أبو جهل كان أكثر فهمًا وإدراكًا لمدلول كلمة التوحيد من كثير ممن يعتنقون العلمانية اليوم!
ولذلك رفضها عندما عرضها عليه رسول الله صلى عليه وسلم.
فَهِم أبو جهل أن النطق بكلمة التوحيد لا يعني فقط مجرد الاعتراف بوجود الله والإقرار برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنها تعني أيضًا التسليم والإذعان والانقياد لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
وتعني التزام المنهج والنظام الذي شرعه الخالق سبحانه لمصلحة وسعادة وخير عباده.
فَهِم أبو جهل ما تقتضيه الكلمة من تغيير شامل لحياة قائلها،
في روحه ووجدانه وعمله وسعيه في الحياة وعلاقته بالناس
لقد فَهِم أبو جهل ما لم يفهمه العلمانيون اليوم؛
فكلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ليست فقط مجرد شهادة تلفظها الألسنة وتتحرك بها الشفاه،
وليست مجرد ترتيلة مسبحة أو نغمة تدور في حلقة
أو ترنيمة ذكر تهتز لوقعها أجساد الدراويش.
فَهِم أبو جهل أن "لا إله إلا الله"
هي قضية الحياة كلها،
وأنها تحمل في طياتها التحرر من الوثنية سواء كانت متمثلة فى حجر او شجر أو انظمة وقوانين ودساتير او تشريعات يتحاكم اليها وسواء كانت طواغيت حكم او طواغيت عبادة
لذلك رفض أبو جهل لا اله الا الله عندما عرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وعلى الملأ من قريش أن يقولوا كلمة واحدة، تضمن لهم عز الدنيا ونجاة الآخرة، وهي كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لا تعني فقط - كما يؤمن ويروج العلمانيون - الإقرار بوجود الله تعالى وببعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ودين الإسلام لا يقتصر وينحصر في ذلك الإقرار والاعتراف وفقط؛
قال ابن القيم
(فمن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق، فلم تُدخِلهم هذه الشهادة في الإسلام؛ علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا)
[زاد المعاد، ابن القيم، (3/42)].
يقول ابن القيم رحمه الله -الاسلام أمر وراء مجرد المعرفة والإقرار، فالإسلام ليس مجرد تصديق، بل تصديق وتطبيق، وليس مجرد إقرار، بل إقرار مع إذعان وتسليم وانقياد وطاعة.
الإسلام ليس مجرد مجموعة من المواعظ في الزهد والتقشف تردد
، إنما هو حركة إصلاح وتغيير تشمل كل نواحي الحياة، ومنهج وشريعة حددت القوانين لحياة الإنسان العامة والخاصة، وعقيدة ارتقت بعقل الإنسان ووجدانه وروحه، وهو قواعد وضعها خالق الإنسان سبحانه وتعالى لتنظيم حياته من جهة، وضبط نظام الدولة وتحديد شريعتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية من جهة أخرى؛
لذلك اتفقت عقيدة الإسلام مع عقل وفطرة الإنسان، واتفقت شريعته مع احتياجاته ومصالحه، بما لا يخفى عن كل ذي نظر.
لم يأتِ الإسلام إذًا ليطلب من الناس فقط اعترافًا به وإقرارًا بوجوده،
ولم يأتِ فقط لأداء بعض العبادات وتلاوة بعض الأذكار في المساجد أو بدع للاحتفال ببعض الأعياد
- كما يريده ويصوره العلمانيون -
وإلا فأين نضع التشريعات التي نزل بها جبريل عليه السلام من السماء،وأين نذهب بالتشريعات التي جاءت تحدد علاقات الدولة الخارجية وتنظمها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... ﴾ [المائدة: 1]، ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ... ﴾ [الأنفال: 61]، ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ... ﴾ [الأنفال: 61]، ﴿ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ... ﴾ [النساء: 90]؟ وماذا نفعل بما جاءنا به القرآن لتحديد وضبط علاقتنا بمن يخالفنا في العقيدة:
، ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ﴾ [الممتحنة: 8-9]؟
لم يأتِ الإسلام إذًا ليطلب من الناس فقط اعترافًا به وإقرارًا بوجوده؛
(ولهذا لما جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نشهد إنك لرسول، لم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم؛ أي نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: فلِمَ لا تتبعوني؟ قالوا: نخاف من يهود، فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم، فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فكانوا كفارًا في الباطن، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين؛ فكانوا كفارًا في الظاهر والباطن، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد، وأنشد عنه: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينًا) [مجموع فتاوى ابن تيمية، (7/561)].
إن مقتضى إسلامنا لله رب العالمين هو استسلامنا لحكمه، ومقتضى نطقنا بكلمة التوحيد هو إذعاننا وانقيادنا وتطبيقنا لأحكام القرآن والسنة في السياسة والاقتصاد ونظام الدولة وعلاقاتنا الخاصة والعامة؛ (فدين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين) [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ابن تيمية، ص(41)]. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (والرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام وقاعدته، فيجب على العبد أن يكون راضيًا بلا حرج ولا منازعة، ولا مدافعة ولا معارضة ولا اعتراض؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، فالله عز وجل أقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يرتفع الحرج من نفوسهم في حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليمًا، وهذه حقيقة الرضا بحكمه؛ فالتحكيم في مقام الإسلام وانتفاء الحرج في مقام الإيمان والتسليم في مقام الإحسان) [مدارج السالكين، ابن القيم، (2/192)]. شهادة أن لا إله إلا الله محمدًا رسول الله تعني التصديق والإقرار، وتعني أيضًا المتابعة والاستسلام والإذعان والانقياد لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعني تطبيق شرع الله الذي أنزله على رسوله من فوق سبع سماوات.
ذلك الشرع الحنيف الذي طهر الله به النفوس، وقوم العقول، وصفى الأخلاق، شهادة أن لا إله إلا الله محمدًا رسول الله، تعني الإذعان والانقياد لشرع الله، الذي كشف به الظلمة، وأحيا به الموتى، وأعاد به الحقوق، والذي قضى به على الفساد والانحراف والجبروت في الأرض. شهادة أن لا إله إلا الله محمدًا رسول الله تعني الانقياد والإذعان والتسليم للمنهج الذي وضعه الخالق سبحانه لإسعاد البشر وتحقيق مصالحهم. لقد كان أبو جهل قديمًا صادقًا مع نفسه ومع الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما أعلن أنه لا يتحمل تكاليف ومقتضيات شهادة التوحيد، ولذلك رفضها رفضًا صريحًا من الأساس،
فما بال العلمانيين يراوغون من أجل تزييف الحقائق؟
[بتصرف من موقع لواء الشريعة]