زهرة الدنيا، كم قتلت عشاقها!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإليكم صورةً لروضة من رياض العِلم الشريف:
♦ الشيخ: هل لكم يا إخواني في تذوُّق بعض حلاوة بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم، والسموِّ إلى رحاب الأفق الواسع من وصايا الخير الجامعة؟
♦ الطلاب: نحن لا نستغني عن تعلُّم هذه الفوائد، وكلُّنا شوق إلى سماع هذا الخير العميم.
♦ الشيخ: نقف اليوم مع حديث عظيم في صحيح الإمام مسلم رحمه الله ومن عِظَم هذا الحديث؛ جعله الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم بابًا مستقلًّا، لم يذكر فيه غيرَه، سماه باب: "التحذير من الاغترار بزينة الدنيا وما يبسط منها"، اقرأ يا بُني هذا الحديث.
♦ الطالب: روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، فقال: «لا والله، ما أخشى عليكم أيها الناس إلا ما يُخرِج اللهُ لكم مِن زَهْرة الدنيا»، فقال رجل: يا رسول الله، أيأتي الخيرُ بالشرِّ؟ فصمَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ساعةً، ثم قال: «كيف قلتَ»؟، قال: قلتُ: يا رسول الله، أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الخير لا يأتي إلا بخير، أَوَخَيْرٌ هُوَ؟! إن كل ما يُنبِتُ الربيعُ يَقتُلُ حَبَطًا أو يُلِمُّ، إلا آكلةَ الخَضِر، أكَلتْ حتى إذا امتلأتْ خاصرتاها، استقبلَتِ الشمسَ ثَلَطَتْ أو بَالَتْ، ثم اجترَّتْ فعادت فأكَلتْ، فمَن يأخُذْ مالًا بحقِّه يُبارَكْ له فيه، ومَن يأخذْ مالًا بغير حقِّه فمَثَلُه كمَثَلِ الذي يأكل ولا يشبع».
♦ الشيخ: فتح الله عليك.
♦ الطالب: معذرةً شيخَنا، فلِبُعدنا عن هذه البلاغة الظاهرة، نودُّ منكم توضيحًا مفصلًا للحديث، وما يحويه من حِكَمٍ وفوائدَ.
♦ الشيخ: إن هذا الحديث دعوةٌ للتأمُّل في عواقب الأمور؛ لأن مَن رُزِقَ بصيرةً يرى بها نهايةَ الطريق قبل أن يسلكه، نال الخير، ونجا مِن الشر، ومَن لم يرَ العواقب، عاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة، وبالتعب ما رجا منه الراحة، وقد أمر الله جل وعلا بالاعتبار فقال: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
لقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فحذَّر الصحابةَ من الفتنة بزهرة الدنيا وزينتها، وحسنها وبهجتها ونضارتها، وما فيها من أنواع المتاع، مما يغترُّ الناسُ بحُسنه، ويتعجبون من بديع منظره، مع قلَّة بقائه، تمامًا كزهرة النبات، تغرُّ الخلقَ بحسنها وطيب رائحتها، برغم قلة بقائها، وقصر عمرها، وبرغم أنه يعقبها ثمارٌ يانعة، هي خيرٌ منها وأبقى، وكذا متاع الدنيا، قصير زائل، أين مُلْك فرعون القائل: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]؟! وأين مال قارون القائل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] ﴾؟! وأين قوة عاد الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]؟! لقد فُتِنوا كلُّهم بزهرة الحياة الدنيا، وكانت تلك المنحُ التي وُهبتْ لنفوس مريضة سببًا في تمرُّدِهم وطغيانهم.
