر حاكم بلنسية الذي رفض ذلك؛ مُحتَجًّا بأن وقوف العامريين إلى جانب إشبيلية يجعل إقدامه على هذا التحالف خطراً على بلنسية، فما كان من المأمون إلا أن تحول إلى أعداء المسلمين فعقد حلفًا مع فرديناند الأول صاحب قشتالة.
    وهجمت القوات المشتركة المتحالفة (قوات المأمون وفرديناند الأول) على بلنسية، فسقطت ولاية بلنسية كلُّها في يد المأمون في تشرين الأول سنة 1065م. عاد بعدها إلى طُلَيْطِلَة ليجهز قواته لقتال ابن عباد، وحال بينه وبين ما أراد وفاة فرديناند الأول، ونشوب حرب ضروس بين أولاده، فنقض المأمون عهده مع قشتالة، وامتنع عن دفع الجزية؛ مما أدى إلى حرمانه من معونة النصارى، وهى المعونة التي لم يستطع أن يحارب أمير إشبيلية بدونها.

    فلما تمَّ أمر الحكم لسانشو ابن فرديناند سنة 1070م هرب أخوه ألفونسو إلى المأمون صاحب طُلَيْطِلَة والتجأ أخوه الثَّانِي جارسية إلى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية. وفى سنة 461هـ - 1069م توفى المعتضد بن عباد أمير إشبيلية، فخلفه ابنه المُلقَّب بالمعتمد على الله، ولم يكن أمام الأمير الجديد ما يخشاه إلا أمير طُلَيْطِلَة الذي ملك بلنسية في الوقت نفسه، أما بقيَّة ملوك الطوائف فقد انكسرت شوكتهم وتزعزع كيانهم في حروبهم الدَّاخليَّة من غزوات النصارى المتتابعة عليهم.
    واستطاع المأمون - حاكم طُلَيْطِلَة - أن يتوسَّعَ ويحقق انتصارات واسعة سنة 1073م على مرسية وأريولة وعدة مدن أخرى؛ وبهذا أصبح الأمير الأقوى الذي يسيطر على أواسط إسبانيا كلِّها، وبخاصة بعد أن فاز ألفونسو بحكم قشتالة بعد وفاة "شانجة"، وتحالف مع المأمون الذي رعاه وحماه عند محنته، وتعاهد الأميران على أن يرتبطا معاً برباط الصداقة الوثيق.
    وأصبح أمير إشبيلية فى خوفٍ من توسُّع أمير طُلَيْطِلَة الذي فاجأ المعتمد بتحالفه مع بني هود أصحاب سرقسطة وبني الأفطس أصحاب بطليوس، وهاجم خصمه من ثلاث جهات لكي يُحكِمَ تسديد الضربة إلى قُرْطُبَة؛ فسقطت دون مقاومة تُذكَر سنة 468هـ.
    ولكن المأمون تُوفي بعد دخولها بأيام قلائل؛ فرجع جنده عنها إلى طُلَيْطِلَة، واسترد ابن عباد قُرْطُبَة، وبقيت إشبيلية تحت حكم ابن عباد حتى استولى عليها المرابطون سنة 474م.
    ونفس الخطأ وقع فيه ابن عباد فقد أرسل سفيره ووزيره البارع ابن عمار إلى عاصمة قشتالة يومئذٍ، وتحالف مع ألفونسو، وتعهَّد بها ملك قشتالة بمعاونة أمير إشبيلية بالجند والمرتزقة ضد جميع المُسْلِمين، ويتعهَّدُ ابن عباد مقابل ذلك أن يدفع إلى ملك قشتالة جزية كبيرة، وتعهَّدَ بألا يتعرض لمشروع ألفونسو في افتتاح طُلَيْطِلَة، وهكذا ضحى ابن عباد بمعقل المسلمين إسبانيا المسلمة، لكي يفوز ببسط سيادته على الإمارات التي لم تخضع له بعد، وهى إمارات غرناطة وبطليوس وسرقسطة.
    واستفاد ألفونسو من هذه الاتفاقية، وأعلنها حرباً لا هوادة فيها على طُلَيْطِلَة التي حمته من مطاردة أخيه سانشو، ونسي الأمير الطموح للتوسُّع كل عهوده ومواثيقه، وشرع في غدره بِمَن أحسن إليه.. وهذا حال الغرب دائماً في تعاملهم مع المسلمين.
    وتحرَّك المعتمد بن عباد بجيشه نحو غرناطة ليضُمَّها إلى سلطانه، وكان حاكمها عبد الله بلكين بن باديس، وكان ابن هود أمير سرقسطة يرى الخطر يشتدُّ عليه يوماً فيوماً من شانشو الأول ملك أرجون، فلم يستطع إنجاد طُلَيْطِلَة سوى أمير بطليوس يحيى بن الأفطس المُلَقَّب بالمنصور، فجمع قواته وسار إلى لقاء ألفونسو، ولكن ألفونسو الذي كان قد أثخن في ولاية طُلَيْطِلَة، حتى صيرها قفراً بلقعاً، شعر باقتراب المنصور، فانسحب، ولكنَّه كرَّر الرجعة في العام التالي، فعاث في بسائط طُلَيْطِلَة وخرَّبها مرة أخرى، وزحف المعتمد على بطليوس، وبهذا استطاع أن يُحول دون معاونة بني الأفطس لطُلَيْطِلَة حيث القادر بن ذي النون. ولم يستطع أمير سرقسطة من بني هود "المؤتمن" معاونة القادر معاونة قوية× خشية أن تقع سرقسطة ذاتها فريسة لابن عباد أو النصارى، وهو في جهاد ضد أرجون وبرشلونة، واستمرَّت الحرب أعواماً، وألفونسو يفسد في بلاد المسلمين "طُلَيْطِلَة" ومَن حولها فسادًا.
    وفى السابع والعشرين من المحرم سنة 478هـ - الخامس والعشرين من مايو سنة 1085م - استطاع أن يدخل طُلَيْطِلَة "عاصمة القوط القديمة"؛ ودخلت طُلَيْطِلَة بذلك إلى حظيرة النصرانية بعد أن حكمها المُسْلِمون ثلاثمائة واثنين وسبعين عاماً، واتخذها ملك قشتالة حاضرة ملكه من ذلك الحين، وأصبحت بذلك عاصمة إسبانيا النصرانية.
    وهكذا انتهت دولة ذي النون في طُلَيْطِلَة لتستمرَّ في بلنسية.
    تأثَّر المُسْلِمون بسقوط طُلَيْطِلَة تأثُّراً عميقاً على مختلف الساحة الإسلامية في الأَنْدَلُس، وتفجَّرت قريحة الشعراء في استثارة الهمم والتحريض على الجهاد، والتحذير من تفاقم الخطر، ومما قيل في ذلك قول عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن عسال الطليطلي:
    يا أهل أندلس حثـوا مطيتكـــم ... فما المقـــام بها إلا مــــن الغلـــط
    الثوب ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
    ونحـــن بين عــــدو لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيات في سفــط
    لقد كانت روما تقف بكل ما تملك من قُوَّة معنوية ومادية خلف ألفونسو وجنوده للقضاء على المُسْلِمين، وأسبغوا على قتال المُسْلِمين صفة الحروب الصليبية المقدسة وأصبح البابوات لهم دور في توجيهها.
