تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: سيرة العز بن عبد السلام ومعنى عزة الأمة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي سيرة العز بن عبد السلام ومعنى عزة الأمة

    سيرة العز بن عبد السلام ومعنى عزة الأمة
    أحمد الشجاع
    يضيق صدر كثير من الناس وتشمئز نفوسهم إذا ذُكرت الأمة الإسلامية أو الدولة الإسلامية أو العلماء؛ وسبب ذلك الضيق هو الروح الانهزامية والجهل لدى كثير من المسلمين؛ نتيجة الحالة المهينة والتبعية التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم..
    ويزداد الشعور بالانهزامية عند النظر إلى ما وصلت إليه الأمم الأخرى من تقدم وتطور ومقارنة ذلك بحالنا؛ فيظن أولئك المنهزمون أن ما لدى الآخرين أفضل مما عندنا؛ فينبذون كل ما يتعلق بالثقافة الإسلامية ويلهثون وراء ثقافات الآخرين دون تمييز بين الضار والنافع.
    وقد تحدث ابن خلدون عن هذه الروح الانهزامية، ووضع لذلك عنواناُ لأحد فصول مقدمته الشهيرة: (المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده).
    وبيّن ابن خلدون أن السبب في ذلك هو "أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً انتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء".
    وبالتالي تؤدي هذه الانهزامية إلى مزيد من الضعف والتبعية والتفكك والترهل داخل المجتمع الإسلامي..ولم يعرف المسلمون في تاريخهم دولة قوية إلا في ظل حكم إسلامي يقوم عليه حكام صالحون عادلون ملتزمون بمنهج الله في كل شؤون حياتهم، وحريصون على الأخذ بكل أسباب النجاح والقوة في سبيل دينهم وأمتهم. ومعهم علماء عظماء لهم المكانة العليا بين الناس حكاماً ومحكومين..
    وفي سيرة الإمام العز بن عبد السلام دليل على أهمية وجود علاقة قوية بين الحاكم والعالِم تقوم على أسس شرعية صحيحة وتهدف إلى تحقيق مصلحة المسلمين والنهوض بالأمة.
    عالم عزيز
    عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، شيخ الإسلام عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي. ولد سنة 577 للهجرة.
    يكنى بأبي محمد، ولقب بعدة ألقاب، منها: (عز الدين)، وشاع هذا اللقب بين الناس، و(الإمام العز)، ولقب بـ(سلطان العلماء)، لقّبه به تلميذه ابن دقيق العيد، كما لقب بـ(شيخ الإسلام)
    نشأ العز بن عبد السلام في ظروف صعبة كان يعيشها العالم الإسلامي، حيث الفتن والصراعات الداخلية، إضافة إلى خطر الصليبيين والتتار.
    وكان التتار قد تمكنوا من إسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد عام 656هـ، وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر حاملين معهم الخراب والدمار.
    وأدرك الشيخ انتصارات صلاح الدين الأيوبي، واسترداده بيت المقدس من أيدي الصليبيين سنة 583 هـ. وشاهد دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهد دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزّها، وشاهد بعض الحملات الصليبية على فلسطين ومصر. وشاهد الغزوة التترية المغولية الهمجية على الخلافة العباسية في بغداد، وتدميرها للمدن الإسلامية، وشاهد هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر.
    لقد شاهد كل هذه الأحداث، فأثرت في نفسه، وراعَه تفتت الدولة الأيوبية القوية - قاهرة الصليبيين - إلى دويلات عندما اقتسم أبناء صلاح الدين الدولة بعد وفاته: فدويلة في مصر، ودويلة في دمشق، ودويلة في حلب، ودويلة في حماة، وأخرى في حمص، ودويلة فيما بين النهرين.
    وبين حكام هذه الدويلات تعشش الأحقاد والدسائس، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للانقضاض على بلاد الشام ومصر.
    طلب العلم
    انقطع سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام للعلم والتعلم بعدما ناهز الاحتلام، فحفظ المتون، ودرس الكتب، وتردد على كبار الشيوخ في عصره ليعوض ما فاته في صغره. كما أن كبر سنه وذكاؤه أعاناه على التفوق في تحصيل العلم وإدراك مسائله الغامضة، وتحليل رموزه. والذي ساعده أيضاً على الاستزادة من العلم والمعرفة الجو العلمي الذي كانت تعيشه بلاد المشرق بصفة عامة ومدينة دمشق بصفة خاصة، حيث كانت موطناً لعدد كبير من فحول العلماء ومشاهيرهم، فنهل منهم العلم والمعرفة، وتحلى بمكارم أخلاقهم، واقتدى بحسن سلوكهم؛ حتى أصبح - كما قال السبكي رحمه الله-: أعلم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله تعالى.
