نسب ابن سيرين
هو أبو بكر محمد بن سيرين الإمام وشيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري، الأَنَسِي، البصري، مولى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان أبوه من سبي جرجرايا، تملَّكه أنس بن مالك رضي الله عنه، ثم كَاتَبَه على أُلُوفٍ من المال، فوفَّاه وعجل له مال الكتابة قبل حلوله، فتمنَّع أنسٌ من أخذه لمـَّا رأى سيرين قد كثر ماله من التجارة، وأمل أن يرثه، فحاكمه إلى عمر رضي الله عنه، فألزمه تعجيل المؤجَّل، وقال أنس بن سيرين: وُلِد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وَوُلِدت بعده بسنةٍ قابلة.

وصف ابن سيرين وصفاته رحمه الله
روى ابن سعد في طبقاته أنَّ محمدًا بن سيرين كان يغتسل كلَّ يوم، وكان مشهورا بالوسواس. وقيل: رأيته إذا توضَّأ فغسل رجليه بلغ عضلة ساقيه.
وقيل إنَّه كان نقش خاتمه كنيتَه "أبو بكر"، وكان يتختَّم في الشمال، وكان ابن سيرين يلبس طيلسانًا (شال أو وشاح يوضع على الكتف)، ويلبس كساء أبيض في الشتاء، وعمامة بيضاء وفروة. وقال سليمان بن المغيرة: رأيت ابن سيرين يلبس الثياب الثمينة والطيالس والعمائم.

تعفف ابن سيرين عن الحرام
عن السري بن يحيى، قال: لقد ترك ابن سيرين ربح أربعين ألفًا في شيءٍ (شك) دخله ما يختلف فيه أحدٌ من العلماء.

تواضع ابن سيرين
قال معمر: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت كأنَّ حمامةً التقمت لؤلؤة، فخرجت منها أعظم ما كانت، ورأيت حمامةً أخرى التقمت لؤلؤةً فخرجت أصغر ممَّا دخلت، ورأيت أخرى التقمت لؤلؤةً فخرجت كما دخلت. فقال ابن سيرين: أمَّا الأولى فذاك الحسن، يسمع الحديث فيجوده بمنطقه، ويصل فيه من مواعظه. وأمَّا التي صغرت فأنا، أسمع الحديث فأسقط منه. وأمَّا التي خرجت كما دخلت فقتادة، فهو أحفظ الناس.

بر ابن سيرين بأمِّه
قيل عنه أنَّه ما رُئِي يُكلِّم أمَّه قط إلَّا وهو يتضرَّع لها، وقال هشام بن حسان: حدثتني حفصة بنت سيرين قالت: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوبًا اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثيابًا، وما رأيته رافعًا صوته عليها، كان إذا كلَّمها كالمصغي إليها.
وروي عنه -أيضًا- أنَّه إذا كان عند أمِّه لو رآه رجلٌ لا يعرفه ظنَّ أنَّ به مرضًا من خفض كلامه عندها.

ورع ابن سيرين وثناء الأئمة عليه
عن بكر بن عبد الله المزني، قال: "من سرَّه أن ينظر إلى أورع أهل زمانه، فلينظر إلى محمد بن سيرين، فوالله ما أدركنا من هو أورع منه".
عن عاصم الأحول قال: "سمعت مورقًا العجلي، يقول: ما رأيت رجلًا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه، من محمد ابن سيرين".
وقال حماد بن زيد، عن عثمان البتي، قال: "لم يكن بالبصرة أحدٌ أعلم بالقضاء من ابن سيرين".
وقال أشعث: "كان ابن سيرين إذا سُئِل عن الحلال والحرام تغيَّر لونه حتى تقول: كأنَّه ليس بالذي كان".
قال هشام بن حسان: "اغتمَّ ابن سيرين مرَّةً فقيل له يا أبا بكر ما هذا الغم؟ فقال: هذا الغمُّ بذنبٍ أصبته منذ أربعين سنة".
وروي عن ابن سيرين أنه قال: «إنِّي لأعرف الذنب الذي حمل عليَّ به الدَّيْن ما هو، قلت لرجلٍ من أربعين سنة: يا مُفْلس».
وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: "لم يكن كوفي ولا بصري له مثل ورع محمد بن سيرين".
قال ابن شبرمة: "دخلت على محمد بن سيرين بواسط، فلم أرَ أجبن عن فتيا، ولا أجرأ على رؤيا منه".
قال يونس بن عبيد: "لم يكن يعرض لمحمد أمران في ذمَّته إلَّا أخذ بأوثقهما".
وقال هشام: "ما رأيت أحدًا عند السلطان أصلب من ابن سيرين".

عفة ابن سيرين
قيل: كان لا يطعم عند كلِّ أحد، وكان إذا دُعِي أجاب ولم يطعم، وكان إذا دُعِي إلى وليمةٍ يدخل في منزله فيقول: اسقوني شربة سويق، فقيل له في ذلك، فقال: أكره أن أحمل حدَّة جوعي على طعام الناس.

وكان قد سمع ابن سيرين رجلًا يسبُّ الحجاج بن يوسف فأقبل عليه، فقال: «مَهْ أيُّها الرجل، فإنَّك لو قد وافيت الآخرة كان أصغر ذنبٍ عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنبٍ عمله الحجاج، واعلمْ أنَّ الله تعالى حكمٌ عدل؛ إن أخذ من الحجاج لِمَن ظلمه فسوف يأخذ للحجَّاج ممَّن ظلمه، فلا تشغلنَّ نفسك بسبِّ أحد».