    وندم المعتمد بن عبَّاد على فعلته خصوصاً عندما رأى ألفونسو يتوسَّع في ضمِّ ممالك المسلمين إليه، وأيقن أن الدائرة عليه قادمة، واجتمع أمراء المسلمين عندما رأوا إن شبح السقوط ماثلاً أمام أعينهم، فاتحدوا لأول مرة واجتمعت كلمتهم على أن يضعوا حداً لفتوح ألفونسو، وإذا كانت قواتهم مُجْتَمَعة لا تكفى لرد عدوانه، فقد اتفقت كلمتهم على الاستنجاد بالمرابطين في إفريقيا واستدعائهم إلى الأَنْدَلُس، علماً بأن ملوك الأَنْدَلُس كانت ترهِبُ الفرنج بإظهار موالاتهم لمَلِكِ المغرب يوسف بن تاشفين، وكان له شهرة تطايرت في الآفاق لما حققه من ضمِّ دِوَل إلى دولته وقضائه عليها، واشتهر بين النَّاس أن لأبطال المُلَثَّمين في المعارك ضربات بالسيوف تقد الفارس، وطعنات تنظم الكلى، فكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتالهم.
    وكان ذلك ثمرة من ثمار التمسك والاعتزاز بالإسلام، والسعي في إعلاء رايته في الأرض، فقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: [نُصرت بالرعب مسيرة شهر] ينطبق على الأمة أيضاً.
    ولكن عندما تضعف العقيدة في قلوب المسلمين ويبتعد الإسلام عن واقعهم تتبدل الأمور، وتمتلئ قلوبهم بالرعب من الأعداء؛ لأن الله قد أوكل المسلمين إلى أنفسهم، وبالتالي فالقدرات المادية هي فقط التي تحدد القوي من الضعيف.
    وفي حال الأمة مع التتار دليل واضح على ذلك؛ حيث كان الرعب - الذي سيطر على المسلمين - يسبق جيوش التتار بأيام وأشهر. ولم يتمكن المسلمون من مواجهة التتار ودحرهم - في موقعة عين جالوت - إلا بعد أن أفرغوا قلوبهم من الرهبة والخوف وملؤوها بالإيمان الصحيح والثقة بالله، حينها لن تستطيع أي قوة في الأرض أن ترهبهم أو تزعزع كيانهم مهما بلغت كانت قوتها عنان السماء.
    من أسباب ضعف المسلمين في الأندلس وقوة النصارى
    1 - ضعف العقيدة الإسلامية، والانحراف عن المنهج الربَّاني؛ وهذا السبب هو الأساس، وهو السبب الذي أفرز بقية الأسباب.
    2 - موالاة النصارى، والثقة بهم، والتحالف معهم؛ حيث نجد أن تاريخ الأَنْدَلُس مليء بالتحالف مع النصارى إلى أن بلغ ذروة رهيبة، واضطرب بسبب ذلك مفهوم الولاء والبراء، والحُبِّ في الله والبغض في الله، بل هذه المعاني كادت تندثر.
    إن الأمة حين تخالف أمرَ ربِّها، وتنحرف عن طريقِه، فلابُدَّ أن يحلَّ بها سخطُه، وتستوفى أسباب نقمتِه، قال تعالى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ{ [المائدة:57].
    وقوله عزَّ وجلَّ: }لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيْءٍ{ [آل عمران:28].
    وقد أبان رسول الله طريق الأمة في الولاء والبراء، فقال: [أَوثَقُ عُرَى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحبُّ في الله، والبغض في الله].
    فحين تجد أن المعتمد بن عَبَّاد يذهب إلى ملك قشتالة ويطلب منه الصلح ويدفع له المال، نراه جاهداً في حرب أمراء الطوائف واستئصالهم، أما كان الأفضل له أن يتحد مع إخوانه أمراء الطوائف؛ وفى ذلك مصلحة له ولهم وللأَنْدَلُس عامة، وللإسلام وأهله.
    بل ضعف مفهومُ الولاء والبراء حتى إن بعض حُكَّام المسلمين استوزروا وزراء نصارى ويهود يصرفون أمور دولة الإسلام، فهل يؤمن الذئب على الغنم كما يقول الصلابي.
    3 - السبب الثالث الانغماس في الشهوات، والركون إلى الدعة والترف وعدم إعداد الأمة للجهاد، إن الأمة التي تركن إلى الدعة والترف واللهو، وهى غالبة قاهرة يجب أن تُعد غير مستحقة للريادة والقيادة، فما بالك بأمة تغرق في اللهو والدعة والترف، وهى لا تدري إن كان العدو قد كسر حصنها واجتاحها، أم أنه لا يزال ينتظر تلك اللحظات.
    يقول المؤرخ النصرانى كوندي: "العرب هُزموا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال بالشهوات".
    إن المؤرخين رأوا: "أن الأَنْدَلُسيين ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، ناموا في ظل ظليل من الغنى الواسع والحياة العابثة والمجون، وما يرضى الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، وغدا التهتك والخلاعة والإغراق في المجون، واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة بالذهب واللآلئ مِن أبرز المميزات أيام الاضمحلال التي استناموا للشهوات والسهرات الماجنة، والجواري الشاديات، وإن شعباً يهوى إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة لا يستطيع أن يصمُد رجاله لحرب أو جهاد"، حسب ما نقله الصلابي.
    دخل المُسْلِمُون الأَنْدَلُس وأصبحوا ساداتها عندما كان نشيد طارق بن زياد في العبور: "الله أكبر"، وبقوا فيها زمناً، حين كان يحكمها أمثال عبد الرحمن الداخل عندما قُدم إليه الخمر ليشرب فقال: "إنِّي محتاج لما يزيد في عقلي لا ما ينقصه".
    يقول الدكتور عبد الرحمن الحجي عن الفاتحين الأوائل للأَنْدَلُس: "كانت غيرة هؤلاء المجاهدين شديدة على إسلامهم، فدوه بالنفس وهى عندهم له رخيصة، فهو أغلى من حياتهم، أشربت نفوسهم حُبَّه، غدا تصورهم وفكرهم ونورهم وربيع حياتهم"..وضاعت ممالك الأَنْدَلُس من يدي المُسْلِمِين عندما كان نشيد أحفاد الفاتحين:
    ووزن العود وهات القدحا ... راقت الخمرة والورد صحا
    وعندما قصد الإفرنج بلنسية لغزوها عام 456هـ خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة؛ فكانت وقعة (بطرنة) التي قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلي:
    لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حُلَلَ الحرير عليكم ألواناً
    ما كان أقبحهم وأحسنــكــــم بها ... لو لم يكن ببطرنة ما كانا
    ضعف المسلمون في الأَنْدَلُس وسلب كثير من ديارهم لما تنافس الولاة والحُكَّام من أجل إسعاد زوجاتهم وجواريهم بالباطل.