    وقال الداوودي (ت 945ه): كان العز بن عبد السلام يقول: ما احتجت في علم من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنت أقرأ عليهم إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيت عني، فاشتغل مع نفسك. ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل الكتاب الذي أقرؤه في ذلك العلم.
    وكان يقول: مضت لي ثلاثون سنة لا أنام حتى أمر أبواب الأحكام على خاطري.
    وقد تلقى العز رحمه الله علوم الحديث والفقه والأصول والتفسير والتصوف واللغة على أكابر وجهابذة علماء دمشق التي كانت قبلة طلاب العلم وموطن العلماء الأفذاذ البارعين في شتى العلوم والفنون.
    وقال ابن كثير: شيخ المذهب ومفيد أهله، وله مصنفات حسان منها: التفسير، واختصار النهاية، والقواعد الكبرى والصغرى، وكتاب الصلاة، والفتاوى الموصلية، وغير ذلك. ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع كثيراً، واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره، وبرع في المذهب، وجمع علوماً كثيرة، وأفاد الطلبة، ودرَّس بعده مدارس بدمشق، وولي خطابتها، ثم سافر إلى مصر، ودرّس وحكم وانتهت إليه رياسة الشافعية وقصد بالفتوى من الآفاق. وكان لطيفاً ظريفاً يستشهد بالأشعار.
    وفيما يلي بعض صفات هذا العالم الجليل:
    شجاعته
    من الصفات التي لازمت العز بن عبد السلام طيلة حياته الشجاعة في الحق؛ ذلك لأنه كان مع الحق يدور حيث دار، وما قصته مع نائب السلطان عندما عزم على بيع المماليك إلا دليل ساطع على شجاعته، وجرأته وأنه لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخشى سلطانا، ولا يهاب الموت في سبيل الله.
    فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد الأمراء والخدم والحشم يقبلون الأرض أمام السلطان، وشاهد الجند صفوفاً أمامه، ورأى الأبهة والعظمة تحيط به من كل جانب، فتقدم الشيخ إلى السلطان، وناداه باسمه مجرداً، وقال: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مصر، ثم تبيح الخمور؟.
    فقال السلطان نجم الدين أيوب: هل جرى هذا؟.
    قال الشيخ: نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة. وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته.
    فقال السلطان: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
    فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة.
    فأصدر السلطان أوامره بإغلاق تلك الحانات، ومنع تلك المفاسد، وشاع الخبر بين جمهور المسلمين وأهل القاهرة. فسأل أحد تلاميذ – ويدعى الباجي - الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم؟، فقال الشيخ:
    يا بني، رأيتُ السلطان في تلك العظمة، فأردتُ أن أذكره لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.. قال التلميذ: أما خفته؟، قال عز الدين: والله يا بني، استحضرتُ هيبة الله تعالى فلم أخف منه.
    وقد ذكر ابن السبكي: أن جماعة من المفسدين قصدوه في ليلة معتمة وهو في بيت عالم في بستان متطرف عن البساتين، وأحاطوا بالبيت، فخاف أهله خوفاً شديداً، فعند ذلك نزل إليهم، وفتح باب البيت، وقال: أهلاً بضيوفنا، وأجلسهم في مقعد حسن، وأخرج لهم ضيافة حسنة فتناولوها، وطلبوا منه الدعاء؛ إذ كان مهيباً له موقع حسن في القلوب، فهابوه وعصم الله أهله وجماعته منهم بصدق نيته وكرم طويته، وانصرفوا عنه.
    ومن المواقف التي تدل على شجاعته:
    - إنكاره على الملوك التنازل عن ديار المسلمين وعقد الصلح مع الصليبيين المعتدين:
    تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، وأسلمهم قلعة صفد، وقلعة الشقيف، وصيدا، وبعض ديار المسلمين؛ ليساعدوه على الصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر؛ لأن الصالح إسماعيل خاف منه، فكاتب الفرنجة ليساعدوه ضد ابن أخيه حاكم مصر، فكان الثمن تسليم ديار المسلمين، وتطبيع العلاقات، وفتح الحدود، فدخل الصليبيون دمشق. وكان ذلك في عام 638هـ.
    وزيادة على ذلك أذن الصالح إسماعيل للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، وهذه خيانة عظمى، واستسلام ذليل. وجاء دور الشيخ العز الذي يغضب لله، وينتصر لدينه، ويدافع عن أرض الإسلام وحقوق المسلمين، ويجاهر بالنهي عن المنكر لا يخشى في الله لومة لائم، وتصدى كالأسد الهصور للمواجهة والنزال، وشق عليه ما حصل مشقة عظيمة وبدأت الجولة الأولى باستفتاء الشيخ العز في مبايعة الفرنج للسلاح، فقال: يَحْرم عليكم مبايعتهم؛ لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين. ثم صعد الشيخ العز منبر المسجد الأموي الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة وذمَّ الأعمال المشينة التي حصلت، وشنَّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله. ويقول: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك ويُنهى فيه عن معصيتك. والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على أعداء الله الملحدين.
