تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: "ما بعدَ السَّلفيَّة" إلَّا الضَّلالُ!

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي "ما بعدَ السَّلفيَّة" إلَّا الضَّلالُ!

    خَسارةُ العالَـمِ بانحِسارِ السَّلَفيَّة
    الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي
    13 من ربيع الأول 1437هـ

    كانت القُرونُ الثَّلاثةُ الأُوَلُ بعد هجرةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، هي عصرَ سِيادةِ عقيدةِ السَّلفِ -رِضوانُ اللهِ عليهم-وفيما بعدَها بدأتْ مَذاهِبُ البِدعة ترتفِعُ مِن هنا وهناك، حتى جاء القرنُ الخامسُ الهِجريُّ، حيثُ بدأتِ الدولةُ السلجوقيَّةُ في عهدِ آخِرِ مُلوكها الأقوياءِ ألْب أرسلان، وابنِه ملِك شاه، ووزيرِهما نِظام المُلك [ت ٤٨٥]؛ ففي ذلك العصرِ كانت عنايةُ الدولةِ عظيمةً بالعلومِ الشرعيَّةِ، فأُنشِئت المدارسُ في جميعِ أنحاءِ الدولةِ المنتشرةِ مِن الصِّينِ شرقًا، وحتى فِلَسطين غربًا،
    إلَّا أنَّ هذه النهضةَ العِلميَّةَ صاحَبَها انحِسارٌ لِعقيدةِ السَّلَف؛ حيثُ ظهرَتِ البِدعةُ في عددٍ من القضايا المهمَّة؛ كصفاتِ اللهِ تعالى، والقَضاءِ والقَدَر، وتوحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ في عبادَتِه؛ فقد كان الوزيرُ نِظام المُلك - على فَضلِه وعِلْمِه أشعريًّا متعصِّبًا، فكان أنْ أدَّى فرْضُه المَذهبَ الأشعريَّ في المدارسِ، وقَصْرُ وظيفةِ التَّدريس فيها على الأشاعرةِ إلى أمرَيْنِ خَطيرَينِ:

    الأوَّل: انحِسارُ عَقيدةِ السَّلَف، وانتِشارُ عَقيدةِ أهلِ الكلامِ مِنَ الأشاعرةِ والماتُريديَّة، واتِّخاذُهم مِن أهلِ السُّنَّة لَقبًا لِأنفُسِهم، وتَلقيبُ أتباعِ السَّلفِ بالحَشْويَّة.

    الثاني: أنَّه ترتَّب على اعتِناقِ العُلماءِ لِلعقائدِ الأشعريَّة انفِتاحُ البابِ أمامَ الخُرافاتِ الصُّوفيَّة، وشِرْكيَّاتِ القُبوريِّينَ؛ لِتصِلَ إلى المَساجِد والخَلَوات، حتى كثُرَتِ الأضرحةُ وأصحابُ الطُّرُقِ والمُتدرْوِشَةُ ، وضعُفَتِ الهَيبةُ مِن الابتداعِ في الدِّينِ، وتقلَّصَتْ مكانةُ أهل العِلمِ والعَقل والاتِّباع، وأصبح التقدُّمُ والتقديرُ للمنتسبينَ للخِرَق[جمع خِرْقَة]، والأحوالِ والخوارق، وكان ذلك خَسارةً عظيمةً، ليس مِن جِهةِ ضَعفِ الالتزام الصَّحيحِ بالعقائِد والسُّلوك الإسلاميِّ وحَسْبُ، بل تقلَّصتْ أيضًا علومُ الفَلَك والصِّناعاتِ والكيمياءِ والفيزياء ِوالطِّبِّ؛ إذ لم يَعُدِ المَشرقُ الإسلاميُّ في مِثل هذه العلومِ كما كان في القُرونِ الثلاثةِ وما أعقَبَها، حتى انحِسارِ السَّلفيَّةِ، أمَّا مِصرُ وبَرْقةُ وطَرابُلُسُ والقَيْرَوانُ وما حَولَها، فكان انحِسارُ مَذهبِ السَّلفِ فيها أسبَقَ، وغلبَةُ البِدعةِ فيها أعنَفَ؛ بسببِ خُضوعِها لِدولةِ بني ميمون القدَّاح، المعروفة بالفاطميَّة، التي كانتْ أيضًا العونَ لأوربَّا في إسقاط إمارةِ المُسلمينَ في صِقِلِّيَّةَ، وجَنوبِ إيطاليا، وجزيرة كِريتَ.