    وإليك ما فعله المُعْتَمِد مع إحدى زوجاته: اشتهت زوجة المُعْتَمِد بن عَبَّاد أن تمشى في الطين وتحمل القرب، فأمر المُعْتَمِد بن عَبَّاد أن ينشر المسك على الكافور والزعفران وتحمل قرباً من طيب المسك وتخوض فيها تحقيقًا لشهواتها..ولكن الله المعز المذل أراد أن تنقلب الأمور على المُعْتَمِد، فيؤخذ أسيراً في (أغمات)، وتبقى بناته يغزلن للنَّاس يتكسبن، وفى ذلك يقول المُعْتَمِد وهو شاعر مجيد:
    فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً ... فساءك العيد في أغمات مأسورا
    ترى بناتك فــي الأطمـــار جائعــة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميـــرا
    برزن نحـــوك للتسليــــم خاشعــة ... أبصارهن حسيـــرات مكاسيــرا
    يطأن في الطين والأقـــدام حافيــة ... كأنَّها لم تطأ مسكًـــا وكافـــــورا
    مَن بات بعدك فــــي مُلك يُسَرُّ بــه ... فإنما بات بالأحــــلام معـــــرورا
    وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم].
    4 - إلغاء الخلافة الأموية وبداية عهد الطوائف:
    كان بداية الانهيار الفعلي في الأَنْدَلُس بزوال الخلافة الأموية، ونشأ على أثر ذلك عهد السنوات الصعاب، كانت كلمة الأمة واحدة وخليفتهم واحداً، فأصبحت الأمة كما قال الشاعر:
    مما يزهدني فــي أرض أَنْدَلُس ... أسمــاء معتمــد فيها ومعتضـــد
    ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرَّ يحكى انتفاخًا صولة الأسد
    وكما قال الآخر:
    وتفرَّقوا شيعاً فكل محلة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
    ولم يكن حُكَّام الأَنْدَلُس أهلاً لقيادة الأمة في عمومهم، يقول ابن حزم عن هؤلاء الحُكَّام: "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرب المُسْلِمِين، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفًا من سيوفه".
    ويقول الدكتور عبد الرحمن الحجي عن هؤلاء الحُكَّام: "وهكذا وجدت في الأَنْدَلُس أوضاع يحكمها أمراء اتصف عدد منهم بصفات الأثرة والغدر، هانت لديهم معه مصالح الأمة، وتُركت دون مصالحهم الذاتية، باعوا أمتهم للعدو المتربص ثمناً لبقائهم في السُّلطة، ولقد أصاب الأمة من الضياع بقدر ما ضيعوا من الحظ الخُلقي المسلم، انحرف هؤلاء المسؤولون عن النهج الحنيف، الذي به كانت الأَنْدَلُس وحضارته".
    5 - الاختلاف والتفرق بين المسلمين:
    كان الاختلاف والتَّفرُّق سمة من سمات عصر ملوك الطوائف، وكان بعضهم يستعدى النصارى على إخوانه ويعقدون مع النصارى عهودًا وأحلافًا ضد إخوانهم في العقيدة، ومِن أجل شهوة سلطة تُراق على أرض الأَنْدَلُس دماء المصلين، حتى قال ابن المرابط واصفاً حال المُسْلِمِين:
    ما بال شمل المُسْلِمِين مبدَّدٌ ... فيها وشمل الضد غيــر مبــدد
    ماذا اعتذاركم غــدًا لنبيكــم ... وطريق هذا الغــدر غيـر مُمهَّد
    إنْ قال لِمَ فرَّطتم فـــي أُمَّتي ... وتركتموهــــم للعـــدو المعتدي
    تالله لو إن العقوبـة لم تُخَف ... لكفى الحيا من وجه ذاك السيـدِ
    ولما سقطت طُلَيْطِلَة كان من العجيب أن بعض ملوك الطوائف وقفوا جامدين لا يتحركون لنجدة طُلَيْطِلَة، وكأن الأمر لا يعنيهم فاغرين أفواههم جبناً وغفلة وتفاهة، بل إن عدداً منهم كان يرتمي على أعتاب ألفونسو ملك النصارى طالباً عونه، أو عارضاً له الخضوع، بذلة تأباها النفوس المُسلِمة، تغافلوا عن أن ألفونسو لا يفرِّق بين طُلَيْطِلَة وغيرها من القواعد الأَنْدَلُسية، لكن العجب يزول إذا تذكَّرنا نزعتهم الأنانية والعصبية.
    يقول الدكتور عبد الرحمن الحجي عن سقوط طُلَيْطِلَة وموقف حُكَّام الطوائف: "قام حاكم بطليوس عمر بن مُحَمَّد الأفطس الملقب بالمُتَوَكِّل على الله ببعض واجبه تجاه طُلَيْطِلَة في محنتها، التي لو أدَّى بقيَّةُ ملوك الطوائف ما يجب عليهم لما لاقت هذا المصير، ولحَمَوْها وحَموا أنفسهم، كان بعضهم لا هم له إلا تحقيق مصلحته وإشباع أنانيته، وكأن الأَنْدَلُس وجدت لمنفعته وليتربع على كرسي حكم، مهما كان قصير العمر ذليل المكان مهزوز القواعد".
    وما أشبه الليلة بالبارحة، ما أشبه حال المسلمين اليوم بحالهم في الأندلس، لقد تكرر سقوط طليلطة اليوم: سقطت فلسطين، وسقط العراق، وسقطت أفغانستان، وفي كل حالة كان لبعض المسلمين دور مكمل للسقوط.
    6 - تخلي بعض العلماء عن القيام بواجبهم:
    ".. حين كانت الأمة تغرق في الأَنْدَلُس بسبب الاجتياح النصرانيِّ المتلاطم، انصرف عدد من العلماء إلى العناية المبالغة بالفقه المذهبي وفروعه ونسوا وتناسوا واقع الأمة وآلامها".
    وبعض هؤلاء هم ممن قال فيهم ابن حزم رحمه الله: "ولا يغرَّنك الفُسَّاق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المُزيِّنون لأهل الشرِّ شرهم، الناصرون لهم على فسقهم".
    ولا ننسى دور العلماء الربَّانيين الذين قاموا بجمع شتات الأمة الممزق، وبذلوا وسعهم في ذلك من أمثال أبى الوليد الباجي، وأبى مُحَمَّد بن حزم، وأبى إسحاق الإلبيري وغيرهم.
    7 - عدم سماع ملوك الطوائف لنصح العلماء:
    لقد بذل مجموعة من العلماء جهداً لتوحيد صفوف المسلمين، وتصدَّى أبو الوليد الباجى لهذه المهمة بنفسه بعد عودته من المشرق الإسلامي، "فرفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة لصلة ما انبت من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون، ولكنَّه لم يصادف أسماعاً واعية؛ لأنَّه نفخ في عظام نخرة، وعطف على أطلال داثرة، بَيْدَ أنه كُلَّما وفد على ملك منهم في ظاهر أمره لقيه بالترحيب، وأجزل حظه في التنافس والتقريب، وهو في باطن يستجهل نزعته ويستثقل طلعته، وما كان أفطن الفقيه - رحمه الله - بأمورهم وأعلمه بتدبيرهم، لكنَّه كان يرجو حالاً تثوب، ومذنباً يتوب".
