العبادة في زمن الفتن (1)

الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير




في محاضرة قيمة له تحدث فيها الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير عن العبادة في زمن الفتن؛ حيث بين أن الأمـة تعيش حالة من الاضطراب عموما، وهذا أثر على بعض من طلبة العلم، فكثير منهم ضاقت بهم الأرض ذرعًا، وظنوا أن الخيـر قـد انقطع، والأمر على خلاف ذلك، وديننا -والله الحمد- دين الخلود والبقاء إلى قيام الساعة، وأبواب الخير مفتوحة ومشرعة، وسنة المدافعة باقية إلى قيام الساعة، وما يغلق بـاب فـي وجه مسلم إلا ويفتح االله له أبوابا وآفاقا من أعمال الخير التي توصله إلى مرضات االله -سبحانه وتعالى.

ثم بين الشيخ الخضير أن الفتن التي تعيشها الأمة وتوشك أن تكون فتنا كقطـع الليـل المظلم، أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المخرج في البخاري وغيره قال - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بهـا شـعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المخرج في السنن والمسند: «إنَّ مِنْ ورائِكُمْ أيامَ الصبرِ الصبرُ فيهِنَّ كَقَبْضٍ علَى الجمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ قالوا يا رسولَ اللهِ أجْرُ خمسينَ منهم أَوْ خمسينَ مِنَّا قال خمسينَ مِنْكُمْ»، وهذه مع كونها تخبر عن واقعٍ مرير إلا أنها تشرح صدر المسلم للعمل والمدافعة أجر خمسين من الصحابة فـي آخر الزمان عند فساد الناس، أجر خمسين من الصحابة هذا ليس بالسهل ولا بالهين

العبادة هي الهدف

العبادة هي الهدف مـن خلـق الجـن والإنس، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه االله تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إلا ليعبدون) أي: ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: إلا ليعرفون، وقال الربيع بـن أنس: {إلا ليعبدون} أي: إلا للعبادة.

المراد بالعبادة

والمراد بالعبادة -كما قال شيخ الإسلام-: «اسم جامع لكل ما يحبه االله ويرضاه من الأقوال والأعمـال الظـاهرة والباطنة»، فتشمل أبواب الدين جميعها، فالإنسان يتعبد إلى االله -جل وعلا- بتوحيده، والإخلاص له، ويتعبد له بالإيمان به بشروطه، يتعبد الله -جل وعلا- بالصلاة، فرضها ونفلها، يتعبد للمولى -جل وعلا- بالزكـاة، والـصدقات، يتعبد له بالصيام الذي هو سر بين العبد وبين ربه، ويتعبد الله -جل وعلا- بزيارة بيته الحرام، وبالجهاد فـي سبيله وإعلاء كلمته، ويتعبد له في المعاملات وإن كانت من أجل الكسب الذي ظـاهره المـادة المحضة، إلا أنه في الوقت نفسه بإمكان المسلم أن يجعله عبادة الله -جل وعلا-، إذا نوى به أن يتقـوى بـه على ما يقربه إلى االله -جل وعلا- يتعبد إلى االله ويتقرب إليه بتناول الملذات والشهوات كالنكاح الذي شـرعه االله -جل وعلا- وأخبر أنه يؤجر عليه، «أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟!» قال: «نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟» قالوا: نعم، فيأتي شهوته ويكون له أجر، هذا من فضل االله -جل وعلا-. يتعبد الله -جل وعلا- بأبواب الدين جميعها، فالعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه االله -جل وعلا- ويرضـاه مـن الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

