الغالب استعمال (مَن) -الموصولة لا الشرطية- للعاقل و(ما) -الموصولة لا الشرطية- لغير العاقل.
أما (من الشرطية) و (ما الشرطية) فلا يدخل معنا لأن الشرط يستدعي الفعل ولا يدخل على الأسماء. فتحتاج فعل الشرط وجواب الشرط.
و (من) و (ما) الشرطيتين تفيد العموم مثل: كحديث (من مات وهو يقول لا إله إلا الله) وحديث (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وآية (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء) ومثال ما الشرطية: (ما شاء الله كان) وحديث (قدَّرَ الله وما شاء فعل) وآية (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ) وآية (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر) وآية (ما ننسخ من آية أو ننسها) وآية (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) وآية (قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم).


وفيما يلي أسباب استعمال (من الموصولة) أحيانا لغير العاقل واستعمال (ما الموصولة) أحيانا للعاقل:
1 - أَنَّ " مَنْ " وَ " مَا " قَدْ يَتَعَاقَبَانِ ويقوم أحدهما مقام الآخر. ومثل لها البعض: (والسماء وما بناها) و (إلا ما رحم ربي) و (انكحوا ما طاب) و(منهم من يمشي على بطنه) قلت: ومثل (وما خلق الذكر والأنثى).
2 - تنزيل غير العاقل منزلة العاقل وتشبيهه به (أي عُومِلَ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ) فينادى مثلا أو يكلم أو يدعى من دون الله ونحو ذلك. ومثال من ينادى قول الشاعر: أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطير. ومثال من يدعى من دون الله: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) فهم يعبدونها ويعاملونها معاملة من يعقل. ومثل (ومن أضل ممن يدعون من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة).
3 - أن يندمج غير العاقل مع العاقل في حكم واحد أو يختلط العاقل مع غير العاقل ويقصد تغليب العاقل أو غير العاقل فإن قصد تغليب العاقل لشرفه مثلا استعمل (من) لغير العاقل أيضا وإن قصد تغليب غير العاقل على العاقل لكثرة (غير العاقل) مثلا استعمل (ما) للعاقل.
ومثال تغليب العاقل: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) ومثل (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض) ومثل: (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) ومثل (كل من عليها فان) ومثل (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين) أي من ينفق عليهم يحسبون أنهم يرزقونهم ويدخل فيها الدواب والأنعام. ومثل (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).
ومثال تغليب غير العاقل (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض) ومثل: (يسبح لله ما في السموات).
4 - إذا اقترن غير العاقل بالعاقل في عموم مفصَّل فصل بـ: "من" الجارة، فالعموم الذي دخلا فيه هو عموم: "كل"، ومن ثم فصل هذا العموم بـ: "من" الجارة إلى غير عاقل: "فمنهم مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ" حيث فصل أنواع الدواب الثلاث.
5 - أن يذكر العاقل وبعض صفاته، كأن تقول: صاحب ما عرفت من الصالحين والمخلصين والأوفياء.
أي صاحب الذي عرفت من الرجال الأوفياء الصالحين المخلصين
حيث تستعمل (ما) لذوات غير العاقل ولصفات العقلاء
مثال على صفات العقلاء: (فانكحوا ما طاب...) معناها الطيب من النساء.
مثال على ذوات غير العقلاء: (وألق ما في يمينك .....) (طه) الآية 69.
قَالَ الْبَصْرِيُّونَ : " مَا " تَقَع لِلنُّعُوتِ كَمَا تَقَع لِمَا لَا يَعْقِلُ يُقَال: مَا عِنْدَك؟ فَيُقَال: ظَرِيفٌ وَكَرِيمٌ. فَالْمَعْنَى فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنْ النِّسَاء ; أَيْ الْحَلَال , وَمَا حَرَّمَهُ اللَّه فَلَيْسَ بِطَيِّبٍ.
وَفِي التَّنْزِيل " وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ " فَأَجَابَهُ مُوسَى عَلَى وَفْق مَا سَأَلَ.
قلت وائل: وقد مثل له البعض بقوله تعالى: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) أي معبودي.
6 - المبهم أمره، كقوله تعالى ((إني نذرت ما في بطني محررا)) على لسان أم مريم، فما هنا مبهمة لأنه يحتمل أن يكون مافي بطنها ذكرا ويحتمل أنثى، فذكرت (ما).
7 - قد تُؤَوَّل الجملة أحيانا على ما يناسب استعمال (ما) أو (من) فتستعمل "ما" في هذا السياق لأنها واقعة على النوع.
والتقدير فمنهم نوع يمشي على بطنه ونوع يمشي على رجلين ونوع يمشي على أربع
أو أَنَّ الْمُرَاد بِـ (مَا) هُنَا الْعَقْد ; أَيْ فَانْكِحُوا نِكَاحًا طَيِّبًا
إذن هو حمل الجملة على ما يؤدي إلى عدم إخراج استعمال (ما) عن غير العاقل ولا (من) عن العاقل.
8 - قد يعامل العاقل معاملة غير العاقل إذا رضي بأن يعبد من دون الله تعالى كما قال تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) فعيسى عليه السلام لا يرضى لكن فرعون رضي بعبادته من دون الله تعالى. ومن ذلك تعريف الطاغوت عند العلماء: (كل ما يعبد من دون الله تعالى وهو راض).
9 - ويوجد جواب ذكره القرطبي وضعفه عند تفسير (انكحوا ما طاب) قال: (الثَّالِث: حَكَى بَعْض النَّاس أَنَّ " مَا " فِي هَذِهِ الْآيَة ظَرْفِيَّة , أَيْ مَا دُمْتُمْ تَسْتَحْسِنُونَ النِّكَاح قَالَ اِبْن عَطِيَّة: وَفِي هَذَا الْمَنْزَع ضَعْفٌ).
10 - وهناك جواب آخر ذكره القرطبي أيضا وضعفه في تفسير (انكحوا ما طاب) حيث قال: (جَوَابٌ رَابِعٌ: قَالَ الْفَرَّاء " مَا " هَاهُنَا مَصْدَرٌ. وَقَالَ النَّحَّاس: وَهَذَا بَعِيد جِدًّا ; لَا يَصِحّ فَانْكِحُوا الطَّيِّبَةَ. قَالَ الْجَوْهَرِيّ: طَابَ الشَّيْء يَطِيبُ طِيبَة وَتَطْيَابًا. قَالَ عَلْقَمَة: كَأَنَّ تَطْيَابَهَا فِي الْأَنْفِ مَشْمُومُ).
قلت وائل: وقد سبق أن هذا المحمل من باب (تأويل الجملة أو حملها على ما يناسب استعمال (ما) لغير العاقل و (من) للعاقل.


