الضوابط المتعلّقة بإدارة الوقف ونمائه - هل للوقف شخصيّةٌ اعتباريّة؟


عيسى القدومي




باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه، ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص ثم من القواعد الفقهية الكلية ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضوابط المتعلّقة بإدارة الوقف ونمائه، والضابط الأول وهو هل للوقف شخصيّةٌ اعتباريّة؟

شخصية الإنسان هي «نسبة صلاحيته لثبوت الحقوق له أو عليه، لأنّ خواصّ الإنسان القانونيّة لا تتوافر بدرجة واحدةٍ عند كلّ النّاس، فبينما يتمتّع بها الإنسان البالغ الرشيد كاملةً، تضعُف كثيراً عند البعض كالصبيّ المميّز والسّفيه، وتضعف أكثر عند الصبيّ غير المميّز والمجنون، فبقدر توافر الخصائص الإنسانيّة تكون نسبة الشخصيّة في نظر القانون».

معنى الشخصيّة الاعتباريّة

ولمّا كانت هذه الأهليّة لثبوت الحقوق والواجبات لجهةٍ ما، ليست قاصرةً على الإنسان، فقد تضمّن الفقه الإسلاميّ معنى الشخصيّة الاعتباريّة الذي عُرف بهذا الاسم لاحقاً في الاصطلاح القانونيّ الحديث، «على أنّ فقهاء المسلمين وإن لم يعرفوا تعبير الشخصية المعنويّة أو الاعتباريّة فقد عرفوا معناها حين بحثوا في الذمّة، وبيّنوا معناها، وجعلوها في الإنسان الحيّ، لكنهم اضطروا لأن يقولوا بوجود ذمّة لما لا يَعْقِلُ، كالوقف والمسجد وبيت المال وغيرها، حين وجدوا أن كثيراً من المعاملات لا تستقيم إلا إذا كانت لها ذمّة منفصلة».

إذا عرفنا هذا، فالشخصيّة الاعتباريّة هي «شخص يتكوّن من اجتماع عناصر، أشخاص أو أموال، يقدّر له النّظام كياناً حقوقيًّا مستمدًّا منها، مستقلًّا عنها، كالمؤسّسات والشركات العامّة والخاصّة».

ظهور المصطلح

«ويرجع ظهور هذا المصطلح كظاهرة قانونيّة إلى التطوّر القانوني الذي طرأ على المؤسسات والشركات بعد الثورة الصناعيّة، فقد عُهد إلى تلك المؤسسات القيام بأعمال ضخمة وهامّة اقتضت تضامن الشركاء والأعضاء، ووجود من يمثّلهم ويلتزم باسمهم نظراً لكثرة أعمالها وتنوّعها، وحاجتها إلى مجهودات فنيّة، ممّا أدّى إلى اعتبار رأس المال بالمؤسّسة مملوكاً لها، وليكون له استقلاله وأمنه من أن يتعرّض لاختلاف الأعضاء في رغباتهم ومنازعاتهم، فضلاً عمّا في ذلك من عدم تعرّض أموال الأعضاء الخاصّة للخطر إذا ما عجزت المؤسسة عن الوفاء بالتزاماتها».

الملامح القانونيّة للشخصيّة الاعتبارية

وقد نصّت بعض القوانين المدنيّة المعمول بها، على أنّ من الملامح القانونيّة للشخصيّة الاعتبارية أنّه:

- يتمتع الشخص الاعتباري بالحقوق جميعها إلا ما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية، وذلك في الحدود التي يقررها القانون.

- يكون للشخص الاعتباري: ذمّة ماليّة مستقلة، وأهليّة في الحدود التي يعيّنها سند إنشائه أو التي يقررها القانون، وحقّ التقاضي، وموطن مستقل، ويعد موطنه المكان الذي يوجد فيه مركز إدارته.

هل للوقف هذه الشخصية؟

ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّ الوقف له شخصيّة اعتباريّة، فإذا انعقد انعقاداً صحيحاً، فإنّ له ذمّةً مستقلّةً عن ذمّة الواقف، وذمّة الموقوف عليه، فيستحقّ الوقف، ويُستحقّ عليه، ويكون طرفاً في العقود من بيع وإجارةٍ، وغير ذلك، قال الخرشي: «الموقوف عليه يُشترط فيه أن يكون أهلاً للتملُّك، حكماً كالمسجد، أو حسًّا كالآدميّ».وقال الدسوقي: «قوله: وصحّ الإيصاءُ لمسجدٍ، أي: لصحّة تمَلُّكِه للوصيّة، بخلاف الحيوان والحجر مثلاً، فلا تصحّ له».

مؤسسات الوقوف

«... ومؤسسات الوقوف تملك ملكاً عن طريق التوسع... وهو الملك الحكميّ، وكان ملكها حكميًّا لأنّ مؤسسات الوقف لا تملك من ذاتها عقلاً يدبّر لها أمرها، ولا نفساً تستمتع بالملك وثماره كما هو الحال بالنسبة للإنسان، فانتفت عنها هذه المظاهر الحسية للملك وثبتت للإنسان، ولما كانت هذه المظاهر الحسية من ناحية أخرى غير معطلة في مؤسسات الوقف بالكلية؛ إذ يقوم الناظر ومعاونوه بتدبير ما يحتاج إلى التدبير فيها، وتتمتع جهات المصرف بالملك وثماره، كانت ملكيّتها حكميّة؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة تتمخض في النهاية لجهة الوقف وعليها».

