"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (64)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الأعراف" (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)

قوله: {مِنْ بَنِي آَدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} {ظُهُورِهِمْ} بدل من (بَنِي آَدَمَ).

ومما يقوي أن المراد بإخراج بني آدم من ظهور آبائهم إيجاد قرن منهم بعد قرن، وإشهادهم على أنفسهم بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم أن الله تعالى جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في قوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}, ولا يمكن أن يكون أخذ الميثاق عليهم في عالم الذر حجة عليهم, لأنه لا يذكره أحد.
في حين أن الأدلة التي يرونها في السماء والأرض هي حجة على كل عاقل بوجود رب واحد, ولذلك يكثر الله تبارك وتعالى من الاستدلال بها في القرآن.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على قولين:

القول الأول: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، فقررهم بربوبيته وتوحيده وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى بلسان المقال (اقتصر عليه ابن جرير*, والبغوي*) (ومال إليه ابن عطية*, والقرطبي*) (ورجحه الشنقيطي*)

(ورجحه الرازي*, ورأى أن القول الثاني لا طعن فيه البتة، وأن لا ينافي هذا القول).

وجاءت آثار موقوفة عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم فيها ذكر هذا الإشهاد وأن الله نثرهم بين يديه كالذرِّ، وأخذ عليهم الميثاق وكلمهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا.

قال الشنقيطي: "أشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل ولم يولد أحد منهم وهو ذاكر له, وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده".

القول الثاني:
أن المراد بإخراج بني آدم من ظهور آبائهم إيجاد قرن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين والمراد بقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} إشهادهم على أنفسهم بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم, وقوله: (قالوا بلى) أي: بلسان حالهم لظهور الأدلة لكل عاقل. (رجحه الماتريدي*) (واقتصر عليه الزمخشري*) (ومال إليه ابن كثير*) (وضعفه ابن عطية*)

ومما يقوي هذا القول أن الله تعالى جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في قوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}, ولا يمكن أن يكون أخذ الميثاق عليهم في عالم الذر حجة عليهم, لأنه لا يذكره أحد.
في حين أن الأدلة التي يرونها في السماء والأرض هي حجة على كل عاقل بوجود رب واحد, ولذلك يكثر الله تبارك وتعالى من الاستدلال بها في القرآن.

قال الشنقيطي: "ونظيره من إطلاق الشهادة على شهادة لسان الحال قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي: بلسان حالهم".

قال الزمخشري: "ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم نسلاً وإشهادهم على أنفسهم. وقوله: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) من باب التمثيل والتخييل, ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي كلام العرب.
ونظيره قوله تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)، (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) وقوله:
إذ قالت الأنساع للبطن الحق قالت له ريح الصبا قرقار
ومعلوم أنه لا قول ثم، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى"اهـ

ومن الحجج لأصحاب هذا القول أن الله تعالى جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في قوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}، قالوا: فلو كان الإشهاد المذكور وهم في صورة الذر لما كان حجة عليهم، لأنه لا يذكره منهم أحد عند وجوده في الدنيا، وما لا علم للإنسان به لا يكون حجة عليه.

وأما القول بأن إخبار الرسل به كاف في ثبوته كما قال البغوي: "قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة".

فأجاب عليه ابن كثير بقوله: "إن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد".

قال ابن كثير بعد أن أورد جمعاً من الروايات في استخراج ذرية آدم من صلبه:
"فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس, وفي حديث عبد الله بن عمرو, وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع.
وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك، قالوا: ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ولم يقل: (من آدم)، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: (من ظهره) {ذرياتهم} أي: جعل نسلهم جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن.
ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أي: أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالاً.
قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه.
فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده.
فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد".

واحتج الشنقيطي على قوة القول الأول بحجة فيها نظر.
حيث يقول: "مقتضى القول الأول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض وما فيهما من غرائب صنع الله الدالة على أنه الرب المعبود وحده، وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة ولو لم يأتهم نذير, والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} فإنه قال فيها: (حتى نبعث رسولاً)، ولم يقل: حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة"اهـ

(قلت: هذه الحجة غير مسلمة)
لأنه يمكن أن يعترض بها أيضاً على القول الآخر فيقال: مقتضى القول بأن الله استخرج الذرية وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال أن تقوم عليهم به الحجة ولو لم يأتهم نذير.
لأن الله تعالى قال: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)
فمعلوم إذاً أنه على كلا القولين لا تقوم الحجة إلا بإرسال الرسل.

قال السعدي في "تفسيره": "يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرناً بعد قرن.
وحين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أي: قررهم بإثبات ربوبيته بما أودعه في فطرهم من الإقرار بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم.
قالوا: بلى قد أقررنا بذلك، فإن الله تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم.
فكل أحد فهو مفطور على ذلك.
هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات.
وقد قيل: إن هذا يوم أخذ الله الميثاق على ذرية آدم، حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتج عليهم بما أقروا به في ذلك الوقت على ظلمهم في كفرهم، وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس في الآية ما يدل على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة الله تعالى، والواقع شاهد بذلك.
فإن هذا العهد والميثاق الذي ذكروا أنه حين أخرج الله ذرية آدم من ظهره حين كانوا في عالم كالذر لا يذكره أحد، ولا يخطر ببال آدمي، فكيف يحتج الله عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا أثر"اهـ

(وأما ابن عاشور* فذكر القول الأول وكأنه يقول به ثم يفهم من بقية كلامه أنه لا يقول إلا بالثاني).
فقد قال: "وأخذ العهد على الذرية المخرجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذ العهد على الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى، ومما يثبت هذه الدلالة أخبار كثيرة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمع من أصحابه، متفاوتة في القوة غير خال واحد منها عن متكلم، غير أن كثرتها يؤيد بعضها بعضاً".

ثم قال: "والإشهاد على الأنفس استعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم.
والقول في (قالوا بلى) مستعار أيضاً لدلالة حالهم على الاعتراف بالربوبية لله تعالى".

وقال: "والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكنه، لأنها وراء المعتاد المألوف، فيراد تقريبها بهذا التمثيل.
وحاصل المعنى: أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها".

وقال: "(قالوا بلى) أطلق القول إما حقيقة فذلك قول خارق للعادة، وإما مجازاً على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى".

وقال: "(أن تقولوا) لما جعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذر يوم القيامة".

قال : "إنه لمشهد فريد.. مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تؤخذ في قبضة الخالق المربي، فيسألها: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟» .. فتعترف له سبحانه بالربوبية وتقر له سبحانه بالعبودية وتشهد له سبحانه بالوحدانية وهي منثورة كالذر مجموعة في قبضة الخالق العظيم! إنه مشهد كوني رائع باهر، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة! وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته! وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى، وهي تجمع وتقبض. وهي تخاطب خطاب العقلاء- بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع- وهي تستجيب استجابة العقلاء، فتعترف وتقر وتشهد ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب! وإن الكيان البشري ليرتعش من أعماقه وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/