تنوع العبادات من محاسن الدين

وتنوع هذه العبادات من محاسن هذا الدين، فتجد بعض الناس يسهل عليه التقرب إلى االله -جل وعلا- بمائـة ركعة بمائتين ركعة بثلاثمائة ركعة في اليوم الواحد، وهذا مأثور عن بعض من تقدم من السلف، لكـن يـشق عليه أن يتصدق بدرهم، فتح له هذا الباب ليلزمه، ومع ذلك يجاهد نفسه في الأبواب الأخرى، وبعض النـاس مستعد أن يتصدق أن يتخلص من نصف ماله ولا يستطيع ولا تطاوعه نفسه أن يصلي ركعتين، ومن النـاس من ديدنه قراءة القرآن وتشق عليه سجدة التلاوة؛ لأن الصلاة شاقة عليه، هذا تنوع للعبادات، وكل باب مـن هذه الأبواب فيه رضى الله -جل وعلا- ومع ذلك يلزم هذا الباب الذي يسر له ولا يهمـل الأبـواب الأخـرى، يجاهد نفسه على أن يأطرها على محبة هذه الأبواب الأخرى، يكفيه أنها ترضي االله -جل وعلا- وأنها ترفعه عند المولى -سبحانه وتعالى-، ترتب عليها الثواب.

الصلاة.. أهم العبادات

فمن أهم العبادات الصلاة، فالإنسان عليه أن يكثـر منهـا فالصلاة خير مستكثر منه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله الصحابة مرافقتـه فـي الجنـة، قـال: «أعني على نفسك بكثرة السجود» الكثرة هذه مطلوبة على أن الكمية ليست هدفا لذاتها، بل لا بد من الكيفية «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ليس معنى هذا أن الإنسان يصلي في الساعة بعدد دقائقهـا مـن الركعـات، ويغفل عن الكيفية، بل لابد من أن يجمع بين كثرة السجود وبين الكيفية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقل مثل هذا في سائر العبادات، يقرأ القرآن ويكون ديدنه قراءة القرآن، لكن على الوجه المأمور به من الترتيل والتدبر، ليزداد بذلك من الهدى واليقين والطمأنينة وشرح الصدر وزيـادة الإيمان، فعلى الإنسان أن يلزم هذه العبادات.

مفهوم الفتن

الفتن جمع فتنة، يقول الراغب: أصل الفَتْنِ إدخال الذهب في النار، لتظهر جودته من رداءته، ويستعمل فـي إدخال الإنسان النار، ويطلق على العذاب، يستعمل في إدخال الإنسان النـار: {إِن الَّـذِين فَتَنُـوا الْمـؤْمِنِين والْمؤْمِنَاتِ} (البروج: 10)، بأن أدخلوهم في النار، هذه فتنة، ويطلق على العذاب، كقوله -جل وعلا-: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُم} (الذاريات: 14)، وعلـى مـا يحـصل عنـد العذاب، كقوله -جل وعلا-: {أَ َلا فِي الْفِتْنَةِ سقَطُواْ} (التوبة:49)، وعلى الاختبار، كقولـه: {وفَتَنَّـاك فُتُونًا} (طـه:40)، وفيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى وأكثر اسـتعمالاً، قال -جل وعلا-: {ونَبلُوكُم بِالشَّر والْخَيرِ فِتْنَةً} (الأنبياء:35)، ومنه قولـه: {وإِن كَـادواْ لَيفْتِنُونَـك} (الإسراء:73)، أي يوقعونك ببلية وشدة في صرفك عن العمل بما أوحي إليك. وقال أيضاً: الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من االله -جل وعلا- ومن العبد كالبلية والمـصيبة، والقتل والعذاب والمعصية وغيرها من المكروهات.

فالإنسان قد يكون مُوجدًا للفتنة بنفسه، يفتتن بها ويفتن بها غيره، كما أنها قد تكون من االله -جل وعلا- فإن كانت من االله فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر االله فهي مذمومة، فقد ذم االله -جـل وعـلا- الإنسان بإيقاع الفتنة كما في قوله -جل وعلا-: {والْفِتْنَةُ أَشَد مِن الْقَتْلِ} (البقـرة:191)، وقولـه: {إِن الَّذِين فَتَنُوا الْمؤْمِنِين والْمؤْمِنَاتِ} (البروج:10)، وقوله: {مـا أَنـتُم علَيـهِ بِفَـاتِنِين} (الصافات:162)، وقوله: {بِأَييكُم الْمفْتُون} (القلم:6)، وكقوله: {واحذَرهم أَن يفْتِنُوك} (المائدة:49). وقال غيره: أصل الفتنة الاختبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى مكروه، ثم أطلقت على كـل مكروه، أو آيلٍ إليه كالكفر والإثم والتحريض والفضيحة والفجور وغير ذلك.