    ولم يكن حُكَّام الأَنْدَلُس أهلاً لقيادة الأمة، ولم تنفعهم نصائح العلماء حتى حلَّت بهم مصيبة وكارثة ألا وهى سقوط طُلَيْطِلَة.
    8 - مؤامرات النصارى ومخططاتهم:
    استطاع النصارى أن يضعوا برامج مُحكمة للقضاء على ملوك الطوائف، ومِن ثَمَّ على المُسْلِمِين عموماً، وكان من أكبر المجرمين من ملوك النصارى الذي أشرف على هذه المُخَطَّطَات وسهر على تنفيذها فرناندو ملك قشتالة.
    9 - وحدة كلمة النصارى:
    في الوقت الذي كان المُسْلِمُون في الأَنْدَلُس يعانون من التَّفرُّق والشتات، كان النصارى في وحدة كلمة وتراص صفًّ في مواجهة أمة الإسلام في الأَنْدَلُس.
    10 - غدر النصارى ونقضهم للعهود:
    لم يكن النصارى محلاً للعهود وأهلاً للوفاء إلا في القليل النادر؛ فهم تبع لمصالحهم وأهوائهم، وهى التي تحكم وفاءهم ونقضهم.
    قال تعالى: }وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ{ [المائدة:14].
    لقد سطَّر النصارى في الأَنْدَلُس تاريخًا مليئاً بالدماء وهتك الأعراض، وقتل النفوس وسبي النساء.
    هو حال كل المسلمين
    مآسي المسلمين في الأندلس هي نتيجة طبيعية لمآسي العالم الإسلامي أجمع، فالأمة كالجسد الواحد في الصحة والمرض،فما أصاب مشرقها كان لا بد أن يصيب مغربها.
    كان العالم الإسلامي مُجزَّأ عند قيام دولة المرابطين: فظهر ملوك الطوائف في بلاد الأَنْدَلُس، والبويهيون في المشرق قبل يطهر السلاجقةُ العراقَ منهم، والعبيديون حكموا مصر، وبنو حَمَّاد في المغرب الأوسط، والمعز بن باديس وأحفاده في المهدية.
    وكان المشرق الإسلامي في ظروف سياسية حرجة وصعبة قاسية؛ حيث أمرُ الخلافة في بغداد مهتز، والخليفة مُعَرَّضٌ للخطر، ولا يملك من أمر الخلافة شيئاً، أمَّا العبيديُّون في مصر فتحالفوا مع الإفرنج من أجل مصالحهم وأطماعهم، فكان أمر المسلمين في غاية الخطورة. حتى قيَّض الله لأهل المشرق نور الدِّين محمود زنكي وصلاح الدِّين الأيوبي اللذين قاما بدور عظيم في القضاء على النصارى والعبيديين ودحرهم.
    وفى المغرب أرادت حكمة الله وقدرته أن تخرج دولة المرابطين لتكون سداً منيعاً ضد أطماع النصارى في الأَنْدَلُس، ولتحمى الشمال الإفريقي من غاراتهم وأطماعهم.
    فقد توسع المرابطون وشملت دولتهم أجزاء شاسعة من شمالي إفريقيا "جزء من الجزائر والريف في المغرب"، وضربت جذورها في الصحراء حتى نهر النيجر والسنغال، فرفعوا راية الإسلام في تلك الأماكن البعيدة.
    و أكرم الله تعالى المرابطين وجنودهم بالدفاع والذود عن الإسلام والمسلمين وعن أعراضهم وأموالهم وعقائدهم التي لا تقدر بثمن..وأعزَّ الله الأمة بهم في زمن عصيب ورفع الله بهم لواء الإسلام في المغرب والأَنْدَلُس.
    واستطاعوا بجهودهم الجهادية أن ينقذوا إخوانهم في الدِّين من ظلم النصارى وحقدهم الدفين، ويكبدوهم هزائم عسكرية أصبحت نبراساً للأمة على مرِّ العصور ومرِّ الدهور.

    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: واجب النصرة في سياسة (دولة المرابطين) - تقرير

    واجب النصرة في سياسة (دولة المرابطين) - تقرير

    أحمد الشجاع




    النصرة في الدين
    اجتماع علماء قرطبة:
    أمام هذا الضياع المفزع الذي وصلت إليه ممالك الأَنْدَلُس؛ اجتمع علماء وفقهاء وزعماء قرطبة للتشاور فيما يجب عمله لإنقاذ مدينتهم.
    وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبق منها إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت.
    وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة، وعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك. قال: ما هو؟، قالوا: نكتب إلى عرب إفريقيا ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله. قال: نخاف، إذا وصلوا إلينا يخربون بلادنا، كما فعلوا بإفريقيا، ويتركون الفرنج ويبدؤون بكم، والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا.
    قالوا له: فكاتب أمير المسلمين، وارغب إليه ليعبر إلينا، ويرسل بعض قواده.
    وقدم عليهم المعتمد بن عباد، وهم في ذلك، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبرئ نفسه من تهمةٍ، فألح عليه المعتمد.
    وبدأ المُعْتَمِد في تقوية جيشه وترميم الحصون والقلاع، وقرَّر أن يطلب النجدة من إخوانه المسلمين، وتشاور في الأمر مع ابنه الرشيد وزعماء إشبيلية الذين أشاروا عليه بمهادنة ألفونسو والخضوع لشروطه، ولكن هذا الرأي لم يجد هوى في نفس المُعْتَمِد الذي خلا بابنه الرشيد - وكان ولى عهده - وقال له: "أنا في هذه الأَنْدَلُس غريب بين بحر مظلم وعدو مجرم، وليس لنا ولي ولا ناصر إلا الله، وإن إخواننا وجيراننا ملوك الأَنْدَلُس ليس فيهم نفع، ولا يُرجَى منهم نصرة ولا حيلة إن نزل بنا مصاب أو نالنا عدو ثقيل وهو اللعين أذفونش، فقد أخذ طُلَيْطِلَة، وعادت دار كفر، وها هو قد رفع رأسه إلينا. وإن نزل علينا طُلَيْطِلَة ما يرفع عنا حتى يأخذ إشبيلية، ونرى من الرأي أن نبعث إلى هذه الصحراء وملك العدوة نستدعيه للجواز إلينا ليدافع عنا الكلب اللعين؛ إذ لا قدرة لنا على ذلك بأنفسنا، فقد تلف لجاؤنا وتدبرت بل تبردت أجنادنا، وبغضتنا العامة والخاصَّة".
