قال الشيخ ابن جبرين وهؤلاءِ هم الخُلفاءُ الرَّاشِدونَ الأربعةُ، وقدْ وَرَدَ تَحْديدُ مُدَّتِهم في حديثِ سَفِينةَ في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْخِلاَفَةُ فِي أُمَّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ)).
والأدلَّةُ على تَرْتِيبِهم هذهِ الآثارُ
، مثلَ حديثِ ابنِ عُمَرَ يَقولُ: ( كُنَّا نقولُ والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ: أَبُو بَكْرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ثمَّ عُثْمانُ - يَعْنِي في الفَضْلِ- فَيَبْلُغُ ذلكَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يُنْكِرُهُ))، يَعْنِي: نُرَتِّبُهم نَقولُ: أَبو بَكْرٍ أَفْضَلُ، ويَلِيهِ عُمَرُ، ويَلِيهِ عُثْمانُ، ولا يُنْكِرُ ذلكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والآثارُ عنْ عَلِيٍّ فيها أنَّهُ خَطَبَ على المِنْبَرِ في الكُوفةِ فَقَالَ: (أَفْضَلُ هذهِ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها أَبُو بَكْرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ولوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ الثَّالثَ)، قالُوا: إنَّهُ يُرِيدُ نفسَهُ، أوْ يُرِيدُ عُثْمانَ، اللهُ أَعْلَمُ. ولكنْ مَشْهورٌ عنهُ فيما يُشْبِهُ المُتَواتِرَ، ومَرْوِيٌّ عنهُ مِنْ نَحْوِ عِشرينَ طَرِيقًا، أنَّهُ صَرَّحَ بأنَّ أَفْضَلَ الأمَّةِ أبو بَكْرٍ، ثمَّ عُمَرُ.
فأينَ الرَّافِضةُ مِنْ هذا؟ لا شكَّ أنَّهم لوْ كانوا ذَوِي عُقولٍ لَقَبِلُوا ما قالَهُ عَلِيٌّ؛ الَّذي هوَ عندَهم الإمامُ، وهوَ الخَليفةُ المُعْتَبَرُ بزَعْمِهم، ومعَ ذلكَ تَأْتِيهم كَلِماتُهُ الصَّحيحةُ الصَّادقةُ الثَّابتةُ فلا يَقْبَلُونَها، ويَقْبَلُونَ الأكاذيبَ الَّتي يَبْتَدِعُها بعضُ غُلاتِهِم ويُصَدِّقُونَها ، فأينَ هؤلاءِ وأينَ عُقولُهم؟!
لا شكَّ أنَّا إذا تَأَمَّلْنا ما جاءَ عنهُ، وما جاءَ عن الصَّحابةِ، وما جاءَ في هذهِ الأحاديثِ الَّتي فيها فَضائلُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ومِيزَتُهم وما حَباهُم اللهُ، وما لهم مِن الفضائلِ؛ نَجِدُ أنَّها كُلَّها تُبْطِلُ غُلُوَّ هؤلاءِ الرَّافضةِ في أهلِ البيتِ كما يَقُولونَ، وسَبَّهم وتَنَقُّصَهُمْ لخلفاءِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذينَ زَكَّاهُم وشَهِدَ بِفضلِهم.
وهذهِ الأحاديثُ أيضًا مِنها ما هوَ مَرْفوعٌ، كما سَمِعْنا في حديثِ
أَبِي الدَرْداءِ؛ فهوَ صَرِيحٌ في فَضْلِ الشَّيخَيْنِ؛ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، وفيهِ أنَّ الشَّمسَ لمْ تَغْرُبْ على مثلِ هذَيْنِ الشَّيخَيْنِ؛ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنْهُما.
لا شكَّ أنَّ فَضائلَهم كثيرةٌ، والمسلمُ عندَما يَسْمَعُ هذهِ الفضائلَ يَعْرِفُ أنَّ لهم مِن الفضلِ ما يَحْمِلُهم على أنْ يَكونوا أُسْوَةً وقُدْوةً، وأنَّهم تُصَدَّقُ أقوالُهم ويُقْتَدَى بهم؛ لأنَّا نُزَكِّيهم ونَشْهَدُ بأنَّهم حَمَلةُ العِلْمِ، وحَمَلةُ الشَّرِيعةِ، والسَّابِقونَ مِنْ هذهِ الأمَّةِ، فلا يَجوزُ أن نَسْمَعَ لِمَنْ يَطْعَنُ فيهم أوْ يَنْتَقِصُهم، ولا أنْ نَرُدَّ شيئًا مِنْ أقوالِهم إلاَّ الأقوالَ الَّتي يَجْتَهِدُونَ فيها، ويَكونونَ مُخْطِئِينَ مُخالِفِينَ لِنصٍّ صَرِيحٍ لم يَبْلُغْهم، فنَعْتَذِرُ عنهم ونَقْبَلُ الحقَّ ممَّنْ جاءَ بهِ.
تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَرْتيبِ الخُلفاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
أوَّلاً:
تَرْتِيبُهم في الفضلِ.
وثانيًا:
تَرْتِيبُهم في الخِلافةِ.
والصَّحيحُ أنَّ تَرْتِيبَهم في الفضلِ وتَرْتِيبَهم في الخِلافةِ على حدٍّ سَواءٍ.
فالخِلافةُ بعدَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي بَكْرٍ، وأَفْضَلُ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبو بَكْرٍ، فَصَار أَبُو بَكْرٍ هوَ الأَفْضَلَ وهوَ الخَليفةَ.
وأَفْضَلُ الأمَّةِ بعدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ؛ فقدْ حَازَ الفَضْلَ بعدَ أَبِي بَكْرٍ. الفضلُ بمَعْنَى: الرُّتْبَةِ والمِيزَةِ والفضيلةِ والشَّرَفِ والأَجْرِ على قَدْرِ عَمَلِهِ، ولوْ كانَ هناكَ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ؛ فإنَّ عُثْمانَ أَسْلَمَ قبلَ عُمَرَ، وكذلكَ عَلِيٌّ أَسْلَمَ قبلَ عُمَرَ، والزُّبَيْرُ وسَعْدٌ وغيرُهم أَسْلَمَ قبلَهُ، ولكنَّ إسلامَهُ كانَ فَتْحًا ونَصْرًا، وخِلافَتَهُ كانَت عِزًّا لِلإسلامِ وتَمْكِينًا لهُ.
والأحاديثُ الَّتي وَرَدَتْ في فَضْلِهِ لم تَرِدْ في غيرِهِ؛ مِنها قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ))، يَعْنِي: أنَّ الشَّيطانَ يَهْرُبُ مِنهُ.
وفضائلُهُ أيضًا كثيرةٌ.
فأَفْضَلُ الأُمَّةِ بعدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ، وهوَ أَحَقُّ النَّاسِ بالخِلافةِ بعدَ أبي بَكْرٍ، أو الخِلافةُ الصَّحيحةُ بعدَ أبي بَكْرٍ خِلافةُ عُمَرَ.
واقْتَنَعَ بهِ المُسْلِمونَ وبايَعُوهُ، وتَمَّت البَيْعةُ، ولمْ يَشُذَّ أحدٌ عنْ طاعتِهِ، أوْ يُنْكِرْ عليهِ، أوْ يَخْرُجْ عنْ طاعتِهِ، وسِيرتُهُ تَدُلُّ على أَهْلِيَّتِهِ وصَلاحِهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
ثمَّ الخَليفةُ بعدَ عُمَرَ عُثْمانُ كما هوَ الواقِعُ؛ وذلكَ لأنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ جَعَلَهُ مِنْ أهلِ الشُّورَى.
وأهلُ الشُّورَى اتَّفَقُوا على تَقْدِيمِهِ، وتَمَّت البَيْعةُ لهُ، وبَايَعَهُ عَلِيٌّ، وبايَعَهُ عبدُ الرَّحمنِ، وسَعْدٌ، والزُّبَيْرُ، وسائِرُ الصَّحابةِ وسائرُ المسلِمِينَ، وتَمَّت الخِلافةُ لهُ.
إذًا فالخليفةُ بعدَ عُمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وهل الأَفْضَلُ بعدَ عُمَرَ عُثْمانُ أوْ عَلِيٌّ؟ فيهِ خِلافٌ بينَ العُلماءِ.
وسببُ الخِلافِ أنَّ هناكَ مَنْ فَضَّلَ عُثْمانَ على عَلِيٍّ، واسْتَدَلَّ بحديثِ ابنِ عُمَرَ الَّذي يَقولُ فيهِ: ( كنَّا نَقولُ والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمانُ، فيَبْلُغُ ذلكَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يُنْكِرُهُ )، وجاءَ الحديثُ أنَّهُ يَلِي عُمَرَ في الأَفْضَلِيَّةِ .
ومنهم مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمانَ، واسْتَدَلَّ بما رُوِيَ عنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: (أَفْضَلُ هذهِ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها، أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ولوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ الثَّالثَ)، قالوا: يَعْنِي نَفْسَهُ.
وسَأَلَهُ مَرَّةً ابنُهُ الحَسَنُ وقالَ: (يا أَبَتِ، مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ بعدَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أبو بَكْرٍ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: عُمَرُ، قالَ: فَخَشِيتُ أنْ يَقولَ: عُثْمانُ، فقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ فقالَ: ما أَبُوكَ إلاَّ رَجُلٌ مِن المسلِمِينَ)، قالَ ذلكَ على وَجْهِ التَّوَاضُعِ مِنهُ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
فلا شَكَّ في فَضْلِ الشَّيْخَيْنِ، ثُمَّ اخْتُلِفَ في الثَّالثِ؛ فمِنهم مَنْ ثَلَّثَ بعَلِيٍّ، ومِنهم مَنْ ثَلَّثَ بِعُثْمانَ.
وأمَّا في الخِلافةِ فإنَّهم مُرَتَّبُونَ: أبو بَكْرٍ الخَليفةُ، ثُمَّ يَلِيهِ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهم جميعًا.
وأمَّا حديثُ سَفِينةَ، فقدْ ذَكَرْنا أنَّهُ يُشِيرُ فيهِ إلى أنَّ الخِلافةَ ثلاثونَ سنةً، ولكنْ إذا عَرَفْنا أنَّ خِلافةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَانِ ونِصْفٌ، وخِلافةَ عُمَرَ عَشْرُ سَنَوَاتٍ، وخِلافةَ عُثْمانَ اثنتا عَشْرَةَ سَنَةً، فهذهِ خمسٌ وعشرونَ إلاَّ أَشْهُرًا، وخلافةَ عَلِيٍّ خمسُ سنواتٍ، فيَبْقَى مِنها نحوُ نِصْفِ سنةٍ يُكْمِلُها خِلافةُ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَتَكونُ ثلاثينَ سَنَةً، ويَنْطَبِقُ عليها الحديثُ: ((الْخِلاَفَةُ ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا …)).
في هذهِ الفِقْرَةِ مِن الْمَتْنِ تَزْكِيَةٌ لِهؤلاءِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ورَدٌّ بَلِيغٌ على مَنْ طَعَنَ فيهم أوْ ضَلَّلَهم، كما ذَكَرْنا عن الرَّافِضةِ.
وقدْ ذَكَرَ شارِحُ(الطَّحاوِيَّةِ)
أنَّ الرَّافِضةَ يَكْرَهُونَ اسمَ العَشَرَةِ ولا يُحِبُّونَهُ؛ وذلكَ لأنَّ هؤلاءِ العَشَرَةَ عندَهم كُفَّارٌ أوْ ضُلاَّلٌ، باسْتِثْناءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ؛ فلأجلِ ذلكَ لا يُحِبُّونَ لَفْظَ العَشَرَةِ، ممَّا يَدُلُّ على أنَّهم كَفَّرُوا جُلَّ الصَّحابةِ وما اسْتَثْنَوْا مِنهم إلاَّ أَفْرادًا قَلِيلِينَ.
ولكنْ رَدَّ عليهم شارِحُ (الطَّحاوِيَّةِ) مُبَيِّنًا تَناقُضَهم؛ فذَكَرَ أنَّهم لا يُكَفِّرُونَ العَشَرَةَ، إنَّما يُكَفِّرُون تِسْعةً مِنهم، فَهُمْ لا يَكْرَهُونَ لَفْظَ التِّسْعَةِ، وإنَّما يَكْرَهونَ لفظَ العَشَرَةِ، ومعَ ذلكَ يُخْرِجُونَ عَلِيًّا مِنْ هؤلاءِ العَشَرَةِ، فلا يَبْقَى عندَهم إلاَّ التِّسعةُ الباقُونَ.