فقه الدعوة وفقه الرفق


قام النبي صلى الله عليه وسلم بتربية أصحابه رضي الله عنهم، وبنى نواة الجماعة المسلمة الأولى على أسس عقدية وتعبدية وخلقية رفيعة المستوي، عجز التاريخ أن يأتي بمثلها من حيث الخصوصية والنوعية، جعل من حياتها وأخلاقها نموذجًا يحتذي به ويُسار على دربه بعد التأسي به وبسنته، والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم.

لقد خرج هذا الجيل القرآني الفريد المتميز، وتربي على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعاه إلى الله فأحسن دعوته، ورباه فأحسن تربيته، حين اتخذ منهجًا ناجحًا وناجعًا في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإلى كتابه العزيز.

جمع فيه بين (الفقه، والرفق) فاعتمد في اقناع الناس على خطاب العقل والانسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب لبيان الطريق الذي به يعرفون الله ويعبدونه ويطيعونه ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه.

إن الدعوة إلى الله عز وجل هي: الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإِيمان: بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإِيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه.

[وأهم الخصائص التي ماز الله - تعالى - بها أمَّةَ الإسلام من غيرها: أنَّها كما قال - سبحانه -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

وخيريةُ هذه الأمَّة على غيرها من الأمم إنَّما جاءت من جهة كونِها أمَّةً مؤمنة بالله، وداعية إلى المعروف والخير، وناهية عن المنكر والشَّر. فالسنن الكونية تقول : الأمَّة التي تموت فيها فريضةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أمَّة هالكة لا محالة ؛ لأنَّ فُشُوَّ المنكرات في أمَّة إنَّما هو إيذان بانهيارها وانفصامها.

قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يدي الظالم، ولتأطرُنَّه على الحق أطْرًا، أو ليضربنَّ الله قلوب بعضِكم ببعض، ثم يلعنكم كما لَعَنهم» (رواه أبو داود).

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن رأى منكم منكرًا فلْيُغيِّره بيده، فإن لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعفُ الإيمان» (مسلم).

فالدعوة المثمرة تقوم على أُسسٍ ثلاثة: الحِكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الحسن؛ أي: الذي يُراد منه الوصول للحق، لا حب الظهور والمراء.

وعلى الداعية أن يراعي أحوال المدعوين، وأن يعتبر أفهامَ المخاطَبِين، فيخاطب كلَّ فئة من الناس بلسانهم وحسبَ فهومهم.

عن أبى هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكلِّ ما سمع» (مسلم)، وفى تفسير قوله - تعالى -: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، [ قال الإمام البخاري - رحمه الله -: "وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: {كونوا ربَّانيِّين}: حلماء فقهاء"، ويقال: الرباني الذي يُربِّي الناس بصِغار العِلم قبلَ كباره][1].

و على ما تقدم يقوم فقه الدعوة الذي تتمدد تمددًا بالغًا في المندوبات والتحسينات والمكروهات وفي المكملات والتحسينات، ويضم إلى ذلك أشياء من أفعال المرؤة والأدب العالي والاخلاق والفطرة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيميل إلى اتجاه خاطر القلب وحديث النفس وهواها بحيث يتخذ من هذا الخاطر والحديث قرينة على الفعل أو الترك.

ومن جانب أخر يتأثر بالظروف المحيطة فيتجاوز مجرد الظروف الضرورية الملجئة إلى مراعاة ظروف طبيعية؛ من أجل أدني مصلحة وأقلها، ومراعاة رد الفعل التربوي في نفس الداعي أو المدعو أو الناظر المراقب، لقد كان الصحابي الواحد يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم ثم يأتيه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمضي داعيًا إلى قومه، ويصبر على آذاهم وتكذيبهم ويتابع طريقه بالرفق واللين حتى يعود بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا جميعًا.

وَفَد ضماد الأزدي رضي الله عنه إلى مكة، وتأثر بدعاوى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استقر في نفسه أنه مصاب بالجنون، كما يتهمه بذلك زعماء مكة، وكان ضماد يعالج من الجنون، فلما سمع سفهاء مكة يقولون، إن محمد صلى الله عليه وسلم، مجنون قال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي.