    فأجابه الرشيد: يا أبت أتدخل علينا في أَندَلُسنا مَن يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟"، فقال: "أي بني والله لا يسمع عني أبداً أنى أعدت الأَنْدَلُس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم عليَّ اللعنة من على منابر المسلمين مثل ما قامت على غيري، والله خُرز الجمال عندي خير من خُرز الخنازير".
    ولما انتشر رأي المُعْتَمِد بن عَبَّاد في الأَنْدَلُس حذره ملوك الطوائف من ذلك، وقالوا له: "الملك عقيم والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد"، وعارض بشدة طلب العون من المرابطين عبد الله بن سكوت والي مالقة الذي كان يرى أن المرابطين أشد خطراً من النصارى، ويجب الاعتماد على القوة الذاتية للأَنْدَلُسيين. فأجابهم المُعْتَمِد بكلمته التي صارت مثلاً: "رعي الجمال خير من رعي الخنازير".
    وأضاف: إن دهينا من مداخلة الأضداد لنا فأهون الشرَّين أمر الملثمين".
    أي أن كونه مأكولاً لابن تاشفين أسيراً يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزقاً عند الأذفونش، أسيراً يرعى خنازيره في قشتالة. وكان المعتمد مشهوراً برزانة الاعتقاد.
    وقال للذين لاموه على هذا الرأي: "يا قوم إني في أمري على حالين: حالة يقين وحالة شك، ولابد لي من أحدهما، أمَّا حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفيا لي ويبقيا عليَّ، ويمكن أن لا يفعلا فهذه حالة شك.
    وأمَّا حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فإني أرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه"؟. حينئذٍ قصر أصحابه عن لومه..وهذا الموقف من المعتمد يدل على غيرة في الدين، وعزة في النفس رغم ضعفه أمام عدوه.
    ولما عزَم على طلب النصرة من المرابطين؛ اتصل المُعْتَمِد بالمُتَوَكِّل بن الأفطس صاحب بطليوس، وعبد الله بن بلقين الصنهاجي صاحب غرناطة، وطلب منهما أن يرسل كل منهما قاضي مدينته حتى يكونوا وفداً إلى المرابطين لمقابلة الأمير يوسف بن تاشفين، وتشكَّلت البعثة من قاضي قرطبة ابن أدهم، وقاضي بطليوس ابن مقانا، وقاضي غرناطة ابن القليعي، ومعهم وزير المُعْتَمِد أبو بكر بن زيدون، وأسند المُعْتَمِد إلى القضاة وعظ الأمير يوسف وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى وزيره إبرام العقود، وحملت البعثة معها رسالة مكتوبة من المُعْتَمِد إلى الأمير يوسف مؤرخة بسنة 479هـ، وهذا نصُّها:
    "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلِّى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.. إلى حضرة الإمام أمير المسلمين وناصر الدِّين ومحيي دعوة الخليفة، الإمام أبي يعقوب يوسف بن تاشفين، القائم بعظيم أكبارها، الشَّاكر لأجلالها، المعظِّم لما عظم الله من كريم مقدارها، اللائذ بحرامها، المنقطع إلى سمُّو مجدها، المستجير بالله وبطولها مُحَمَّد عباد، سلام كريم يخص الحضرة المعظمة السامية ورحمة الله تعالى وبركاته. كتب المنقطع إلى كريم سلطانها من إشبيلية فى غرة جمادى الأولى 479هـ/ 1086م، وإنَّه أيَّد الله أمير المُسْلِمِين ونصر به الدِّين، فإنَّا - نحن العرب - في هذه الأَنْدَلُس قد تلفت قبائلنا، وتفرَّق جمعنا، وتغيَّرت أنسابنا بقطع المادة عنا من ضيعتنا؛ فصرنا شعوباً لا قبائل، وأشتاتاً لا قرابة ولا عشائر، فقلَّ نصرنا، وكثر شُمَّاتُنا. وتولَّى علينا هذا العدو المجرم اللعين ألفونسو وأناخ علينا بطُلَيْطِلَة ووطأها بقدمه، وأسر المسلمين، وأخذ البلاد والقلاع والحصون، ونحن أهل هذه الأَنْدَلُس ليس لأحد منا طاقة على نصرة جاره ولا أخيه، ولو شاءوا لفعلوا إلا أن الهواء والماء منعهم من ذلك، وقد ساءت الأحوال، وانقطعت الآمال. وأنت أيدك الله سيد حمير، ومليكها الأكبر، وأميرها وزعيمها، نزعت بهمتي إليك واستنصرت بالله ثم بك، واستغثت بحرمكم لتجوز بجهاد هذا العدو الكافر وتحيون شريعة الإسلام وتدينون على دين مُحَمَّد، ولكم عند الله الثواب الكريم على حضرتكم السامية. السلام ورحمة الله وبركاته، ولا حول ولا قوة إلا بالله
    العلى العظيم".
    وأرسلت وفود شعبية من الشيوخ والعلماء رسائل تحثُ الأمير على إنقاذ الأَنْدَلُس.
    وتأثر المرابطون لمُصاب إخوانهم في الدِّين، وعرض أميرهم قضية مسلمي الأَنْدَلُس على أهل الحلِّ والعَقْد عنده، وأجمعوا على نصرة دينهم وإعزاز كلمة التوحيد. وكان وزير يوسف ومستشاره أَنْدَلُسي الأصل اسمه عبد الرحمن بن أسبط أو أسباط، فنصحه المستشار بأن يطلب من المُعْتَمِد بن عَبَّاد الجزيرة الخضراء لكي تكون آمنة لعبور الجيش، ولحماية خطوط التموين، وقال له: إن الأمر لله تعالى ولكم، وواجب على كل مسلم إغاثة أخيه المسلم والانتصار له. واقتنع الأمير يوسف برأي وزيره في طلب الجزيرة الخضراء؛ ليجعل فيها أثقال جيشه وأجناده، ويكون الجواز بيده متى شاء. وقال الأمير يوسف لعبد الرحمن: صدقت يا عبد الرحمن، لقد نبهتني على شيء لم يخطر ببالي، اكتب إليه بذلك.
    وكتب ابن أسبط إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد الكتاب التالي نصُّه:
    "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلِّم. من أمير المسلمين وناصر الدِّين معين دعوة أمير المؤمنين، إلى الأمير أكرم المؤيد بنصرة الله تعالى المُعْتَمِد على الله أبي القاسم مُحَمَّد بن عَبَّاد أدام الله كرامته بتقواه، ووفقه لما يرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
    فإنه وصل خطابك الكريم، فوقفنا على ما تضمنه من استدعائنا لنصرتك، وما ذكرته من كربتك، وما كان من قلة حماية جيرانك، فنحن يمين لشمالك ومبادرون لنصرتك وحمايتك، وواجب علينا في الشَّرع، وفى كتاب الله تعالى، وإنَّه لا يمكننا الجواز إلا أن تُسلِّم لنا الجزيرة الخضراء؛ تكون لنا، لكي يكون جوازنا إليك على أيدينا متى شئنا، فإن رأيت ذلك فاشهد على نفسك بذلك، وابعث إلينا بعقودها ونحن في أثر خطابك إن شاء الله تعالى".
