تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: منهج صلاح الدين الأيوبي في إصلاح الأمة ( تقرير )

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي منهج صلاح الدين الأيوبي في إصلاح الأمة ( تقرير )

    منهج صلاح الدين الأيوبي في إصلاح الأمة ( تقرير )
    أحمد الشجاع

    ثمة تشابه كبير بين حال الأمة الإسلامية اليوم وحالها في عصر صلاح الدين الأيوبي
    ، حيث الانقسامات والصراعات الداخلية تشدد في ذلك الوقت، وكثرت التهديدات الخارجية من قبل النصارى والتتار، وانتشرت حالات الفقر والاضطرابات والفوضى في أوساط المجتمعات الإسلامية.

    وكل هذه المظاهر وغيرها كثير كانت نتيجة ضعف الخلافة العباسية وتفتت بلاد المسلمين بين الدويلات التي استغلت ضعف الخلافة فأسست لنفسها أنظمة حكم خاصة بها..إضافة إلى ظاهرة الاستعانة بالأعداء في تصفية الحسابات الداخلية بين المسلمين.
    وفي ظل هذه الأوضاع أصبحت الأمة الإسلامية عرضة للسقوط والانهيار بيد الغزو الخارجي الذي كان قد بدأ يزحف على بلاد المسلمين من كل جانب.
    ولمعالجة هذا الوضع كان لابد من أمرين: قائد مسلم يتميز بصفات الصلاح والنجاح..ومنهج إسلامي يسير يكون مناراً يسترشد به ذلك القائد..بحيث تكون عملية إصلاح الأمة قائمة على أسس صحيحة وسليمة وقوية في شتى الجوانب..وهذا كان عليه صلاح الدين الأيوبي الذي انطلق نحو إعادة بناء الأمة بدءاً من الداخل.. فكانت الإصلاحات تستهدف مكامن الخلل ومواطن الوباء، حاملاً العلاج الرباني الشافي.
    وفيما يلي نبذة عن منهج صلاح الدين في عملية التغيير والإصلاح داخل الأمة الإسلامية.
    سيرة ومسيرة
    ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 532هـ من أسرة كردية عريقة الأصل، في بلدة صغيرة من بلاد العراق تسمى (تكريت) وتولِّى والده ولاية (تكريت) في نفس الليلة التي وُلِد فيها صلاح الدين؛ لإخلاصه لـ(عماد الدين زنكي) أتابك الموصل.
    ثم انتقل الوالد إلى الموصل ومعه أخوه أسد الدين شيركوه، وتربى الشبل الأيوبي في كنف والده وعمه المجاهدين، وبدأ يترقى في كتائب المجاهدين، وانتدب لمرافقة عمه أسد الدين عندما أرسل نور الدين محمود إلى مصر، وتسلم منصب وزارة التفويض بعد وفاة عمه في نهاية الدولة العبيدية، وبدأ في إرجاع مصر للخلافة السنية العباسية متدرجًا في تنفيذ هدفه النبيل، والذي اشتاقت إليه نفوس المسلمين، فعزل قضاة مصر العبيديين، وأسند أمر القضاء إلى عبد الملك بن درباس الشافعي، وقطع الأذان بـ "حي على خير العمل" وأقام الخطبة للخليفة العباسي بعد أن انقطعت الخطبة للعباسيين بمصر 208 سنوات، وبشر نور الدين محمود الخليفة العباسي بذلك، وفرح الناس، وقضى صلاح الدين على كل المحاولات الفاشلة لإرجاع مصر للخلافة العبيدية، وأحسن إلى الرعايا إحسانًا كثيرًا.
    كان نور الدين محمود يرى إزالة العبيدية هدفاً استراتيجياً للقضاء على الوجود النصراني، والنفوذ الباطني في بلاد الشام؛ ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم الإسلامي الصحيح، فوضع الخطط اللازمة وأعد الجيوش المطلوبة وعين الأمراء ذوي الكفاءة المنشودة، فتمم الله له ما أراد على يد جنديه المخلص صلاح الدين الذي نفذ سياسة نور الدين الحكيمة الرشيدة.
    وبعد أن استقرت أمور البلاد والعباد في مصر، وانتقل نور الدين إلى ربه الغفور الرحيم، آل الأمر إلى صلاح الدين بعد فتن استطاع أن يقضي عليها، ووحد بلاد الشام ومصر تحت زعامته الفتية، وشرع في تنفيذ الأهداف المرسومة للدولة النورية.
    وكان من أهداف نور الدين العظيمة تحرير ديار المسلمين من النصارى وتحرير بيت المقدس، حتى إنه هيأ منبراً عظيماً لهذه الغاية، ولكنه مات قبل تحقيق هذا الهدف الغالي الذي ادخره الله لصلاح الدين، فعزم صلاح الدين على مواصلة حركة الجهاد المقدس، وفك الحصون والمدن من النصارى بالقوة بخطة واضحة محكمة، فانتصر على الفرنجة في موقعة (مرج العيون) سنة 575هـ وموقعة (بانياس) وأسر رؤساءهم ودمر حصن الأحزان في صفد، وما زال يناوش الفرنجة وينتزع منهم الحصون حصناً بعد حصن حتى تجمع عنده جيش كبير في سهل حطين، حيث كانت الموقعة الكبرى التي كسرت عظام الصليبيين ومهدت لفتح القدس، وقد أسر وقتل معظم من حضرها من الفرنجة: "فمن شاهد القتلى قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هنالك من قتيل، ومنذ استولى الفرنج على ساحل الشام ما شفى للمسلمين كيوم حطين غليل".
    وبدأت بشائر التحرير بزحف جيوش صلاح الدين نحو بيت المقدس الذي استمر 92 سنة تحت سيطرة النصارى، وضربت جيوش الناصر صلاح الدين الحصار المحكم على بيت المقدس واستمر حصارها.
    وتذكر كتب التاريخ أن صلاح الدين عندما سار إلى بيت المقدس وصلته رسالة من أحد المأسورين في القدس فيها أبيات على لسان المسجد الأقصى:
    يــا أيـهـا المـلـك iiالـــذي لمعـالـم الصلـبـان نـكـس
    جـــاءت إلـيــك iiظـلامــة تسعى من البيت المقدس
    كــل المسـاجـد iiطـهــرت وأنا على شرفي iiمنجـس

