نقد كتاب خطوات فى فقه التعايش والتجديد -تعقبات الشيخ علوى عبد القادر السقاف
بدايةً تجدُر الإشارةُ إلى أنَّ المؤلِّف قد ذكَر أمورًا في كتابه هذا، هي محلُّ اتِّفاق، ولو التُزم بها لأثمرت ثمارًا يانعة، ولأسهمت في رَأْبِ الصَّدع، ولَمِّ الشَّعث، وفي وإصلاح الأمَّة بقَدْر كبير؛ من ذلك: لزومُ مراعاة أدَب الخِلاف، وحسُن التعامُل معه، والتفريق بين أنواعه. والحرصُ على إظهار رُوح التسامُح وعدم التنازُع المؤدِّي إلى الفُرقة والتطاحُن والتباغُض. ومن ذلك: التأكيدُ على أنَّه من الخطأ محاولةَ إلزام الناس برأي وبمذهب واحد في المسائل الخلافيَّة الاجتهاديَّة. ووجوبُ الإقرارِ بالاختلاف والتنوُّع كواقِع، مع وجوب حُسن التعامل معه برُقي، وإدارته بحِكمة. ومن ذلك: التأكيدُ على لُزوم العدْل والإنصاف عند الاختلاف. ومن ذلك أيضًا: التنبيه على خَطأ التجرُّؤ والمسارعة في التكفير والتبديع، والمبالغة والشَّطط في هذا، وأنَّ الخطأ في العفو أهونُ من الخطأ في العقوبة. ومن ذلك: تأكيدُه على الحِرص على إظهار محاسن الإسلام، والتَّأكيد على لزوم الجِدِّ والعمل، والاستفادة من كلِّ نافع ومفيد، حتى ولو كان عندَ غير المسلمين، ومن ذلك: التأكيد على دَوْر المجامع الفقهيَّة والعلميَّة، وأهميَّة الرُّجوع إليها في الملمَّات والمسائل التي تتعلَّق بمصالح المسلمين العامَّة، وكذلك تأكيده على التيسير المنضبِط بقواعده الشرعيَّة من غير شطط، أو تساهُل، أو تمييع لقضايا الدِّين... إلى غير ذلك من الأمور الجيِّدة والمتَّفق عليها في الجملة.
لكن للأسف، لم يَكتفِ المؤلِّف بذكر هذه المسائل المهمَّة، والتي أحسن في طَرْحها، بل أردفها بمسائلَ أخرى لم يُصِب فيها، وعليها كثيرٌ من المؤاخذات.
وقَبل الحديث عن هذه المؤاخذات، تَحسُن الإشارة إلى بعض الأصول والثوابت ذات الصِّلة بهذا الموضوع، ولكنَّها أحيانًا ما تغيب عن كثيرٍ من المتحدِّثين فيه:
فمِن هذه الثوابت: أنَّ الحقَّ واحدٌ لا يتعدَّد، وأنَّ الدِّين الحقَّ ودِينَ الأنبياء كلهم هو الإسلام، وأنَّ شريعةَ الإسلام هي الشريعةُ الخاتِمة لكلِّ الشرائع، وأنَّه يلزم جميعَ أهلِ الأرض الانقيادُ لها، والنُّزولُ على حُكمها، بعدَ العلم بها وبلوغها إيَّاهم؛ قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال عزَّ من قائل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((والذي نفسُ محمَّدٍ بيده، لا يَسْمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمَّةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يُؤْمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كان مِن أصحابِ النارِ))، رواه مسلم (153).
ومن هذه الأصول: وجوبُ مولاة أهلِ الحقِّ المؤمنين، ومعاداة أهلِ الباطل الكافرين؛ درأً للفِتنة، ودفعًا للفَساد العَريض؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}... إلى قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 72- 73]، أي: إلَّا يُوالِ المؤمن المؤمنَ من دون الكافر تكُن شُبهةٌ في الحقِّ والباطل، وظهور الفساد في الأرض.
