الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - وجهوده في جمع الكلمة وإجلال ولاة الأمر له


مركز سلف للبحوث والدراسات




جمعُ الناس على عبادة الله وحده وجمعُ كلمة المسلمين من أهمِّ تكاليف النبوة، قال البغوي: بعث الله الأنبياء كلَّهم بإقامة الدين والألفة والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة، وقد تعاقب العلماء ورثة الأنبياء وتناوبوا جيلًا بعد جيل للقيام بهذه الأمانة العظيمة، التي لولا رحمة الله بهذه الأمة ثم قيام العلماء الربانيين بدورهم لعاشت أمة الإسلام متناحرة متنازعة لم تقم لها قائمة، ولم يُكتب لها التوسع والانتشار.

وسنتناول في هذه الورقة سيرة أحد العلماء المعاصرين الكبار، ممن كان لهم دور كبير في جمع كلمة المسلمين؛ مما يبعث الهمة للاقتداء، وتستجلى في مواقفه الواقعية والثبات وحسن التصرف، وسنتناول جانبًا من جوانب سيرة الإمام سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-، ونبرز مواقف ولاة الأمر معه وإجلالهم له، سائلين المولى -عز وجل- أن يصلح أحوال المسلمين، ويوحد صفهم، ويجمع كلمتهم.

أولا: نشأته ومسيرته العلمية

ولد الشيخ ابن باز في الرياض في ذي الحجة سنة 1330هـ، وكان بصيرًا في أول طلبه للعلم، ثم أصابه المرض في عينه عام 1346هـ فضعف بصره بسبب ذلك، ثم ذهب بالكلية في مستهل المحرم من عام 1350هـ، ونـشأ سـماحته -رحمه الله- في بيئـة عطـرة بأنفـاس العلـم والهـدى والصلاح، بعيدة كل البعد عن مظاهر الدنيا ومفاتنهـا وحـضاراتها المزيفـة؛ إذ الرياض كانت في ذلك الوقت بلدة علم وهدى، فيها كبار العلماء وأئمة الدين، من أئمة هذه الدعوة المباركة التي قامت على كتاب الله وسنة رسـوله - صلى الله عليه وسلم -؛ وأعنـي بها: دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى.

وقد بدأ الدراسة منذ الصغر، فحفظ القرآن الكريم قبل البلوغ، ثم بدأ في تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض، وقد كان من أكثر العلماء ملازمة لهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ؛ حيث قرأ عليه في الحديث والعقيدة والفقه والنحو والفرائض، وشيئًا كثيرًا في التفسير والتاريخ والسيرة النبوية، نحوًا من عشر سنوات، وتلقى عنه العلوم الشرعية ابتداءً من سنة 1347هـ إلى سنة 1357هـ؛ حيث رشِّح للقضاء من قبل سماحته.

ثانيا: أثر معاصرة التحولات الكبرى في تكوين شخصيته

عندما أعلن جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود توحيد المملكة العربية السعودية في عام 1351هــ كان عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- قد بلغ سن الرشد والأهلية؛ حيث كانت سنه في ذلك الوقت 20 عامًا، فهو عاصر توحيد المملكة في دولة قوية تجتمع على كلمة التوحيد خلف راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، عاصر تلك الحقبة صبيًّا ويافعًا ثم رجلًا، وعندما بدأ حياته العملية تقريبًا كانت قد أرسيت قواعد بناء هذا الكيان الكبير الذي شهد وضع لبناته الأولى.

