خطبة الحرم المكي
- الأخذ بالأسباب المشروعة من الطاعات التي أمر الله باتخاذها


مجلة الفرقان




جاءت خطبة الجمعية في الحرم المكي بتاريخ 12 من المحرم 1443هـ - الموافق 20 / 8 / 2021م، لإمام الحرم المكي الشيخ الدكتور. سعود الشريم عن التقوى، مبينًا أن أعظم وصية في البذل هي الوصية بتقوى الله -جل شأنه-، فهي للمؤمن زمام وعن الهوى خطام، بها الاستقامة في الدنيا والنجاة في الأخرى برحمة أرحم الراحمين، فلا خاب من اتقاه، ولا خسر من سلك سبيله {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}.

وبين الشيخ الشريم أن من سنن الله على عباده أفرادا وجماعات أن يريهم آياته في الأفاق وفي أنفسهم، ويبتليهم بالمحن وشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات؛ تمحيصًا منه وامتحانًا؛ ليميز الصابر من الساخط، والعامل من القاعد، فمن صبر فيها ربح وعلم أن كلًّا من عند الله، وأنه رب ضارة نافعة، ورب منح في طيات محن، ومن سخط فيها فله السخط، والخيبة في الحال والمآل.

علامات التوفيق في المحن

ثم أشار الشيخ إلى أن من علامات التوفيق في المحن أن يخرج العبد منها بحال أحسن من التي قبلها من الإيمان بالله، والوعي، والإدراك، والاتعاظ من تلك الابتلاءات التي حلت بعالمنا اليوم من هذه الجائحة الصحية التي جرحت بمخالبها جسد العالم أجمع، فكان لها -خلال عامين متتاليين- انعكاسات سلبية في الصحة والاقتصاد والتعليم وسير الحياة العامة، ولقد أربكت تلك الجائحة العالم بأسره على ما فيه من قوة ومناعة وتمكين.

التوكل على الله

وأضاف فضيلته: إننا إذ نترقب انتهاءها، ينبغي لنا ألا نستهين بالجهود التي بذلت في رفعها، وألا نستخف بمتحوراتها المتجددة التي تغزو العالم حينا تلو الآخر، بل يجب علينا أن نستصحب فيها التوكل على الله مع بذل الأسباب؛ إذ هما أساسان رئيسان في أبجديات مكافحتها؛ فإن التوكل على الله لا يحجب الأخذ بالأسباب المشروعة، وأن الأخذ بالأسباب المشروعة لا يخدش التوكل، بل إنه ضرب من ضروب طاعة الله التي أمر باتخاذها، مع الإيمان بأنها ليست مستقلة بنفسها، وإنما مسببها هو الله -جلت قدرته-، فهي والتوكل -عباد الله- كجناحي الطائر للاستقرار في جو الرضا بالله والعمل والارتقاء، فلا أخذ بالأسباب دون توكل، ولا توكل دون الأخذ بالأسباب، والموفق من أحسن الجمع بينهما؛ لأن الأخذ بالأسباب دون توكل غرور ماحق، والتوكل دون الأخذ بالأسباب قصور ظاهر.

كمال الإيمان

وقد أورد إمام الحرم كلاما لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن بعض السلف قولهم: بأن التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، وطرح الأسباب قدح في العقل، وتعطيل الأسباب قدح في التشريع، وكمال الإيمان والعقل والشرع أن يجمع العبد بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله -تعالى- ولا عجب في ذلك؛ فإن الله قد قرن معجزات الأنبياء بالعمل أخذا بالأسباب، فقد قال لنوح -عليه السلام-: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، وقال لموسى -عليه السلام-: {واضرب بعصاك البحر}، {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، وقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}، ولقد مكن الله ذا القرنين وآتاه من كل شيء سببا، ولم يكن ذلك مانعا من فعل الأسباب؛ حيث قال: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}.