    ولم يَتأخَّرْ كثيرًا بقاءُ قوَّةِ عُلوم الصناعات، وما شابهها مِنَ المَعارفِ في المَغربِ الإسلاميِّ، وأخُصُّ الأندَلُسَ؛ فقد أُكْرِه العُلماءُ على العَقيدة الأشعريَّة، وحاربتْ دولةُ الموحِّدين عقائدَ السَّلَفِ، وكانتْ أكثرَ توغُّلًا في مسالِكِ الخُرافةِ مِن دُوَلِ المَشرقِ.

    ولم تَمْضِ سَنواتٌ بعدَ ارتفاعِ رايةِ البِدْعةِ إلا وقد نَجَم الخِلافُ بَيْنَ المُسلمين في أسوأِ صُوَرِه، وتقطَّعَتْ دولةُ السَّلاجقة قِدَدًا، وانْهار النَّاسُ، وأصبحوا مُضمَحلِّينَ في عقيدةِ الجَبْرِ؛ ما بَيْنَ قانطٍ مِن رَوْحِ اللهِ، وذاهبٍ في خُرافاتِ أصحابِ الطُّرُقِ، وذاهلٍ في أمرِ دُنياه، وهو الوضعُ الذي مَكَّن جَحافِلَ الصَّليبيِّين مِن أن تَقْدَمَ مِن وَسَط فرنسا وأُوربا، وتصِلَ مُنهَكَة في غايةِ ما يَكونُ مِن الإعياءِ؛ فلا تَكادُ تَتجاوزُ أسوارَ أنطاكِيةَ حتى تَتساقَطَ تَحتَ سَنابِكِ خُيولِهم مُدنُ سواحِلِ الشَّامِ مدينةً بعدَ مدينةٍ، حتى استَوْلَوْا على القُدس في ٢٢ من شعبانَ عام ٤٩٢هـ، أي بَعْدَ سبعةِ أعوامٍ مِن وفاةِ الوَزيرِ نِظام المُلك -رحِمه الله-، الذي كانتِ الدَّولةُ في عَهدِه قويَّةً مُتماسكةً مِن سواحلِ فلسطين، حتى ولايةُ كاشغار في الصين الحاليَّة، إلَّا أنَّ التفريطَ بعقيدةِ الأُمَّة من أجْلِ مصالحَ سِياسيَّةٍ، وإنْ تبادَرَ إلى الوهمِ أنها أنفَعُ للدَّولةِ؛ فإنَّ حَقيقةَ الأمرِ أنَّ سُنَّةَ اللهِ تعالى قد تَستَبقي المُتَاجِرَ بمنافِع الدُّنيا، لكنَّها لا تَستَبقي المُتاجِرين بالعقائِد، مهما عَظُمَ فَضلُهم، وحَسْبُنا بنظامِ المُلك، والسلطان ملك شاه، وأبيه ألْب أرسلان مَثلًا.

    وبعد هذا الاستبعادِ لعقيدةِ السَّلف، وما حلَّ بسبَبِه مِن نكَباتٍ سياسيَّة وعسكريَّة واجتماعيَّة ودِينيَّة وأخلاقيَّة، ظلَّ العِلمُ الشرعيُّ مِن فِقهٍ وحديثٍ وأصولٍ معها قويًّا، بل مُشَرِّفًا، بسببِ المَدارسِ والأوقافِ التي أُنشِئَت له، إلَّا أنَّ الانحرافَ في العقائدِ والسُّلوكِ ظلَّ يَزدادُ يومًا بعدَ يومٍ، وللأسفِ فقد حصَلَتْ فُرصٌ قويَّة جدًّا للإصلاحِ، لكنَّها لم تُستَثمَرْ، ومن ذلك عهدُ السلطان عِماد الدِّين زنكي [ت ٥٤١] وعَهدُ السُّلطان صلاح الدِّين الأيوبي [ت ٥٨٩]؛ فقد ذهَب عصرُ الرَّجُلَيْنِ ولم يُكمِلا فيه إصلاحَهما العَقديَّ، فما حقَّقاه من عَودةٍ بالأُمَّة نَحوَ الجهادِ والانتصارِ على الصَّليبيِّين وإسقاطِ دولةِ الباطنيِّين في مصرَ، كان حريًّا أن يُستَكمَلَ، وتتمَّ العودةُ إلى كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُفارقةُ ما جنَحَت إليه الأُمَّة مِنَ البِدعة والخُرافة، إلَّا أنَّ ذلك لم يكُن! وكان مِن عواقِبِه اضْمِحلالُ سَلْطَنة السَّلاجقةِ والأيوبيِّينَ بأقلَّ مِن مِقدارِ عُمُرِ رَجُلٍ واحدٍ، لِيعقُبَه الشَّرُّ العظيم، والبلاءُ المُبينُ، وهو اجتياحُ المَغولِ لِبلاد المسلمين في سنواتٍ معدوداتٍ.