    وبعد اشتداد الحصار على النصارى طلبوا الأمان ونزل ملك بيت المقدس يترفق السلطان وذل ذلاً عظيمًا، فأجابهم صلاح الدين، ودخل المسلمون القدس ووفوا بالصلح المضروب مع النصارى، وشرعوا في تنظيف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وأعيد على ما كان عليه زمن المسلمين، وغسلت الصخرة بالماء الطهور وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عن قبتها وعادت إلى حرمتها، وامتن السلطان صلاح الدين على بنات الملوك ومن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئًا مما يقتني ويدخر، وكان رحمه الله كريمًا مقدامًا شجاعًا حليمًا.
    شخصية صلاح الدين
    - تقريبه للعلماء وحبهم واحترامهم واستشارتهم وإعطاؤهم المكانة اللائقة بهم، وإحياء المدارس والعلم، وحضور السلطان مجالس العلم، بل إن السلطان صلاح الدين يذهب إلى الإسكندرية مصطحباً معه ولديه علي وعثمان لحضور مجلس الإمام الحافظ. وترقى العالم كمال الدين الشهرزوري إلى مرتبة الوزارة، ومن مستشاري صلاح الدين العالم الواعظ ابن نجا الحنبلي، ووزيره القاضي الفاضل من أكابر الكتاب محباً للعلم وأهله، ومنهم نجم الدين الخبوشاني، والفقيه الشافعي، وهو الذي شجع صلاح الدين على إنهاء الدولة العبيدية وقطع الخطبة لهم، وبنا له صلاح الدين مدرسة وفوض تدريسها إليه.
    ومن الفقهاء الأمراء الفقيه الهكاري: "وكان جندياً شجاعاً كريماً، تفقه على الشيخ أبي القاسم البرزي واتصل بالأمير أسد الدين شيركوه، وكان يخاطب صلاح الدين بما لا يقدر عليه غيره، توفي وصلاح الدين محاصر لعكا".
    وكان إذا زاره عالم اهتم به جداً، ولا يتركه حتى يزوده بالمال والأمتعة له ولجيرانه وأقربائه.
    إن هذه الانتصارات العظيمة لا تكون إلا بوجود مثل هذا التلاحم والتعاطف بين الأمراء والعلماء، ونقل الدكتور الصلابي عن القاضي ابن شداد قوله: "وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة، وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً.
    ويقول الصلابي: إن القادة الذين يحترمون العلماء والفقهاء في حقيقة عملهم هذا قد أخذوا بسنة من سنن التمكين والنصر والغلبة على الأعداء.

    - ومن الملامح الواضحة في شخصية صلاح الدين شغفه بالجهاد، قال القاضي ابن شداد: "وكان - رحمه الله - شديد المواظبة على الجهاد، عظيم الاهتمام به، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً إلا في الجهاد وفي الإرفاد لصدق وبر في يمينه. ولقد كان الجهاد قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره، ويحث عليه، ولقد هجر - في محبته الجهاد - أهله وولده ووطنه وسكنه، وقنع بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح يمنة ويسرة، وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد، وقد سرنا مع السلطان على الساحل نطلب عكا وكان الزمان شتاءً عظيمًا، والبحر هائجًا وموجه كالجبال، وكنت حديث عهد برؤية البحر فعظم عندي، واستخففت رأي من يركب البحر، بينما أنا في ذلك إذ التفت إليَّ وقال في نفسه: إنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد، وأوصيت وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتبعهم فيها حتى لا أبقى على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت، فعظم وقع هذا الكلام عندي وحكيت له ما خطر لي، فانظر إلى هذه الطوية ما أطهرها، وإلى هذه النفس ما أشجعها وأجسرها".
    - ومن السمات الشخصية في صلاح الدين حرصه على العدل، وكان الأمراء والوزراء من قبل يتسلطون على الناس في أموالهم وأراضيهم، والملوك يسمحون لهم بذلك إرضاءً لهم وحتى تبقى طاعتهم.
    - كذلك زهده في الدنيا ولذلك لم يخلف أموالاً ولا أملاكًا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، وحتى إلى أعدائه، وكان متقللاً في ملبسه، ومأكله، ومركبه، وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف.
    - وكان مهتماً بالعلوم في اللغة والأدب وأيام الناس، وكان يحفظ ديوان الحماسة لأبي تمام..إلى جانب اهتمامه بنشر العلم والمعرفة، يقول الدكتور أحمد أبو زيد: "يذكر التاريخ فضل صلاح الدين الأيوبي في إنشاء المدارس العلمية في جميع المدن التي كانت تحت سلطانه في مصر ودمشق والموصل وبيت المقدس، وفضل نور الشهيد الذي أنشأ في سوريا وحدها أربعة عشر معهداً.
    ويعطي ابن خلدون أمثلة على ما كان في بغداد وقرطبة والكوفة والبصرة والقيروان وفاس من مراكز علمية، ويتحدث عما شاهده في القاهرة من التطور العلمي وازدهار المدارس. ويؤكد أن الذي ساعد على ذلك هو ما حدث في القرنين اللذين سبقا زمانه، وبخاصة زمن صلاح الدين الأيوبي الذي وقف أراضي زراعية وبيوتاً وحوانيت على المدارس.
    - وكان مواظباً على الصلوات في أوقاتها في الجماعة، يقال: إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل، حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الإمام فيصلي به، وكان يتجشم القيام مع ضعفه.
    - وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع القرآن الكريم، والحديث الشريف.
    - وكان ضحوك الوجه كثير البشر، لا يتضجر من خير يفعله، شديد المصابرة على الخيرات والطاعات.
    فقه الأولويات
    حسن التعامل مع قضايا الأمة يأتي عبر القراءة الصحيحة في واقع الحال والظروف القائمة، وترتيب الأولويات بحسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين.. فالأولويات تتغير بتغير الأحوال والحاجة.