وأمام هذا التحذير النبوي الكريم، تفطن أحدُ الصحابة الأجلاء إلى عِظَم هذه القضية، التي استدعتْ قيامَ النبي صلى الله عليه وسلم وخُطبتَه، وقسمَه بالله، وخشْيتَه عليهم، فسأل سؤالَ المستفهمِ المستزيد: كيف تكون زهرةُ الدنيا، المشتملة على أنواع الخير من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث - مؤديةً إلى الشر؟
عندها سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنزُّل الوحي عليه؛ حيث ذكر الإمام مسلم رحمه الله في بعض طرق الحديث قولَ الصحابيِّ رضي الله عنه: "ورُئِينَا أنه يُنزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرُّحَضَاء"، والرحضاء هو العرق الكثير، الناجم عن ثقل أمانة الوحي، وهذا يدل على مكانة هذا الأمر وعظيم شأنه، ثم أخبره صلى الله عليه وسلم أن كل شيء قضى الله أن يكون خيرًا فلا يكون شرًّا أبدًا، وهذا الخير هو الخير الحقيقي المحض، من فعل الطاعات، وابتغاء مرضات الله جل وعلا لمن وفَّقه الله ورضي عنه، أما زهرة الدنيا، فإنما هي فتنة، وليست خيرًا محضًا، ويُخشى على مَن رزقه الله زهرةَ الدنيا أن يَعرِض في تصرُّفه ما يجلب الشرَّ، وأن يَضعُف إقبالُه على الآخرة.
ثم وضح الرسول صلى الله عليه وسلم صورةً من صُوَر الضرر الناجم عن سوء استخدام النِّعم، فهذا المطر ينهمر متواليًا، فيسيل في جداول الماء، فيسقي الزرعَ، فيترعرع النبات والعشب ويخضرُّ، مع بديع منظره وبهجته، وطيب نعيمه وحلاوته، فتهرول إليه بعضُ الدواب لتأكل منه، فتستطيبه وتستلذه، وتنهمك في التهامه، حتى تُصاب بالحَبَط؛ أي: التخمة وانتفاخ البطن، مع عدم القدرة على إخراج ما في البطن بالبول أو غيره، فتنتفخ بطنُها، ويظن من يراها أنها سمينة عظيمة، وسرعان ما تنشق أمعاؤها وتهلك، أو توشك على الهلاك وتمرض مرضًا مخوفًا.
وكذلك زهرة الدنيا مونقة، تُعجِب كثيرًا من الناظرين، فيستكثرون منها، ويجمعونها بشرهٍ وجوع نفس، لا بقليل يقنعون، ولا بكثير يشبعون، ويتقلَّبون في الحرام، فهم قد تعرَّضوا للهلاك بمنازعة الناس لهم، وحسدهم إياهم؛ بل وبموت القلب والدين؛ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]:
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ لَذَّتَـهَـــا *** مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا *** لًا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّـارُ
فكم قَتَل المالُ والجاه، والصحةُ والفراغ أصحابَه! وكم هلك في سبيل تحصيل لذةٍ فانية من أقوامٍ وأقوام! إن النفوس المريضة إذا تلقَّفتْ بعضَ زهرة الحياة الدنيا، سارتْ في درب مظلم، وباعتْ دينها ودنياها في سبيل الوهم والخداع، وكلما زاد الحرص على فضول العيش، زاد الهمُّ، وتشتَّت القلب، واستعبد العبد واغترَّ بالسلامة، ونسي أن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم بقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56]، وعن قوم بقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8]، فلْيحذرْ كلُّ امرئ أن يركن إلى الدنيا، ويسير في درب الضياع دون أن يشعر، فلا يُفيق إلا عند الهلاك، ولاتَ ساعةَ مندم.
♦ الطالب: أظن أننا بحمد الله في عافية؛ حيث لم نَنَلْ من زهرة الدنيا إلا القليلَ.
♦ الشيخ: لا والله، لقد فُتحتْ علينا الدنيا، ونِلْنا منها نصيبًا وافرًا؛ ولكن ماذا نفعل وقد غطى مدُّ العين إلى الآخرين على كثير من القلوب، مع أن الله جل وعلا حذَّرنا بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]؟!
هل تعلمون أن ما نلناه يفوق في أمور كثيرة ما ناله الملوكُ قبلنا؟! انظر إلى عظيم الجاهلية يفتخر، أتعلمون بماذا يفتخر؟ إنه يفتخر بشرب الماء صفوًا حينما يرد على البئر:
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْوًا ♦♦♦ وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدرًا وَطِينَا
إننا نشرب الماء عذبًا زُلالًا، دون ورود على بئر ولا غيره.
إن الحقيقة الخفية هي أن طعامَنا أشهى من شهيِّ طعام ملوكهم، وشرابَنا ألذُّ من لذيذ شراب ملوكهم، ولباسَنا أرقُّ من رقيق لباس ملوكهم، ومركبَنا أسرعُ من سريع مركب ملوكهم، ودُورَنا أنظفُ من نظيف دور ملوكهم، فنحن ملوك دون أن نشعر.
♦ الطالب: وكيف يعرف المرء أنه يسير في درب الضياع؟
♦ الشيخ: إن طريق الفتنة بزهرة الدنيا طريق ملتبس، وهو حلقات يسلم بعضُها إلى بعض، وكلما نال المفتونُ بعضَ حطام الدنيا، ازدادت رغبتُه، واستقلَّ ما في يده، ونظر إلى ما فوقه، فلا يستغني بشيء أبدًا، وقد تبدأ الفتنة مثلًا بالتوسُّع في المباحات من مالٍ، وجاه، وترف... إلى غير ذلك.
وهذا التوسع يصاحبه غالبًا استثقالٌ لكثير من الطاعات؛ لأن النفس تركن إلى الراحة والدعة، فينتج عن ذلك التفريطُ في أمور كثيرة، مثل صلاة النوافل، وضعف مراجعة القرآن، فضلًا عن التفريط في شعيرة الاحتساب، والتغافل عن حقيقة دور المسلم في الحياة، ثم يتحوَّل الأمر من التوسع في المباحات، إلى الحرص عليها، واختصاصها بالأموال الكثيرة، والأوقات النفيسة، ثم ينقلب الأمر إلى الهلع على الدنيا منشرحةً نفسُه بإقبالها، جزعة بإدبارها، حتى يحيق بالمرء الهلاكُ والعياذ بالله؛ لأن مَن قارَبَ الفتنة، بعدتْ عنه السلامة، ومَنِ ادَّعى الصبر، وكل إلى نفسه، وهذه المراحل تصاحبها غالبًا أمراضٌ قلبية من: ضعف الإيمان، وهجر الورع، وقلة التوكل، وتذبذب الإخلاص، وعدم الرضا، وتغيب الصبر.
خذ مثلًا على ذلك فتنةَ المال، الذي قال الله جل وعلا عنه: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]، قد يتوسَّع المرء في الإنفاق، فيضطر لجمع المال بطرق عديدة، ويتعب نفسه بالتفكير في وجوه المكاسب، دون أن يشغل نفسه بتعلُّم أحكام المعاملات؛ مما يوقعه في الاستدانة والمعاملات المشتبهة، وقد يحتاج إلى الاحتيال والمماطلة والكذب، وكثيرًا ما يؤدي هذا إلى الوقوع في الربا الصريح والاختلاس والسرقة، أو في الافتقار والسؤال والمذلة، أو في الحصول على مالٍ ممحوق البركة، ينشر الحسدَ بين الأهل، والعداوةَ بين الأصدقاء، والحقدَ بين أفراد المجتمع.
وقد يجمع المرء بين كل هذا، فيقع في المعاملات المحرَّمة، جامعًا للمال بلا بركة، وينتهي أمرُه بالذِّلة والمهانة،وهذا بعض الهلاك الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله:«ومَن يأخذ مالًا بغير حقِّه، فمَثَلُه كمثل الذي يأكل ولا يشبع»، مع سخط الله جل وعلا الذي يلحق العصاةَ من عباده؛ «وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» [التوبة: 75، 76].
توسع في المباحات ← حرص على الدنيا ← هلع على حطامها ← هاوية الهلاك
♦ الطالب: وكيف يمكننا النجاة من الافتتان بزهرة الدنيا؟
♦ الشيخ: هذا هو ما نستفيده من مثال آكلة الخضر، حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالًا من أحوال الماشية، يخالف حال من هلكتْ بأطايب النبات، وهو حال من تأكل الخضر، وهو كلأ صلب غليظ، لا تستسيغه الماشية، ينتشر في وقت الصيف بعد جفاف البقول النضرة، فتضطر الماشية لأكله؛ لقلة وجود غيره، ولا تستكثر منه؛ لأنها تستثقله، فتأكل منه شيئًا فشيئًا، حتى إذا شبعتْ منه أعرضتْ عمَّا يضرُّها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس، التي يحصل بحرارتها إنضاجُ ما أكلتْه وإخراجه، ورفعتْ ما أدخلته في كرشها من العلف، فأعادت مضغه، وبذا يسهل خروج بولها وروثها، وتلقيه سهلًا رقيقًا مائعًا، فتنجو من التخمة والهلاك الذي أصاب غيرَها.
وكذا مَن اقتصد في جمعه الدنيا، وطابت نفسه بأن ينال منها قدرَ بُلغتِه، ولم يأخذها إلا بحقها، وتَرَكَ إمساك ما تعيَّن إخراجُه، وأنفق الحقوقَ التي عليه، فهذا ينجو مِن وبالها؛ بل وتكون له الدنيا بلاغًا تعينه على التزود لآخرته، ويبارك له فيه، كما في هذا الحديث: «فمن يأخذ مالًا بحقه، يُبارَك له فيه».
وهذا يتطلب من المرء أن يراقب نفسه مراقبة تامة؛ ليحقق في نفسه العبودية التامة؛ {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162، 163]، فإخلاص الحياة لله يحدِّد هدف المسلم، ويجعله يسير على النهج القويم بنفس مطمئنة، لا تجزع على ما فاتها من حطام الدنيا، ولا تفرح فرح بطرٍ بما نالها منها، وهذه نفسية مفعمة بالإيمان، نالت خير الدنيا والآخرة؛ إن أُعطيت شكرتْ، وإن حُرمت صَبرت، وإن سَعتْ في طلب الرزق توكَّلت، وإن اشتبهت عليها الأمورُ تورَّعت، والرضا عن الله ينير سريرتها الطاهرة.
إن هذه النفوس تنال السعادة الحقيقية؛ لأنها تطلب الخير من مسبِّبه جل وعلا وقد قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقال سبحانه: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، وهذه النفوس تعلم القيمة الحقيقية لمتاع الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزتْ له الدنيا بحذافيرها».
بل إن المؤمن في سعيه في الدنيا يعلم أن الله جل وعلا منَّ على عبيده بأن عجَّل لهم بعضَ نعيم الدنيا؛ بسبب أنواع طاعاتهم، بركة يهبها الله جل وعلا من اختار؛ قال الله جل وعلا: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 12]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن سرَّه أن يُبسَط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فلْيصِلْ رَحمَه»، وقال: «لو أنكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّلِه، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا»، وقال: «وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم»، وقال: «اللهم بارِكْ لأمتي في بكورها»، وقال: «من يسَّر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة».
♦ الطالب: إن هذا الحديث عظيم الشأن، يحوي فوائدَ جمةً.
♦ الشيخ: يا بني، هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، إن هذه الكلمات النبوية المعدودة هي من جوامع كلِمِه صلى الله عليه وسلم ومَن أمعن فيها، وتتبَّع كلام أهل العلم في شرحها، رأى دررًا نفيسة في شتى العلوم من عقيدة، وفقه، وحديث، وسلوك، وبلاغة، وحسبنا الآن أن نعمل بمفتاح الخير الذي تلقفناه من هذا الحديث الشريف، ألا وهو الحذر من زهرة الدنيا.
رزقني الله وإياكم حسن الانتفاع بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
______________________________ ____________________________
الكاتب: طلحة محمد المسير