    وكان الملك الصالح إسماعيل خارج دمشق، فلما وصله الخبر أحسَّ بالخطر الذي يحدق به والثورة المتوقعة عليه، فسارع إلى إصدار الأمر الكتابي بعزل الشيخ العز من الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله واعتقال الشيخ ابن الحاجب المالكي الذي شاركه الإنكار على فعل السلطان. ولما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما، وألزم الشيخ العز بملازمة داره، وألا يفتي.
    وتوجه الصالح إسماعيل إلى مصر، تحرسه الجيوش الصليبيةَّ الحاقدة، ليحارب الصالح أيوب، وكأنه تأسف لإطلاق الشيخ، وأوجس في نفسه خيفة، فأرسل إلى سلطان العلماء بعض أعوانه وأمره أن يستنزله على وجه السياسة في زعمه، ليقع منه مداهنة، ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال. فقال السلطان لرسوله: تتلطَّف به غاية التلطَّف، وتستنزله، وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال. فإن وافقك فتدخل به علي، وإن خالف فاعتقله في خيمته إلى جانب خيمتي.
    فلما اجتمع رسول السلطان مع سلطان العلماء شرع في مسايسته وملاينته، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقَّبل يده لا غير.
    فقال له: يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلاً أن أقبَّل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
    فقال له: قد رسم لي إن لم تُوافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك. فقال: فعلوا ما بدا لكم. فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان.
    فأخذ سلطان العلماء يقرأ القرآن، والسلطان يسمع، فقال يوماً لملوك الصليبيين: أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟، قالوا: نعم. قال السلطان هذا أكبر قسوس المسلمين. وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم.
    فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان هذا قسيسنا؛ لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها.
    ثم جاءت الجيوش الإسلامية من مصر، ففرَّقوا عساكر الصليبيين، ونصر الله أهل طاعته، وخذل المنافقين، ونجّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، ودخل مصر آمناً.
    - بيع أمراء المماليك في المزاد:

    رأى سلطان العلماء أن المماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم في خدمته وجيشه، وتصريف شؤون الدولة يمارسون البيع والشراء، وهو تصرف باطل؛ لأن المملوك لا ينفذ تصرفه. فأخذ سلطان العلماء لا يمضي لهم بيعاً ولا شراءً، فضايقهم ذلك وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى، فقال لهم: أنتم الآن أرقَّاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم. فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمَّم، لا يصحَّح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، فتعطلت مصالحهم.
    وكان من جملتهم نائب السلطان الذي اشتاط غضباً، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك فقال: نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي. فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به.
    وهنا أدرك الشيخ العز أن أعوان الباطل تمالؤوا عليه، ووقفوا في وجه الحق وتطبيق الشرع وتنفيذ الأحكام، فلجأ إلى سلاحه الضعيف الباهت في ظاهره، القوي الفعال المدمر في حقيقته وجوهره وسنده، وأعلن الانسحاب وعزل نفسه عن القضاء، وقرر الرحيل عن القرية الظالم أهلها، والتي ترفض إقامة شرع الله، ونفذ العز قراره فوراً. وحمل أهله ومتاعه على حمار، وركب حماراً آخر، وخرج من القاهرة. وما أن انتشر الخبر بين الناس في مصر حتى تحركت جموع المسلمين وراءه.
    ورُفِعَت التقارير حول هذه الظاهرة إلى القاهرة، وكانت التوصيات: متى راح ذهب ملكك. فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه، وطيبَّ قلبه، فرجع بشرط أن يُنادي على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، فأرسل إليه كبيرهم - نائب السلطان - بالملاطفة والشيخ لم يتغير؛ لأنه يريد إنفاذ حكم الله. عندئذ انزعج نائب السلطان، وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبُيعنا ونحن ملوك الأرض. والله لأضربنَّه بسيفي هذا. وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف في يده صلتاً، فطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمراً جلداً، فعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال بائع الملوك - ممتلئاً إيماناً بربه - لولده: يا ولدي: أبوك أقلُّ من أن يُقْتل في سبيل الله. فلما رآه نائب السلطان اهتزت يده وارتعدت فرائصه وسقط أرضاً، فبكى وسأل الشيخ أن يدعوا له قائلاً:
    يا سيدي خيراً، أي شيء العمل؟. فقال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال نائب السلطان: ففيم تصرف ثمننا؟، قال الشيخ: في مصالح المسلمين. قال نائب السلطان: من يقضيه؟، قال الشيخ: أنا. وأنفذ الله أمره على يد الشيخ، فباع الملوك منادياً عليهم واحد تلو الآخر، وغالى سلطان العلماء في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير التي تعود بالنفع على البلاد والعباد.