    اطلع المُعْتَمِد ابنه الرشيد على خطاب الأمير يوسف فقال له: يا أبت ألا تنظر إلى ما طلب؟. فقال له المُعْتَمِد: يا بني هذا قليل في حق نصرة المسلمين، ثم جمع المُعْتَمِد القاضي والفقهاء، وكتب عقد هبة الجزيرة الخضراء للأمير يوسف، وتسليمها له بحضورهم، وكان يحكمها يزيد الراضي بن المُعْتَمِد، فبعث إليه أمره بإخلائها وتسليمها للمرابطين لتكون رهناً بتصرف الأمير يوسف.
    وبعد موافقة المُعْتَمِد تجهَّز يوسف لتلبية نداء إخوانه في العقيدة، وكتب أماناً لأهل الأَنْدَلُس ألا يتعرض لأحد منهم في بلده، وقال: "أنا أول مُنتَدَبٍ لنصرة هذا الدِّين، لا يتولى الأمر أحد إلا أنا بنفسي". وأعلن النفير العام في قوات المرابطين، فأقبلت من مراكش، ومن الصحراء وبلاد الزاب، ومن مختلف نواحي المغرب يتوافدون على قيادتهم الربَّانية. وجهزت السفن لتحمل هذه القوات، وكان أول من نفَّذ أمر العبور قائد المرابطين النابغ داود ابن عائشة. وتمركز في الجزيرة الخضراء، وتتابعت كتائب المرابطين، وكانت معهم الجمال الكثيرة، وقد أثار وجودها دهشة الأَنْدَلُسيين؛ لأنَّهم لم يكونوا يعرفونها من قبل، وقد أثَّر وجودها على الخيل فأخذت تجمح لدى رؤيتها.
    نحو الأندلس
    ولما تكامل الجيش المرابطي بساحل الجزيرة الخضراء، ركب الأمير يوسف ومعه قادة من خيرة قادة المرابطين وصلحائهم، ولمَّا ركب واستوى على السفينة رفع يديه نحو السماء مناجياً:
    "اللهم إن كنت تعلم أن جوازنا هذا إصلاح للمسلمين فسهِّل علينا هذا البحر حتى نعبره، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا نجوزه".
    وسهل الله عبورهم، وكان ذلك يوم الخميس بعد الزوال منتصف ربيع الأول 479هـ يونيو 1086م، وصلى الأمير يوسف بالجزيرة الخضراء صلاة الظهر، وقام أهل الجزيرة بضيافة المرابطين، وظهر فرحهم وسرورهم على وجوههم، وبدأ الأمير يوسف في تحصين الجزيرة الخضراء، ورمَّم أسوارها وما تصدَّع من أبراجها، وشحنها بالأسلحة والأطعمة، وكلف مجموعة من جنوده بحراستها ثم ساروا نحو إشبيلية.
    سارع المُعْتَمِد مع قادة قومه وشيوخ مدينته وفقهاء بلاده لاستقبال أمير المرابطين.. واستعرض المُعْتَمِد الجيش المرابطي فرأى "عسكراً نقياً، ومنظراً بهياً".
    وواصل الأمير يوسف سيره نحو إشبيلية حيث كان يستقبل بالترحاب مع جيشه المرابطي على امتداد الطريق، حتى وصل حاضرة المُعْتَمِد، فأقام بها ثلاثة أيام للاستراحة، ثم قال للمُعْتَمِد: "إنما جئت ناوياً جهاد العدو حيثما كان توجهت".
    وأثناء مقام الأمير يوسف فى إشبيلية بعث الأمير يوسف إلى ملوك الأَنْدَلُس يستنفرهم للجهاد، فكان أول من لبى الدعوة عبد الله بن بلقين الصنهاجي صاحب غرناطة الذي خرج إليه بأمواله ورجاله، وأخوه تميم صاحب مالقة، وأرسل ابن صمادح ابنه معز الدولة في فرقة من جيشه.
    وسار الأمير يوسف نحو بطليوس، فاستقبلهم صاحبها المُتَوَكِّل بن الأفطس على ثلاث مراحل من المدينة، وقدَّم لهم الهدايا والضيافة، وعلف الدواب، وظهر منه جود وكرم، وأقام الأمير أياماً عدة حتى يصل باقي المتطوعين، إلا أن أكثرهم لم يصل لانشغالهم بمدافعة النصارى، فتابع سيره الجهادي حتى حطَّ رحاله عند سهل الزِّلاقَة، وكان يبعد عن بطليوس ثمانية أميال.
    ونظَّم يوسف بن تاشفين جيشه، فجعل الأَنْدَلُسيين جيشاً مستقلاً بذاته، وأسند قيادته إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد الذي تولى المقدمة، وأسندت الميمنة إلى المُتَوَكِّل بن الأفطس، وجعل أهل شرق الأَنْدَلُس على الميسرة، وباقي أهل الأَنْدَلُس فى الساقة.
    أمَّا الجيش المرابطي فتولى داود ابن عائشة قيادة فرسانه، وأما سير بن أبى بكر فتولى قيادة الحشم، وبقية المرابطين مع حرس الأمير يوسف بن تاشفين إلى جانب قيادته الجيش الإسلامي.
    معركة الزلاقة

    عسكر المرابطون خلف الأَنْدَلُسيين تفصل بينهم ربوة بقصد التمويه، وكان تعداد جيش المرابطين والأَنْدَلُسيين أكثر من 24 ألف جندي، وتضاربت الروايات في ذلك.
    وكان ألفونسو مشغولاً بمحاصرة سَرْقُسْطَة، ولما وصله الخبر ارتبك وجزع، وطلب من المستعين بن هود - حاكم سَرْقُسْطَة - أن يدفع له مالاً مقابل فك الحصار، فامتنع ابن هود لما عَلِمَه من وصول المرابطين، وقرَّر ألا يساعد ألفونسو بأي مال يستعين به على قتال المسلمين.
    واضطرَّ ألفونسو لرفع الحصار، ورجع مسرعاً إلى طُلَيْطِلَة، وأعلن الاستنفار العام، وحل نزاعه وخلافه مع بعض أمراء النصارى، وأرسل إلى مَن وراء جبال ألبرتات فأتته أفواج عديدة من النصارى متطاوعة من أجل الحرب المُقدَّسة، وجند الفونسو كل مَن يستطيع حمل السلاح صغيراً أو كبيراً، ونظَّم جيشه وقسمه إلى قسمين كبيرين.
    وكان جيش ألفونسو يعتمد على الفرسان كمجموعة، وكان الفارس يلبس الزرد والدروع التي تغطيه من الرأس إلى القدم كأنَّه حصن من الحديد يتحرك لتزداد شجاعته وجرأته.
    ولما استعرض جيشه نفخ فيه الشيطان غروره وكبرياءه، وقال قولة تدل على تجذر كفره وعتوه وفساد معتقده، حيث قال: "بهذا الجيش ألقى محمداً وآل محمد والأنس والجن والملائكة".