    وهذا ما أدركه صلاح الدين الأيوبي من خلال تعامله مع قضايا الأمة بناء على الهدف الأساسي الذي يسعى إليه وهو توحيد الأمة لمواجهة الأعداء المتربصين بها.
    وقد عرض الكاتب محمد بن المختار الشنقيطي صورة من صور حكمة صلاح الدين في تعامله مع واقع الأمة.
    وضرب مثلاً في ذلك بتعامل صلاح الدين الأيوبي مع حكام الدولة "الفاطمية" في مصر الذين أعلنوا أنفسهم "خلفاء" مجانبةً للخلافة العباسية في بغداد، وخرجوا على جمهور الأمة في مذهبهم العقدي والفقهي خروجاً لم تفعله طائفة مسلمة معتبرة في تاريخ الإسلام، وضايقوا أهل السنة في مصر حتى أصبحت قراءة (صحيح البخاري) جريمة.
    ثم يؤكد الشنقيطي أنه مع كل ذلك فإن تعامل صلاح الدين الأيوبي مع هذه الدولة المارقة كان محكوماً بمنطق غير طائفي، وكان مبنياً على إدراك عميق لظروف الطوارئ التي تعيشها الأمة وهي محاصرة بين فكَّيْ الخطر الصليبي القادم من الشمال، والزحف المغولي الداهم من الشرق.
    أول ما يلفت النظر هنا استنجاد الحاكم الفاطمي في مصر بحاكم الشام السني نور الدين زنكي، وهو ما فتح الباب لقدوم صلاح الدين إلى مصر وعمله وزيراً للدولة الفاطمية، وقتاله الصليبيين تحت رايتها سنين عديدة، دون اعتبار للخلاف المذهبي بين الطرفين.
    كما يلفت النظر أيضاً أسلوب الحكمة والرحمة والوفاء الذي تعامل به صلاح الدين مع القيادة الفاطمية، حينما مال ميزان القوة لصالحه، وأصبح قائداً عسكرياً مسيطراً، ثم أخيراً ملكاً لمصر والشام، بعد وفاة الحاكم الفاطمي العاضد.
    ونقل الشنقيطي عن ابن شداد - كاتب صلاح الدين الخاص ومؤرخ سيرته -، وعن أبي شامة بعض الأمور التي تعكس حكمة صلاح الدين وبعد نظره.
    يروي ابن شداد أن نور الدين زنكي لما أرسل إلى صلاح الدين من الشام يأمره بالدعاء لخلفاء بني العباس على المنابر، وهي الإشارة الرمزية إلى البيعة لهم والتخلص من منافسيهم الفاطميين، "راجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة".
    وزاد أبو شامة الأمر توضيحاً بالقول: "فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم عن الإجابة إلى ذلك، لميلهم إلى العلويين".
    فصلاح الدين كان حريصاً على توحيد الكلمة بترفق وتلطف، ودون استعجال أو قفز على الوقائع الاجتماعية والثقافية المتراكمة على مر الزمان.
    وبعد إصرار نور الدين على أن ينفذ صلاح الدين أمره، انتظر صلاح الدين حتى مرض الخليفة الفاطمي العاضد، فأقعده المرض عن حضور الصلوات وتسيير الشأن العام، فبدأ صلاح الدين في التنفيذ، ولو أراد تنفيذ الأمر في صحة الخليفة الفاطمي وقوته لفتح الباب أمام اقتتال داخلي بين المسلمين في مصر.
    ثم لما مات العاضد - بُعيد ذلك بمدة وجيزة - ندم صلاح الدين على استعجاله في تحويل الخطبة، وعدم التروي أكثر في الأمر.
    قال أبو شامة: "وأما ندمُ صلاح الدين، فبلغني أنه كان على استعجال بقطع خطبته وهو مريض، وقال: لو علمت أنه يموت من هذا المرض ما قطعتها إلى أن يموت".
    وقبل أن يموت العاضد لم يجد أكثر رحمة وثقة من صلاح الدين ليستودعه أبناءه ويوصيه بإكرامهم، رغم بعد الشقة المذهبية بين الطرفين.
    يذكر أبو شامة أن أبا الفتوح بن العاضد أخبره "أن أباه في مرضه استدعى صلاح الدين فحضر، قال: وأحضرَنا، يعني أولاده وهم جماعة صغار، فأوصاه بنا، فالتزم إكرامنا واحترامنا، رحمه الله".