    ومن هنا عرف الشيخ العز بأنه "بائع الملوك"، واشتهر أمره في الآفاق، وسجل له التاريخ موقفاً فريداً لم يشهده العالم أجمع، وعلا صوت الحق، وعزَّ العلماء، وتمّ تطبيق شرع الله تعالى، وهزم الباطل وطاشت سهام السلطة والقوة المادية أمام سلطان الله تعالى وأحكامه. وصدق على العز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
    - في حرب التتار وفتاويه الشجاعة:

    ومن مواقفه رحمه الله: في حرب التتار الذين داهموا البلاد الإسلامية ودمروا بغداد، وأبادوا المسلمين، وعظم خطرهم على العالم الإسلامي، وجبن الناس عن ملاقاتهم وحربهم، وخاف أهل مصر، وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض. عندها تدخل الشيخ رحمه الله وبث الهمة في نفوس الناس وذكرهم بضرورة الجهاد، وعندما استشاره السلطان قطز بأمر المملكة وحرب التتار، قال رحمه الله: أخرجوا وأنا ضامن لكم على الله النصر. فقال السلطان له: إن المال في خزانتي قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار ما استعين به على قتال التتار. وكان في مجلس السلطان كبار العلماء والفقهاء والقضاة فكان الرأي ما ذهب إليه ابن عبد السلام، حيث قال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الإمام قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوب وسلاحه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقائه في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.
    فنفذ الملك والأمراء والجند فتوى العز وامتثلوا أمره، فقد أحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلي نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئاً في الباطن، ولما جمعت هذه الأموال وضربت سكت ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش، ولم تكف هذه الأموال نفقة الجيش أخذ السلطان قطز ديناراً واحداً من كل رجل قادر في مصر، فجمع بذلك الأسلوب الفريد المال الحلال الذي لا ظلم ولا عدوان فيه، ومع الاستعداد النفسي الذي قام به العز وإخوانه من العلماء تنزَّل نصر الله على عباده المؤمنين، وهزم الله التتار في عين جالوت سنة 658هـ.
    ومن أساب النصر شعور الناس بقيمة العدل التي ساهمت في جعل روح جديدة تسري في كيان الشعب المسلم تحت قيادة السلطان قطز، من خلال الفتاوى الفذة التي أفتى بها الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وهكذا كانت مواقف العز بن عبد السلام من حكام عصره، في حياته المديدة كلها آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق، حرباً على الباطل وأهله عاش أحداث عصره فأثر به وتفاعل معها، وتأثر بها، فجاهد باليد، كما جاهد بالقلم واللسان، حتى كتب اسمه بأحرف من نور في سجل الخالدين، وترك خلفه مدرسة غنية لكل باحث وسيرة عبقة يقتدي بها الباحثون عن الحق وأنصار الشرع، والعدالة.
    جهاده
    نال الشيخ العز بن عبد السلام شرف الجهاد، وكان يدعو إليه ويكتبه في كتبه ورسائله، وهو القائل في كتابه (رسالة الاعتقاد): الجهاد ضربان: ضرب بالجدل والبيان، وضرب بالسيف والسنان.. ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه، إلا أن سلاح العالم علمه ولسانه، كما أن سلاح الملك سيفه وسنانه. فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين، لا يجوز للعلماء اعتماد أسلحتهم عن الزائغين والمبتدعين. فمن ناضل عن الله، وأظهر دين الله، كان جديراً أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام ويُعزِّه بعزّه الذي لا يضام، ويحوطه بركنه الذي لا يُرام، ويحفظه من جميع الأنام. وعلى الجملة ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق، وأخمد الصواب أن يبذل جُهده في نصرهما، وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما.. والمخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين، ولذلك يجوز للبطل من المسلمين أن ينغمر في صفوف المشركين. وكذلك المخاطرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة قواعد الدين بالحجج والبراهين مشروعة.
    وقام العز بجهاد العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعرّض نفسه للمخاطر الشديدة، والأهوال العجيبة، وكان مجاهداً جريئاً، ومناظراً قوياً، ومدافعاً صلباً عن دين الله وشرعه.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: سيرة العز بن عبد السلام ومعنى عزة الأمة

    سيرة العز بن عبد السلام ومعنى عزة الأمة
    أحمد الشجاع


    - زهده
    كان رحمه الله زاهداً في الدنيا مع مشاركته في أحداثها، وانخراطه في حل مشكلاتها ومعضلاتها. فلم يكن منعزلاً عن الناس، بل كان يعيش بينهم رافضاً دنياهم يذكرهم بأخراهم؛ فكان أغنى الناس رغم فقره، إذ لم يكن يتطلع إلى ما في أيديهم بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، عطاء الواثق بربه، يعطي الأغنياء والفقراء رغم فقره ولا يرد سائلاً سأله رغم حاجته، فإذا لم يجد ما يعطي ما في جيبه خلع شيئاً من لباسه، أو جزءاً من عمامته، أو شيئاً من أثاث بيته وأعطى لسائله، كان زاهداً في متاع الدنيا رغم أنه كان ملء سمعها وبصرها، يعمل فيها للآخرة رغم أنها جاءته تسعى راغمة. والدليل على ذلك مواقف كثيرة، منها عندما عرض عليه رسول الملك الصالح إسماعيل أن ينكسر للسلطان ويقبل يده ويعتذر إليه من موقفه من التحالف مع الصليبيين وتسليم حصون المسلمين لهم - وقد مر ذكر ذلك- فقال: والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
    ومن زهده وورعه رحمه الله عندما نصح الملك الأشرف - وهو في مرضه الذي مات فيه - امتثل أمره وعمل بنصحه، وأمر له بألف دينار مصرية، فردها الشيخ عليه ولم يقبلها، وقال: هذه اجتماعه لله لا أكدرها بشيء من الدنيا. وودع الشيخ السلطان ومضى.