    "وكانت جموع الرهبان والقسيسين أمام جيش ألفونسو يرفعون الإنجيل والصلبان لإذكاء الحماس الدِّيني في نفوس الجنود الذين بلغ عددهم أكثر من ستين ألفًا.
    وخرج ألفونسو بجيشه نحو بطليوس، وكتب إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد كتاباً، جاء فيه: "إن صاحبكم يوسف قد تعنَّى من بلاده وخاض البحار، وأنا أكفيه العناء فيما بقى، ولا أكلفكم تعباً، وأمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم".
    وقصد ألفونسو بذلك أن تكون المعركة خارج بلاده فإذا انهزم ولحقوا به يكون مسيرهم في أرضهم ولابد من الاستعداد لاكتساح بلاده، وبذلك تنجو من التدمير، وإذا انتصر حدث ذلك في أرض أعدائه.
    وصل ألفونسو إلى بطحاء الزِّلاقَة وخيم على بعد ثلاثة أميال من الجيش المسلم يفصل بينهما نهر بطليوس يشرب منه المتحاربون.
    لقد انزعج ألفونسو من مجيء المرابطين انزعاجاً كبيراً, حيث شعر بعودة الروح المعنوية إلى أهالي الأَنْدَلُس الذين كان يسومهم سوء العذاب، يُقتِّل رجالهم ويسبى نساءهم، ويأخذ منهم الجزية، ويحتقرهم ويزدريهم، ويتلاعب بمصيرهم، وينتظر الفرصة لاستئصالهم من الأَنْدَلُس، لتعم النصرانية في سائر البلاد، ويرتفع الصليب على أعناق العباد، وإذا بالمرابطين يربكون مخططاته ويبددون أحلامه.
    لذلك أراد ألفونسو أن يوجِّه ضربة قاصمة لمن كان السبب في استدعاء المرابطين وخصوصاً المُعْتَمِد بن عَبَّاد وقرينه المُتَوَكِّل بن الأفطس، وكان يرى أن نصره يعتمد على تكبيل القوة الدَّاخلِيَّة في الأَنْدَلُس بالهزائم المتتالية والمتلاحقة.
    أما المرابطون بعد ذلك سيرجعون إلى وطنهم الأصلي المغرب، وبالقضاء على الأَنْدَلُس يسهل القضاء على المرابطين بسبب جهلهم بالطبيعة الجغرافية للبلاد.
    ومما ساعد ألفونسو على أن يعيش في تلك الأحلام فتور معظم أهل الأَنْدَلُس بسبب ترفهم ونعيمهم وجبنهم وحبهم للحياة وهروبهم من الشهادة، كما أن أسباب الهزيمة نخرت في ذلك المجتمع المتهالك.
    وكان رأي المرابطين أن المعركة في الأَنْدَلُس مصيرية للأمة الإسلاميَّة؛ وبذلك لا يمكن الاعتماد على شعب مهزوم وقع في أسر المعاصي والذنوب.
    كما أن انتصارهم في الأَنْدَلُس يرعب أعداءهم وخصومهم في المغرب، ويتم بنصرهم إنقاذ الإسلام والحضارة في ذلك البلد البعيد عن العالم الإسلامي.
    وأرسل يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو كتاباً يعرض عليه الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب. ومما جاء في كتاب الأمير:
    "بلغنا يا أذفونش أنَّك نحوت الاجتماع بنا، وتمنيَّت أن تكون لك فُلْكٌ تعبر البحر عليها إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وترى عاقبة ادعائك (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)".
    ولما قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وذهب بعقله وقال: "أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني، وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل ملته منذ ثمانين سنة؟".
    وقال لرسول الأمير يوسف: "قُل للأمير لا تتعب نفسك أنا أصل إليك، وإنَّنا سنلتقي في ساحة المعركة".
    ومعنى ذلك أن ألفونسو اختار الحرب، وحاول ألفونسو حامي حمى النصرانية في إسبانيا أن يخدع المُسْلِمِين ويمكر بهم، فكتب إلى الأمير يوسف في تحديد يوم المعركة فكتب إليه: "إن بعد غد الجمعة لا نحب مقابلتكم فيه لأنَّه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثير في محلتنا، وبعده الأحد عيدنا، فنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين".
    فكان جواب الأمير يوسف: "اتركوا اللعين وما أحب". فاعترض المُعْتَمِد، وقال للأمير يوسف: "إنها حيلة منه وخديعة إنَّما يريد غدرنا فلا تطمئن إليه، وقصده الفتك بنا يوم الجمعة، فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النَّهار".
    واستعد المسلمون لرصد تحركات النصارى، وكان حدس المُعْتَمِد صائباً صحيحاً، ورصدوا تحرك العدو نحوهم.
    وانقض الجيش الذي يقوده رودريك بمنتهى العنف على معسكر المسلمين من الأَنْدَلُسيين فتصدَّى فرسان المرابطين الذين يقودهم داود ابن عائشة الذين أرسلهم يوسف ابن تاشفين على عجل لدعم الأَنْدَلُسيين، وصمد المرابطون أمام هجوم النصارى، واضطر النصارى إلى الارتداد إلى خط دفاعهم الثاني.
    واحتدم الصراع، وزحف ألفونسو ببقية جيشه، وأقرن زحفه بصياح هائل أفزع قلوب الأَنْدَلُسيين قبل خوضهم المعركة، ولاذوا بالفرار ووجدوا أنفسهم أمام أسوار بطليوس للاحتماء بها، ولم يصمد منهم إلا المُعْتَمِد بن عَبَّاد وقومه، وأهل إشبيلية.
    وأبلى المعتمد بلاءً عظيماً، وأصيب بجروح بليغة، واستمرت المعركة الرهيبة، وصمد المُعْتَمِد مع داود ابن عائشة حتى فلت السيوف، وتكسرت الرماح، وصبر المُسْلِمُون في المعركة صبراً عظيماً.
    وبدأت قوة المُسْلِمِين تضعف وتتقهقر أمام ضربات النصارى، وأيقن ألفونسو ببلوغ النصر مُعتَقِداً أن هذه هي قوة المسلمين المقاتلة التي ظهر الإعياء عليها، وأخذت موقف المدافعة.
    ولم يستغرق ألفونسو طويلاً في أحلامه حتى وثب جيش من المرابطين إلى ميدان المعركة أرسله الأمير يوسف بقيادة سير بن أبي بكر على رأس الحشم لمساندة القوات الإسلاميَّة؛ فتقوَّت بذلك معنوياتهم في معركة مالت إلى هزيمتهم. وزحف الأمير يوسف بحرسه المرابطي، وقام بعملية التفاف سريعة باغت فيها معسكر العدو من الخلف، ووصل إلى خيامه وأحرقها وأباد حراسها، ولم ينج منهم إلا القليل. وكانت طبول المرابطين تدق بعنف فترتج منها الأرض، ورغاء الجمال يتصاعد إلى السماء فبث الذعر في نفوس الأعداء وهلعت قلوبهم.