وحين لقيه قال: يا محمد، إني أرقي من هذا الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد الله، نحمده ونستعينه، ومن يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد».

قال – ضمار –: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « هات يدك أبايعك على الإسلام »، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى قومك»، قال: وعلى قومي. وبهذه الفصاحة وقوة البيان التي تنبعث من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مُلئ إيمانًا ويقينًا وحكمة، فأصبح حديثه يصل إلى القلوب ويحبذها ويرغبها في الإيمان والتصديق له.

فعلى الداعية أن يكون في محل القدوة وعليه أن يضرب المثل العليا للطباع العزيزة، كي يقلده الآخرون.

دخلَ أعرابِيٌّ المسجِدَ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جالِسٌ، فصلَّى، فلما فرغَ قال: اللهمَّ ارحمني ومحمدًا، ولَا ترحمْ معنا أحدًا، فالتفَتَ إليهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: لقدْ تَحَجَّرْتَ واسعًا، فلم يلبثْ أنْ بالَ فِي المسجدِ، فأسرعَ إليه الناسُ، فقال: النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: « أهْريقوا عليْهِ سَجْلًا مِنْ ماءٍ، أوْ دلْوًا مِنْ ماءٍ، ثُمَّ قال: «إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْنَ» (الترمذي).

فالتَّيسيرُ والرفق ورَفْعُ الحرَجِ مِن مَحاسنِ شَريعةِ الإسلامِ، وقدْ ظهَر جليًّا في حياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قولا وعملا.

فالممارس لفقه الدعوة إنما هو فقيه وداعية معا، ولا يصلح للخوض فيه من ليست عنده خبرة الدعاة، ولا له معاناتهم وتقلبهم بين أصناف الناس. عن سعد بن عبادة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: لمن قتل مؤمنًا توبة؟ قال: «لا، إلا النار»، فلما ذهب قال له جلساؤه ما هكذا كنت تفتينا أنًّ لمن قتل مؤمنًا توبة مقبولة فما بال اليوم؟ قال: إني أحسبه رجل مغضب يريد أن يقتل مؤمنًا قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك »؛ مصنف ابن أبي شيبة.

وقد عَلَّمنا الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم فقه الدعوة في مقام آخر - حين أتاه الأعرابيُّ ثائِرَ الرأس يسمع الصحابة دَوِىَّ صوته، وسأله - صلَّى الله عليه وسلَّم – عن الإسلام فأخبرَه، وأوضح له أركانه فقط، فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أفلحَ والله إنْ صَدَق» (متفق عليه).

نعم، لم يُلزمه بأكثرَ من الأركان، وهذا مقتضى حال حديثي العهد بالإسلام وهذا منتهى فقه الرفق في الدعوة إلى الله نتعلمه من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي آمرنا بإتباعه والسير على هديه في جميع أحواله.

وحين بعث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - معاذًا إلى اليمن بيَّن له مقتضى حالهم، فقال له: «إنك تأتى قومًا أهل كتاب»؛ (البخاري ) أي: لهم معاملة خاصَّة تختلف عن المشركين الذين لا كتاب لهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يُثني على أصحابه بما فيهم من خِصال الخير؛ يتألَّفهم ويتودَّد إليهم بذلك؛ قال للأشج - أشج عبد القيس -: «إنَّ فيك خصلتَينِ يحبهما الله: الحِلم والأناة» (مسلم).

وبهذا الرفق استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكسب حب أصحابه، وأن يتألف أجلاف العرب وصناديد الكفر فدخلوا في دين الله أفواجا، وأصبحوا للإسلام جنودًا وقادة.

وعلى كل من يتصدر للدعوة في سبيل الله أن يتحلى بصفات الرفق ويجمع بين الحلم والعلم، وأن يتأسى بأكبر وأعظم من دعا الي الله على بصيرة صلى الله عليه وسلم.


[1] ما بين الأقواس مستفاد من مادة "فقه الدعوة وأدب الداعية"

______________________________
الكاتب: فرج كندي