    ولما هاجر الشيخ العز من دمشق وقد ناهز الستين لم يحمل شيئاً من حطام الدنيا ومتاع البيت، أو ما كدَّسه من مناصبه وأعماله. ولما استقال العز من القضاء عند فتواه ببيع الأمراء ورفض السلطان لذلك، خرج من القاهرة، وكل أمتعته في الحياة مع أسرته، حمْل حمار واحد؛ مما يدل على قناعته بالقليل، وزهده في المال والمتاع.
    ولما مرض الشيخ العز، وأحس بالموت، أرسل له الملك الظاهر بيبرس أن يعين أولاده في مناصبه، وقال: .. أن يكون ولدك مكانك بعد وفاتك "في تدريس الصالحية"، فقال العز: ما يصلح لذلك، قال له: فمن أين يعيش؟، قال: من عند الله تعالى، قال له: نجعل له راتباً؟، قال: هذا إليكم. ثم أشار إلى تعيين تقي الدين بن بنت الأعز.
    والحقيقة أن ولده الشيخ عبد اللطيف كان عالماً فقيهاً، يصلح للتدريس، ولكن ورع العز وزهده منعه من جعل منصب التدريس وراثة لأولاده.
    ورغم فقره كان العز بن عبد السلام كريماً كثير الصدقات، فيحكى أنه لما كان بدمشق، وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين أعطته زوجته مصاغها، وقالت: اشترِ لنا بثمنه بستانا نصيّف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانًا؟، قال: نعم، بستاناً في الجنة، إني وجدت الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه، فقالت: جزاك الله خيراً.
    - تواضعه وعدم التكلف
    من كان زاهداً وورعاً فمن الطبيعي أن يكون متواضعاً حسن الخلق، وهذا ما كان عليه عز الدين بن عبد السلام من متواضع النفس مع ربه، ومع الناس، ومع نفسه. ولا يتكلف لشيء في حياته ومعيشته ولباسه، وسلوكه مع الجميع. فعندما كتب له الملك الأشرف رسالته، وفيها ما يَلمْزه بالاجتهاد لمذهب خامس في العقيدة: "إن كنت تدّعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قَدْر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس". أجابه العز بكل تواضع، وقال عن هذه النقطة: وأمّا ما ذُكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد.
    وعندما جاءه نائب السلطنة في مصر حاملاً سيفه ليقتل العز لفتواه ببيع الأمراء المماليك، كما مّر معنا، فقام لاستقباله، فاعترضه ابنه خشية عليه من القتل، فقال له: يا ولدي ، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله.
    وكان العز يترك التكلف في لباسه، فكان يلبس مرة العمامة ومرة قبعة من لبّاد، بحسب ما يتيسر له، ويحضر بها المناسبات والمواكب. قال ابن السبكي بعد حكاية تصدقه بالعمامة: وفي هذه الحكاية ما يدل على أنه كان يلبس العمامة، وبلغني أنه كان يلبس قبّعة لبّاد، وأنه كان يحضر المواكب السلطانية به، فكأنه كان يلبس تارة هذا، وتارة هذا، على حسب ما يتفق من غير تكلف.
    - بلاغته وفصاحته
    كان العز بن عبد السلام بليغاً فصيحاً قوي العبارة ذات المعاني المتعددة، وقد ترك لنا أقوالاً مأثورة، منها:
    قوله: فيما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما: أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها، فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح.
    وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته.
    ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكمٌ منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبَّد الله به عبادَه ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها.
