الآراء السياسية في القرآن


إن مفهوم الحاكمية مشروح في الآية التالية: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار، يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين} [سورة الأعراف 54].
من الصعب أن نفهم بالتحديد ما يعني بـ((استوى على العرش)) من الممكن أن الله سبحانه وتعالى عين مكاناً ما كمركز لهذا الكون غير المحدود وجعله منزل الحكم لهذا الكون. وأن هذا المكان – من حيث يحكم الكون، هو المسمى ((العرش)) ومن الممكن أيضاً أن الكلمة قد استعملت كرمز للسلطة والسيادة، و((استوى على العرش)) تدل على أن الله، بعد خلق الكون، قد قبض على زمام القوة وأصبح حاكمه وملكه. ومهما كانت طبيعة الحادث، فإن أهميته وقيمته ((الاستواء على العرش)) الحقيقية، أن الله ليس مجرد خالق للعالم، بل إنه أيضاً حاكمه والمسيطر عليه. إن هذا التصور مهم، وإن القرآن ليريد هذه النقطة أن تكون مدركة تماماً من قبل الإنسان.

ليس الله ذاك الذي خلق العالم ثم انسحب، (تصور الهندوك أن الله انسحب بعد خلق الكون) إن رأي التراجع هذا باطل. إن الخالق لم يبتر صلته بالكون بعد خلقه. إنه لا يزال يقوده ويرعاه. إنه يقود كل صورة فيه. وكل السلطة والقوة في يديه: من أصغر ذرة غبار إلى السديم الضخم، كل شيء خاضع لإرادته ومطيع لأوامره، وقدر الخليقة يعتمد عليه. وهكذا فالقرآن يهدم أساس الشرك، والإلحاد، وعبادة النفس، وإذا لم ينظر الإنسان لله كخالق وحاكم، وإذا ظن أن الله قد أفاد من صلته بالكون وانه الآن ليس له قول نافذ في مجراه، فإن النتيجة الطبيعية لهذا الرأي يكون إما العجرفة وإن كل سلطة إنما للإنسان أو إتحاد قوى أخرى كآلهة. والقرآن قد هدم كلية إمكانية أيهما.


يستعمل القرآن بالتكرار، مفردات لها صلة بالملكية والحكومة لتدل على صلة الله بالكون. والاستنتاج الواضح أن الملك الحقيقي للسموات والأرض إنما هو الله، وانه إليه فقط ترجع الحاكمية للكون. ثم إن الكون كله وحدة منظمة مراقبة من قبل سلطة واحدة. وهكذا فإن أي آخر يدعي الشراكة أو الحاكمية المطلقة، إما لنفسه أو لمجموعة، أو منظمة، إنما هو مصاب بالضلال. والطريق المعقول للإنسان أن يعترف بالخالق، والعظيم كالآله والغاية في العبادة في المعنى الديني للكلمة، والحاكم الوحيد، والسيد والملك في معناها السياسي والاجتماعي.


وتتوضح هذه النقطة أكثر بهذا التعبير: ((له الخلق والأمر)) وهذه تقرر بوضوح أن الله ليس الخالق فحسب ولكنه أيضاً الآمر والحاكم. إنه لم يدع خليقته تحت رحمة الآخرين ليوجهوه كما يشاءون، ولم يجعل أي جزء منه حراً كلية ليفعل ما يشاء. إن الله هو الحاكم الحقيقي ويباشر مراقبة حقيقية على مملكته. الليل والنهار لا يعقبان بعضهما من نفسيهما، ولا تتغير الفصول مصادفة، ولكنها إرادة الله التي تنظم هذا كله. إنه يستطيع أن يحدث أن تغيير في أي مكان يريد. وكل شيء خاضع لإرادته ويطيعه دون ريب. والكل يعمل في الطريقة التي يريدها الله. وإنه لمطلب طبيعي لكونه الخالق الذي يجب أن تحكم إرادته وقانونه إطلاقاً.


وآية اخرى من القرآن تلقي ضوءاً على هذا الرأي. {الذي له ملك السماوات والأرض}. إن الله هو الحاكم الوحيد، طبقاً لهذه الآية، وهو ملك الكون كله، ولا أحد يشاركه حتى جزءاً من سلطته. إنه الحاكم المطلق وتظهر هذه الآية بأنه وحده يمكن أن يكون الله، لأن الفرد إنما يقدم عبادته إلى ذلك الذي يزاول القوة والسلطة، وليس حتى الأحمق بمستعد أن ينحني أمام أحد يعرفه خال من القوة والسلطة. ولو تحقق الناس أن كل القوة عند الله لما انحنى أحد أمام أي شخص آخر أو التمس مساعدته وتوجيهه. سلطة الله فقط يجب أن يعترف بها، وأوامره فقط يجب أن تطاع، ولا يطاع قانون فيه معصية لله.

إن الاعتراف بسلطة الله لهو من لب المفهوم الإسلامي للحاكمية الآلهية.

إن نقطة الإختلاف بين رسل الله والكافرين قد كانت دائماً أن الرسل طلبوا طاعة تامة لله، واعترافاً بحاكميته المطلقة في الميدان الإجتماعي والثقافي والسياسي والميادين الأخرى. ولكن أولئك أصحاب القوة سواء كانوا رؤساء، أو عظماء قبائل، أو ملوكاً وطغاة رفضوا أن يتركوا سلطتهم ويعترفوا بسلطة الله المطلقة. والآية الآتية توضح هذا الموقف: {وقال موسى ربي أعلمُ بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إِنه لا يفلح الظالمون، وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إِله غيري، فاوقد لي يا هامان على الطين، فاجعل لي صرحاً لعلِّي اطلع إلى إِله موسى وإني لأظنه من الكاذبين} [سورة القصص 37، 38].

ادعى فرعون الألوهية، وبهذا الإدعاء لم يستطع أن يعني أنه كان خالق السموات والأرض ولم يستطع أي شخص آخر أن يعتقد أنه هو الذي خلقهما. ولا يمكن أن يعني أنه وحده (فرعون) كان المتوجه إليه في العبادة، لأن المصريين عبدوا جمعاً من الآلهة. وقد عبد فرعون نفسه عدة آلهة وارجع مركزه المجيد إلى كونه قد أعتبر تلميذ إله الشمس.

وعلى هذا الأساس، فإن إعتبار فرعون للألوهية قد عنى فقط أنه أراد أن يطاع كالملك والسلطان المطلق. ومن وجهة النظر هذه فإن مركزه لم يكن غير شبيه بمركز الحكومات التي أهملت الشريعة المعلنة من قبل الله وادعت السلطة القانونية والسياسية لانفسها. ومثل هذه الحكومات يمكن أن تتنازل عن المركز الحكومي إلى أي شخص: إلى سلطان أو مستبد، إلى إرادة مَرَدَه، وما داموا يدعون أن القوانين التي شرعوها يجب أن تحكم مطلقاً وليست تلك التي انزلت من قبل الله ورسوله، فإنه لن يكون هنالك اختلاف في المبدأ بينهم وبين الفراعنة. ان طبيعة الإدعاء واحدة، وليس هنالك اختلاف بين فرعون الذي سمى نفسه إلهاً والحكومات العلمانية الحديثة التي تعتبر نفسها حاكمة مطلقة.

إن الحاكمية في الإسلام لله وحده وهو وحده المشرع.

ونتيجة منطقية المفهوم للحاكمية، أن التنظيم السياسي للحكومة الإسلامية قد سمي ((الخلافة)). الإنسان خليفة الله في الأرض، وكخليفة فإن مهمته في الحياة أن ينفذ ويقرر أوامر الله من حيث حاكميته، وتبعاً للقرآن {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة 30].

الخليفة يتمتع بحقوق معينة، ليس كحق خاص له، بل كممثل وخليفة لربه. وليست سلطته وراثية بل انتداب. وهو ليس حراً يعمل ما يريد، ولكن عليه أن يعمل تبعاً لتعاليم عقيدته. فإذا خالف العقيدة وادعى لنفسه القوة التي لا تخصه، وإذا خالف أوامر الله فإن سلوكه لا يتمشى ومركزه الحقيقي.

وغاية الأوامر القرآنية السديدة إن الإنسان يجب أن يحقق منزلة الخلافة، وتبعاً لواجبه فإنه يجب أن يطيع أوامر الله. يتبع إرشاداته ويشيد إرادته في الأرض. وإذا عاكس الإنسان فإنه سيهوي فريسة للشيطان – عدو الإنسان الخالد، وسيضل.

هذه الخلافة إنما هي خلافة عامة. إنها أساساً تخص كل الجنس البشري، وليست منفعة موقوفة على فرد واحد، أو عائلة، أو قبيلة، أو طبقة أو طائفة. ولكن حيث أنها تطلب إقراراً بالله كسلطان، فإن أولئك فقد يقرون بهذا وهم المسلمون. لأي طبقة أو طائفة انتموا، لهم الحق بمزاولتها (الخلافة). ولهذا يتمتع بالخلافة كل المسلمين وليست مقتصرة على طائفة أو طبقة أو سلالة ملكية.

وكما قلنا قبلاً، فإنها تأتي من مفهوم حاكمية الله وخلافة الإنسان، أي أن الإنسان يجب أن يتبع القانون المعطى من الله. وهذا ما يؤكده القرآن مراراً وتكراراً: {ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام...} الخ الآية. فتوضح هذه الآية بجلاء أن سلطة إعلان شيء ليكون حراماً أو حلالاً إنما يخص الله وحده ولا يتمتع أحد آخر حتى بجزء من ذلك. ويعني هذا أن سلطة التشريع مخولة لله وحده، ويكون مخطئاً كل من يحاول من نفسه أن يعلن أن شيئاً يكون حراماً أو غير ذلك. دعه أولاً يعترف بسلطة الله ثم يزاول سلطة تمثيلية ليستنتج أحكاماً من تلك التي اعطاه الله أياها.


التشريع من غير المسؤول – إعلان أشياء أنها قانونية وأخرى غير قانونية دون إشارة إلى توجيه الله، وقد وصف كالكذب على الله وإنما يكون هذا لأنه مبني إما على وجهة نظر أن الله قد ترك للإنسان الحرية ليشرع كما يريد أو عالماً بأنه لا يملك السلطة، يشرع في تعام تام عن توجيه الله، حتى حيث يطلب أن يتفق التشريع وذلك التوجيه. وفي كلا الحالتين يكذب الإنسان، وفي مكان آخر يقول القرآن: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.. الظالمون.. الفاسقون..} [المائدة].

يحذر الله هنا، أن أولئك الذين لا يديرون شئونهم تبعاً لما أنزل الله من شرع ولا يعززونه، أنهم (أولاً) كافرون (ثانياً) ظالمون (ثالثاً) فاسقون. إن الذي يعصي شريعة الله مجرم ذو ثلاثة آثام: كفر وظلم وفسق. أولاً، هذا العصيان يعني أنه مستهتر بسلطة الله، وانه رافض تلقي أوامره – وهذا كفر. ثانياً، أنه يقرر اقتراف الظلم: لأن أمر الله عدل طاهر كامل، وأي انحراف عنه ينتج عنه الظلم والجور. وأخيراً، بما أن الإنسان عبد لله، وبعصيان أوامر سيده فإنه يخرج عن ولائه وطاعته له، وعمله عمل فسق. وعندما ينحرف الإنسان عن الشريعة فإنه يرتكب الجرائم الثلاث. ومن المستحيل أن يعصي الإنسان توجيه الله ثم لا يكون مجرماً بهذه الجرائم الثلاث. وسيكون مقدار الجرم حسب قدر الانحراف والعصيان. فإذا أهمل الإنسان أوامر الله واعتبرها فاسدة أو مريبة أو غير مناسبة وحكّم رأيه الخاص أو رأي أي إنسان آخر، كشيء صالح، فإنه كافر وظالم وفاسق من الطراز الأكبر ويخرج عن نطاق الإسلام. وإذا اعترف بسلطة الله، ولكنه في الميدان العملي لا يسير حسب أوامر الله، حينئذ، مع أنه لم يخرج عن حظيرة الأمة، فإن إيمانه بالتأكيد، يمتزج بالكفر والظلم والفسق وإنه ليس مسلماً خالصاً حقيقياً. وإذا كان هناك إنسان يطيع الله في بعض الميادين ويعصيه في أخرى، فإن إيمانه أيضاً يمتزج بالكفر والظلم والفسق إلى الحد الذي يعصي فيه الله.
وحكمة الآية السابقة أن الطريق الصحيح، العادل، الفطن للمسلم، هو أن يتبع شريعة الله ويقيمها في حياته ومجتمعه.

ورسالة كل الانبياء كانت واحدة: اعتراف بسلطة الله واتباع له. وكما جاء في القرآن قال عيسى عليه السلام: {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون، إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران 50، 51].

تقرر هذه الآية بوضوح إن رسالة عيسى، كجميع رسالات الله، شملت ثلاث نقاط أساسية: أولاً: الحاكمية لله وحده – إنه هو الذي يجب أن يعبد، وأنها قيادته التي يجب أن يبنى عليها الكيان الخالص للأخلاق والمجتمع.
______________________________ _____________
المصدر: مجلة حضارة الإسلام، العدد 8، السنة 2، ص23-28

موقع الالوكة