الأخذ بالأسباب

وقد أكد الدكتور الشريم أن الأخذ بالأسباب من لوازم العيش في هذه الحياة دينا ودنيا، وإن التهاون فيها قعود مرد وتوكل خداج، وقد روى مسلم في صحيحه أن ربيعة الأسلمي - رضى الله عنه- سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - مرافقته في الجنة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك؟ فقال ربيعة هو ذلك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأعني على نفسك بكثرة السجود» انظروا كيف طلب منه فعل السبب مع أن دعاءه مستجاب، وقد روى ابن أبي الدنيا عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لقي ناسًا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون. فقال: «بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض، ويتوكل على الله».

أهم ما ترفع به تلك الجائحة

ثم لفت فضيلته الانتباه إلى أهم ما ترفع به تلك الجائحة الجاثمة بعد الله -تعالى- فقال: إن من أنجح الأسباب لرفع هذه الجائحة التداوي بأخذ اللقاح المختص بها، كيف لا؟ وقد أقره خبراء العالم المختصون، وتبنته المنظمات الصحية العالمية والمحلية، واعتمدته الدول والحكومات التي يتعذر أمامها التردد أو التشكيك فيها، فلأجل ذلكم يتعين على الناس جميعا في هذه المرحلة رفع سقف الوعي وإحسان التعامل مع الأزمة والخروج منها بأقل الأضرار.

تتبع الشائعات المشككة

ثم حذر إمام الحرم من تتبع الشائعات المشككة، والإرجاف المروع، والتخليل المثبط، وبين أنه من أكبر معوقات إنهاء الجائحة الفاتكة، إنها شائعات يشكك بها مشبعوها في لقاحات الجائحة دون بصيرة، وإنما دافعهم في ذلك الانقياد للتهويش، والاستسلام للتشويش والتأثر بالتهويل؛ ما جعل المترددين في أخذ تلك اللقاحات يبنون ترددهم على خيوط تلك الإشاعات التي هي أوهى من بيت العنكبوت، لا خطام لها ولا زمام، فهم بذلك يعطلون إتمام رفع الجائحة بالأسباب التي هيأها الله لعباده فضلا منه ورحمه، وإن الانقياد وراء الشائعات يضر ولا ينفع، ويؤخر ولا يقدم، ويفرط منظومة الوعي فتتطاير خرزها، فإنه ما دخلت الشائعات في مجتمع إلا شانته، ولا نزعت منه إلا زانته، ولو لم يكن من أضرارها إلا التشكيك في الجهود والدراسات المعتمدة لكفى.

المشككون في اللقاحات

وعن المشككون في اللقاحات قال الشريم: كيف يقدحون في إجماع عالمي على نفعها، بل ونعجب حين لا نرى لأولئك المشككين تحوطات في لقاحات الأدواء الأخرى كما نراه لهم في التحوط للقاحات هذه الجائحة، فإننا نجدهم يأخذون من الأدوية ذات الأثار السلبية دون سؤال أو احتياط، وربما أخذوا ولا يبالون لقاحات ليست في درجة لقاحات الجائحة من حيث المصداقية والاعتماد، فهم يعمون عن كثير من إهمالهم وممارساتهم الخطأ في الغلاء والصحة، ويتنطعون في لقاح الجائحة، لا يبصرون الجبل الماثل أمام أعينهم ويحدقون بأبصارهم، فحال هؤلاء كحال من يتساهل في الدماء ويسأل عن قتل البعوض في الحرم!


بوادر انحسار الجائحة

ثم قال الشيخ الشريم: إنه -بحمد الله- نرى بوادر انحسار تلك الجائحة باديًا على الأبواب إن مضى الناس على فعل ما يجب علينا جميعا، فنكون يدا واحدة في تشييع تلك الجائحة خارج واقعنا إلى غير رجعة -بإذن الله-، ولن يكون ذلك إلا بشعورنا جميعا بالمسؤولية، فلن يعود عمل متكامل بعد الله إلا بتعاوننا ووعينا، ولا تعليم منضبط إلا بمبادرة باللقاح، ولا عودة لتجارة ناجحة ولا معيشة مستقرة دون هذا الشعور الواعي.