    وقال: والشرع ميزان يوزن به الرجال، وبه يتيقن الربح من الخسران، فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله، وتختلف مراتب الرجحات. ومن نقص في ميزان الشرع، فأولئك أهل الخسران، وتتفاوت خفتهم في الميزان، وأخسها مراتب الكفار. ولا تزال المراتب تتناقص حتى تنتهي إلى منزلة مرتكب أصغر الصغائر، فإذا رأيت إنساناً يطير في الهواء ويمشي على الماء، أو يخبر بالمغيبات، ويخالف الشرع بارتكاب المحرمات، بغير سبب محلل، أو يترك الواجبات بغير سبب مجَّوز؛ فأعلم أنه شيطان نصبه الله فتنة للجهلة. وليس ذلك ببعيد من الأسباب التي وصفها الله للضلال، فإن الدجال يُحيي ويُميت فتنتةً لأهل الضلال. وكذلك يأتي الخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. وكذلك يظهر للناس أن معه جنة وناراً، فناره جنة، وجنته نار، وكذلك من يأكل الحيَّات، ويدخل النيران، فإنه مرتكب للحرام بأكل الحيات وفاتن للناس بدخول النيران ليقتدوا به في ضلالته ويتابعوه على جهالته.
    وقال: والطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد بصلاحها، وتفسد بفسادها، تطهيرها من كل ما يبعد عن الله، وتزيينها بكل ما يقرب إليه، ويزلفه لديه، من الأحوال، والأقوال، والأعمال، وحسن الآمال، ولزوم الإقبال عليه، والإصغاء إليه والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال، على حسب الإمكان، من غير أداء إلى السآمة والملال. ومعرفة ذلك هي الملقبة بعلم الحقيقة، وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال، والعزوم والنيات، وغير ذلك مما ذكرنا من أعمال القلوب. فمعرفة أحكام الظواهر معرفة بجلَّ الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدقَّ الشريعة، ولا ينكر شيئاً منهما إلا كافر أو فاجر. وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم، ولا يقاربهم في شيء من الصفات، وهم شرُّ من قطاع الطريق؛ لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى، وقد اعتمدوا على كلمات قبيحات، يطلقونها على الله، ويسيئون الأدب على الأنبياء والرسل وأتباع الأنبياء من العلماء والأتقياء، وينهون من يصحبهم من السماع من الفقهاء، لعلمهم بأن الفقهاء ينهون عن صحبتهم وعن سلوك طريقهم.
    تطوير الفقه السياسي والعلاقات الدولية
    رغم أن سلطان العلماء لم يقصد عند كتابته لمؤلفاته تخصيصها للقانون الدولي والعلاقات الدولية، إلا أن مطالعتها – حسب قول الصلابي - تبين لنا انشغاله، بطريقة أو بأخرى، بأمور تدخل في إطارها سواء تعلقت بها مباشرة أو لكونها تمثل قواعد عامة أصولية تنطبق عليها أيضاً. وأهم الوسائل التي عالجها ابن عبد السلام تتمثل في الأمور الآتية:
    أ - السلطة الحاكمة في نظر عز الدين بن عبد السلام:
    عالج الإمام عز الدين بن عبد السلام السلطة الحاكمة، كعنصر من عناصر الدولة الحديثة من زوايا متعددة، أهمها:
    - ضرورة توفر العدل لدى الحكام:
    يقرر عز الدين بن عبد السلام أن العادل من الأئمة والولاة من الحكام أعظم أجراً من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام؛ لأنهم يقومون بجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل.
    واشتراط العدالة يعد أمراً لازماً لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية؛ ولأن العدل يعتبر عنصراً لازماً لحياة أي مجتمع. ومع ذلك يقرر العز بن عبد السلام أن اشتراط العدالة في الإمامة الكبرى فيها اختلاف؛ لغلبة الفسوق على الولاة، فيقرر: ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاء والولاة والسعادة، وأمر الغزوات، وأخذ ما يأخذونه، وبذل ما يعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموفقة للحق لما في اشتراطها من الضرر العام وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان".
    - تولية الصالح أو الأصلح (مع عزل المريب):
    يعتبر الحاكم رأس الدولة أو الإقليم الذي يحكمه وبالتالي بات من الواجب أن يكون أصلح من تتوافر فيه الشروط اللازمة للقيام بهذه المهمة؛ لذلك يرى سلطان العلماء أن على الإمام أن يعزل الحاكم إذا أرابه منه شيء؛ لما في إبقاء المريب من المفسدة، إذ لا يصلح في تقرير المريب على ولاية خاصة؛ لما يخشى من خيانته فيها، وإذا سلم تكن هناك ريبة
    - التصرفات الصادرة من غير ولاية صحيحة:
    تعرض العز بن عبد السلام كذلك للتصرفات التي قد تصدر من أشخاص ليس لهم الحق في القيام بها، ولكن نظراً لصدورها في ظروف معينة فإنها تعتبر صحيحة، وقد تعرض لصنفين من التصرفات هما:
    تصرفات الأئمة البغاة:
    تعتبر هذه التصرفات نافذة مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت تصرفاتهم لضرورة الرعايا، كما أنه إذا نفذ ذلك مع ندرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وأنه لا انفكاك للناس عنهم.
