الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإنَّ من نافلة القول شرف طلب العلم وكثرة مريديه وبذل بعضهم الغالي والنفيس في سبيل تحصيله ابتغاء وجه الله تعالى ونفع نفسه وغيره من المسلمين، وليس من المناسب الإطالة في هذا الشأن لأنه كما يقال تحصيل حاصل، ولكن الذي دعاني إلى كتابة هذه الورقات اطلاع إخواني المسلمين على ما وقفت عليه من أحوال اعجبتني وعجبت منها أثناء قراءتي ليشاركوني الإعجاب والتعجب من الأحوال والمواقف التي وقفت عليها، ولعلها تكون دافعًا لشحذ الهمم ومجاهدة النفس خاصة ممن هم في بداية الطلب مع أن هذا أمر يوفق الله من يشاء من عباده إليه، وليس كل من رغبه حصّله فكم من إنسان نكص وكم من إنسان صد وكم من إنسان غفل وكم من إنسان لم يعمل بما علم، نسأل الله السلامة والعافية.
ولعلي أبدأ بكلمة بليغة قالها ابن شهاب الزهري رحمه الله (ت124) حيث قال: إنَّ هذا العلم إن أخذتَه بالمكابرة غلبك فلم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذًا رفيقًا تظفر به.
فهو يرشد طالب العلم إلى عدم الاستعجال عند الطلب وهذا مما يزيد في رسوخ العلم فالتأني مدعاة إلى التأمل والمراجعة وزيادة البحث مع سؤال الله الإعانة، أما الاستعجال فهو مدعاة إلى الخطأ والملل. وقد عبر - رحمه الله - عن هذه الناحية أبلغ تعبير حيث قال: للعلم وادٍ، فإذا هبطت واديه فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطعه حتى يقطع بك.
وإذا نظرنا في مسألة الإنفاق فإننا نرى عجبًا فهذا يحيى بن معين رحمه الله ( ت233) رُوي أن أباه خلّف له ألف ألف درهم فأنفقها كلها على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه.
ويقول خلف بن هشام رحمه الله (ت229) أشكل عليَّ باب من النحو فأنفقت ثمانين ألف درهم حتى حذقته.
وهذه أم سفيان الثوري رحمهما الله (ت سفيان 161) تقول له: ( يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي).
أما الشافعي رحمه الله (ت 161) فيقول: كنت يتيمًا في حجر أمي ولم يكن لها ما تعطيني للعلم وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب وأخفف عنه. ويقول: كتبت على الأكتاف والعظام. وهذا في غالب الظن بسبب ضيق ذات اليد لأنه لو قدر على الورق لما لجأ إلى غيره.
وكم سمعنا عمن اضطر إلى بيع متاع له لشراء كتاب يحتاجه وقد وقع هذا في أزمنة مختلفة في القديم والحديث.
أما سن طلب العلم وما يتعلق به من النية فلنرجع إلى الشافعي لنجد أنه حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وأفتى وهو ابن نيف وعشرين سنة.
وأما أحمد بن حنبل رحمه الله (ت 241) فقد طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة.
ويقول معمر بن راشد رحمه الله (ت 153): لقد طلبنا هذا الشأن وما لنا فيه نية ثم رزقنا الله النية من بعد.
ويقول: إن الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله، ولا شك أن هذا من توفيق الله للعبد وأن مقصده رحمه الله أنه لم يكن هناك نية في بداية الطلب وإنما مسايرة للأصحاب أو الأقران وليس القصد أن النية لغير الله من مال أو منصب.
وإن من توفيق الله للعبد وعلامة صدق النية وقبول العمل كثرة إقبال المتعلمين على العالم فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله كان يحضر مجلسه زهاء خمسة آلاف أو يزيدون منهم خمسمائة يكتبون والباقون يتعلمون منه حُسن الأدب والسمت.
وقال أبوداود عنه رحمهما الله: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا وما رأيته ذكر الدنيا قط.
وهذا الضحاك بن مزاحم رحمه الله (ت 106) يحضر مجلسه ثلاثة آلاف صبي فكان يركب حمارًا ويدور على الصبيان وكان يُعلم ولا يأخذ أجرًا.
ومن حرص طلبة العلم على الاستفادة من أخلاق العالم إضافة إلى علمه ما قاله ابن شهاب الزهري: كنا نأتي العالم فما نتعلم من أدبه أحبُّ إلينا من علمه. وأيضًا ما سبقت الإشارة إليه من الذين يحضرون مجلس الإمام أحمد يتعلمون منه حُسن الأدب والسمت.
وإذا جئنا إلى طريقة تلقي العلم بجد وحرص بالغين وإعطائه ما يستحقه من أهمية فإننا نجد العجب العجاب فهذا يحيى بن معين يؤتى بالأحاديث قد خُلطت أسانيدها فيقول هذا الحديث كذا وهذا كذا فيكون كما قال. ويقول: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه. ويقول: إني لأُحدث بالحديث فأسهر له مخافة أن أكون قد أخطأت فيه.
وهذا محمد بن سيرين رحمه الله (ت 110) يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
أما عبدالملك بن جريج رحمه الله (ت 150) فيقول: أقمت على عطاء بن أبي رباح إحدى وعشرين حجة يخرج أبواي إلى الطائف وأقيم أنا (يعني بمكة) تخوّفًا أن يفجعني عطاء بنفسه. أي أنه يخشى أن يذهب مع أبويه ويموت عطاء في غيبته.
ويقول: لأن أكون سمعت من مجاهد فأقول سمعت من مجاهدًا أحب إليّ من أهلي ومالي.
فانظر - رعاك الله - إلى هذا الحب الجم للعلم والحرص الشديد على تلقيه.
وإذا أردت أن تزدد عجبًا فاقرأ ما قاله شعبة بن الحجاج رحمه الله (ت 160): وددت أن عبدالله بن دينار لما حدّث بهذا الحديث (حديث النهي عن بيع الولاء) أذن لي حتى كنت أقوم إليه فأُقبل رأسه.
ويقول محمد بن يوسف البخاري: كنت مع محمد بن إسماعيل البخاري (صاحب الصحيح) (ت 256) بمنزله ذات ليلة فأحصيت عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يُعلّقها ثمان عشرة مرة.
ويقول سعيد بن المسيب رحمه الله (ت 94) إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
ويقول أيضًا ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملأها وكتبت في نعلي حتى أملأها وكتبت في كفى.
ويقول أبو العالية رحمه الله (ت 93) كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام لأسمع منه فأتفقد صلاته فإن وجدته يُحسنها أقمت عليه وإن أجده يُضيعها رحلت ولم أسمع منه وقلت هو لما سواها أضيع.
وقيل للشعبي رحمه الله (ت 100) من أين لك كل هذا العلم؟ قال: بنفي الاغتمام والسيرفي البلاد وصبر كصبر الحمام وبكور كبكور الغراب.
وقال: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا. ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته ولا أحببت أن يعيده عليّ.
فمع أن تدوين العلم له أهميته إلا أن هذا العالم لم يحتج لذلك اعتمادًا على قوة حافظته وأنّى يوجد مثله في مختلف الأزمنة ولا شك أن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقال البخاري: كان علي بن الحسين يجلس إلى زيد بن أسلم (وهذا مولى) فكُلّم في ذلك فقال إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه.
ويقول علقمة رحمه الله (ت 62) تذاكروا العلم فإن حياته ذكره.
وهذا يتفق مع كلام الزهري حيث يقول: إنما يُذهب العلم النسيان وترك المذاكرة.
ووفي جانب إعطاء العلم حقه من الأهمية والتوقير وعدم بذله إلا لمن يستطيعه يقول عروة بن الزبير رحمه الله (ت 94): ما حدثتَ أحدًا بشيء من العلم قط لا يبلغه عقله إلا كان ضلالة عليه.
ويقول عكرمة رحمه الله (ت 105): إن للعلم ثمنًا فأعطوه ثمنه. قالوا وما ثمنه يا أبا عبدالله؟ قال: أن تضعه عند من يُحسن حفظه ولا يُضيعه.
ووفي جانب الحرص على العمل بالعلم يقول أحمد بن حنبل رحمه الله: ما كتبت حديثًا إلا وقد عملت به حتى مرّ بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارًا فاحتجمت وأعطيت الحجام دينارًا. فانظر إلى مبلغ حرص هذا الامام على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم والعمل بما تعلمه.
وقبله سفيان الثوري (ت 161) يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة.
أما التورع والنصح للمسلمين علمائهم وعامتهم فلن تجد أحسن من قول الشافعي رحمه الله: ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يُخطئ. وقوله: ما ناظرت أحدًا إلا على النصيحة.
ويقول عبدالرحمن بن أبي ليلى رحمه الله ( ت 83): أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار إذا سُئل أحدهم عن شيء ودّ أن أخاه كفاه.
وسُئل عطاء بن رباح رحمه الله (ت 114) عن شيء فقال: لا أدري. قيل: ألا تقول برأيك؟ قال: إني أستحيي من الله أن يُدان في الارض برأيي.
فما أرقى هذا الورع وما أحسنه وأين منه من يتخبطون في مسائل شائكة ويُعرضون أنفسهم للمهالك في سبيل أن يُقال هذا قول فلان وهذا رأي فلان.
وهذا محمد بن سيرين كان إذا سُئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى تقول: كأنه ليس بالذي كان.
ويقول مطرف بن عبدالله رحمه الله (ت 95) فضل العلم أحب إلى من فضل العبادة وخير دينكم الورع.
رحم الله هؤلاء الأئمة ورفع درجتهم وجزاهم عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.

https://www.alukah.net/sharia/0/148500/