دروس من الهجرة النبوية


الهجرة النبوية حدث عظيم، فيه من الآيات البيِّنات والدروس والعِبَر ما لو استلهمته أمَّة الإسلام اليوم -وهي تعيش على مفترق الطُّرُق- لتحقَّق لها عزُّها وقوَّتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنَّه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلاَّ بالتمسُّك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها.

لقد أكَّدت دروس الهجرة النبويَّة أنَّ عزَّة الأمَّة تكمن في تحقيق كلمة التَّوحيد، وأنَّ أيَّ تفريطٍ في أمر العقيدة مآله ضعفها وهزيمتها، فالمتأمِّل في هزائم الأمم وانتكاسات الشُّعوب عبر التاريخ يجد أنَّ مَرَدَّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتَّساهل فيها، فقوَّة الإيمان تفعل الأعاجيب، وتجعل المؤمن واثقًا بالله -تعالى- مطمئنًا إليه متوكلاً عليه حسن التوكل، ولا سيَّما في المحن والشَّدائد.

فهذا أبو بكر الصدِّيق -رضي الله عنه - ينظر إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصَرَنَا! فيجيبه - صلى الله عليه وسلم - جواب الواثق بنصر الله: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟ وفي هذا درسٌ بليغٌ لدعاة الحقِّ وأهل الإصلاح في الأمَّة: أنه مهما احْلَوْلَكَتِ الظُّلمات فوعد الله آتٍ لا محالة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110).

كما أنَّ عقيدة التَّوحيد هي الرَّابطة التي تتضاءل أمامها مختلف الانتماءات، فاستحقاق الأمَّة للتبجيل والتَّكريم مدينٌ بولائها لعقيدتها وارتباطها بمبادئها، يُقال ذلك ونحن أمام واقع مرير من تيَّارات إلحاديَّة وافدة ومبادئ عصريَّة زائفة، ترفع شعارات مصطنَعة وتطلق نداءات خادعة.

ومن الدروس المهمة في الهجرة النبوية حسن التوكل على الله -تعالى-، وهو صدق اعتماد القلب على الله في دفع المضار وجلب المنافع، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي إلا الله، ولا يمنع إلا الله، ولا يضر ولا ينفع سواه، قال -تعالى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» رواه أحمد.

ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - في رحلة الهجرة الشريفة متوكلاً على ربه واثقاً بنصره، يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن - صلى الله عليه وسلم - بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها، بل إنه أعد خطة محكمة، ثم قام نفذها بسرية وإتقان، وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخرًا.

كذلك من الدروس المهمة في الهجرة النبوية التي تحتاجها الأمة الآن عدم اليأس والقنوط، فلقد مكثَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مكة مدَّةً من الزَّمن، يدعو قومه إلى الهدى، فما آمن له إلاَّ قليل، بل عاش الاضطهاد والنَّكال، وعُذِّب هو وأصحابُه، فلم يكن لِيَثنِيَه كلُّ ذلك عن دعوته، بل زاده إصرارًا وثَباتًا، ومضى يبحث عن حلول بديلة، فكان أنْ خرَجَ إلى الطائف، باحثًا عن أرض صالحة للدَّعوة، لكنْ وُوجِهَ هناك بأقسى مِمَّا توقَّع، فأُوذي، وقُذِف بالحجارة، وخرج من الطَّائف مطرودًا وقد تَجاوز الخمسين، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان أشد ما يكون عزيمة على مُواصلة رسالته، فأخذ يَعْرض نفسه بإصرار على القبائل في موسم الحجِّ، ويقول: «ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي»؛ فرفضَتْ خَمْسَ عشرةَ قبيلةً دعوتَه، حتى فتح الله له صدور الأنصار، فكانت بيعة العقبة الأولى والثَّانية، وكانت سفارة مصعب بن عمير إلى المدينة، الذي هيَّأ التُّربة الصالحة لاستمرار الدَّعوة، وتكوين الدَّولة في المدينة النبويَّة، فكانت الهجرة تتويجًا لِعَمَل دؤوب، وصَبْر شديد، وحركة لا تعرف الكلل أو الملل.
منقول