    وذهل ألفونسو عندما رأى بعض حرس معسكره فارِّين، وأتته الأخبار من داخل المعسكر باستيلاء المرابطين عليه، وأنَّه خسر حوالي عشرة آلاف قتيل.
    ووجد ألفونسو نفسه محاصراً من المسلمين فاضطر للقتال متقهقراً نحو معسكره المحروق، ولكن يوسف لم يترك له الفرصة لالتقاط الأنفاس، فانقضَّ عليه كالسيل، وقاتل ألفونسو عند ذلك قتال المستميت. وكان الأمير يوسف يبث الحماس في نفوس المسلمين قائلاً: "يا معشر المُسْلِمِين اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رُزِق منكم الشهادة فله الجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة". وكان رحمه الله يقاتل في مقدمة الصفوف وهو ابن التاسعة والسبعين.
    وكان فقهاء المسلمين وصالحوهم يعظون الجنود ويشجعونهم على مصابرة أعداء الدِّين، وفي هذا الجو الرهيب من القتال الذي دام بضع ساعات وسقط فيه آلاف القتلى، وغمر الدم ساحة المعركة عندما دفع الأمير حرسه الخاص من السودان إلى القتال، فترجل منهم أربعة آلاف كانوا مسلحين بدروق اللمط وسيوف الهند ونزاريق الزان.
    اندفعوا إلى المعركة اندفاع الأسود فحطموا مقاومة النصرانية، وتكسَّرت شوكتهم، وانقض أحد المسلمين على ألفونسو وطعنه في فخذه، ولاذ النصارى بالفرار، ولجأ مع خمسمائة فارس من فرسانه إلى تل قريب ينتظر الظلام لينجو من سيوف المرابطين.
    ومنع يوسف جنوده من اللحاق بهم، وكانت مناسبة لألفونسو الذي تابع سيره مع الظلام إلى طُلَيْطِلَة، وصل إليها مغموماً حزيناً كسيراً جريحاً بعد أن فقد خيرة رجاله وجنوده وقادة جيشه.
    وفقد ألفونسو في الزِّلاقَة القسم الأعظم من جيشه، وأمر يوسف بضم رؤوس القتلى من النصارى، فعمل المسلمون منها مآذن يؤذنون عليها.
    لقد أصبح يوم (الزِّلاقَة) عند المغاربة والأَنْدَلُسيين مثل يومي (القادسية) و(اليرموك)، وتردد صداه في الشرق والغرب، وذاع صيت القائد الظافر ابن تاشفين الذي لقب منذ ذلك بأمير المسلمين.
    وكانت لمعركة الزِّلاقَة نتائج مهمة، من أهمها:
    1- رفع الروح المعنوية لأهل الأَنْدَلُس، خصوصاً بعد أن أنقذ الله بها سقوط سَرْقُسْطَة من سقوط محتَّم، وأزاح عن ملوك الطوائف وأمرائها كابوس النصارى ومتطلباتهم التي لا تنتهي من الجزية وغيرها.
    2- سقوط هيبة ملوك الطوائف أمام رعاياهم، خاصَّة أنهم قد هزموا في بدء المعركة، ولولا أن أكرمهم الله بالمرابطين لضاعت الأَنْدَلُس.
    3- امتناع الرعية عن دفع الضرائب المخالفة لتعاليم الإسلام وتعلُّقهم بالمرابطين.
    4- مهَّدت الزِّلاقَة إلى إسقاط دول الطوائف فيما بعد على يد منقذيهم.
    5- ظهور نجم يوسف بن تاشفين والمرابطين في العالم أجمع.
    6- انصياع قبائل المغرب التي كانت مترددة في ولائها، وتنتظر فرصة الوثوب على المرابطين، وبذلك تكون نتيجة معركة الزِّلاقَة أن جعلت تلك القبائل تخلد إلى السكينة وأعلنت ولاءها التام.
    7- عمت الأفراح أرجاء العالم الإسلامي في شرقه وغربه، وأعتقت الرقاب وسُرَّ العلماء والفقهاء بهذا النبأ السعيد.
    8- أصيب نصارى الأسبان بهزيمة تعيسة أثَّرت في نفوسهم، وتحطمت آمالهم في الاستيلاء على أراضى المسلمين في الأَنْدَلُس وإبعادهم.
    9- جعلت النصارى يُرتِّبون أمورهم ويوحِّدون صفوفهم، ويتنازلون عن صراعاتهم الدَّاخلِيَّة.
    بعد أن رتب الأمير يوسف أموره بعد معركة الزِّلاقَة عاد إلى إشبيلية، ودعا رؤساء الأَنْدَلُس إلى اجتماع عام، وطلب منهم الاتفاق والاتحاد ضد عدوهم المشترك الذي نخر فيهم بسبب اختلافهم؛ فأجابه الجميع بقبول وصيته وتحقيق رغبته، وترك ثلاثة آلاف جندي مرابطي للدفاع عن ثغور الأَنْدَلُس بقيادة سير بن أبى بكر.
    ثم رجع إلى المغرب، وعدد المؤرخون أسباب رجوع يوسف إلى المغرب، وهو لم يجنِ ثمرة الانتصار بعد، إلى أسباب منها:
    وفاة ابنه الأمير أبى بكر الذي استخلفه على سبتة وكان مريضاً، واضطراب الحدود الشرقية بسبب تحالف بني حَمَّاد مع عرب بني هلال، وحاولوا غزو المناطق الحدودية التابعة للدولة المرابطية، كذلك أراد أن يتفقد الولاة والحُكَّام الذين تركهم في المُدُن والقرى، وينظر في أمور الرعية.
    وأراد أن يخرج من إلحاح مسلمي الأَنْدَلُس الذين طلبوا منه تعقُّب ألفونسو وجنوده، حيث إنه رأى أن قواته لا تستطيع أن تسيطر على كل الأَنْدَلُس لاتساع أراضيها.
    لكنه لم يلبث أن عاد إلى الأندلس بجيش جديد ليحارب النصارى إلى جانب قوات الأندلس للمرة الثانية؛ وذلك بطلب جملة من وجوه الأندلس من أهل بلنسية ومرسية ولورقة وبسطة. وسيكون لهذه العودة حديث آخر إن شاء الله.
    الخلاصة
    عندما غفل المسلمون عن دينهم اليوم افتقروا إلى أمثال يوسف بن تاشفين، وجاء ديرك نيبل ليعلمهم واجبهم!!!.
    فلم يكتف المسلمون بأنهم مهانون، بل جاء الآخرون يعلموهم معنى التراحم ونصرة إخواننا المنكوبين، مع أن المسلم غني بتعاليم دينه..نعم.. من أدار ظهره لدينه فلا خير فيه لإخوانه.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــ
    المصادر
    - (فقه التمكين عند دولة المرابطين)، د. علي محمد الصلابي.
    - (صفة جزيرة الأندلس)، الحميري.
    - (الأساطيل العربية الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط)، عبد العزيز بن عبد الله – مجلة (التاريخ العربي).
    - (الكامل في التاريخ)، ابن الأثير.
    - (صحيفة القدس العربي)، 31 يوليو 2011م.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •