تعريف التهوك:
قال ابن الأثير في "النهاية" (5/660): التهوك كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية.
والمتهوك: هو الذي يقع في كل أمر، وقيل: هو التحير؛ اهـ.
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد جئتكم بها بيضاءَ نقية)؛ قال في "المرقاة" (1/662): قوله: (لقد جئتكم بها)؛ أي: بالملة الحنيفية بقرينة الكلام.
بيضاء؛ أي: واضحة حال من ضمير بها، نقية: صافية.
بيضاء نقية؛ أي: ظاهرة صافية خالصة، خالية عن الشرك والشبهة.
وقيل: المراد بها أنها مصونة عن التبديل والتحريف والإصرار والأغلال، خالية عن التكاليف الشاقة، وأشار بذلك إلى أنه أتى بالأعلى والأفضل، واستبدال الأدنى بالأعلى مظنة التحير.
وقال الطيبي: (بيضاء نقية) حالاًن مترادفان من الضمير المفسر بالملة؛ انتهى.
وإنما أنكر عليهم؛ لأن طلبهم يشعر بأنهم اعتقدوا نقصان ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم؛ اهـ.
فائدة: قال ابن سلاّم في "غريب الحديث" (3 /29): قوله: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية»، أراد الملة الحنيفية، فلذلك جاء التأنيث؛ كقول الله تعالى: ﴿ وَذلِكَ دِيْنُ الْقَيِّمِةِ ﴾ [البينة:5]، إنما هي فيما يفسر الملة الحنيفية؛ اهـ.
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حيًّا واتبعتموه وتركتموني، ضللتم)، قلت: وذلك لأن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أمروا أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم وينصروه، وألا يخرجوا عليه؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران:81 ـ 82].
قال ابن كثير في "تفسيره" (2/67): يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم إلى عيسى لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة، وبلغ أيَّ مبلَغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته.
ولهذا قال تعالى وتقدس: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾ أي: لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة ﴿ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ﴾، قال ابن عباس، ومجاهد، والربيع، وقتادة، والسدي: يعني عهدي.
وقال محمد بن إسحاق: ﴿ إِصْرِي ﴾؛ أي: ثقل ما حمّلْتم من عهدي أي: ميثاقي الشديد المؤكد.
﴿ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ ﴾؛ أي: عن هذا العهد والميثاق، ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء، ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه.
وقال طاوس والحسن البصري وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضًا.
وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس، ولا ينفيه، بل يستلزمه ويقتضيه، ولهذا رواه عبدالرزاق عن مَعْمَر عن ابن طاوس عن أبيه مثل قول علي وابن عباس.
وقد قال الإمام أحمد ـ (4 /265) وساق بسنده: عن عبدالله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة، فكتب لي جَوَامعَ من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغيَّرَ وَجْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبدالله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، قال: فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِ ي؛ لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ»[1].
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وَإِنَّه والله: لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي»، رواه أحمد (3 /387) والدارمي (1 /115)، وغيرهما[2].
وفي بعض الأحاديث له: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ؛ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي».
فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، دائمًا إلى يوم الدين، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد، لكان هو الواجب الطاعة المقدَّم على الأنبياء كلهم.
ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر في إتيان الرب لِفَصْل القضاء، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه، فيكونَ هو المخصوص به؛ اهـ.
وقال العلامة السعدي في "تفسيره" (ص:136): يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله المنزل، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال، إنه إن بعث الله رسولًا مصدقًا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه، ويأخذوا ذلك على أممهم.
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضًا؛ لأن جميع ما عندهم هو من عند الله، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان، فهم كالشيء الواحد.
فعلى هذا قد علم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم، فكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم.
فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على عُلو مرتبته وجلالة قدره، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم صلى الله عليه وسلم لما قررهم تعالى: ﴿ قَالُوا أَقْرَرْنَا ﴾؛ أي: قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين، ﴿ قَالَ ﴾ الله لهم: ﴿ فَاشْهَدُوا ﴾على أنفسكم، وعلى أممكم بذلك، قال: ﴿ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله ومن رسله ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
فعلى هذا كل من ادَّعى أنه من أتباع الأنبياء كاليهود والنصارى، ومن تبعهم، فقد تولوا عن هذا الميثاق الغليظ، واستحقوا الفسق الموجب للخلود في النار إن لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ اهـ.
-------------
[1] قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1 /173): رجاله رجال الصحيح إلا جابر الجعفي؛ ضعيف؛ اهـ.
[2] حسنه العلامة الألباني في "الإرواء" (6 /34).