لماذا حرَّم الدين الاسترسال في الخواطر الجنسية؟




أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

السؤال:
الملخص:
سائلة قرأت كثيرًا من الفتاوى حول العادة السرية ومشاهدة الإباحيات، وهي مقتنعة بأن العلاقات التي تقع خارج إطار الزواج علاقات محرمة، لكنها تسأل: لماذا حرَّم الشرع الخواطر الجنسية، فهو بذلك لم يجعل للإنسان غير المتزوج أي متنفس؟
التفاصيل:
السلام عليكم.
قرأت عددًا هائلًا من الفتاوى المتعلقة بالجنس والزواج، وخرجت بالاستنتاج الآتي: العادةُ السرية حرام ومشاهدة الأفلام الإباحية، أو حتى قراءة القصص ذات الطابع الجنسي حرام، والتخيلات الجنسية حرام، وصاحبها آثم، ناهيك عن العلاقات خارج الزواج، أتفق طبعًا مع تحريم الإباحيات والعادة السرية، والعلاقات خارج مؤسسة الزواج، أما تحريم التخيلات، فهو قمة التشدد والتطرف والعُسر، هناك شباب لا يستطيعون الزواج لأسباب مادية، وفتيات لهم نفس الشيء، ولديهن مشاكلُ نفسيةٌ تمنعهن من الزواج، وبتحريم كل شيء كيف يمكنهم التنفيس وتلبية رغباتهم الجنسية؟ نحن نتحدث عن بشرٍ، وليس كائنات آلية، والجنس غريزة، وإذا حرَّمنا حتى التخيلات، فكيف سيعيش هؤلاء وكل شيء محرمٌ، ويُعرِّض صاحبه للإثم والمعصية؟ أين هو اليُسر في الدين الذي قرأت عنه في أكثر من حديث وآية؟ أرجو ردًّا شافيًا، وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله صليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لنا ولكِ الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: أحسنتِ في قولكِ بتحريم العادة السرية، ومشاهدة الأفلام، وقراءة القصص ذات الطابع الجنسي، والإشكال عندكِ في التخيلات الجنسية، لماذا هي حرام؟
والجواب: أن الله عندما حرَّم الزنا، حرَّم مقدماته، وما يكون سببًا يؤدي إليه، فحرَّم النظر للنساء، وأمَرَ بغضِّ البصر للرجال والنساء؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].
وحرَّم الخلوة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يخلُوَنَّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو مَحْرَم))؛ [متفق عليه].
وحرَّم الاختلاط بين الرجال والنساء؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 53].
وحرَّم كل ما يُثير الشهوات؛ كالنظر للمحرمات، وكذا التفكير فيها، والاسترسال معها؛ حتى لا يكون ذلك دافعًا للمحرم، فالله حرَّم الحرام وكل ما يُوصِّل إليه، لذا هناك من المحرمات ما حُرِّمت سدًّا للذريعة؛ أي: سدًّا لباب الفتن والشهوات، وقاعدة سد الذرائع تقوم على المقاصد والمصالح، فهي تقوم على أساس أن الشارع ما شرع أحكامه إلا لتحقيق مقاصدها من جلب المصالح ودَرْءِ المفاسد، فإذا أصبحت أحكامه تستعمل ذريعةً لغيرِ ما شُرعت له، ويتوسل بها إلى خلاف مقاصدها الحقيقية، فإن الشرع لا يُقرُّ إفساد أحكامه وتعطيل مقاصده.
ومن المعلوم أن التخيلات لا تكون إلا بعد نظرٍ وتدقيقٍ وتشهٍّ وتلذذ، فهي ثمار ونتيجة لما قبلها من محرمات.
ثالثًا: ومع ذلك إذا كانت هذه الأفكار والتخيلات عبارة عن خواطر عابرة، ولم تستقر ولم يسترسل معها المرء، فيُعفى عنها ولا يُؤخذ بها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعمَلُوا بِهِ))؛ [رواه البخاري: (2528)، ومسلم: (127)].
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: "وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه: فمعفوٌّ عنه باتفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه"؛ [الأذكار (ص: 345)].