تكوينه الفكري وبناء شخصيته

هذه الخلفية المبكرة في حياة ابن باز كان لها بكل تأكيد آثارها البالغة على تكوينه الفكري وبناء شخصيته بوجه عام؛ فقد شهد في الواقع العملي أوضاع التمزق والتشتت والتنافس وصراعات النفوذ، بين إمارات شاع فيها الفوضى والخرافات والأباطيل، وابتعد بعضها بوضوح عن أسس دين الله الحنيف، كما شهد عملية التحول الكبرى في المجتمع، من الولاء لتلك الإمارات المتصارعة إلى الولاء لشريعة الله، والتزام سلطة سياسية واحدة واحترامها، تراعي مصالح الجميع، وتسعى لخير كل أبناء هذه الأرض على السواء، وهكذا كان ابن باز قريبًا من التحولات الكبرى التي عاشها المجتمع السعودي، وأدرك الفارق بين الحالين بوضوح، ما بين التشتت والتصارع والفقر إلى حالة الاستقرار والرخاء، كان له بلا شك أثر في تكوين شخصية ابن باز، بل وشخصية كل الرواد والعلماء الذين عايشوا تلك الحقبة الاقتصادية من حياة المجتمع العربي السعودي، وشاهد الجهد الذي بذل في بناء الدولة السعودية، والمعايشة جعلتهم بالتأكيد أكثر حرصًا وتصميمًا وكفاحًا من أجل التمسك بالقيم الإسلامية الصحيحة النابعة من العقيدة الصافية، لإدراكهم أن تلك المبادئ هي التي أقامت تلك النهضة.

جهوده -رحمه الله- في جمع الكلمة

صفاته الشخصية، لعل من أعظم أسباب توفيق الله للشيخ ابن باز في جمع كلمة المسلمين ما أوتيه من محبة في قلوب أمة الإسلام في أنحاء العالم بطوائفها، وما أوتي من قبول لكلمته، ولنا أن نتساءل: ما سر هذه العظمة؟ وما سر تلك المحبة التي تملكت القلوب، وتخللت مسلك الروح من الناس؟ والجواب: أن ذلك يرجع لمحض فضل الله -عز وجل-؛ حيث وهب الإمام مواهب فطرية عظيمة، وجبله على سجايا وخصال عديدة حميدة، وتلك المواهب والسجايا والخصال غُذِّيت بلَبان العلم والإيمان، ومزجت بإكسير الإخلاص والتقوى؛ فآتت أُكلها ضعفين. ويرجع ذلك أيضًا إلى جِدِّ الإمام وتشميره، واقتدائه بسلفه الصالح، ومن اقتدى بأولئك السَّرَاة صار للمتقين إمامًا؛ فاقتدى به من معه، ومن بعده.

بذل نفسه وماله وعلمه وراحته

وسرٌّ آخر ألا وهو: بذل الإمام نفسه ووقته وماله وعلمه وراحته في سبيل نشر الخير ونفع الناس، مبتغيًا بذلك وجه الله، لقد مات الرسم، وبقي الاسم، واتفق الودود والكنود على الفضل والعلم، وكان بيته ومكتبه ومجالسه -رحمه الله- من مظاهر جمع الكلمة، فمن التقى بالشيخ ولو قليلًا يرى العجب في صبره ورحابة صدره، وكيف جمع الله في ساحته كل أجناس العالم، إذا وصل إلى منزله وجد الجموع الغفيرة من الأجناس المتعددة ومن ذوي الحاجات المتنوعة بانتظاره؛ فهم ما بين مستفت، ومُسَلِّمٍ، ومطلِّق، وطالب حاجة، وفقير، ومسؤول، وزائر من قريب أو بعيد، وكان يقدّم للجميع طعام الغداء على مائدته، ويجلس بينهم يتناول طعام الغداء، ويباسطهم، ويسأل عن أحوالهم، ويجيب عن أسئلتهم.

كلٌ يحصل على حاجته

فإذا رأيت هذا المشهد من كثرة الناس وكثرة حاجاتهم وتنوعها، ورأيت حال الشيخ مع الهاتف، ومع من يقرؤون عليه من كُتَّابه، ورأيت كثرة القادمين والمسلِّمين أيقنت أن جموعهم لن تَنْفَض، وأن تلك الحاجات والمعاملات تحتاج إلى مدة أسبوع في الأقل؛ ليتم التخلص من بعضها، وما هي إلا مدة يسيرة، ثم تَنْفَضُّ تلك الجموع بنفوس راضية وصدور منشرحة؛ حيث يأخذ كل واحد منهم نصيبه من سماحته؛ إما بتوجيه معين، وإما بوعد صادق طيب، وإما بإجابة لسؤال، وإما باستجابة لطلب، كل ذلك وسماحته -رحمه الله- يستقبلهم بصدر رحب، وجبين وضَّاح، ونفس كريمة، لا ينهر أحدًا، ولا يكهره، مع ما يلقاه سماحته من كزازة، وسوء أدب، وكثرة إلحاح، ومقاطعة من بعض المراجعين، حتى إن الذي يحضر المجلس أول مرة ليعجب أشد العجب، ويظن أن سماحته يتكلف ما يقوم به، ولكن ذلك هو دأبه وأدبه.

وما إن ينتهي ذلك المجلس إلا وقد قام بأعمال عظيمة لا يقوم بها الجماعة من أولي القوة من الرجال، مع أن سماحته كفيف البصر، متقدّم في السن، ومع أن كلمته هي الفصل التي يتوقف عليها أمور عظيمة خاصة أو عامة، فهذا دأبه في جميع مجالسه.

منهج الشيخ في جمع كلمة المسلمين

كان منهج الشيخ ابن باز رحمه الله في جمع الكلمة هو: الاجتماع على الكتاب والسنة والسلف الصالح، ويرى أنه لا يمكن أن تجتمع الأمة إلا على هذا النهج القويم، وهو الرأي الموافق لما جاء في الكتاب والسنة، كما قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59)، وقال -عز وجل-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى: 10)، والناظر في كتابات الشيخ ومراسلاته وفتاويه يجد تأكيد الشيخ على ضرورة لزوم هذا المنهج في جمع كلمة المسلمين.

توحيد الله وطاعته واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم

قال سماحة الشيخ -رحمه الله-: «جمع المسلمين يكون على توحيد الله وطاعة الله واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والشرك والبدع هو الذي فرَّق الناس، والمعاصي هي التي فرقت الناس، فطريق اجتماع الناس هو أن يتفقوا على تحكيم شريعة الله واتباع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن اتفقت الدول الإسلامية على اتباع الشريعة وتحكيم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاستقامة على ذلك والتعاون في هذا ضد الكفرة، فهذا هو طريق السعادة وهذا طريق الجمع».

وقال في موطن آخر: «الطريق إلى جمع كلمة المسلمين على الحق ونبذ الخلاف والتفرق هو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- والاستقامة على ذلك والتواصي بذلك والتعاون على البر والتقوى، ورد كل ما يتنازعون فيه إلى كتاب الله -سبحانه- وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتحكيمهما في كل شيء».

علاقاته مع أقرانه من العلماء

كم سمعنا وقرأنا ما يحدث بين أقران العلماء وطلبة العلم من تحاسد وتباغض وتنافر، وهم بشر قد تزل بهم قدم أو لسان أو قلم؛ ما قد يُحدث شرخًا في المجتمع الإسلامي بل قد يصل إلى حد الأذى البدني، ولا أضر على وحدة كلمة المسلمين من تناحر العلماء أو الأمراء، ولهذا كان الشيخ ابن باز -رحمه الله- حريصًا أشد الحرص على جمع كلمة العلماء، فهم القدوة، بدءًا من نفسه ثم طلبته ثم علماء عصره في الداخل والخارج، وسنأتي على جوانب من تعامله مع العلماء في سبيل جمع الكلمة.

حبه وإجلاله لأقرانه وسؤاله عنهم

لم يكن الشيخ يحسد أحدًا من العلماء وغيرهم، أو ينتقصهم، أو يذمهم، أو نحو ذلك، فقد كان رحمه الله محبًّا ومجلًّا لأقرانه ومعاصريه من أهل العلم، ومتعاونًا معهم على الخير ومصلحة المسلمين، فقلّ أن يمر يوم أو أقل من يوم إلا ويأتيه الوفود تلو الوفود من أهل العلم من شتى الأماكن، فكان -رحمه الله- كثير السؤال عنهم، والاتصال بهم؛ فإذا جاءه -على سبيل المثال- أحد من الأردن سأله عن الشيخ الألباني، وإذا جاء أحد من أهل المدينة سألهم عن الشيخ عبد المحسن العباد، أو الشيخ حماد الأنصاري، أو الشيخ عمر فلاته وغيرهم من أهل العلم في المدينة. وإذا قدم عليه أحد من أي بلد سأله عن أهل العلم الذين يعرفهم سماحته، أو يسأله عن أهل العلم الموجودين عندهم، وكان يبكي كثيرًا إذا توفي أحد العلماء المشهورين أو من لهم بلاء في الإسلام؛ حيث بكى على الشيخ صالح العلي الناصر، والشيخ حمود التويجري، والشيخ صالح بن غصون، وكذلك الحال بالنسبة لمن يأتون من خارج البلاد؛ حيث يسأل عن أهل العلم، ويوصي بنقل السلام إليهم، وربما حمَّل من يأتيه رسالة إليهم، وربما سألهم: من عندكم من أهل العلم؟ وما نشاطهم في العلم والدعوة؟ وكان يأخذ عناوينهم، ويراسلهم، ويوصيهم بالعناية بالدعوة إلى الله، ويقول: نحن مستعدون للتعاون معكم بما يخدم الدعوة.

حسن الظن بهم والذب عنهم

كان يحسن الظن بأهل العلم كثيرًا، ويحمل كلامهم على أحسن المحامل، ولا يرضى أن يُنالوا بأي سوء أو مكروه، وكان يدافع عنهم، ويحفظ أعراضهم، ولا يصدق ما يقال فيهم من سوء حتى يقف على حقيقة الأمر، وإذا جاءه أحد من الناس وقال: إن الشيخ فلان بن فلان قد قال كذا وكذا مما لا يليق، نهره سماحة الشيخ، وقال: هو أوثق عندنا منك، أفنصدّقك ونكذّب الشيخ فلانًا؟! ونحو ذلك.

وإذا تثبَّت من صحة ما يقال عن فلان من أهل العلم من أنه أخطأ في أمر ما أرسل إليه نصيحة، أو هاتفه، أو طلب حضوره، وبعد ذلك يبدي له وجه الخطأ، ويورد الأدلة على ما قال بأسلوب يفيض بالرحمة والنصح؛ فما يكون من ذلك الشخص إلا أن يقبل كلام سماحته ويدعو له.

وكثيرًا ما كان الشيخ -رحمه الله- يبذل جاهه وشفاعته وعلمه في سبيل جمع كلمة أهل العلم، ورأْب ما يكون بينهم من صدع، وتضييق ما يحصل بينهم من خلاف؛ فكم جمع الله به من كلمة، وكم رأب به صدع!.

حسن تعامله مع المخالفين

يظهر جليًّا للناظر في سيرته ومواقفه أن الشيخ -رحمه الله- له منهج متميز مع المخالفين، ينطبق فيه نصوص الشرع الآمرة بالصفح، وأخذ العفو، ودفع السيئة بالحسنة ومقابلة الإساءة بالإحسان، والبعد عن كل ما ينافي العدل والإنصاف، والجدال بالتي هي أحسن.

فكان منهجه ألا يُحَمِّل كلامهم ما لا يحتمل، ولا يَتَقوَّل عليهم ما لم يقولوه، ولا يذكرهم بسوء، بل يحترمهم ويقدرهم، ويتناسى أخطاءهم، ويقبل العذر، يُظهر الفرح بزيارته، وأظهر له المحبة والحفاوة، وإذا دعاه المخالف لوليمة أو مناسبة أجاب، ويعود مريضهم ويهاتفه ليواسيه، ويعزيهم إن مات لهم قريب، وإذا مات المخالف له دعا له، وزار أهله وعزاهم، ويتقبل العتاب ويبين موقفه. فكم وأد من عداوة، وكم استمال من قلب، وكم أطفأ من نار حقد.


وكان كثيرًا ما يقول لبعض العلماء: لا نودّ أن نختلف في أيّ مسألة، ونودّ أن تكون كلمتنا وفتوانا واحدة، ولكنه إذا خُولِف في أي مسألة اتّسع صدره كثيرًا للمخالف، وقد امتلأت رسائله وكتاباته وفتاويه بالنصح للعلماء وطلبة العلم بأن تتّسع الصدور للخلاف، وأن يجمعوا الكلمة وينبذوا الخلاف، والناظر في مجموع فتاوى الشيخ ومقالاته الذي طبع في ثلاثين مجلدًا يجد شواهد كثيرة جدًّا.