وفيما يلي نقول تفيد ما سبق نقله:
قال الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد في حاشية شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 147): (1) تستعمل " ما " في العاقل في ثلاثة مواضع، الاول: أن يختلط العاقل مع غير العاقل نحو قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الارض) فإن ما يتناول ما فيهما من إنس وملك وجن وحيوان وجماد، بدليل قوله: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) والموضع الثاني: أن يكون أمره مبهما على المتكلم، كقولك - وقد رأيت شبحا من بعيد -: انظر ما ظهر لي، وليس منه قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) لان إبهام ذكورته وأنوثته لا يخرجه عن العقل، بل استعمال " ما " هنا في ما لا يعقل لان الحمل ملحق بالجماد، والموضع الثالث: أن يكون المراد صفات من يعقل، كقوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم) وهذا الموضع هو الذي ذكره الشارح بالمثال الاول من غير بيان.
(2) تستعمل " من " في غير العاقل في ثلاثة مواضع، الاول: أن يقترن
غير العاقل مع من يعقل في عموم فصل بمن الجارة، نحو قوله تعالى: (فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع) ومن المستعملة فيما لا يعقل مجاز مرسل علاقته المجاورة في هذا الموضع، والموضع الثاني: أن يشبه غير العاقل بالعاقل فيستعار له لفظه، نحو قوله تعالى: (من لا يستجيب له تعالى) وقول الشاعر أسرب القطا هل من يعير جناحه وهو الذي استشهد به المؤلف فيما يلي، وسنذكر معه نظائره، واستعمال من فيما لا يعقل حينئذ استعارة، لان العلاقة المشابهة، والموضع الثالث: أن يختلط من يعقل بما لا يعقل نحو قول الله تعالى: (ولله يسجد من في السموات ومن في الارض) واستعمال من فيما لا يعقل - في هذا الموضع - من باب التغليب، واعلم أن الاصل تغليب من يعقل على ما لا يعقل، وقد يغلب ما لا يعقل على من يعقل، لنكتة، وهذه النكت تختلف باختلاف الاحوال والمقامات.


تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (19/ 416)
ومنها: التغليب في قوله: {مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} لأنه لما اختلط غير العاقل بالعاقل في قوله كل دابة، عبر بـ {من} تغليبًا للعاقل على غيره لشرفه.


اللباب في علوم الكتاب (11/ 133)
وفيه نظرٌ؛ من حيث إيقاع «ما» على من يعقل، والمشهور خلافه.
قال ابن الخطيب: «ما» بمعنى «مَنْ» أي: إ لا من رحم ربي، و «مَا» و «مَنْ» كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر؛ قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3]، وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45].


إعراب القرآن وبيانه (5/ 314)
في قوله تعالى «ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض إلخ» فقد أتى بلفظ ما الموصولية في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد والحكم للأغلب وما الموصولة في أصل وضعها لما لا يعقل كما أن من موضوعة في الأصل لمن يعقل وقد تتخالفان، ومن استعمال «من» لغير العاقل في الشعر قول العباس بن الأحنف:
أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلّي الى من قد هويت أطير
فأوقع من على سرب القطا وهو غير عاقل وقول امرؤ القيس:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فأوقع من على الطلل وهو غير عاقل.
وفيما يلي ضابط هام نوجزه فبما يلي:
- قد تستعمل «من» لغير العقلاء في ثلاث مسائل:
آ- أن ينزل غير العاقل منزلة العاقل كقوله تعالى «ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة» وقول امرئ القيس السابق.
وكذلك قول العباس بن الأحنف السابق الذكر.
فدعاء الأصنام التي لا تستجيب الدعاء في الآية الكريمة ونداء الطلل والقطا في البيتين سوغا تنزيلها منزلة العاقل إذ لا ينادى إلا العقلاء.
ب- أن يندمج غير العاقل مع العاقل في حكم واحد كقوله تعالى:
«أفمن يخلق كمن لا يخلق» وقوله «ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض».
ح- أن يقترن غير العاقل بالعاقل في عموم مفصل كقوله تعالى:
«والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع» فالدابة تعم أصناف من يدب عن وجه الأرض وقد فصلها على ثلاثة أنواع.
- وقد تستعمل (ما) للعاقل إذا اقترن العاقل بغير العاقل في حكم واحد كما في الآية المتقدمة.


إعراب القرآن وبيانه (6/ 636)
4 - التغليب:
وفي قوله «من يمشي على بطنه ومن يمشي على أربع» تغلبب للعاقل على غيره وقد مرت له نظائر كثيرة لأنه لما اختلط غير العاقل بالعاقل في الفصل بمن وكل دابة كان التعبير بمن أولى لتوافق اللفظ.
وقيل أوقع «من» على غير العاقل لما اختلط بالعاقل ويحتمل أن تكون من نكرة موصوفة بالجملة بعدها والتقدير فمنهم نوع يمشي على بطنه ونوع يمشي على رجلين ونوع يمشي على أربع على حد: ومن الناس من يعبد الله على حرف، قال ابن هشام: ويجوز في من أن تكون نكرة موصوفة بالجملة بعدها والتقدير ومن الناس ناس يعبدون الله.


زهرة التفاسير (7/ 3918)
وإذا كان المراد الخضوع والانقياد فإن فيهم العقلاء وغير العقلاء، وقد نصّ على الظلال بالغدو والآصال، ولا تعد من العقلاء التي تخاطب، فلماذا عبر بـ (مَن) التي تدل على العقلاء؟ ونقول: إن ذلك من قبيل تغليب العقلاء على غيرهم، كما يعبر بجمع المذكر السالم على الذكور والإناث تغليبا للذكور العقلاء على غيرهم، وقد تطلق (مَنْ) على العموم، ولو لم يكن في مضمونها عاقل وغير عاقل. وذلك كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45).


البرهان في علوم القرآن (4/ 412)
قَالُوا: وَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِمَنْ يَعْقِلُ وَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِهِ فَعَلَى الْمَجَازِ.
هَذِهِ عِبَارَةُ الْقُدَمَاءِ وَعَدَلَ جَمَاعَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ مَنْ يَعْلَمُ لِإِطْلَاقِهَا عَلَى الْبَارِي كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ الله}.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُوصَفُ بِالْعِلْمِ لَا بِالْعَقْلِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهِ.
وَضَيَّقَ سِيبَوَيْهِ الْعِبَارَةَ فَقَالَ هِيَ لِلْأَنَاسِيِّ.
فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمِلْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ من في السماوات}.
فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَاتِيَ بِلَفْظٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ بِأَنْ يَقُولَ لِأُولِي الْعِلْمِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا يَقِلُّ فِيهَا فَاقْتُصِرَ عَلَى الْأَنَاسِيِّ لِلْغَلَبَةِ.
وَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ فَإِمَّا لِأَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ وَإِمَّا لِاخْتِلَاطِهِ بِهِ
فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يخلق}،وَالَّذِي لَا يَخْلُقُ الْمُرَادُ بِهِ الْأَصْنَامُ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ لَمَّا عُومِلَتْ بِالْعِبَادَةِ عبر عنها بـ "من" بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد بـ "من" لَا يَخْلُقُ الْعُمُومَ الشَّامِلَ لِكُلِّ مَا عُبِدَ من دون
اللَّهِ مِنَ الْعَاقِلِينَ وَغَيْرِهِمْ فَيَكُونُ مَجِيءُ مَنْ هُنَا لِلتَّغْلِيبِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الِاخْتِلَاطُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ من يمشي على بطنه} الْآيَةَ فَعَبَّرَ بِهَا عَمَّنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَهُمُ الْحَيَّاتُ وَعَمَّنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ وَهُمُ البهائم لاختلاطهم مَعَ مَنْ يَعْقِلُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ فَغَلَبَ عَلَى الجميع حكم العاقل


البرهان في علوم القرآن (4/ 414)
فائدة.
قيل: إنما كان "من" لمن يعقل و"ما" لِمَا لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ مَوَاضِعَ مَا فِي الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ مَوَاضِعِ مَنْ وَمَا لَا يَعْقِلُ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْقِلُ فَأَعْطَوْا مَا كَثُرَتْ مَوَاضِعُهُ لِلْكَثِيرِ وَأَعْطَوْا مَا قَلَّتْ مَوَاضِعُهُ لِلْقَلِيلِ وَهُوَ مَنْ يَعْقِلُ لِلْمُشَاكَلَةِ وَالْمُجَانَسَة ِ
تَنْبِيهٌ.
ذَكَرَ الْأَبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّ اخْتِصَاصَ مَنْ بِالْعَاقِلِ وَمَا بِغَيْرِهِ مَخْصُوصٌ بِالْمَوْصُولَت َيْنِ أَمَّا الشَّرْطِيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ


دراسات لأسلوب القرآن الكريم (3/ 284)
(من) للعاقل
(من) لا يعني بها في خبر، ولا استفهام، ولا جزاء إلا من يعقل المقتضب 2: 296، 3: 63، 1: 41.
تستعمل (من) في غير العاقل في أحوال:
1 - تنزيل غير العاقل منزلة العاقل وتشبيهه به؛ كقوله تعالى:
(أ) ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له [46: 5].
فدعاء الأصنام في قوله: {ما تدعون من دون الله} [39: 38، 46: 4]. سوغ ذلك.
(ب) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [16: 17].
عوملت معاملة أولي العلم لاعتقاد الكفار أن لها تأثيرًا أو من باب التغليب لأنه يشمل الملائكة والأصنام والآدميين. البحر 5: 481، التصريح على التوضيح.
2 - تغليب العاقل على غيره؛ كقوله تعالى:
أ- ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض [22: 18]
(من في السموات) يشمل الملائكة والشمس والقمر والنجوم وغيرها.
(ومن في الأرض) يشمل الآدميين والجبال والشجر والدواب. . . التصريح.
ب- وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين [15: 20].
يراد بمن: العيال والمماليك والخدم الذين يسحبون أنهم يرزقونهم، ويدخل معهم بحكم التغليب الأنعام والدواب. البحر 5: 450، الرضي 2: 52.
ج- وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا [17: 70].
المراد بمن خلقنا جميع المخلوقات العقلاء وغيرهم: الجمل 2: 629.
د- كل من عليها فان ... [55: 26].
عبر بمن تغليبا لمن يعقل. البحر 8: 192.
3 - أن يقترن غير العاقل بالعاقل في عموم فصل بمن، كقوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع} [24: 45].
وجعل الفراء المسوغ هو الاختلاط قال في معاني القرآن 2: 257: «يقال كيف قال من يمشي، وإنما تكون (من) للناس وقد جعلها هاهنا للبهائم؟
قلت: لما قال: (خلق كل دابة) فدخل فيهم الناس كنى عنهم فقال: (منهم) لمخالطتهم الناس، ثم فسرهم بمن لما كنى عنهم كناية الناس خاصة، وأنت قائل في الكلام: من هذان المقبلان لرجل ودابته، أو رجل وبعيره، فتقول له بمن وبما لاختلاطهما؛ ألا ترى أنك تقول: الرجل وأباعره مقبلون، فكأنهم ناس إذا قلت: مقبلون».
وفي المقتضب 2: 50 - 51: «فإن قال قائل: فقد قال الله عز وجل: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه} فهاذ لغير الآدميين، وكذلك (ومنهم من يمشي على أربع).
قيل: إنما جاز هذا، لأنه قد خلط مع الآدميين غيرهم بقوله (والله خلق كل دابة من ماء) وإذا اختلط المذكوران جرى على أحدهما ما هو للآخر إذا كان في مثل معناه».
وقوله تعالى: {فلما جاءها نودى أن بورك من في النار ومن حولها} [27: 8].
(من في النار) ذاته على حذف مضاف، أي من قدرته وسلطانه. وقيل: (من) للملائكة، وقيل: هي لغير العاقل أراد النور والشجرة التي تنقد فيها.
(ومن حولها) الملائكة. وقيل: لغير العاقل وهي الأمكنة التي حول النار. البحر 7: 55 - 56.


لمسات بيانية في نصوص من التنزيل - محاضرات (ص: 120، بترقيم الشاملة آليا)
ما الفرق بين (ما) و (من) في الإستخدام اللغوي؟
في اللغة تستعمل (ما) لذوات غير العاقل ولصفات العقلاء (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ (29) طه) ماذا في يمينه؟ عصاه، (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) لذات غير العاقل ولصفات العقلاء. تقول من هذا؟ هذا فلان، تسأل ما هو؟ تسأل عن صفته فيقال مثلاً هو تاجر، (من هو؟) تسأل عن ذاته. (ما) هي تستعمل لأمرين: لذات غير العاقل ولصفات العقلاء (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء (3) النساء) عاقل وربنا سبحانه وتعالى يستخدمها لنفسه كما جاء في سورة الشمس (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)) يتكلم عن نفسه سبحانه. (ما) تقع على صفات أولي العلم جميعاً حتى قسم من النُحاة أدق لا يقولون العقل لأن الله تعالى لا يوصف بالعقل ولا يصق نفسه أنه العاقل وإنما العالِم، فيقول النحاة لذوي العلم وذوات غير العاقل. في سورة الليل قال تعالى (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3)) من الخالق؟ الله سبحانه وتعالى، في سورة الكافرون (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)) ما أعبد هو الله تعالى، (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)) الأصنام غير عاقلة و (ما) تستعمل لذوات غير العاقل وتستعمل لصفات العقلاء.
(من) إذا إنفردت تكون لذوات العقلاء تحديداً، قد تستعمل في مواطن تخرج عن هذا الأمر مثلاً أنت تُنزِلأ غير العاقل منزلة العاقل، تتكلم مع حصانك يقولون لك: من تُكلِّم؟ تقول: أكلِّم من يفهمني، من يحفظني، هذا تجوّز. في الأصل أن (من) لذات غير العاقل وأحياناً يشترط العاقل مع غير العاقل فتطلق عليهم (من) فيصير تفصيل (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) النور) من يمشي على بطنه غير العاقل، من يمشي على رجلين الإنسان، اجتمعت في عموم فصّل بـ (من) لها مواطن. أما إذا انفردت فلا تكون إلا للعاقل (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) الملك) لذي العِلم.




شرح كتاب التوحيد - عبد الكريم الخضير (2/ 9، بترقيم الشاملة آليا)
"الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبِد من دون الله": الطاغوت عام في كل ما عُبِد من دون الله، سواءً كان ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو حجراً من الأحجار، أو غير ذلك، لكن لا بد من قيد: أن يرضى بهذه العبادة، أن يرضى بهذه العبادة، وإلا فعيسى عُبِد من دون الله، عُبِد من دون الله لكنَّه لم يرضَ.
ولما نزل قوله -جل وعلا-: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [(98) سورة الأنبياء]، فرح بذلك بعض المشركين، وجاؤوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقالوا له: إن قوله .. ، قولك: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، هذه النصارى تعبد عيسى، إذن: عيسى من حصب جهنم، وأنت تقول: إنه رسول وتؤمن به وتصدق به وتأمر بتصديقه، والإيمان به ركن من أركان الإيمان!!
لكن هل هذا الاستدراك صحيح؟
لأن قوله: {مَا} قالوا: لغير العاقل، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}: هذه لغير العاقل وعيسى عاقل، لكن هل تنفي هذه "ما" من عُبِد ممن يتصف بالعقل من دون الله ورضي بذلك، ألا يكون من حصب جهنم وإن كان عاقلاً على حد زعمه؟
طالب: نعم.
لماذا؟ لأنه في الحكم غير عاقل؛ لأنه في الحكم غير عاقل، فيعامل معاملة غير العقلاء إذا رضي بذلك.



أرشيف منتدى الفصيح - 2
ـ[قمر لبنان] •---------------------------------• [03 - 11 - 2004, 10:36 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم
بالنسبة لـ (ما) الموصولة لا تستعمل لغير العقلاء فقط وإنما استعمالها الصحيح كما يلي:
ما / تستعمل لذوات غير العقلاء ولصفات العقلاء
مثال على صفات العقلاء / فانكحوا ما طاب ... معناها / الطيب من النساء
/ ولا أنتم عابدون ما أعبد معناها / معبودي
مثال على ذوات غير العقلاء / وألق ما في يمينك ......... (طه) الآية 69
(ما في يمينك) المقصود العصا وهي ذات غير عاقلة
ـ[أبو تمام] •---------------------------------• [06 - 11 - 2004, 02:23 ص]ـ
...........
استعمال ما كاسم موصول غالبا ما يكون لغير العاقل، ومع هذا تستخدم للعاقل في ثلاث حالات:-
أ- إذا اختلط العاقل بغيره وقصد تغليب غير العاقل على العاقل، كقوه تعالى ((يسبح لله ما في السموات))
فالذي في السماء قد يكون عاقل كالملائكة وقد يكون غير عاقل كالكواكب.
ب- أن يذكر العاقل وبعض صفاته، كأن تقول: صاحب ما عرفت من الصالحين والمخلصين والأوفياء.
أي صاحب الذي عرفت من الرجال الأوفياء الصالحين المخلصين.
ج- المبهم أمره، كقوله تعالى ((إني نذرت ما في بطني محررا)) على لسان مريم، فما هنا مبهمة لأنه يحتمل أن يكون مافي بطنها ذكر ويحتمل أنثى، فذكرت (ما).
فعلى هذا يكون جواب سؤال أخي محمد الصالح في قوله تعالى: ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع)) ذكرت (ما) لأنه ذكر العاقل وبعض صفاته، والتقدير (انحكوا الطيب أو الحلال من النساء مثنى .. ) وهذا يوافق قول البصريين في هذه الآية، وإليك بعض الخلاق في هذه الآية نقلا عن القرطبي رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: " فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاء " إِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَتْ " مَا " لِلْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا أَصْلُهَا لِمَا لَا يَعْقِل ; فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ خَمْسَةٌ:
الْأَوَّل - أَنَّ " مَنْ " وَ " مَا " قَدْ يَتَعَاقَبَانِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا " [الشَّمْس: 5] أَيْ وَمَنْ بَنَاهَا. وَقَالَ " فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ " [النُّور: 45]. فَمَا هَاهُنَا لِمَنْ يَعْقِلُ وَهُنَّ النِّسَاء ; لِقَوْلِهِ بَعْد ذَلِكَ " مِنْ النِّسَاء " مُبَيِّنًا لِمُبْهَمٍ. وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَةَ " مَنْ طَابَ " عَلَى ذِكْر مَنْ يَعْقِل.
الثَّانِي: قَالَ الْبَصْرِيُّونَ : " مَا " تَقَع لِلنُّعُوتِ كَمَا تَقَع لِمَا لَا يَعْقِلُ يُقَال: مَا عِنْدَك؟ فَيُقَال: ظَرِيفٌ وَكَرِيمٌ. فَالْمَعْنَى فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنْ النِّسَاء ; أَيْ الْحَلَال , وَمَا حَرَّمَهُ اللَّه فَلَيْسَ بِطَيِّبٍ. وَفِي التَّنْزِيل " وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ " فَأَجَابَهُ مُوسَى عَلَى وَفْق مَا سَأَلَ ; وَسَيَاتِي.
الثَّالِث: حَكَى بَعْض النَّاس أَنَّ " مَا " فِي هَذِهِ الْآيَة ظَرْفِيَّة , أَيْ مَا دُمْتُمْ تَسْتَحْسِنُونَ النِّكَاح قَالَ اِبْن عَطِيَّة: وَفِي هَذَا الْمَنْزَع ضَعْفٌ.
جَوَابٌ رَابِعٌ: قَالَ الْفَرَّاء " مَا " هَاهُنَا مَصْدَرٌ. وَقَالَ النَّحَّاس: وَهَذَا بَعِيد جِدًّا ; لَا يَصِحّ فَانْكِحُوا الطَّيِّبَةَ. قَالَ الْجَوْهَرِيّ: طَابَ الشَّيْء يَطِيبُ طِيبَة وَتَطْيَابًا. قَالَ عَلْقَمَة: كَأَنَّ تَطْيَابَهَا فِي الْأَنْفِ مَشْمُومُ
جَوَابٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد بِمَا هُنَا الْعَقْد ; أَيْ فَانْكِحُوا نِكَاحًا طَيِّبًا. وَقِرَاءَة اِبْن أَبِي عَبْلَة تَرُدُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ. وَحَكَى أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّ أَهْل مَكَّة إِذَا سَمِعُوا الرَّعْدَ قَالُوا: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ لَهُ الرَّعْد. أَيْ سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحَ لَهُ الرَّعْد. وَمِثْله قَوْلهمْ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا. أَيْ مَنْ سَخَّرَكُنَّ.