والمقصود هنا: هو وجوب المفاصَلَة، ومعرفة مَن المحِقِّ ومَن المبطِل؛ حتى لا يختلط الأمرُ على الناس، وحتى لا تحدُث الفِتنة، فنسمع مَن يقول من المسلمين: إنَّ النصارى واليهود الآن إذا صَدَقوا والْتَزموا بدِينهم؛ فهُم من أهل الجنة! أو مَن يقول: إنَّ الآياتِ التي نزلت في كُفر اليهود والنصارى هي في قُدمائهم! وكل هذا قد وقَع بالفِعل!!
ومن هذه الأصول: أنَّ العِزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين فقط، وأنَّ الكافر قد أذلَّ نفْسَه بكُفره، وبُعده عن الحقِّ؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
وبيان هذه الأصول غيرُ منافٍ للتعايش على أساس البِرِّ والعَدل والإقساط لِمَن لم يُقاتلْنا في الدِّين، ولم يُخرِجنا من دِيارنا، ولم يُظاهِرْ على إخراجنا، كما أمَرنا ربُّنا تبارك وتعالى بذلك.
فكل هذه الأصول والثوابت هي في الحقيقة غَيرُ مناقِضةٍ لفقه التعايش والتجديد، بل الواجبُ هو الانطلاقُ مِن خلالها، والتعايُش على أساسها، وإلَّا وقعتِ الفِتنة والفَساد، والْتَبس الحقُّ بالباطِل، كما أخبَر بذلك ربُّنا تبارك وتعالى؛ {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
والمَأْخَذ الأخطر في هذا: أنَّ الحديث في هذا الجانب (التعايش السِّلمي- المواطنة...إلخ) كثيرًا ما يَنحَى بالمرء أن يخالف هذه الأصول؛ لتوهُّم أنَّها مخالفةٌ له، والحقيقة على خِلاف ذلك؛ فالواجب هو الاعتزازُ بالحقِّ، ونَصرُه، والتمسُّكُ به، والدَّعوةُ إليه بالحِكمة والموعظة الحسَنة، مع عدم المداهنة (جِهاد البيان)، وأحيانًا بالغِلظة على الظالمين المتكبِّرين، والمعاندين والمانعين مِن تبليغ دعوة الإسلام بجِهاد السِّنان، وكل هذا قد جمَعَه مَن أُوتي جوامعَ الكَلِم صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: ((... اغْزُوا باسمِ الله، في سبيلِ الله، قاتِلوا مَن كفَر باللهِ، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تَقتُلوا وليدًا، وإذا لقِيتَ عدوَّك من المشركين فادعُهم إلى ثلاثِ خصالٍ (أو خلالٍ)، فأيتهنَّ ما أجابوك فاقبلْ منهم وكفَّ عنهم: ثم ادعُهم إلى الإسلامِ، فإنْ أجابوك، فاقبلْ منهم وكفَّ عنهم... إلى أنْ قال: فإن هم أبَوا، فسَلْهم الجزيةَ، فإنْ هم أجابوك، فاقبلْ منهم وكفَّ عنهم، فإنْ هم أبَوْا، فاستعِنْ بالله وقاتِلْهم)) رواه مسلم (1731).
فالغزو هنا ابتداءً؛ طلبًا لنَشر دِين الحقِّ، وإظهارًا له على الدِّين كله، ويكون لمن (كفَر بالله)، ومع ذلك يُلتزَم بأخلاقه الحسَنة؛ فلا غُلولَ، ولا غَدرَ، ولا تمثيلَ بالمقتولين من المحارِبين، ولا قَتْلَ لِمَن ليس أهلًا للقِتال ما لم يُقاتل، ومع ذلك ففي الغَزو لا يُبدأ بالقِتال والحرب! بل يُبدأ بعَرْض الحقِّ، والدَّعوة إلى الإسلام أولًا، فإنْ أبَوا عُرِض عليهم النُّزولُ على حُكمه (دفع الجزية) ثانيًا، فإنْ أبَوا فقدِ اختاروا هم القِتالَ والحَرْبَ؛ دِفاعًا عن باطلِهم، وإباءً للنزول على حُكم الحقِّ، فحقَّ قتالُهم وقتلهم.. وهذا أمْر الله تعالى، وأمْر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذه حِكمتُه سبحانه وقضاؤه؛ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}