فالشريعة الإسلامية شريعة الفطرة، جاءت منسجمة مع الطبيعة البشرية، وملائمة للتقلبات النفسية التي جعلها الله سبحانه وتعالى جزءًا من التكوين البشري، فلم تتعدَّ حدود الممكن، ولم تُكلِّف بما لا يُطاق.
والتخيلات العارضة تدخل في دائرة حديث النفس المعفوِّ عنها بنص الحديث السابق، فكل من تصوَّرت في ذهنه خيالات محرمة، طرأت ولم يطلبها، أو حضرت قَسرًا ولم يَستَدْعِهَا - فلا حرجَ عليه، ولا إثم، وإنما عليه مدافعتها بما يستطيع.
قال الإمام محمد العبدري المعروف بابن الحاج المالكي: "ويتعين عليه أن يتحفظ في نفسه بالفعل، وفي غيره بالقول، من هذه الخصلة القبيحة التي عمَّت بها البلوى في الغالب، وهي أن الرجل إذا رأى امرأةً أعجبته، وأتى أهله جعل بين عينيه تلك المرأة التي رآها".
وهذا نوع من الزنا؛ لِما قاله علماؤنا رحمة الله عليهم فيمن أخذ كُوزًا يشرب منه الماء، فصوَّرَ بين عينيه أنه خمر يشربه، أن ذلك الماء يصير عليه حرامًا.
وما ذُكر لا يختص بالرجل وحده، بل المرأة داخلة فيه، بل هي أشد؛ لأن الغالب عليها في هذا الزمان الخروج، فإذا رأتْ مَن يعجبها تعلق بخاطرها، فإذا كانت عند الاجتماع بزوجها جعلت تلك الصورة التي رأتْها بين عينيها، فيكون كل واحد منهما في معنى الزاني، نسأل الله السلامة منه.ولا يقتصر على اجتناب ذلك ليس إلا، بل ينبه عليه أهله وغيرهم، ويخبرهم بأن ذلك حرام لا يجوز؛ [المدخل: (2/ 194 - 195)].
وقال ابن مفلح الحنبلي: "ذكر ابن عقيل وجزم به في الرعاية الكبرى: أنه لو استحضر عند جماع زوجته صورةَ أجنبيَّةٍ محرَّمَةٍ أنَّه يأثم... أما الفكرة الغالبة، فلا إثم فيها)؛ [الآداب الشرعية: (1/ 98)].
رابعًا: علاج التخيلات:
1- الابتعاد التام عن كل ما يثير تلك التخيلات من الأفلام والمشاهد المحرمة التي تعرضها الفضائيات، والابتعاد عن قراءة القصص التي تُولِّد تلك التخيلات؛ قال الغزالي في إحياء علوم الدين: (1/ 162): "وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع موادِّها؛ أعني: النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها، وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر".
2- المحافظة على الأذكار الشرعية، وخاصة التي تدفع وساوس الشيطان.
خامسًا: أما قولكِ: (هناك شباب لا يستطيعون الزواج لأسباب مادية، وفتيات نفس الشيء لديهن مشاكل نفسية تمنعهن من الزواج، وبتحريم كل شيء، كيف يمكنهم التنفيس وتلبية رغباتهم الجنسية؟).
فهذا ليس صحيحًا، فالتخيلات ليست سبيلًا لسدِّ رغبات الشباب، بل تزيد الأمر تعقيدًا، فالتفكير يزيد من الشهوة، الذي يؤدي للعادة السرية، وأنتِ بنفسكِ ذكرتِ حرمة العادة السرية، فتلك التخيلات ليست متنفسًا، بل هي الخناق ومن حبائل الشيطان، وأما الشباب، فعليهم بالزواج ومن لم يستطع، فعليه بالصوم والإكثار منه؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعنعبدالله بن مسعودقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، مَنِ استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))؛ [متفق عليه].
ولو كانت تلك التخيلات سبيلًا لأذِن فيها الشرع، وجعلها علاجًا مع الصوم، أو بديلًا له، والله أعلم.
وللفائدة ينظر استشارتنا: (الأفكار الجنسية وكثرة نزول المذي والمني).
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.