    ولم تتمكَّنْ هذه الأُمَّةُ الغَريبةُ مِن شُعوبِ المسلمين بهذه السُّرعةِ العجيبةِ، لولا انحِسارُ عقيدةِ السَّلَف، وتشتُّتُ قُلوبِ النَّاسِ في المشارِب والأهواء، والاعتقاداتِ الباطلةِ في الأمواتِ، والتعلُّقُ بالصَّالحين مِن الأحياءِ، بدَعْوى وِلايَتِهم وامتلاكِهم قُدراتٍ خفيَّةً على النَّاس، وغير ذلك مِن مزاعِمِ التَّخلُّف والانحطاطِ، ومَن لم يكُن معه شيءٌ من هذه المزاعِم والتخبُّصات في العقائِد؛ فهو إمَّا عالِـمٌ مُنزَوٍ مُفارِقٌ لِمَا عند النَّاس، أو عامِّيٌّ سادرٌ في دُنياه، لا يَدخُلُ مع أحدٍ في صَخَبٍ في مِثْل هذه التُّرَّهاتِ، أو مُتهَتِّكٌ لا ينظُرُ إلى أهلِ التديُّن بعينِ رِضًا.

    والقارئُ حين يبحثُ في مُدوَّناتِ تاريخ مصرَ والشَّامِ عن تلك الفترةِ، ويُفَتِّش فيما يمرُّ به مِن أسماءِ القادة والأمراء وكُتَّاب الدَّولة، ويبحثُ فيهم عن أهلِ الشَّامِ ومصرَ مثلًا، فلنْ يجِدَ إلَّا النَّزرَ اليسيرَ، أمَّا الأكثرونَ فهم مِن رجالِ الجنديَّة مِن المماليكِ والأتراك والأكراد، وأمَّا سائرُ النَّاسِ، فأهلُ الدِّيانةِ منهم أقعَدَتْهمُ البِدَع والفِكرُ الصُّوفيُّ بمختَلِف درجاتِه عن بُلوغِ هذه الرُّتَب، وغير أهلِ الديانةِ، كما ذكرتُ آنفًا.

    وحين نَصرَ اللهُ المماليكَ في عين جَالُوت [٦٥٨هـ] وحقَّق اللهُ وعدَه بألَّا يُهْلِكَ أُمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بسَنَةٍ عامَّةٍ، كانتْ تلك فرصةً مناسبةً ليقودَ العُلماءُ الأُمَّةَ إلى عقيدةِ السَّلَف، وتنطلِقَ من هناك حركةُ الإصلاح الدِّينيِّ، إلَّا أنَّ الأمرَ تأخَّرَ قليلًا، حتى بدأ ابنُ تيميَّة دعوتَه الإصلاحيَّة، ربَّما بعد عين جَالُوت بعشرينَ عامًا [ت ٧٢٨]؛ حيث نجح في بعْثِ عقيدةِ السَّلَف مِن جديدٍ وتعليمِها للنَّاس، إلَّا أنَّه لم يَستطِع إقناعَ الدَّولة بتبنِّيها؛ لذلك بَقِيَت الخُرافةُ والبِدعةُ مَهيمنةً على عُقولِ النَّاسِ، وسبَّب غَرَق المسلمين فيها الانفصامَ الخطيرَ الذي ظلَّتْ تعيشُه بين ما تتعلَّمُه من قرآنٍ وحديثٍ وفِقه، وبين ما تُمليه عليها انحرافاتُها البِدعيَّة، ممَّا ليس في كتابٍ ولا سُنَّة ولا فِقه.

    وقد نَجحتِ الدولةُ العُثمانيَّة في بداياتها نجاحًا عسكريًّا وسِياسيًّا، لكنَّها كانتْ هي أيضًا غارقةً في الانحرافِ العَقَديِّ، وكان هذا هو أظهَرَ العوامِل لشُيوعِ الجَهلِ والتخلُّف العلميِّ في سائر ممالك الدَّولة الإسلاميَّة العُثمانيَّة، حتى وَجَدتْ نَفْسَها مع جيرانِها الأوربيِّين التي كانتْ سيِّدَتهم، وهي تشتري أسلِحَتَها منهم لتُقاتِلَهم بها.

    وكان الضَّلالُ العَقَديُّ، والإيمانُ بالجَبرِ، والانقيادُ إلى شيوخِ الطُّرُق، والاستِغاثةُ بالموتَى شيئًا من القُيودِ اليسيرةِ التي كبَّلَت الأمَّةُ الإسلاميةُ فيها نفسَها، فلم تشعرْ إلَّا والصَّليبيونَ يعودون مِن جديدٍ، لكنَّهم هذه المرَّة لم يستولوا على سواحِل الشَّام، كما حدَث في أواخِرِ القرنِ الخامِس، بل استولَوْا على جميعِ بلادِ الإسلامِ مِن الصِّين حتى طَنجةَ، وكُلُّ ذلك في أسرعِ عمليَّات احتلالٍ في التاريخِ؛ فقد كانتِ الأُمَّةُ خانعةً ممتلئةً؛ بسبب الغُربةِ عن الدِّين بالقابليَّة للاستِعبادِ، ولم تبقَ أرضٌ لم تطأْها قَدَمُ المستعمِرِ إلَّا تلك الأرضَ في كَبِد جزيرةِ العَرَبِ، التي جعَلَها اللهُ مُنطلَقًا للدَّعوةِ السَّلفيةِ مِن جديدٍ.

    https://dorar.net/article/

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: "ما بعدَ السَّلفيَّة" إلَّا الضَّلالُ!

    إن قوة الباطل تكمن فى ضعف اهل الحق وانشغالهم عن طلبه فإذا انتبه اهل الحق ارتبك اهل الباطل
    أن الحق يدور مع بعض الناس، ويتنكب عنه آخرون
    ***********
    قال الإمام الشوكاني : مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل ...
    إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل الباطل؛ وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض ، كذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه ، وهو مثل الحق .
    قيل:
    إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية ، وهو يلم في طريقه غثاء ، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . . ولكنه بعدُ غثاء . والماء من تحته سارب ساكن هادئ . . ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . . كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة ، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص ، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعدُ خبثٌ يذهب ويبقى المعدن في نقاء . .
    ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه بعدُ زبد أو خبث ، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه .
    والحق يظل هادئاً ساكناً . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات . ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ، ينفع الناس .
    ورغم هذه الحقيقة التي كلما تذكرها أهل الخير و دعاة الحق و تجلت لهم غمرهم التفاؤل بنصر قريب للحق
    إلا أن هناك حقيقة أخرى ينبغي أن لا تغيب عن أذهانهم ألا و هي
    أن الصراع بين الحق و الباطل باقٍ إلى قيام الساعة فالزبد لا يكون جفاءً إلا إذا قذفه السيل بقوة تبدد تراكمه و تمحق وجوده والذهب لا يلمع بريقه و يظهر جماله و تزال الأوساخ العالقة به حتى يصلى بالنار المحرقة و كذلك الحق لا يزال في صراع مرير مع الباطل و أهله ، يصطلي أهل الحق بناره ولكن الدولة والغلبة في نهاية المطاف للحق و أهله قال تعالى : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } البقرة 251
    قال ابن عطية رحمه الله :
    [أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لولا دفعه بالمؤمنين في صدور الكفرة على مر الدهر { لفسدت الأرض } ، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي الزمان من قائم بحق ، وداع إلى الله ومقاتل عليه ، إلى أن جعل ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة ، فله الحمد كثيراً .
    وقيل:
    [ لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض . ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة ، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع ، فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظل أبداً يقظة عاملة ، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة . . وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء . . يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف طريقها إليه واضحاً . وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض . وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل ، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه . .
    وهنا يمضي الله أمره ، وينفذ قدره ، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا ، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية ، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه . وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة .
    ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر . ذلك أنها تمثل إرادة الله الشرعية في دفع الفساد عن الأرض ، وتمكين الصلاح في الحياة . إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار

    من هذا نخلص إلى الحقائق التالية :

