وقفات مع حديث: «إِنَّ السَّعَيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَن»


اللجنة العلمية في الفرقان

في محاضرة قيّمة له تحدث الشيخ عبد الرزاق عبد المحسن البدر مفصلاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ السَّعَيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَن»، وبين من خلاله أنَّ السعادةَ مَطْلَبُ كلِّ إنسان، وغايةٌ تُنشَدُ وهدفٌ يُطلَب، وكلٌّ يرجو لنفسه السعادةَ ولا يريد لها الشقاء، ومِن شأن الفتنِ عندما تنزل بالناس وتَحلُّ بهم تُربِكُ سعادتَهم، وتُشتِّتُ أذهانهم، وتُقلِقُ قلوبهم، ويلحقهم منها ما يلحقهم من العَنَتِ، فبيِّن - صلى الله عليه وسلم - حال المؤمن ومنّة الله -عز وجل- عليه مع ما يكون في هذه الحياة من فتن وما يلقاه الناس فيها من ابتلاءات، وأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان ودار فتنةٍ واختبار، والمؤمن يلقى ما يلقى فيها، لكنه عظيمُ الصِّلةِ بربه -عز وجل-، دائمُ الانكسار بين يديه، والالتجاء إليه وحده -سبحانه وتعالى- دون سواه، يؤمِّل منه وحده، ولا يرجو من أحدٍ سواه.

ثم استطرد الشيخ البدر في شرح الحديث فبين أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (جُنِّب الفِتَن) أي جنَّبه الله إياها، وسلَّمه منها، ووقاه من شرِّها؛ فإنّ التوفيق بيده والفضل فضله -سبحانه وتعالى-، قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنّ السَّعيد لَمَن جُنِّب الفِتَن)، أي جنَّبه الله الفتن، وهنا لابدّ من استشعارِ عظيمِ افتقارنا إلى الله -جل وعلا- وشديد احتياجنا إليه في أن يسلِّمنا من الفتن وأن يقينا من شرِّها، وقد ثبت في الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، فقال الصحابة -رضي الله عنهم-: «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، وهنا قوله في الحديث: (جُنِّبَ الفِتَن) فيه إشارةٌ إلى هذا المعنى العظيم، ألا وهو: أن تجنيب العبد من الفتن وسلامته منها ووقايته من شرِّها منَّة الله عليه وفضله -سبحانه وتعالى-، وكم هو جميلٌ بالعبد المؤمن أن يكون دائمًا وأبدًا مُستَشعِرًا هذا المعنى المبارك الذي دلَّ عليه هذا الحديث: (جُنِّبَ الفِتَن)! أي جنَّبه الله الفتن ووقاه من شرِّها.

المسلم لا ينبغي له أن يطلب الفتن

وبين الشيخ البدر أن من المعاني المهمة التي يتضمنها الحديث: أنّ المسلم لا ينبغي له أن يطلب الفتن، وأن يُبرِز نفسه لها، وأن يقحم نفسه فيها، وأن يورِّط نفسه في إشكالاتها وتبعاتها، وأن يذيق نفسه حرَّها وشررها ونارها ؛ بل المطلوب منه أن يتجنَّبها، وأن يبتعد عنها، وأن يسعى في السلامة من شرورها؛ فتجنّب الفتن هذا مقصد، لا التصدُّر وتوريط النفس فيها؛ بل الإنسان يتعوَّذ ويسأل الله العافية، والعافية لا يعدِلها شيء، ومن أوتي العافية فقد أوتي الخير، وقد جاء في أدعيةٍ كثيرةٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سؤال الله -جل وعلا- العافية، فالإنسان يسأل الله العافية والسلامة ولا يعرِّض نفسه للفتن؛ بل يبتعد عنها وتكون هي في جانب وهو في جانب قدر مستطاعه، وهذا مستفاد من قوله: (جُنِّبَ الفِتَن)؛ وتجنُّب الفتن والبُعد منها مَطلَبٌ لابدّ منه، ولابدّ للمؤمن من أن يكون كذلك؛ أن يكون متجنِّبا الفتن، بعيداً عنها، حَذِراً من الوقوع فيها، قال: (إن السَّعيد لَمَن جُنِّب الفِتَن).

كيف يظفر بهذه السعادة؟

ثم طرح الشيخ سؤالاً: كيف ينال المسلم هذا الموعود العظيم والفضل الكريم المذكور في هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف يظفر بهذه السعادة؟ -وقد عرفنا أن السعادة مطلب- كيف يظفر بها؟ وكيف يكون من أهلها؟ إنك وأنت تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن السَّعيد لَمَن جُنِّب الفِتَن) لابد وأن يتحرّك في قلبك طمعٌ في أن تكون من أهل هذه السعادة وممن ظفروا بها، فكيف تُنال هذه السعادة التي دل عليها وأرشد إليها النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث المبارك؟ كيف يُظفر بهذه السعادة وكيف تُنال؟ كيف ينالها المرء المسلم لنفسه؟ وكيف يكون سبباً في وجود هذه السعادة بين أفراد أمته؟

ضوابط مهمة

ثم بين الشيخ البدر نقاطا عظيمة وضوابط مهمة وأسسا مباركة كلُّها مستمدة من كتاب الله -جل وعلا- وسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبهذه الضوابط بإذن الرب -عز وجل- وتوفيقه يظفر المرء بالسعادة ويكون من أهلها.

الضابط الأول: تحقيق تقوى الله -جل وعلا

أما الضابط الأول لتجنب الفتن والسلامة منها: فهو تحقيق تقوى الله -جل وعلا-، وأن يجاهد المسلم نفسه على أن يكون من المتقين، وأن يسلك بنفسه مسالك التّقوى، وأن يجاهد نفسه على تحقيقها والقيام بها، وتأمّل في هذا المعنى قول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2-3)، تأمَّل قوله: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} أي من كل بلاء وفتنةٍ وشرٍّ، والآية ظاهرة الدلالة على أنّ تحقيق التقوى سبيلُ النجاةِ من الفتن وتجنُّبها، {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}، أي مَخرجاً من كلِّ بليَّةٍ وفتنةٍ وشرٍّ؛ فإذا أردتَ أن تُجنَّب الفتن فعليك بتقوى الله -عز وجل-، اتقِ الله أينما كنت يجنِّبك الله الفتن ويقيك مِن شرِّها، لا تعتمد على حِذقك وشطارتك ونباهتك؛ وإنما اعتمد على الله وعليك بتقواه، فإنّ مَن اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، والأمور كلها أزمَّتها بيد الله، والتوفيق بيده، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أعظم الأسس

فمِن أَعظَم أُسُسِ اجتناب الفتن تحقيق التقوى، ولما حدثت الفتنةُ زمن التابعين أتى نفرٌ إلى طلقٍ بن حبيب -رحمه الله وهو من علماء التابعين- وقالوا له: قد وقعتْ الفتنةُ فكيف نتَّقيها؟ قال: «اتقوها بالتقوى»، قالوا: أجمِل لنا ذلك، أي بيِّن لنا التقوى بياناً مُجمَلاً، قال: «تقوى الله: أن تعملَ بطاعة الله على نورٍ من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نورٍ من الله تخاف عقاب الله»؛ وبهذا يُعلَم أنّ تقوى الله -جل وعلا- ليست كلمة يقولها المرء بلسانه أو دعوة يدَّعيها؛ وإنما تقوى الله -جل وعلا- أمرٌ مستكِنٌّ في باطن المؤمن ظاهرٌ على جوارحه، قلبه مستقيمٌ على طاعة الله مُذعِنٌ مُنقاد لأمر الله وجوارحه مطاوعة، قد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».

إصلاحٌ للباطن يَصلُح به الظاهر

فتقوى الله -جل وعلا- إصلاحٌ للباطن يَصلُح به ظاهر الإنسان ويستقيم، وهي فعل للأوامر وترك للنواهي كما قال طَلْق رحمه الله: « أن تعمل بطاعة الله »، ثم قال: «وأن تترك معصية الله» فهي فعلٌ للأمر وتركٌ للنهي؛ وعليه فالمسلم يكون في هذا شأنه دائماً في حياته كلها، وإذا عَظُمت الفتن عَظُم إقبالُه على الله -عز وجل- فعلاً لأوامره وتركاً لنواهيه، يُقبِل على الصلاة وعلى العبادة وعلى الصدقة وعلى الإحسان وعلى البِر وفي الوقت نفسه يُجانِب المعاصي ويبتعد عنها ويحذر من الوقوع فيها، وقد جاء في الحديث الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ».

الفتن تحتاج إلى عبادة

إذاً الفتن تحتاج إلى صلاة، إلى عبادة، إلى عملٍ بطاعة الله -جل وعلا-، إلى بُعدٍ عن المحرمات، وجاء في حديث آخر أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» وهذا يبيِّن لنا أن المسلم يحتاج في أوقاته كلِّها وحياته جميعها أن يكون مقبِلاً على عبادة الله وعلى طاعته محافِظاً على أوامره مبتعداً عن نواهيه، فإذا كان كذلك شأنه مع الله -جل وعلا- حَفِظَه الله ووقاه، أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ».

التقوى تحتاج إلى علم

ثم أكد الشيخ البدر أنَّ العمل بالطاعة والبعد عن المعصية الذي هو التقوى لابدّ فيه من العلم، ولهذا قال طلق فيهما: «على نورٍ من الله»، تعمل بالطاعة على نور، وتترك المعصية على نور، وهذا يدلُّنا أنّ من يريد أن يتقي الله -جل وعلا- حقّاً فعليه بالعلم، فإنه الزاد العظيم للتقوى، وإلا فإن الأمر كما قال بعض السلف: «كيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟!»، الذي لا يدري ما الذي يُتقى، وما الذي يُجتنب وما الذي يُحذَر منه، كيف تقع منه التقوى على وجهها الصحيح؟! ولهذا لابدّ من العلم؛ العلم بالمأمورات لتُفعل، والعلم بالمنهيات لتُترك وتُجتنب، تَعرف الطاعة لتكون من أهلها، وتَعرف المعصية لتبتعد منها ومن شرِّها، ولهذا قال طلق رحمه الله: «على نورٍ من الله».

الثواب والعقاب

ثم تكون في فعلك للطاعة وتركك للمعصية راجياً للثواب خائفًا من العقاب، لأنك ستقف أمام الله -جل وعلا- يوماً يسألك فيه عما قدَّمت في هذه الحياة، ثم يجازي -سبحانه وتعالى- المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فأنتَ تكون راجياً - أي لثواب الله -، وخائفاً -أي من عقابه-، كما قال الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } (الإسراء:57)، فهذه تقوى الله -جل وعلا- التي مَن لزِمها وكان من أهلها وتحقَّق بأوصافها جُنِّبَ الفِتن بإذن الله -عز وجل.