    وبناء على وصية العاضد هذه "نقل صلاح الدين أهل العاضد إلى موضع من القصر ووكل بهم من يحفظهم"، كما يروي ابن شداد.
    وقد أكد أبو شامة حسن معاملة صلاح الدين لأفراد أسرة الحاكم الفاطمي، فكتب: "ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل لحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في الإيوان في القصر، وجعل عندهم من يحفظهم".
    ونقل أبو شامة عن أبي الفتوح بن الخليفة العاضد أن صلاح الدين "جعلهم في دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه بالقاهرة، وهي دار كبيرة واسعة، كان عيشهم فيها طيباً".
    ولما مات الحاكم الفاطمي لم يظهر صلاح الدين شماتة ولا غبطة برحيل عدوه المذهبي، بل "جلس السلطان للعزاء، وأغرب في الحزن والبكاء، وبلغ الغاية في إجمال أمره، والتوديع له إلى قبره"، كما يقول ابن شداد.
    كان صلاح الدين – الكلام للشنقيطي - مؤمناً بوحدة الأمة، حريصاَ على الارتباط بالخلافة العباسية في بغداد التي هي رمز الوحدة الإسلامية رغم ضعفها وخورها.
    بينما كان الفاطميون في مصر متعصبين لمذهبهم الشيعي، كما كانوا شديدي المنافسة لسلطة الخلافة في بغداد، في وقت تحتاج الأمة فيه إلى التعاضد في وجه أمواج التتار العاتية القادمة من الشرق، وصولات الصليبيين المدمرة في الشمال والغرب.
    لكن صلاح الدين كان يدرك أن الخلاف يجب أن يتم حسمه في ساحة الفكر، لا في ساحة المعركة، وأن هذا الخلاف مهما تعاظم وتراكم على مر القرون، ومهما تجاوز الفروع إلى الأصول، يظل خلافاً داخل البيت الواحد، لا يصلح التعامل معه بغير الحوار المتأسس على الحجة والبرهان"، حسب قول الشنقيطي.
    وبهذه الرؤية الحكيمة الرحيمة غير صلاح الدين وجه مصر من دولة يحكمها الفكر الشيعي إلى دولة يسود فيها الفكر السني، دون أن يجر المجتمع المسلم إلى حرب استنزاف طائفي بين السنة والشيعة.
    وكانت منهجية صلاح الدين هي تغيير المناخ الفكري والفقهي السائد بطريقة مترفقة هادئة دون مواجهة أو ضوضاء، فأسس صلاح الدين مدارس كثيرة في مصر والشام وفلسطين تحمل الفكر والفقه السني، منها المدرسة الناصرية والمدرسة القمحية والمدرسة السيفية في مصر، ومنها المدرسة الصلاحية في دمشق، ومدرسة بنفس الاسم في القدس.
    ولما كان الجامع الأزهر يومها غرة الدولة الفاطمية ومركز أيديولوجيتها وأهم إنجازاتها العلمية، لم يسع صلاح الدين إلى هدمه أو انتزاع قيادته من الفاطميين وأشياعهم من الفقهاء، وإنما انتهج إستراتيجية التفاف حكيمة للتعاطي مع هذه المؤسسة العظيمة.
    فنقل صلاح الدين خطبة الجمعة - وهي يومئذ رمز سيادة الحاكم وتأكيد شرعيته - من الجامع الأزهر إلى الجامع الحاكمي بالقاهرة، فهمش المؤسسة التي يسيطر عليها الفكر الفاطمي، والتف عليها بحكمة وروية، دون أن يدخل في مواجهة مفتوحة مع القوى الدينية المرتبطة بالنظام القديم.
    وحينما ثار ثوار على صلاح الدين، وحاولوا اغتياله واستعادة السلطة الفاطمية، وبدؤوا الاتصال بالصليبيين، عاملهم صلاح الدين بحزم، طبقاً لفعلهم لا طبقاً لفكرهم.
    وقد نشبت ثورات أخرى عدة تهدف إلى استعادة السلطة الفاطمية، وواجهها صلاح الدين بحزم وقوة. لكن صلاح الدين كان يؤاخذ الناس بفعلهم لا بمذهبهم، فهو لم يقتل الشيعة لأنهم شيعة أو السنة لأنهم سنة، وإنما قتل من تآمر لاسترداد حكم فاسد مترهل، عاجز عن حماية الأمة والذب عن حياضها، مفرق لكلمتها ووحدتها.
    وكان من بين هؤلاء المتآمرين سنة وشيعة لا ضمائر لهم، مدوا يد الوصل إلى الصليبيين المتربصين من أجل استعادة نفوذهم في مصر. وقد واجه صلاح الدين الفكر بفكر بديل، والفقه بفقه منافس، كما واجه السيف بالسيف، وهذا هو العدل والحكمة.
    كما اعتمد صلاح الدين طريق الترفق والتدرج في التغيير الفكري الذي ارتآه؛ لأن الجفاء في الإنكار على المخالفين من المسلمين المتلبسين ببعض البدع، دون لطف أو ترفق، أو اعتبار للمآل والثمرات، يعمق الجرح ويوسع الشرخ، دون أن يصلح الخلل أو يحقق المصلحة المرجوة.
    وكان صلاح الدين رجل عمل لا جدل، مدركاً أن الاستغراق في أمور الخلاف والوقوف عندها طويلاً استنزاف للذات. فعمل على استنقاذ الأمة من حالة الطوارئ التي تعيشها، بالعمل الإيجابي في ساحة الحرب وفي ساحة الفكر، ولم يستنزف جهده في أمور الخلاف والجدل النظري.
    وفاة عظيم خسارة أمة
    وبعد وفاته شعرت الأمة بحجم خسارتها العظيمة، فأمثال صلاح الدين لا تنساهم الأمة؛ لأن أمثالهم قليل وعملهم جليل.. وقد عبر عن هذه الخسارة كثير من العلماء والشعراء.
    فهذا قال العماد الأصبهاني رحمه الله ينقل عنه الصلابي قوله: "دخلنا عليه ليلة الأحد للعيادة ومرضه في زيادة، وفي كل يوم تضعف القلوب وتتضاعف الكروب، ثم انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ومات بموته رجاء الرجال، وأظلم بغروب شمسه فضاء الإفضال ورثاه الشعراء".
    إلى أن قال العماد الأصبهاني مرثيته المشهورة:
    شمـل الهـدى والملـك عـم شتاتـه والدهـر ســاء وأقلـعـت iiحسنـاتـه
    بـالله أيـن الناصـر المـلـك iiالــذي لله خـالــصــة صــفـــت iiنـيــاتــه
    أيـن الـذي مـذ لـم يــذل iiمخشـيـة مــرجـــوة رهـبــاتــه iiوهـبــاتــه
    أيــن الــذي كـانـت لــه iiطاعـتـنـا مـبــذولــة ولــربـــه iiطــاعــاتــه
    أيـن الـذي مــا زال سلطـانًـا iiلـنـا يُـرجـى نــداه وتتـقـى iiسـطـواتـه
    أين الذي شـرف الزمـان iiبفضلـه وسمت على الفضـلاء iiتشريفاتـه
    لا تحسبوا من مات شخصاً واحداً قــد غــم كــل العالـمـيـن iiمـمـاتـه
    ملـك عـن الإسـلام كــان محامـيـاً أبـــداً لـمــاذا أسـلـمـتـه حُـمـاتــه
    قـد أظلمـت مـذ غـاب عـنـا iiدوره لـمـا خـلـت مــن بـــدره iiداراتـــه
    دُفن السمـاح فليـس تنشـر iiبعدمـا أودى علـى يـوم النشـور iiرفـاتـه
    الديـن بعـد أبـي المظفـر يـوسـف مـحـفـوفـة بـــــوروده iiحـافــاتــه
    مــن لليتـامـى والأرامــل iiراحـــمُ متـعـطـف مفـضـوضـة iiصـدقـاتـه
    لو كان في عصـر النبـي iiلأنزلـت فــي ذكـــره مـــن ذكـــره آيـاتــه
    بكت الصوارم والصواهل إذ iiخلت مــن سلـهـا وركوبـهـا iiعـزمـاتـه
    يـا وحشـة الإسـلام حيـن iiتمكنـت مـن كــل قـلـب مـؤمـن iiروعـاتـه
    يـا داعـيًـا للـديـن حـيـن iiتمكـنـت مـنـه الـذئـاب وأسلمـتـه رُعـاتــه
    ما كان ضـرك لـو أقمـت iiمراعيًـا ديـنًـا تـولـى مــذ رحـلـت iiولاتــه
    فـارقـت ملـكًـا غـيـر بــاق مُتعـبًـا ووصـلـت ملـكًـا بـاقـيًـا iiراحـاتــه
    مـن للثغـور وقـد عـداهـا iiحفـظـه مــن للجـهـاد ولــم تـعـد iiعـاداتـه
    ما كان أسرع عصره لما انقضـى فـكـأنـمــا سـنــواتــه iiسـاعــاتــه
    فعلى صلاح الديـن يوسـف iiدائمـاً رضوان رب العالمين بل iiصلواته