    1/ اليقين بأن الباطل مهما ارتفع فهو إلى انخفاض و مهما انتفش فهو إلى زوال و أن النصر و التمكين للحق و الخير
    و أن دولة الباطل ساعة و دولة الحق إلى قيام الساعة .
    2/ أن ارتفاع الباطل و علوه وزهو أهله بذلك إنما هو ابتلاء من الله لأهل الخير و الإيمان
    و في ذلك الابتلاء فوائد جليلة منها :
    أ/ اختبار إيمانهم و صبرهم و ثباتهم على الحق و صدعهم به و مجالدتهم لأهل الباطل .
    ب/ ليعلي الله بذلك ذكرهم في الدنيا و يرفع درجاتهم في الآخرة .
    ج/ ليتداعى أهل الحق لنصرته والذود عن حياضه فيحدث لهم ذلك نشاطاً و يودعوا حياة الدعة و السكون و ينتشلهم ذلك من الكسل و التواني إلى حياة البذل و العطاء و ذلك و الله من أعظم المنافع و كم من بلية أحدثت في الأمة حياة .
    د/ أن صراع الباطل للحق يكسب الحق و أهلة قوة ومناعة في مواجهة الباطل في جولاته القادمة .
    3/ ينبغي للحق أن يكون هو الذي يدير الصراع مع الباطل فالسيل يحمل الزبد و يدفعه بقوة فيبدده و النار التي توقد لتستخلص الذهب أول ما تحرق الأوساخ التي تغطيه و إن أرهق السيل كثرة الزبد لكنه يملك من القوة و النشاط ما يحيله هباءً وإن آلم الذهب حر النار فإنه يملك من القوة و الصلابة ما يجعله ثابت يبصر فتات الأوساخ تتطاير عنه
    و هكذا ينبغي أن يكون دعاة الحق يصبرون و يتحملون ويجالدون و في داخلهم من القوة و الثبات ما يجعل الباطل يتساقط أشبه ما يكون بأوساخ الذهب و زبد السيل .
    4/ أن صراع الحق للباطل دليل على قوة الحق
    فالسيل الضعيف لا يحمل زبداً إنما يحمله السيل القوي الجارف المتدفق
    و كذلك الحق يتصارع مع الباطل و لكنه ما يلبث أن يصرعه
    قال تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء: 18
    وقيل
    فكأنما الحق قذيفة . يقذف بها على الباطل ، فيشق دماغه! فإذا هو زاهق هالك ذاهب ...
    هذه هي السنة المقررة ،
    فالحق أصيل في طبيعة الكون . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلاً ، طارئ لا أصالة فيه ، ولا سلطان له ،
    يقذف عليه بالحق فيدمغه . ... ولقد يخيل للناس أحياناً أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير .
    وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منزوياً كأنه مغلوب .
    وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمد الله فيها ما يشاء ، للفتنة والابتلاء .
    ثم تجري السنة الأزلية الباقية ... : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } والله يفعل ما يريد
    5/ أن الحق محبوب تأنس به النفوس و تميل إليه القلوب و تنجذب نحوه الأفئدة و تبحث عنه أشبه ما يكون بالسيل الذي تفرح به كل المخلوقات و الذهب الذي زين للناس حبه
    أما الباطل فمبغوضٌ مكروهٌ تنفر منه النفوس أشبه ما يكون بالزبد و أوساخ الذهب فمن يفرح بها و هذا رصيد قوي لدعاة الخير و أرباب الصلاح فالنفوس قد فُطرت على حب الخير و بغض الباطل فعليهم أن يجتهدوا في بيان الحق و تجلية الباطل .
    6/ أن الحق قوته و جاذبيته في ذاته فتجليته للناس و بيانه على حقيقته يجعل النفوس تنجذب إليه فهو لا يحتاج إلى كبير تزيين كيف و هو زينة أشبه ما يكون بالذهب .
    و الباطل ضعفه في ذاته فهو لا يروج على الناس إلا بالتلبيس و التزيين و تزييف المسميات فينخدع به الناس
    و لو ظهر للناس بصورته الحقيقية لانجفل عنه الناس و فروا منه فرارهم من المجذوم
    فمن يشتري الزبد أو يرغب في الأوساخ
    و من هنا فالتبعة على دعاة الخير عظيمة جداً في تجلية الحق و بيانه للناس و تجلية الباطل و إظهاره للناس بقبحه الذاتي
    و عندها ستكون الدولة للحق
    فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
    7/ اليقين التام بأن النصر و الغلبة لأهل الحق و دين الإسلام مهما طال ليل الباطل
    فنور الحق قادم يقشع ظلمته
    فعلى الدعاة أن يكونوا على ثقة تامة بذلك و لكون مطيتهم في كل أحوالهم التفاؤل بالغلبة و التمكين و سلاحهم الصبر و التقوى
    { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } آل عمران : 120
    و ها هو الزبد يعلو و الشر يرفع عقيرته و الأعداء بجميع فئاتهم يرمون الإسلام عن قوس واحدة ينوعون الأساليب و الخطط لحرب الإسلام واجتثاثه من الأرض
    مصداقاً لقول الله تعالى : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }التوبة 32
    و العجيب في ذلك كله هو جلد الفاجر وعجز التقي
    وصدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيما روي عنه أنه قال : اللهم إني أشكو إليك جلَدَ الفاجر وضعف التقي .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •