السؤال:
الملخص:
سائلة ماتت أمُّها إثر غيبوية دخلت بسببها العناية المركزة، وكانت تدعو أن يشفيها الله عز وجل بإلحاح، لكنها ماتت، فأصابتها حالة من الاعتراض على قضاء الله، ووساوس الشيطان لا تتركها، وهي تسأل: هل وفاة أمها من القضاء المبرم أو من القضاء المعلق؟
التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
توفِّيَتْ والدتي منذ شهر، وحتى الآن لا أستطيع استيعاب خبر وفاتها، بل أشعر أنني في حلم، وقبل وفاتها بنحو أسبوعين، كانت والدتي في العناية المركزة في غيبوبة، وكان الأطباء يعطوننا أملًا في شفائها، وكانت أمارات الشفاء موجودة، وكنت خلال هذين الأسبوعين لا أكف عن الدعاء لها وأُلِحُّ على الله وأبكي كي يرجعها لنا بصحتها وعافيتها، وفي يوم وفاتها وقبل أن أعرف الخبر بنحو ساعة، كنتُ على سجادتي منهارة من البكاء والدعاء لها، ثم جاءني خبر وفاتها ووقع عليَّ كالصاعقة، ففقدت أعصابي وانهرتُ، وفعلت أشياءَ فيها اعتراض على قضاء الله، أستغفر الله العظيم منها، سؤالي: لِمَ لمْ يستجِبِ الله دعائي، ولم يُطِلْ في عمرها، وحرمني منها؟ فالشيطان يوسوس لي دائمًا، رغم أنني حمدتُ اللهَ واستغفرتُهُ، ولا اعتراض على قضائه، فهل وفاتها من القَدَرِ المبرمِ؛ أي: إن الله يعلم أنه لا الدعاء ولا الصدقة ولا غيره ينفعها؛ لأن قضاءه واقع لا محال، أو ذلك من القضاء المعلق؛ أي: إن االله يعلم أني سوف أدعو لها وأتصدق لرفع البلاء عنها، فيشفيها بقدرته؟ أريد جوابًا ينقذني من مداخل الشيطان ووسواسه، لا أريد أن أفكر كل يوم، صرتُ أخاف أن أدعوَ بشيء ويحدث العكس؟ أفتوني مأجورين.

الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لنا ولكِ الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: نسأل الله أن يرحم أمكِ وأن يغفر لها، وأن يجعلها من أهل الجنة، وأن يرزقكِ الصبر والاحتساب، وعليكِ التوبة مما بدر منكِ بالندم والاستغفار، والعزم على عدم العودة لمثلها، والصبر عند الصدمة الأولى؛ كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بعد فوات أوانه.
ثالثًا: دعاؤكِ لا يضيع، فهو بين ثلاثة: إما الإجابة، أو صُرف به بلاء، أو الادخار لكِ يوم القيامة وهو أعلى المراتب؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ))؛ [رواه أحمد (10749)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1633)].
قال ابن عبدالبر: (فيه دليل على أنه لا بد من الإجابة على إحدى هذه الأوجه الثلاثة)؛ [التمهيد (10/ 297)].
وقال الحافظ ابن حجر: (كل داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوع الإجابة: فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوِضه، وقد ورد في ذلك حديث صحيح))؛ [فتح الباري (11/ 95)].
رابعًا: القضاء المعلق هو ما بأيدي الملائكة، والمُبْرَم هو ما عند الله تعالى، وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قدَّر مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وذلك مكتوب عنده في أم الكتاب، ومن ذلك الآجال وغيرها، وكل ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا لا يتغير ولا يتبدل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعلم عاقبة الأمر ومآله؛ كما قال تعالى: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 29].
وأما ما ينسخ الملائكة، فهو الذي يقع فيه القضاء المعلق، فيُكتب عندهم: إن دعا فلان بكذا؛ فله كذا، وإن لم يدعُ فليس له، وإن وصل رحِمَهُ فعمره كذا، وإن لم يصل رحمه فعمره كذا، والملائكة لا يدرون أي الأمرين سيكون حتى يكون، وأما الله سبحانه وتعالى فإنه يعلم هل سيدعو أم لا، وهل سيصل رحمه أم لا؟ فالمآل عنده مكتوب، إذًا لا تعارُضَ بين القضاء المبرم والقضاء المعلق، فهو مبرم عند الله ومعلق لدى الملائكة، وقد يكون القضاء مبرمًا عند الله، ومبرمًا عند الملائكة إذا لم يكن معلقًا.
خامسًا: ينبغي للمؤمن أن يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومُرِّه من غير تعمق في أسراره، فمسائل القدر من المسائل التي لا ينبغي الخوض فيها؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ((إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذُكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا))؛ [أخرجه الطبراني وصححه الألباني في الصحيحة].
قال البغوي: "القدر سر الله لم يُطلِع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه من طريق العقل؛ بل يُعتقد أنه تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلًا، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ [الأعراف: 179].
فاعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطئكِ، وما أخطأكِ لم يكن ليصيبكِ.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.