    الخلاصة
    بعد وفاة صلاح الدين عادت الأمة – بشكل تدريجي - إلى ما كانت عليه قبل الإصلاحات التي نفذها صلاح الدين..والسبب واضح ويمثل في غياب أمثال هؤلاء العظماء وغياب المنهج الرباني الذي يوحد الأمة.
    فإن لم تكن منطلقة من الشريعة الإسلامية فإن أي عمليات تغيير أو إصلاح في واقع الأمة لن يكتب له النجاح ؛ لأن ما سوى ذلك يحمل في داخله الشيء ونقيضه..
    والتاريخ يشهد بأن الأمة لم تعرف ازدهاراً أو تماسكاً إلا في ظل منج الإسلام الصحيح وعلى يد قادة مصلحون مخلصون.. وأنه كلما انغمس المسلمون في ثقافات ومناهج الأمم الأخرى زاد وهنهم وهوانهم وزاد الشقاق والفراق والصراع والخضوع لتلك الأمم التي أخذوا ثقافتهم منها.
    المصادر
    - (السنة والشيعة.. دروس من صلاح الدين الأيوبي)، محمد بن المختار الشنقيطي – الجزيرة نت.
    - (صفحات من التاريخ الإسلامي.. الدولة الفاطمية)، الدكتور علي محمد الصلابي.
    - (فضل الأوقاف في بناء الحضارة الإسلامية)، الدكتور أحمد أبو زيد – مجلة التاريخ الإسلامي.
    - (دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية)، د. عبد الحليم عويس.
    - (مشاهير أعلام المسلمين)، علي بن نايف الشحود.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    الدولة
    المملكة العربية السعودية حرسها الله
    المشاركات
    1,496

    افتراضي رد: منهج صلاح الدين الأيوبي في إصلاح الأمة ( تقرير )

    شيخ الإسلام ابن تيميه:


    "وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسري خارجًا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلى العراق، وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر، وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف، وأذنوا على المنابر:‏ ‏[‏حي علي خير العمل‏]‏ حتى جاء الترك ‏[‏السلاجقة‏]‏ الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلي مصر، وكان من أواخرهم ‏[‏الشهيد نور الدين محمود‏]‏ الذي فتح أكثر الشام، واستنقذه من أيدي النصارى؛ ثم بعث عسكره إلي مصر لما استنجدوه على الإفرنج،

    وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر،

    فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية، وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتى سكنها حينئذ من أظهر بها دين الإسلام‏)

    ‏ مجموع الفتاوى باب حكم المرتد.


    ويقول

    (ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع؛ وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك‏.‏

    ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة،

    ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر‏).


    مجموع الفتاوى/ فصل: من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات.


    ويقول: (وكان بنو عبيد اللّه القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم، لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين، وكان نسبهم باطلاً كدينهم، بخلاف الأموي والعباسي فإن كلاهما نسبه صحيح، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين‏.

    ‏ فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق،

    وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة،

    إلى أن تولى نور الدين الشهيد،

    وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم،

    وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن شادي،

    وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة) -

    مجموع الفتاوى/ فَصْــــل في أحوال أهل الضلال والبدع.


    ويقول في مجموع الفتاوى ج17-ص501

    وقال محمد بن عبد الله مطين الحافظ وغيره"إنما هو قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر خوفاً عليهم إذا دفنوا في المقابر البارزة أن ينبشهم الخوارج المارقون فإن الخوارج كانوا تعاهدوا على قتل الثلاثة فقتل ابن ملجم علياً وجرح صاحبه معاوية وعمرو كان استخلف رجلاً اسمه خارجة فقتله الخارجي وقال أردت عمراً وأراد الله خارجة فسارت مثلاً ، فالمقصود أن هذا المشهد إنما أحدث في دولة الملاحدة دولة بني عبيد وكان فيهم من الجهل والضلال ومعاضدة الملاحدة وأهل البدع من المعتزلة والرافضة أمور كثير ولهذا كان في زمنهم قد تضعضع الإسلام تضعضعاً كثيراً ودخلت النصارى إلى الشام

    فإن بني عبيد ملاحدة منافقون ليس لهم غرض في الإيمان بالله ورسوله ولا في الجهاد في سبيل الله بل الكفر والشرك ومعاداة الإسلام بحسب الإمكان واتباعهم كلهم أهل بدع وضلال


    فاستولت النصارى في دولتهم على أكثر الشام

    ثم قيض الله من ملوك السنة مثل نور الدين وصلاح الدين وإخوته وأتباعهم ففتحوا بلاد الإسلام وجاهدوا الكفار والمنافقين.


    ويقول كذلك في مجموع الفتاوى ج27 -ص54:


    "إذا عرف ذلك فهذه السواحل الشامية كانت ثغوراً للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان رضى الله عنه فتحها معاوية فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام سواحله وغير سواحله

    وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة

    فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام بل وأكثر بلاد الشام وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن يسر الله تعالى

    بولاية ملوك السنة مثل نور الدين وصلاح الدين

    وغيرهما فاستنقذوا عامة الشام من النصارى وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره".


    ويقول في مجموع الفتاوى ج28 -ص 643:

    " وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد

    وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلكم بما قاموا به وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته"


    وفي منهاج السنة النبوية ج 8 -ص 24:


    "وأما القدماء كأرسطو وأمثاله فليس لهم في النبوة كلام محصل والواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبياً كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبياً وكان قد جمع بين النظر والتأله وسلك نحواً من مسلك الباطنية وجمع بين فلسفة الفرس واليونان

    وعظم أمر الأنوار وقرب دين المجوس الأول وهو نسخة الباطنية الإسماعيلية

    وكان له يد في السحر والسيمياء، فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين".

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •