"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (56)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الحج": (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)

القول الأقرب في الآية أن المراد بالسماء: السماء الدنيا.
والمعنى: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله بحيلة يعملها فليمدد بحبل إلى السماء, وليرقى, ثم ليقطع النصر النازل من السماء. فلينظر هل يذهبن كيده هذا ما يغيظه من نصر الله لرسوله وظهور دينه.

والسبب هو الحبل.
وقوله: (ما يغيظ) مصدرية, والمعنى: هل يذهبن كيده غيظه.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على أربعة أقوال:

القول الأول : أن المراد بالسماء: سماء البيت أي: سقفه.

والمعنى : من كان يطمع أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم ويغيظه نصرة الله لنبيه فليستقص وسعه في إزالة ما يغيظه وليمدد بحبل إلى سقف بيته، ثم ليقطع أي: يختنق به، فلينظر وليتفكر في نفسه هل تذهبن حيلته هذه غيظه أي: ما يجد في صدره من الغيظ من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (ذكر هذا القول ابن جرير*, والماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*) (ورجحه ابن كثير*, والشنقيطي*)
لكنه فسر الآية على أن المراد بالذي يظن أن لن ينصره الله كل مؤمن يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة.

قال الزمخشري موضحاً لمعنى هذا القول: "هذا كلام قد دخله اختصار. والمعنى: إن الله ناصر رسوله في الدنيا والاخرة، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه، فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه، بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلاً إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ وسمى الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه.
والمراد: ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه".

القول الثاني : أن المراد بالسماء: السماء الدنيا.

والمعنى: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم بحيلة يعملها فليمدد بحبل إلى السماء, وليرقى إليها, ثم ليقطع النصر والوحي النازل عليه من السماء إن قدر على ذلك. فلينظر هل يذهبن كيده هذا ما يغيظه من نصر الله لرسوله وظهور دينه.
(ذكره ابن جرير*, والماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*) (وأشار إليه ابن عاشور*)

وهذا القول هو الأقرب في معنى الآية, لأن المتبادر والظاهر من لفظ (السماء) أنها السماء المعروفة.
وكذلك قوله: (هل يذهبن كيده) فإن الظاهر منه أن كيده محاولة قطع النصر عن النبي صلى الله عليه وسلم, وليس كيده هو قتل نفسه.فة .

وهذه الآية فيها وعد وبشارة بنصر الله لدينه ولرسوله، وتأييس للكافرين الكائدين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.

قال الرازي نقلاً عن بعضهم: "المراد منه نفس السماء فإنه يمكن حمل الكلام على نفس السماء فهو أولى من حمله على سماء البيت، لأن ذلك لا يفهم منه إلا مقيداً، ولأن الغرض ليس الأمر بأن يفعل ذلك، بل الغرض أن يكون ذلك صارفاً له عن الغيظ إلى طاعة الله تعالى، وإذا كان كذلك فكل ما كان المذكور أبعد من الإمكان كان أولى بأن يكون هو المراد, ومعلوم أن مد الحبل إلى سماء الدنيا والاختناق به أبعد في الإمكان من مده إلى سقف البيت، لأن ذلك ممكن".

القول الثالث: أن الضمير في قوله: {لن ينصره} عائد إلى قوله: {من كان يظن} ومعنى (ينصره) أي: يرزقهسبب : الحبل, والسماء : سماء البيت أو غيره أي: سقفه.

والمعنى: من أساء الظن بالله عز وجل وظن أن لن يرزقه فليختنق، وليقتل نفسه غيظاً وغماً وجزعاً، فإن ذلك لا يغير شيئاً مما قضاه الله وقدره (ذكره ابن جرير*, والماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*)

قال الماتريدي: "قال بعضهم: قوله: (من كان يظن أن لن ينصره) أن لن يرزقه الله، ويجعله صلة قوله: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)، لأنه يجعل الآية في أهل النفاق، يقول: من كان يظن من أهل النفاق أن الله لا يرزقه إذا كان في ذلك الدين الذي كان فيه فليمدد بما ذكر".

(ومال ابن عاشور* إلى هذا القول) لكنه فسر الآية تفسيراً فيه بعض الاختلاف, فلم يفسر النصر بالرزق وفسر السماء بالسماء المعروفة ورأى أن المعنى: يعلق حبلاً بالسماء ثم يقطعه فيسقط فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئاً من إزالة غيظه.

قال رحمه الله: "الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله: (خسر الدنيا والآخرة) هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إن بقوا على الإسلام.
فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاء، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ... ويترجح هذا الاحتمال بتغيير أسلوب الكلام، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله: (ومن الناس من يعبد الله) ولم تورد فيه جملة (ومن الناس) كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين, ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق... وضمير النصب في (ينصره) عائد إلى (من يعبد الله على حرف) واسم (السماء) مراد به المعنى المشهور.
فالمعنى: فلينط حبلاً بالسماء مربوطاً به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئاً من إزالة غيظه".

قال ابن عاشور: "ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطأوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومرتابين في نيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضر الله ولا رسوله ولا يكيد الدين وإن شاؤوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم، ولعل هؤلاء من المنافقين.
فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف، والمناسبة ظاهرة".

القول الرابع: أن الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: من كان يحسب أن الله لن يرزق محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى سماء بيته, ثم يختنق, فلينظر هل يذهبنّ كيده ما يغيظه.
(رجحه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*) (وضعفه الشنقيطي*)
قال الشنقيطي: وهذا القول ظاهر السقوط كما ترى.
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/