سيرة العز بن عبد السلام ومعنى عزة الأمة
أحمد الشجاع
يضيق صدر كثير من الناس وتشمئز نفوسهم إذا ذُكرت الأمة الإسلامية أو الدولة الإسلامية أو العلماء؛ وسبب ذلك الضيق هو الروح الانهزامية والجهل لدى كثير من المسلمين؛ نتيجة الحالة المهينة والتبعية التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم..
ويزداد الشعور بالانهزامية عند النظر إلى ما وصلت إليه الأمم الأخرى من تقدم وتطور ومقارنة ذلك بحالنا؛ فيظن أولئك المنهزمون أن ما لدى الآخرين أفضل مما عندنا؛ فينبذون كل ما يتعلق بالثقافة الإسلامية ويلهثون وراء ثقافات الآخرين دون تمييز بين الضار والنافع.
وقد تحدث ابن خلدون عن هذه الروح الانهزامية، ووضع لذلك عنواناُ لأحد فصول مقدمته الشهيرة: (المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده).
وبيّن ابن خلدون أن السبب في ذلك هو "أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً انتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء".
وبالتالي تؤدي هذه الانهزامية إلى مزيد من الضعف والتبعية والتفكك والترهل داخل المجتمع الإسلامي..ولم يعرف المسلمون في تاريخهم دولة قوية إلا في ظل حكم إسلامي يقوم عليه حكام صالحون عادلون ملتزمون بمنهج الله في كل شؤون حياتهم، وحريصون على الأخذ بكل أسباب النجاح والقوة في سبيل دينهم وأمتهم. ومعهم علماء عظماء لهم المكانة العليا بين الناس حكاماً ومحكومين..
وفي سيرة الإمام العز بن عبد السلام دليل على أهمية وجود علاقة قوية بين الحاكم والعالِم تقوم على أسس شرعية صحيحة وتهدف إلى تحقيق مصلحة المسلمين والنهوض بالأمة.
عالم عزيز
عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، شيخ الإسلام عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي. ولد سنة 577 للهجرة.
يكنى بأبي محمد، ولقب بعدة ألقاب، منها: (عز الدين)، وشاع هذا اللقب بين الناس، و(الإمام العز)، ولقب بـ(سلطان العلماء)، لقّبه به تلميذه ابن دقيق العيد، كما لقب بـ(شيخ الإسلام)
نشأ العز بن عبد السلام في ظروف صعبة كان يعيشها العالم الإسلامي، حيث الفتن والصراعات الداخلية، إضافة إلى خطر الصليبيين والتتار.
وكان التتار قد تمكنوا من إسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد عام 656هـ، وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر حاملين معهم الخراب والدمار.
وأدرك الشيخ انتصارات صلاح الدين الأيوبي، واسترداده بيت المقدس من أيدي الصليبيين سنة 583 هـ. وشاهد دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهد دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزّها، وشاهد بعض الحملات الصليبية على فلسطين ومصر. وشاهد الغزوة التترية المغولية الهمجية على الخلافة العباسية في بغداد، وتدميرها للمدن الإسلامية، وشاهد هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر.
لقد شاهد كل هذه الأحداث، فأثرت في نفسه، وراعَه تفتت الدولة الأيوبية القوية - قاهرة الصليبيين - إلى دويلات عندما اقتسم أبناء صلاح الدين الدولة بعد وفاته: فدويلة في مصر، ودويلة في دمشق، ودويلة في حلب، ودويلة في حماة، وأخرى في حمص، ودويلة فيما بين النهرين.
وبين حكام هذه الدويلات تعشش الأحقاد والدسائس، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للانقضاض على بلاد الشام ومصر.
طلب العلم
انقطع سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام للعلم والتعلم بعدما ناهز الاحتلام، فحفظ المتون، ودرس الكتب، وتردد على كبار الشيوخ في عصره ليعوض ما فاته في صغره. كما أن كبر سنه وذكاؤه أعاناه على التفوق في تحصيل العلم وإدراك مسائله الغامضة، وتحليل رموزه. والذي ساعده أيضاً على الاستزادة من العلم والمعرفة الجو العلمي الذي كانت تعيشه بلاد المشرق بصفة عامة ومدينة دمشق بصفة خاصة، حيث كانت موطناً لعدد كبير من فحول العلماء ومشاهيرهم، فنهل منهم العلم والمعرفة، وتحلى بمكارم أخلاقهم، واقتدى بحسن سلوكهم؛ حتى أصبح - كما قال السبكي رحمه الله-: أعلم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله تعالى.
وقال الداوودي (ت 945ه): كان العز بن عبد السلام يقول: ما احتجت في علم من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنت أقرأ عليهم إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيت عني، فاشتغل مع نفسك. ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل الكتاب الذي أقرؤه في ذلك العلم.
وكان يقول: مضت لي ثلاثون سنة لا أنام حتى أمر أبواب الأحكام على خاطري.
وقد تلقى العز رحمه الله علوم الحديث والفقه والأصول والتفسير والتصوف واللغة على أكابر وجهابذة علماء دمشق التي كانت قبلة طلاب العلم وموطن العلماء الأفذاذ البارعين في شتى العلوم والفنون.
وقال ابن كثير: شيخ المذهب ومفيد أهله، وله مصنفات حسان منها: التفسير، واختصار النهاية، والقواعد الكبرى والصغرى، وكتاب الصلاة، والفتاوى الموصلية، وغير ذلك. ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع كثيراً، واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره، وبرع في المذهب، وجمع علوماً كثيرة، وأفاد الطلبة، ودرَّس بعده مدارس بدمشق، وولي خطابتها، ثم سافر إلى مصر، ودرّس وحكم وانتهت إليه رياسة الشافعية وقصد بالفتوى من الآفاق. وكان لطيفاً ظريفاً يستشهد بالأشعار.
وفيما يلي بعض صفات هذا العالم الجليل:
شجاعته
من الصفات التي لازمت العز بن عبد السلام طيلة حياته الشجاعة في الحق؛ ذلك لأنه كان مع الحق يدور حيث دار، وما قصته مع نائب السلطان عندما عزم على بيع المماليك إلا دليل ساطع على شجاعته، وجرأته وأنه لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخشى سلطانا، ولا يهاب الموت في سبيل الله.
فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد الأمراء والخدم والحشم يقبلون الأرض أمام السلطان، وشاهد الجند صفوفاً أمامه، ورأى الأبهة والعظمة تحيط به من كل جانب، فتقدم الشيخ إلى السلطان، وناداه باسمه مجرداً، وقال: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مصر، ثم تبيح الخمور؟.
فقال السلطان نجم الدين أيوب: هل جرى هذا؟.
قال الشيخ: نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة. وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته.
فقال السلطان: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة.
فأصدر السلطان أوامره بإغلاق تلك الحانات، ومنع تلك المفاسد، وشاع الخبر بين جمهور المسلمين وأهل القاهرة. فسأل أحد تلاميذ – ويدعى الباجي - الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم؟، فقال الشيخ:
يا بني، رأيتُ السلطان في تلك العظمة، فأردتُ أن أذكره لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.. قال التلميذ: أما خفته؟، قال عز الدين: والله يا بني، استحضرتُ هيبة الله تعالى فلم أخف منه.
وقد ذكر ابن السبكي: أن جماعة من المفسدين قصدوه في ليلة معتمة وهو في بيت عالم في بستان متطرف عن البساتين، وأحاطوا بالبيت، فخاف أهله خوفاً شديداً، فعند ذلك نزل إليهم، وفتح باب البيت، وقال: أهلاً بضيوفنا، وأجلسهم في مقعد حسن، وأخرج لهم ضيافة حسنة فتناولوها، وطلبوا منه الدعاء؛ إذ كان مهيباً له موقع حسن في القلوب، فهابوه وعصم الله أهله وجماعته منهم بصدق نيته وكرم طويته، وانصرفوا عنه.
ومن المواقف التي تدل على شجاعته:
- إنكاره على الملوك التنازل عن ديار المسلمين وعقد الصلح مع الصليبيين المعتدين:
تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، وأسلمهم قلعة صفد، وقلعة الشقيف، وصيدا، وبعض ديار المسلمين؛ ليساعدوه على الصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر؛ لأن الصالح إسماعيل خاف منه، فكاتب الفرنجة ليساعدوه ضد ابن أخيه حاكم مصر، فكان الثمن تسليم ديار المسلمين، وتطبيع العلاقات، وفتح الحدود، فدخل الصليبيون دمشق. وكان ذلك في عام 638هـ.
وزيادة على ذلك أذن الصالح إسماعيل للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، وهذه خيانة عظمى، واستسلام ذليل. وجاء دور الشيخ العز الذي يغضب لله، وينتصر لدينه، ويدافع عن أرض الإسلام وحقوق المسلمين، ويجاهر بالنهي عن المنكر لا يخشى في الله لومة لائم، وتصدى كالأسد الهصور للمواجهة والنزال، وشق عليه ما حصل مشقة عظيمة وبدأت الجولة الأولى باستفتاء الشيخ العز في مبايعة الفرنج للسلاح، فقال: يَحْرم عليكم مبايعتهم؛ لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين. ثم صعد الشيخ العز منبر المسجد الأموي الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة وذمَّ الأعمال المشينة التي حصلت، وشنَّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله. ويقول: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك ويُنهى فيه عن معصيتك. والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على أعداء الله الملحدين.
وكان الملك الصالح إسماعيل خارج دمشق، فلما وصله الخبر أحسَّ بالخطر الذي يحدق به والثورة المتوقعة عليه، فسارع إلى إصدار الأمر الكتابي بعزل الشيخ العز من الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله واعتقال الشيخ ابن الحاجب المالكي الذي شاركه الإنكار على فعل السلطان. ولما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما، وألزم الشيخ العز بملازمة داره، وألا يفتي.
وتوجه الصالح إسماعيل إلى مصر، تحرسه الجيوش الصليبيةَّ الحاقدة، ليحارب الصالح أيوب، وكأنه تأسف لإطلاق الشيخ، وأوجس في نفسه خيفة، فأرسل إلى سلطان العلماء بعض أعوانه وأمره أن يستنزله على وجه السياسة في زعمه، ليقع منه مداهنة، ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال. فقال السلطان لرسوله: تتلطَّف به غاية التلطَّف، وتستنزله، وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال. فإن وافقك فتدخل به علي، وإن خالف فاعتقله في خيمته إلى جانب خيمتي.
فلما اجتمع رسول السلطان مع سلطان العلماء شرع في مسايسته وملاينته، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقَّبل يده لا غير.
فقال له: يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلاً أن أقبَّل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
فقال له: قد رسم لي إن لم تُوافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك. فقال: فعلوا ما بدا لكم. فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان.
فأخذ سلطان العلماء يقرأ القرآن، والسلطان يسمع، فقال يوماً لملوك الصليبيين: أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟، قالوا: نعم. قال السلطان هذا أكبر قسوس المسلمين. وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم.
فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان هذا قسيسنا؛ لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها.
ثم جاءت الجيوش الإسلامية من مصر، ففرَّقوا عساكر الصليبيين، ونصر الله أهل طاعته، وخذل المنافقين، ونجّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، ودخل مصر آمناً.
- بيع أمراء المماليك في المزاد:
رأى سلطان العلماء أن المماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم في خدمته وجيشه، وتصريف شؤون الدولة يمارسون البيع والشراء، وهو تصرف باطل؛ لأن المملوك لا ينفذ تصرفه. فأخذ سلطان العلماء لا يمضي لهم بيعاً ولا شراءً، فضايقهم ذلك وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى، فقال لهم: أنتم الآن أرقَّاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم. فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمَّم، لا يصحَّح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، فتعطلت مصالحهم.
وكان من جملتهم نائب السلطان الذي اشتاط غضباً، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك فقال: نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي. فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به.
وهنا أدرك الشيخ العز أن أعوان الباطل تمالؤوا عليه، ووقفوا في وجه الحق وتطبيق الشرع وتنفيذ الأحكام، فلجأ إلى سلاحه الضعيف الباهت في ظاهره، القوي الفعال المدمر في حقيقته وجوهره وسنده، وأعلن الانسحاب وعزل نفسه عن القضاء، وقرر الرحيل عن القرية الظالم أهلها، والتي ترفض إقامة شرع الله، ونفذ العز قراره فوراً. وحمل أهله ومتاعه على حمار، وركب حماراً آخر، وخرج من القاهرة. وما أن انتشر الخبر بين الناس في مصر حتى تحركت جموع المسلمين وراءه.
ورُفِعَت التقارير حول هذه الظاهرة إلى القاهرة، وكانت التوصيات: متى راح ذهب ملكك. فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه، وطيبَّ قلبه، فرجع بشرط أن يُنادي على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، فأرسل إليه كبيرهم - نائب السلطان - بالملاطفة والشيخ لم يتغير؛ لأنه يريد إنفاذ حكم الله. عندئذ انزعج نائب السلطان، وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبُيعنا ونحن ملوك الأرض. والله لأضربنَّه بسيفي هذا. وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف في يده صلتاً، فطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمراً جلداً، فعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال بائع الملوك - ممتلئاً إيماناً بربه - لولده: يا ولدي: أبوك أقلُّ من أن يُقْتل في سبيل الله. فلما رآه نائب السلطان اهتزت يده وارتعدت فرائصه وسقط أرضاً، فبكى وسأل الشيخ أن يدعوا له قائلاً:
يا سيدي خيراً، أي شيء العمل؟. فقال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال نائب السلطان: ففيم تصرف ثمننا؟، قال الشيخ: في مصالح المسلمين. قال نائب السلطان: من يقضيه؟، قال الشيخ: أنا. وأنفذ الله أمره على يد الشيخ، فباع الملوك منادياً عليهم واحد تلو الآخر، وغالى سلطان العلماء في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير التي تعود بالنفع على البلاد والعباد.
ومن هنا عرف الشيخ العز بأنه "بائع الملوك"، واشتهر أمره في الآفاق، وسجل له التاريخ موقفاً فريداً لم يشهده العالم أجمع، وعلا صوت الحق، وعزَّ العلماء، وتمّ تطبيق شرع الله تعالى، وهزم الباطل وطاشت سهام السلطة والقوة المادية أمام سلطان الله تعالى وأحكامه. وصدق على العز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
- في حرب التتار وفتاويه الشجاعة:
ومن مواقفه رحمه الله: في حرب التتار الذين داهموا البلاد الإسلامية ودمروا بغداد، وأبادوا المسلمين، وعظم خطرهم على العالم الإسلامي، وجبن الناس عن ملاقاتهم وحربهم، وخاف أهل مصر، وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض. عندها تدخل الشيخ رحمه الله وبث الهمة في نفوس الناس وذكرهم بضرورة الجهاد، وعندما استشاره السلطان قطز بأمر المملكة وحرب التتار، قال رحمه الله: أخرجوا وأنا ضامن لكم على الله النصر. فقال السلطان له: إن المال في خزانتي قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار ما استعين به على قتال التتار. وكان في مجلس السلطان كبار العلماء والفقهاء والقضاة فكان الرأي ما ذهب إليه ابن عبد السلام، حيث قال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الإمام قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوب وسلاحه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقائه في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.
فنفذ الملك والأمراء والجند فتوى العز وامتثلوا أمره، فقد أحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلي نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئاً في الباطن، ولما جمعت هذه الأموال وضربت سكت ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش، ولم تكف هذه الأموال نفقة الجيش أخذ السلطان قطز ديناراً واحداً من كل رجل قادر في مصر، فجمع بذلك الأسلوب الفريد المال الحلال الذي لا ظلم ولا عدوان فيه، ومع الاستعداد النفسي الذي قام به العز وإخوانه من العلماء تنزَّل نصر الله على عباده المؤمنين، وهزم الله التتار في عين جالوت سنة 658هـ.
ومن أساب النصر شعور الناس بقيمة العدل التي ساهمت في جعل روح جديدة تسري في كيان الشعب المسلم تحت قيادة السلطان قطز، من خلال الفتاوى الفذة التي أفتى بها الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وهكذا كانت مواقف العز بن عبد السلام من حكام عصره، في حياته المديدة كلها آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق، حرباً على الباطل وأهله عاش أحداث عصره فأثر به وتفاعل معها، وتأثر بها، فجاهد باليد، كما جاهد بالقلم واللسان، حتى كتب اسمه بأحرف من نور في سجل الخالدين، وترك خلفه مدرسة غنية لكل باحث وسيرة عبقة يقتدي بها الباحثون عن الحق وأنصار الشرع، والعدالة.
جهاده
نال الشيخ العز بن عبد السلام شرف الجهاد، وكان يدعو إليه ويكتبه في كتبه ورسائله، وهو القائل في كتابه (رسالة الاعتقاد): الجهاد ضربان: ضرب بالجدل والبيان، وضرب بالسيف والسنان.. ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه، إلا أن سلاح العالم علمه ولسانه، كما أن سلاح الملك سيفه وسنانه. فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين، لا يجوز للعلماء اعتماد أسلحتهم عن الزائغين والمبتدعين. فمن ناضل عن الله، وأظهر دين الله، كان جديراً أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام ويُعزِّه بعزّه الذي لا يضام، ويحوطه بركنه الذي لا يُرام، ويحفظه من جميع الأنام. وعلى الجملة ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق، وأخمد الصواب أن يبذل جُهده في نصرهما، وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما.. والمخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين، ولذلك يجوز للبطل من المسلمين أن ينغمر في صفوف المشركين. وكذلك المخاطرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة قواعد الدين بالحجج والبراهين مشروعة.
وقام العز بجهاد العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعرّض نفسه للمخاطر الشديدة، والأهوال العجيبة، وكان مجاهداً جريئاً، ومناظراً قوياً، ومدافعاً صلباً عن دين الله وشرعه.
يتبع