من فضائل آية الكرسي

فالح عبدالله العجمي



الشفاعة لاتكون إلا لمن رضي الله قوله وعمله وهم أهلا لتوحيد والإيمان
إن في سور القرآن الكريم وآياته من الخير والبركة ما دلنا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك آية الكرسي، هذه الآية العظيمة المباركة التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها أعظم آية في القران الكريم، ففي صحيح مسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال: فضرب في صدري، وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر»، وكانت أعظم آية لما اشتملت عليه من الأسماء الحسنى والصفات العلا لله -تعالى-، ونفي النقائص عنه -سبحانه وتعالى.
قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: «إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات». اهـ
فضائل آية الكرسي
ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فضائلها، وذكر منها أنَّ من قرأها في دبر كل صلاة بعد أن يذكر الله ويسبح ويهلل فإنها تكون سببًا في دخوله الجنة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت»، ومنها أيضًا أنها سبب من أسباب حفظ الله -عز وجل- للعبد؛ فإن الإنسان يذكرها في أذكار الصباح وأذكار المساء، وكذلك في أذكار النوم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ آية الكرسي في الليل كان عليه من الله حافظًا، أي ملك يرسله الله -سبحانه وتعالى- إلى هذا الإنسان الذي قرأ هذه السورة فيحفظه من الشرور بأنواعها، شياطين الإنس والجن ومن الدواب والهوام حتى يصبح، ومن قرأها في النهار حفظه الله وأنزل عليه حافظًا من الملائكة يحفظه من كل الشرور حتى يمسي».
معان عظيمة
وقد اشتملت هذه الآية على معاني عظيمة من جهة توحيد الله وإثبات أسمائه وصفاته، وعموم علمه وقدرته -جل وعلا-، فقوله -سبحانه-: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (البقرة:255) فهذا معنى كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فإن معناها: الله لا إله إلا هو، يعني: لا معبود بحق إلا هو، والإله هو المعبود، والتأله هو التعبد، فمعنى لا إله أي: لا مألوه، والمألوه معناه المعبود، أي: لا معبود بحق إلا الله وهو الحي القيوم -سبحانه وتعالى-، الحي الذي لا يموت، ولا يعتريه سنة وهي النعاس، ولا نوم وهو ما فوق النعاس، لكمال حياته، فلا نوم ولا موت ولا نعاس ولا غفلة، بل هو في غاية من العلم والقدرة والبصيرة بأحوال العباد -سبحانه وتعالى-، فهو -سبحانه وتعالى- حي حياة كاملة لا يعتريها نقص ولا ضعف ولا غفلة ولا نوم ولا نعاس ولا موت ولا غير ذلك من الآفات.
القيوم
القيوم أي القائم على أمر عباده والمقيم لهم سبحانه، وهو المقيم لمخلوقاته وهو الحافظ لمخلوقاته، فلا قوام للعباد ولا للمخلوقات إلا به -سبحانه وتعالى-، فهو الذي أقام السماوات وأقام الأرض وأقام كل شيء، كما قال -سبحانه-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (الروم:25)، فهو المقيم للخلائق والحافظ لها والموجد لها والمعدم لها فهو على كل شيء قدير -سبحانه وتعالى.
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة:255) يعني: لا تصيبه ولا تعتريه سنة وهي النعاس وهي النوم الخفيف، ولا نوم وهو النوم الثقيل، فلا يعتريه غفلة ولا نعاس ولا نوم ولا موت، بل حياته كاملة -سبحانه وتعالى-، ثم قال -سبحانه وتعالى-: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (البقرة:255) يعني: هو المالك لكل شيء، هو المالك للسماء وما فيها، والأرض وما فيها.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}
ثم قال -سبحانه-: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة:255) أي: لا أحد يستطيع أن يشفع إلا بإذنه -سبحانه-، يعني: يوم القيامة لا يتقدم أحد يشفع حتى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنه، حتى يأذن له، وما ذاك إلا لعظم مقامه وجبروته، وكونه -سبحانه- المستحق لأن يعظم ويجل، وألا يتقدم بين يديه إلا بإذنه -سبحانه وتعالى-، فإذا اشتد الكرب يوم القيامة بالناس فزع المؤمنون إلى أبيهم آدم ليشفع لهم إلى الله حتى يقضي بينهم، فيعتذر آدم ثم يحيلهم على نوح، فيأتون نوحاً فيعتذر - صلى الله عليه وسلم - ويقول: اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيعتذر وكل واحد يقول: نفسي نفسي، فيقول لهم موسى: اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيأتون محمداً - صلى الله عليه وسلم - فيقول: أنا لها - صلى الله عليه وسلم -، ثم يتقدم فيسجد بين يدي ربه، ويحمد بمحامد عظيمة ويثني عليه -سبحانه- بمحامد يفتحها عليه، ثم يقال له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فعند ذلك يشفع - صلى الله عليه وسلم - في الناس أن يقضي الله بينهم، فيقضي الله بين عباده بشفاعته، ثم بعد القضاء يصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى:7)، ويوقف أهل الجنة لا يدخلونها حتى يشفع فيهم - صلى الله عليه وسلم -، فيشفع لأهل الجنة حتى يفتح لهم أبوابها بشفاعته - صلى الله عليه وسلم -، أما في الدنيا فكل إنسان يدعو ربه مأمور بالدعاء كما قال -تعالى-: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60)، كونه يدعو ربه ويسأله أن يغفر له ويدخله الجنة وينجيه من النار، ويطلب من إخوانه الدعاء له بالمغفرة فلا بأس بهذا، لكن يوم القيامة لا أحد يتقدم إلا بإذنه -سبحانه وتعالى-، الأنبياء وغيرهم لا أحد يشفع إلا بإذنه -سبحانه وتعالى-: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة:255).