أمور متفاوتة

الفتنة لا شك تطلق على أمور متفاوتة، فمنها الشرك الذي هو في الحقيقة أعظم من القتل وأشد من القتل، إلى أن تصل إلى فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث المتفـق عليه- قال في الخميصة: «كادت أن تفتنني عن صلاتي» والمراد بالفتنة هنا: الانشغال بها، وكذلك الفتنة فـي المال والولد الانشغال بهم عما هو أهم، كل هذا فتنة.

الاستعاذة من الفتنة

وبعض الناس يعتب على من يستعيذ بالله من الفتن، يقول معناه: إنك تستعيذ بالله من أهلك ومالـك وولـدك، يقول: لا تستعذ بالله من الفتن، معناه أنك تريد أن تتجرد من هذه الأمور، لكن الفتن إذا أطلقت واستعيذ بالله منها، فالمراد بها ما يضر في الدين، أما الفتن التي لا تضر فهـي أمرهـا يسير، بل طلبها الشارع كفتنة المال والولد، االله -جل وعلا- يقول بالنسبة للمال: {ولَا تَـنس نَـصِيبك مِـن الدنْيا} (القصص:77)، فهو مطلوب أصلا لإقامة العبودية، لإقامة الهدف الذي من أجله خلقنا، وأيـضاً أمرنا بالتكاثر والتناسل، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك «فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة» مكـاثر بكم الأمم يوم القيامة، فنحن مأمورون بكسب المال من وجهه، لكن لا يكون هدفاً. لا يكون هـدفاً فـي هـذه الحياة بحيث يكون محياه ومماته لهذا المال، يضحي بكل شيء من أجل المال، كما رأينا وسـمعنا فـي هـذه السنين المتأخرة بعدما فتحت علينا الدنيا.

تحقيق هدف العبودية


المقصود أن هذه الفتنة أعني فتنة المال وإن كان أصلها مطلوباً{ولَا تَنس نَصِيبك مِن الـدنْيا} (القصص:77)، إنما طلب لتحقيق الهدف الذي من أجله خلق وهو العبودية الله -جل وعلا-؛ إذ لا تقـوم الحيـاة إلا بالمال، وأيضاً طلب الولد، لبقاء النوع والجنس الإنساني ليعبد الرب -جل وعلا- إلى قيام الساعة، ولو أن كل واحـد من المسلمين عزف عن الزواج خشية أن يبتلى بالأولاد ويبتلى بالأهل لخالف سنة النبـي - صلى الله عليه وسلم - سنن المرسلين.

كيف نتقي هذه الفتنة؟

ثم بين الشيخ الفتنة التي يجب أن يتقيها الإنسان ويستعيذ منها، التي جاءت في قول االله -جل وعلا-: {واتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبن الَّذِين ظَلَمواْ مِنكُم خَآصةً واعلَمواْ أَن اللّـه شَـدِيد الْعِقَـابِ} (الأنفال:25). يقول القرطبي: قال ابن عباس -رضي االله عنهما-: أمر االله ألا يقـروا المنكـر بـين أظهرهم؛ فيعمهم العذاب؛ لأن االله -جل وعلا- يقول: {واتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبن الَّذِين ظَلَمـواْ مِـنكُم خَآصـةً واعلموا أَن اللّه شَدِيد الْعِقَابِ} (الأنفال:25)، والسؤال كيف نتقي هذه الفتنة؟ هذا ما سنجيب عنه في الحلقة القادمة إن شاء الله.