عبادة ابن سيرين
لقد كان لابن سيرين سبعة أوراد يقرؤها بالليل فإذا فاته منها شيءٌ قرأه من النهار، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وعن بشر بن عمر، قال: حدثتني أم عباد امرأة هشام بن حسان، قالت: كنا نزولًا مع محمد بن سيرين في داره، فكنَّا نسمع بكاءه بالليل وضحكه بالنهار.
وكان رحمه الله إذا مرَّ في السوق فجعل لا يمرُّ بقوم إلَّا يُذكِّرهم أن يسبِّحوا ويذكروا الله عَزَّ وَجَلَّ. وروي أنَّه رحمه الله ما كان يدخل السوق نصف النهار إلا ويُكبِّر ويُسبِّح ويذكر الله تعالى، فقال له رجل: يا أبا بكر في هذه الساعة؟ قال: إنَّها ساعة غفلة.

مزاح ابن سيرين وإنشاده الشعر
وقد كان ابن سيرين رحمه الله يتمثَّل الشعر، ويذكر الشيء ويضحك، حتى إذا جاء الحديث من السنة كَلَح (أي أفرط في عبوسه)، وانضم َّبعضه إلى بعض. وكان يعرف عنه أنه صاحب ضحك ومزاح، فكان يضحك حتى يستلقي.

تفسير الرؤى والأحلام وغرائب أخباره
أبو بكر محمد بن سيرين الإمام وشيخ الإسلام وأحد التابعين الكرام، والفقيه والمحدِّث ورائد تفسير الأحلام والرؤى، له سيرة عطرة تزخر بها كتب التراجم، فمن أغرب ما نقل عنه في ذلك أنه قال: من رأى ربَّه في المنام دخل الجنة.
- وقال رجلٌ لابن سيرين: رأيت كأنِّي أحرث أرضًا لا تُنبت، قال: أنت تعزل عن امرأتك.
- وقال له آخر: رأيت كأنِّي أطير بين السماء والأرض، قال: أنت رجلٌ تُكثر المني.
- وأتاه رجل فقال: رأيت كأنِّي ألعق عسلًا من جام من جوهر، قال: اتَّق الله وعاود القرآن فإنَّك قرأته ثم نسيته.
- ورأى رجلٌ في المنام كأنَّ في حجره صبيًّا يصيح، فقصَّها عليه، فقال: اتَّقِ الله ولا تضرب بالعود.
- وأتاه رجلٌ فقال: رأيت في المنام كأنِّي أشرب من بلبلةٍ لها شِعْبَان، فوجدت أحدهما عذبًا والآخر ملحًا، فقال: اتَّقِ الله، لك امرأةٌ وأنت تُخالف إلى أختها.
- وقال أبو قلابة: قال رجلٌ: رأيت كأنِّي أبول دمًا، قال: تأتي امرأتك وهي حائض؟ قال: نعم، قال: اتَّقِ الله ولا تعد.
- وقال مغيرة بن حفص: رأى ابن سيرين كأنَّ الجوزاء تقدَّمت الثُّريَّا فأخذ في وصيَّته وقال: مات الحسن وأموت بعده، وهو أشرفُ منِّي.
- قصَّ رجلٌ على ابن سيرين فقال: رأيتُ كأنَّ بيديَّ قدحًا من زجاجٍ فيه ماء، فانكسر القدح وبقي الماء. فقال له: اتَّقِ الله: فإنَّك لم ترَ شيئًا. فقال: سبحان الله. قال ابن سيرين: فمن كذب فما علي: ستلدُ امرأتك وتموت، ويبقى ولدها. فلمَّا خرج الرجل قال: والله ما رأيتُ شيئًا. فما لبث أن وُلِد له وماتت امرأته.

رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى محمد بن سيرين رحمه الله عن عدَّةٍ من الصحابة منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، وأنس بن مالك، وجماعةٌ غيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

فمما رواه رحمه الله عن أبي هريرة رضى الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ».
و-أيضًا- عنه رحمه الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا».

ولقد كان رحمه الله من أكثر الناس تمسكًا بالسنة ورواية الحديث، فرُوِي أنَّه كان يقول: "إنَّ هذا العلم دينٌ فانظروا عن من تأخذونه".
وقال: "كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فننظر إلى أهل السنة فنأخذ حديثهم، وإلى أهل البدعة فلا نأخذ حديثهم".
وعن عبد الله بن مسلم المروزي، قال: كنت أجالس ابن سيرين، فتركته وجالست الإباضية، فرأيت كأنِّي مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيت ابن سيرين فذكرتهم له، فقال: ما لك جالست أقوامًا يُريدون أن يدفنوا ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

وفاة ابن سيرين رحمه الله تعالى
اتَّفق المؤرخون على أنَّ ابن سيرين تُوفِّي بالبصرة سنة عشر ومائة (110هـ) بعد الحسن البصري بمائة يوم، قال حمَّاد بن زيد: مات الحسن أول رجب سنة عشر ومائة، ومات ابن سيرين لتسعٍ مضين من شوال سنة عشر ومائة.

وقد كانت وصيته رحمه الله: «ذِكْرُ مَا أَوْصَى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ، أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأُوصِيهُمْ بِمَا أَوْصَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَأُوصِيهُمْ أَنْ لا يَدَّعُوا أَنْ يَكُونُوا إِخْوَانَ الأَنْصَارِ وَمَوالِيَهُمْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ الْعَفَافَ وَالصِّدْقَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأَكَرْمُ مِنَ الزِّنَا وَالْكَذِبِ، وَأُوصِي فِيمَا أَتْرُكُ إِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ قَبْلَ أن أغيّر وصيّتي» .