إقرار الفقهاء بالشخصيّة الاعتباريّة

ومن مظاهر إقرار الفقهاء بالشخصيّة الاعتباريّة للوقف، وإجرائهم الأحكام بناءً عليها وإن لم يكونوا يعبّرون عن هذا المعنى بهذا اللّفظ، ممّا يصلح دليلاً على مذهبهم في اعتمادها، أنّهم صحّحوا الوقف على الوقف، وصحّحوا الوصيّة للوقف، وقد سبقت الإشارة إلى هذا، وصحّحوا الهبة للوقف كذلك.

«ومن الواجبات عليه: ثبوت الدّين في ذمّته، وما يجب عليه بالجناية على غيره، وكالإجارة، فإنّ حقوقها ترجع إلى الوقف، وكذا لو دفع النّاظر الأرضَ مزارعةً، والشجر مساقاةً، ثمّ مات أو عُزل قبل انقضاء الأجل، لم يبطل العقد، ومن ذلك الاستدانة على الوقف عند المصلحة، والاستئجار له، والشراء له نسيئةً، إلى غير ذلك، وثبوت الحقوق والواجبات رُكنا الشخصيّة».

هذه الفروع وغيرها كلُّها تدلُّ على تقرير جمهور الفقهاء لمعنى الشخصيّة الاعتباريّة للوقف، ولولا ذلك لما صحّت أكثر هذه الأحكام.

وقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ الوقف ليس له شخصية اعتباريّة، قال ابن نُجيم: «الاستدانة لأجل العمارة حيث لم يكن غلّة، قال في «الذخيرة»: قال هلال: إذا احتاجت الصدقة إلى العمارة وليس في يد القيّم ما يعمرها، فليس له أن يستدين عليها؛ لأنّ الدَّيْن لا يجب ابتداءً إلا في الذمّة، وليس للوقف ذمّة». وقول الجمهور أظهر وأرجح، لقوّة مأخذه وظهور العلّة في الفروع التي سقناها معه، ولذلك قال الأستاذ مصطفى الزرقا: «إنّ أحكام الوقف في الإسلام تقوم على أساس اعتبار الوقف في النّظر الفقهيّ، مؤسسة ذات شخصية حكميّة، لها ذمّة ماليّة وأهليّة، لثبوت الحقوق لها وعليها، يمثّلها من يتولّى إدارة الوقف...فالوقف يُعدُّ بذلك في زمرة الأشخاص الحكميّة».

الوقف لا ذمّة له

ثمّ ذيّل الشيخ تعقيباً على قول الحنفيّة، فقال -رحمه الله-: «يُلحظ هنا أنه قد ورد في كلام بعض الفقهاء أنّ الوقف لا ذمّة له، وإنّما تثبت ديونه في ذمّة متولّيه أوّلاً، فتُؤخذ من ماله أو تركته لو متوفّى، ثمّ يرجع هو أو ورثته بها في مال الوقف، ولكن للفقهاء نصوصاً أخرى بخلاف ذلك، تفيد ثبوت الدّيون على الوقف رأساً بلا واسطة ذمّة المتولّي، وهذا هو الرأي السّديد المتّفق مع فكرة الشخصيّة الحكميّة، أمّا الرأي الأوّل فهو لفٌّ ودوران! لا حاجة إليه، وفيه غفلةٌ من أصحابه عن خصائص الشخصيّة الحكميّة، لأنّ الذّمّة الماليّة لا تختصّ بالشخص الطبيعي، والأحكام الفقهيّة تؤيد ذلك، ونصوص الفقهاء في بيت المال وذمّته، بل وذمم فروعه أيضاً، لا تدع ريباً في ذلك».

كلمة اتفاق

وفي الواقع، فإثبات الشخصيّة الاعتباريّة للوقف ينبغي أن يقال بأنّه كلمة اتفاق! لأنّ الذين أنكروا أن تكون للوقف ذمّة كالحنفيّة، أجرَوْا بعض الأحكام التي لا تستقيم إلا باعتبار الذمّة له، فالذي يظهر أنّهم يقرّون بالمعنى، وإن كانوا يتحفّظون على اللفظ، وذلك كما تراه في المنقول عن الحنفيّة فيما إذا احتاج الوقف إلى الترميم على نحو لا بدّ منه، وكذا إذا وجب خراجُ الأرض الوقفيّة ولم يكن ثمّةَ غلّةٌ يُؤدَّى منها، فإنّهم جوّزوا أن يستدين المتولّي على الوقف بإذن القاضي في بعض الأنواع، وبغير إذنه في أنواع أخرى.

تطبيقات القاعدة

- الوقف يملكُ بنفسِه ملكاً حكميًّا، فلو أُوصي له بشيءٍ، أو وُهِبَ له، أو وُقِفَ عليه، صحّ كلّ ذلك.

- إذا دفع ناظرُ الوقف الأرضَ الموقوفةَ مُزَارعةً، أو الشجرَ الموقوفَ مُساقاةً، ثمّ مات النّاظر قبل انقضاء العقد، لم ينفسخ العقد.