السؤال:
♦ الملخص:
فتاة ثلاثينية عانت من تفضيل أمها لإخوتها، وترى أن لا طاقةَ لها بالاستمرار في الحياة وتريد الانتحار، وتسأل: هل أكون كافرة إذا انتحرتُ؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا فتاة في الثلاثين من عمري، فقدتُ والدي وأنا بعمر الثالثة، ناضلت أمي كثيرًا في حياتها، لكنها في الوقت ذاته دفنتنا ونحن أحياء؛ إذ كل ما يُتاح لإخوتنا الذكور محرَّمٌ علينا، فالبنات - كما تزعم أمي - للممات، حتى إنني أتمنى أنني لم أُخلقْ أصلًا، رغم أنني وأخواتي من الفتيات نعمل، وإخوتنا الذكور (أصغرهم في السابعة والثلاثين من عمره) لا يعملون، ويعتمدون علينا في النفقة، تطاردني ذكريات التفضيل بيننا، حياتي معقدة حتى إنني لا أستطيع شرحها، أعلم أن الإنسان خُلق في كبدٍ، وأن علينا الصبر والاحتمال، لكن لا طاقةَ لي بما يُصيبني، وقد منَّ الله عليَّ بالحج العام الماضي، ودعوته كثيرًا، لكن دعواتي لم يُستجب منها شيء، اختلفت نظرتي للحياة حتى الأشياء التي كانت تُسعدني لم تعد كذلك، الفكرة التي تسيطر على تفكيري هي الموت، أتمنى أن أموت، حتى في صلاتي أدعو الله بأن تكون آخر تسليمة لي، أتمنى أن أمتلك الشجاعة وأُقبل على تناول حبوب الانتحار؛ إذ إنها أمامي وأنظر إليها كل يوم، وسأموت بها من غير ألمٍ، وفي نفس الوقت أخاف الله ربي، ولا أريد أن أُغضبه، سؤالي: هل إذا كنت مؤمنة وأشهد بالتوحيد وأقدمتُ على الانتحار، هل أكون كافرة؟ وهل يعذبني الله؟
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
اعلمي - أختنا الكريمة - أن بلاء الدنيا أهون بكثير من بلاء الآخرة؛ فالدنيا كلها ستزول بما فيها من سعادة وأحزان، والحياة تمر سريعًا، أما الآخرة، فهي دار القرار والبقاء؛ فالسعيد من سَعِد في آخرته، والتعيس من تعِس في آخرته؛ فاحمَدي الله تعالى أن بلاءكِ جاء في أمر الدنيا، ولم يأتِ في أمر الآخرة؛ فكم من شخص مبتلًى بترك الصلاة وغيرها من أركان الإسلام! وكم من شخص يرتكب المعاصي ليلَ نهارَ! وكم من فتاةٍ باعت عِرضها لأجل المال أو الشهوة! وأما أنتِ، فجاء ابتلاؤكِ في أمر هو زائل بلا محالة.
فالواجب عليكِ بدلًا من الهمِّ والحزن الذي يعتريكِ أن تحوِّليه إلى سعادة غامرة؛ شُكرًا لله تعالى على نِعَمِهِ عليكِ ورحمته بكِ، لا سيما إذا علمتِ أن البلاء الذي يجده المسلم في الدنيا سينتفع به في الآخرة، برفع درجته وتكفير ذنوبه، وأن هذا البلاء علامة على قوة دينكِ، وأن هذا البلاء علامة على أن الله تعالى أراد بكِ خيرًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، فهل هناك فضل أعظم من هذا؟!
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))[1].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا: ((مَثَلُ المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يُصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا تهتز حتى تُستحصد))[2].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: ((قلتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: الأنبياء، ثم الأمثلُ، فالأمثلُ، يُبتلى الرجل على حسَبِ دينه، فإن كان دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّةٌ، ابتُليَ على حسب دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد، حتى يتركَهُ يمشي على الأرض ما عليه خطيئةٌ))[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يُرِدِ الله به خيرًا، يُصِبْ منه))[4].
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما يصيب المسلم من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حَزَنٍ، ولا أذًى، ولا غمٍّ، حتى الشوكةُ يُشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه))[5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((لما نزلت: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123]، بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا، وسدِّدوا، ففي كل ما يُصاب به المسلم كفَّارة، حتى النكبة يُنْكَبُها، أو الشوكة يشاكها))[6].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ((دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَكُ، فَمَسَسْتُهُ بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لَتُوعَكُ وعكًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، إني أُوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك أن لك أجْرَيْنِ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يُصيبه أذًى من مرضٍ فما سواه، إلا حطَّ الله به سيئاته، كما تحطُّ الشجرة ورقها))[7].
وأما قتل النفس، فهو بلاء عظيم في الآخرة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردَّى فيه خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسه، فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يَجَأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا))[8].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذي يخنُقُ نفسه يخنقها في النار، والذي يطعُنُها يطعنها في النار))[9].
وعن جندب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزِع، فأخذ سكينًا فحزَّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمتُ عليه الجنة))[10].
فعليكِ بالصبر أختنا الكريمة، بل عليكِ بحمد الله كثيرًا على ما أنعم عليكِ من نِعَمٍ جزيلة.
نسأل الله تعالى لنا ولكِ التوفيق والسداد.
--------------------
[1] أخرجه مسلم (2999).
[2] متفق عليه: أخرجه البخاري (5644)، ومسلم (2809).
[3] أخرجه الطيالسي (212)، وابن أبي شيبة (10828)، وأحمد (1607)، وعبد بن حميد (146)، والدارمي (2825)، والترمذي (2398)، والنسائي في «الكبرى» (7439)، وابن ماجه (4023)، وابن حبان (2900)، والحاكم (120)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني.
[4] أخرجه البخاري (5645).
[5] متفق عليه: أخرجه البخاري (5641)، ومسلم (2573).
[6] أخرجه مسلم (2574).
[7] متفق عليه: أخرجه البخاري (5648)، ومسلم (2571).
[8] متفق عليه: أخرجه البخاري (5778)، ومسلم (109).
[9] أخرجه البخاري (1365).
[10] متفق عليه: أخرجه البخاري (3463)، ومسلم (113).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/148907/#ixzz74TGEjmaK