الشفاعة لأهل التوحيد والإيمان
فالشفاعة لا تكون إلا لمن رضي الله قوله وعمله، وهم أهل التوحيد والإيمان، هم الذين يشفع فيهم الأنبياء، أما أهل الشرك فلا شفاعة لهم، كما قال -تعالى-: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر:48)، وقال -تعالى-: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر:18) الظالمين: يعني: المشركين، فالظلم إذا أطلق هو الشرك: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13) فمعنى قوله -سبحانه-: {مَا لِلظَّالِمِينَ} (غافر:18) يعني: ما للمشركين {مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر:18) فالمشرك لا تنفعه الشفاعة ولا يشفع فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا المؤمنون، بل ليس له إلا النار يوم القيامة، نعوذ بالله من ذلك، وإنما الشفاعة لأهل التوحيد والإيمان ولعصاة الموحدين، أما الشفاعة في أهل الموقف فهي عامة لأهل الموقف كلهم من الكفار وغيرهم في أن يقضى بينهم، فهذه شفاعة عامة في القضاء بين الناس، يشفع فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للقضاء بينهم، فيقضي الله بينهم -سبحانه- بحكمه العدل -جل وعلا- كما تقدم.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}
ثم قال -سبحانه-: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (البقرة:255) يعني: هو العالم بأحوال عباده، لا يخفى عليه خافية -جل وعلا-، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ما مضى وما يأتي، ويعلم أحوال عباده الماضين والآخرين، ويعلم كل شيء -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال:75)، وقال -تعالى-: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} فهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما أطلعهم عليه -سبحانه وتعالى-، أما هو فهو العالم بأحوال عباده كلهم ماضيها ولاحقها، يعلم أحوالهم وما صدر منهم وما ماتوا عليه وما لهم في الآخرة، يعلم كل شيء -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى-: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق:12)، ويقول هنا: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (البقرة:255) فهم لا يعلمون ما عنده إلا بتعليمه -سبحانه وتعالى- بإطلاعه لهم على يد الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، أو بما يجري الله لهم في الدنيا من مخلوقات وأرزاق وأشياء يطلعهم عليها -سبحانه وتعالى.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}
ثم قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (البقرة:255) الكرسي: مخلوق عظيم فوق السماء السابعة غير العرش، قال ابن عباس: هو موضع القدمين قدمي الرب -سبحانه وتعالى-، وقال بعض أهل العلم: إنه العرش؛ لأن العرش يسمى كرسي، والمشهور الأول: أنه مخلوق عظيم فوق السماء السابعة غير العرش الذي هو عرش الله -سبحانه وتعالى- يعني فوقه الله -سبحانه وتعالى-، المذكور في قوله -سبحانه-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5)، وفي قوله -جل وعلا-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف:54) في سبعة مواضع من كتاب الله، ذكر فيها استواءه على العرش -سبحانه وتعالى-، وهو مخلوق عظيم قد أحاط بالمخلوقات وهو سقف الجنة، قال فيه -جل وعلا-: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة:17) يعني: يوم القيامة.
{وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}
{وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (البقرة:255) يعني: لا يكرث الرب ولا يثقله ولا يشق عليه حفظ المخلوقات -سبحانه وتعالى- هو الحافظ للسماوات وهو الحافظ للأرض وما فيهما، ولا يشق عليه ذلك ولا يكرثه ولا يثقله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه القادر على كل شيء، ولهذا قال سبحانه: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (البقرة:255) يعني: لا يكرثه ولا يثقله ولا يشق عليه، بل هو القادر على كل شيء -سبحانه وتعالى.

{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255) له العلو المطلق، علو الذات فوق العرش، وعلو القهر والسلطان، وعلو الشرف والقدر -سبحانه وتعالى-، فله العلو الكامل -سبحانه وتعالى-، فهو العالي فوق جميع خلقه -جل وعلا- فوق العرش، وهو العالي من جهة كمال أسمائه وصفاته وسلطانه وقدرته -جل وعلا-، وله الشرف والفضل، فهو أفضل شيء وأشرفه، فله علو القهر والسلطان وعلو الشرف والقدر وعلو المكان -سبحانه وتعالى- فوق العرش، قال -تعالى-: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (غافر:12) وقال -تعالى- هنا: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255) فهو العلي فوق خلقه، القادر على كل شيء، العظيم السلطان، المتصرف في عباده كيف يشاء، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، فله العظمة الكاملة -سبحانه وتعالى-، فلا أعظم منه ولا أكبر ولا أعلم ولا أقدر منه -سبحانه وتعالى.