دروس من محنة الإمام أحمد
د.لؤى الصمادى
عند وقوع المسلم في يدٍ تطالبه بقولٍ فيه باطل، فالحكمة والمصلحة في حقّه الاعتصام بالنصوص الواضحة، والإعراض عن حوار المسائل التي فيها أخذٌ وردّ، ولذلك كان الإمام أحمد -رحمه الله- حين حاققه الجهمية في مجلس المعتصم لا يجيب إلا بقال الله وقال رسوله، ولا يطاوعهم في جواب شيءٍ مما يشتهون سماع كلامه فيه، ليجرّوا رجله إلى ما يريدون.
وكان يقول للمعتصم: «يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتابِ الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به». فيقول له الجهميّ أحمد بن أبي دُواد: «أنتَ لا تقُول إلّا ما في الكتاب أو السنّة؟» فقال له: «تأوَّلتَ تأويلًا فأنتَ أعلمُ. وما تأوّلتَ ما يُحبَسُ عَليه ولا يقيَّدُ عَليه» (السير للذهبي:11/ 246-247 ).
وكانوا يسألونه ويطالبونه بأقوال ليست في الكتاب والسنة؛ فيقول لهم: لا أدري ما هذا، وذلك لأنّه ليس في موقف يسعه فيه البيان والتفصيل لمصطلحاتهم، والدخول في مضائق كلامهم وجدليّاتِهم، بل هو في موقف الإلزام، وهو إنما يلزمه اتباع الكتابِ والسنّة.
ويروي ما جرى له معهم فيقول: «جعلوا يناظرونني، فأردُّ عليهم، فإذا جاؤوا بشيء من الكلام ممّا ليس في الكتاب والسنّة، قلت: ما أدري ما هذا». قال: فيقولون: «يا أمير المؤمنين، إذا توجهت له الحجّةُ علينا ثَــبَـت، وإذا كلَّمناهُ بشيءٍ، يقول: لا أدري ما هذا!» (السير 11/249).
وهذا المنهج من الإمام أحمد يختلف عن منهجه في مثل كتابه الردّ على الجهمية؛ حيثُ فصّل الكلام والرد على الجهمية بأدلة النقل والعقل، وكشف ما في مصطلحاتهم من تلبيس، فلكلّ مقامٍ مقال.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «الخطابُ له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يُلزِمُه ويأمره ببدعةٍ ويدعوه إليها، أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النّظر أيضاً، فعليه أن يعتصم أيضاً بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبيّن الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة.
وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها». (درء التعارض:1/ 234-238)