"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (87)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "السجدة": (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)

القول بأن المراد بيان عظمة ملك الله, وامتداد ودوام زمان نفاذ الأمر وتدبيره, فيوم منه كألف سنة, فكم يكون شهر منه، وكم تكون سنة منه، وكم يكون دهر منه. (هو قول جيد ووجيه ذكره الرازي)

وقبل عرض الخلاف أنبه إلى شيء قد يساعد على معرفة المراد بالآية, وهو أن الآية تذكر أن اليوم نفسه مقداره ألف سنة, فهو يوم طويل حقيقة, ويؤيد هذا قوله تعالى في سورة "الحج": (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
قال ابن عطية: "الأمر اسم جنس لجميع الأمور، والمعنى ينفذ الله تعالى قضاءه بجميع ما يشاؤه".

واختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على خمسة أقوال:
القول الأول: أن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض، ويصعد من الأرض إلى السماء في يوم واحد، وقدر ذلك ألف سنة مما تعدون من أيام الدنيا, لأن ما بين الأرض إلى السماء خمسمائة عام، وما بين السماء إلى الأرض مثل ذلك، فذلك ألف سنة. (رجحه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, والبغوي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*) (واقتصر عليه ابن كثير*)

وهذا القول فيه بعد والله أعلم, فكما سبق أن اليوم نفسه مقداره ألف سنة, فهو يوم طويل حقيقة.

(وذكره الزمخشري*) لكنه خصه بنزول الوحي فقال: "وقيل: ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي أو رده مع جبريل". (ونحو ذلك ذكر البغوي*)

(وذكره ابن عاشور*) فقال: "ومعنى تقديره بألف سنة: أنه تحصل فيه من تصرفات الله في كائنات السماء والأرض ما لو كان من عمل الناس لكان حصول مثله في ألف سنة، فلك أن تقدر ذلك بكثرة التصرفات، أو بقطع المسافات"

وقيل: الضمير في قوله: (مقداره) يرجع الى العروج فقط وليس النزول والعروج.
والمعنى: يعرج إليه في يوم واحد, ولو كان هذا العروج سيفعله بشر ما فعله إلا في ألف سنة (ذكره ابن جرير*, وابن عطية*, والقرطبي*)

وقيل: الضمير يرجع إلى التدبير، أي: كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبرها البشر. (ذكره ابن عطية*)

القول الثاني: أن المراد يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا، ثم يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا, فالمراد باليوم الذي كألف سنة يوم القيامة. (ذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*)

واحتاج القائلون بهذا أن يجمعوا بين هذه الآية وبين قوله تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)
فقالوا: هذا لاختلاف الأحوال يومئذ, فيكون مثلاً على الكفار أطول وعلى المؤمنين أقصر.

"أو يخرج ذلك لا على التحديد والتقدير, ولكن على التعظيم لذلك اليوم، والوصف له بما يعظم في قلوب الخلق" (ذكره الماتريدي*)

وهذا القول أيضاً فيه بعد, فليس المراد باليوم يوم القيامة, ففي يوم القيامة العروج للملائكة والروح، وفي هذه الآية العروج للأمر.

القول الثالث: أن المراد يدبر أمر الدنيا لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة، ثم يعرج ويصير إليه، ويثبت عنده، ثم يدبر أيضاً ليوم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة. (ذكره ابن جرير*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*)

القول الرابع: أن الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة، لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص. (انفرد بذكره الزمخشري*)

القول الخامس: أن المراد بيان عظمة ملك الله, وامتداد ودوام زمان نفاذ الأمر وتدبيره, فيوم منه كألف سنة, فكم يكون شهر منه، وكم تكون سنة منه، وكم يكون دهر منه. (انفرد بذكره الرازي*)

قلت: ما دامت الأقوال السابقة كلها فيها بعد, فهذا القول جيد ووجيه, والله أعلم.

ويؤيد هذا ما ذكره بعضهم من أن ذكر الألف قد لا يكون مراداً به حقيقة العدد، وإنما المراد التعبير عن المدة المتطاولة, لأن الألف منتهى المراتب.
وذكر الأف كثير في القرآن وقد لا يراد به حقيقة العدد, وهذ واضح جداً في بعض الآيات.

ومن الآيات التي ذكر فيها الألف:
قوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)
وقوله: (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ)
وقوله: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ)
وقوله: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)

وكذلك ذكر السبعة والسبعين والسبعمائة:
فلفظ السبعة يطلق في لسان العرب ويراد به الكثرة في الآحاد، كما يطلق لفظ السبعين ويراد الكثرة في العشرات، والسبعمائة في المئين ولا يراد العدد المعين.

ولهذا نظائر كثيرة منها:
قوله تعالى: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ليس المراد أنه لو استغفر لهم أكثر غفر لهم, فليس العدد مراداً, إنما المراد نفي مغفرة الله لهم.

وقوله تعالى: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)
قال ابن عطية: "الغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى وهي في نفسها غير متناهية, وإنما قَرَّب الأمر على أفهام البشر".

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك)
والمراد به المبالغة في الحث والترغيب في السواك, لا حقيقة العدد والله أعلم.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل بمعى واحد, والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
قال العلماء: مقصود الحديث التقلل من الدنيا، والحث على الزهد فيها والقناعة.

قال الرازي: "ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر، وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة فقوله تعالى: (في يوم كان مقداره ألف سنة) يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون شهر منه، وكم تكون سنة منه، وكم يكون دهر منه".

وقال الرازي: "وفي هذه لطيفة, وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق، وأشار إلى عظمة الملك، وذكر في هذه الآية عالم الأرواح والأمر بقوله: (يدبر الأمر) والروح من عالم الأمر كما قال تعالى: (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي), وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان والمراد دوام البقاء, كما يقال في العرف: طال زمان فلان والزمان لا يطول، وإنما الواقع في الزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة فيطول ذلك فيأخذ أزمنة كثيرة، فأشار هناك إلى عظمة الملك بالمكان وأشار إلى دوامه هاهنا بالزمان, فالمكان من خلقه وملكه والزمان بحكمه وأمره".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/