    أ- تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة:
    إذا كانت القاعدة العامة تقضي بأن الأموال العامة لا يتصرف فيها إلا الأئمة، فإنه إذا تعذر قيامهم بذلك وأمكن القيام بها بواسطة فرد أو أكثر جاز ذلك، على أن ذلك مشروط بصرفه إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العادل أن يصرفه فيه: بأن يقدم الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها فأهمها. ويصرف ما وجد من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها؛ لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها. فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها.. وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده، إذا ظفر به إن كان من جنسه، وأن يأخذه ويبيعه، إن كان من غير جنسه، مع أن هذه مصلحة خاصة، فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى.
    ب- بعض القواعد التي يمكن تطبيقها في إطار العلاقات الدولية عند سلطان العلماء:
    تتميز العلاقات الدولية الحالية بصفتها الاجتماعية وبترابط وتداخل أواصر العلاقات الموجودة بين مختلف أشخاص القانون الدولي.
    والعلاقات الدولية أو السياسية الخارجية لأي بلد معين تنبع أو يجب أن تنبع من المصلحة العليا لشعبه مع مراعاة ظروف البيئة التي يتم في داخلها اتخاذ القرار.
    وقد عالج الإمام عز الدين بن عبد السلام ذلك بطريقة عامة. ولخص الصلابي فكره حول ثلاثة أفكار أساسية اطلق عليها المسميات الآتية: ترابط العلاقات الدولية، ونظرية تدرج العلاقات الدولية، وأخيراً نظرية الضرورة.
    - ترابط العلاقات الدولية:
    تقوم العلاقات الدولية المعاصرة على أساس فكرة الترابط أو التداخل أو التشابك والتي يرجع تفسيرها أساساً إلى حاجة أفراد المجتمع الدولي بعضهم لبعض، وإذا كان العز بن عبد السلام لم يتحدث عن المجتمع الدولي صراحة إلا أن ذلك يمكن استنباطه مما قاله في الفقرة الآتية: أعلم أن الله تعالى خلق الخلق وأحوج بعضهم إلى بعض؛ لتقوم كل طائفة بمصالح غيرها؛ فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر والأصاغر بمصالح الأكابر، والأغنياء بمصالح الفقراء والفقراء بمصالح الأغنياء، والنظراء بمصالح النظراء، والنساء بمصالح الرجال، والرجال بمصالح النساء، والرقيق بمصالح السادات والسادات بمصالح الرقيق. وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين أو أحدهما أو إلى دفع مفاسدها أو أحدهما.
    - ضرورة تدرج العلاقات الدولية لبلد ما:
    نحن نعتقد – الكلام للصلابي - أن العلاقات الدولية إذا كانت تتسم حالياً بصفة الشمولية أو الكلية إلا أنها بالنسبة لبلد معين يجب أن يتم تخطيطها في إطار ظروف هذا البلد وعلى ضوء إمكانياته ومقدراته. والنتيجة اللازمة والمترتبة على ذلك المفهوم هو منع التهور أو التخبط في رسم أو اتخاذ سياسة خارجية معينة، ولعل ذلك ما قصده الإمام ابن عبد السلام حينما قرر أنه إذا اجتمعت المصالح فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل.
    ويضرب لذلك أمثلة دولية من بينها:
    أن الجهاد لو وجب في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين.
    أن القتال في الشهر الحرام لو أحل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم لذلك، وكذلك القتال في البلد الحرام. كل ذلك دلالة قاطعة على أنه لا يجوز تقرير شيء أو اتخاذ قرار إلا على ضوء البيئة التي سيطبق فيها، ومع مراعاة كافة الظروف والمواقف. وأن اتخاذ قرار في إطار العلاقات الدولية قد تحتم الظروف ضرورة تدرجه.
    - نظرية الضرورة:
    تعتبر حالة الضرورة من المبادئ المسلم بها في إطار النظرية العامة للقانون، وهي مبدأ مطبق في مختلف النظم القانونية، بما في ذلك النظام القانوني الدولي.
    فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها، ذلك أنه إذا اجتمعت المفاسد مع تعذر درئها جميعاً درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل.
    ويضرب الإمام ابن عبد السلام مثالاً لذلك بما جرى في إطار العلاقات الدولية أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخصوص صلح الحديبية: فإن قيل لِمَ التزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدين؟، قلنا : التزام ذلك دفعاً لمفاسد عظيمة وهي قتل المؤمنين والمؤمنات؛ فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين، وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين.
    ج- أسس العلاقات بين المسلمين وغيرهم مع الأعداء:

    تحدث الإمام عز الدين بن عبد السلام عن بعض الأسس التي تحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وأهم هذه الأسس ما يلي:
    - الجزية:
    اتهم كثير من غير المسلمين الإسلام بأنه دين يهدف إلى تقرير أمور مالية على غير المسلمين تعتبر وسيلة لإجبارهم على الدخول فيه، ومن بين هذه الوسائل الجزية التي يدفعها أهل الكتب السماوية.
    ويعتبر ما قال الإمام ابن عبد السلام في هذا الصدد رداً حاسماً: ولا تؤخذ الجزية عوضاً عن تقريرهم على الكفر، وشتمه ونسبته إلى مالا يليق بعظمته، ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد. وإنما الجزية مأخوذة عوضاً عن حقن دمائهم وصيانة أموالهم وحرمهم وأطفالهم، مع الذب عنهم إن كانوا في ديارنا. وليست مأخوذة عن سكن دار الإسلام إذ يجوز عقد الذمة مع تقريرهم في ديارهم.
    - مراعاة القواعد الإنسانية:
    يقرر الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه: إذا اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار فإنا نغسل الجميع ونكفنهم توسلاً إلى إقامة حقوق المسلمين من الغسل والدفن والتكفين، وكذلك إذا تعارضت شهادتان في كفر الميت وإسلامه فإنا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في قبور المسلمين.
    - أسرى الحرب:
    غالباً ما يترتب على الحرب وقوع أسرى من الجانبين أو على الأقل من جانب واحد، ودائماً ما تبذل محاولات من أطراف محايدة لحمل الأطراف المتحاربة على إجراء عمليات تبادل الأسرى بالعدد وفي المكان المتفق عليه. وللإمام عز الدين بن عبد السلام رأي في هذا الصدد، إذ يقول: وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة. وله أمثلة، منها: ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه، مباح لباذليه، وليس هذا على التحقيق معونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعاً لا مقصوداً.
    د- استيلاء الأعداء على إقليم من أقاليم المسلمين:
    - أثر تصرفات سلطة الاحتلال في مجال الإدارة والقضاء:
    من آثار الحرب المحتملة قيام أحد الطرفين بالاستيلاء على جزء من إقليم الطرف الآخر، وقد يقوم المحتل بإجراء تغييرات في الإدارة والقضاء والتشريع بما يتفق ونزعته الاحتلالية وبما يضمن له الاستقرار والولاء. وقد عالج الإمام عز الدين أحد المظاهر بقوله: ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة. إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد.
    - ضرورة الانشغال بالأعداء وعدم محاربة المسلمين:
    هناك موقف مشهور للعز بن عبد السلام يتمثل في المبدأ القاضي بضرورة: الانشغال بالأعداء، ومحاربتهم بدلاً من الالتفات للمسلمين ومعاداتهم. ذلك أنه لما مرض الملك الأشرف من بني أيوب أرسل للشيخ يتحلل ويسأله أن يعوده ويوصيه بما ينفعه، فأنعم الشيخ وكان السلطان قد وقعت بينه وبين أخيه الكامل وحشة، فأمر وهو في مرضه أن ينصب دهليزه صوب مصر: فقال الشيخ للسلطان: إن الملك الكامل أخوك الكبير ورحمك، وأنت مشهور بالفتوحات، والتتار قد خاضوا بلاد المسلمين، فتترك ضرب دهليزك إلى أعداء الله وأعداء الإسلام وتضربه صوب أخيك؟. غيّر الحال ولا تقطع رحمك وانو مع الله نصر دينه، وإعزاز كلمته، فإن منّ الله بعافيتك رجونا من الله إدالتك على الكفار، وكانت في ميزانك هذه الحسنة العظيمة، وإن قضى الله بانتقالك كان السلطان في خفارة نيتك. فقال جزاك الله خيراً عن إرشادك ونصيحتك، وأمر بنقل دهليزه صوب التتار.
    هـ - حقوق الإنسان عند الإمام ابن عبد السلام:
    تعرض الإمام ابن عبد السلام للعديد من مسائل حقوق الإنسان، يمكن أن تجمعها في أمرين: مسؤولية السلطة الحاكمة، وأنواع حقوق الإنسان.
    - مسؤولية السلطة الحاكمة:
    يقول ابن عبد السلام: وأما ولاة السوء وقضاة الجور فمن أعظم الناس وزراً وأحطهم درجة عند الله؛ لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام. وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة، فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك من مصالح المسلمين، فيالها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة.
    ويشير ابن عبد السلام إلى أمر مهم يعاجل نفوس كثير من الحكام وهو وقوعهم في المظالم فيحثهم على فعل العدل وترك الظلم حيث يقول ابن عبد السلام: أن ما فوتوه من الأموال مضمون عليهم في الدين، فإن فنيت حسناتهم طرح عليهم من سيئات من ظلموه، وكذلك الحكم في الدماء والأبضاع والأعراض، وفيما أخروه من الحقوق التي يجب تقديمها أو قدموه من الحقوق التي يجب تأخيرها. فقد قال رب العالمين: }ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً{.
    - تقسيمات الحقوق والأمور التي تتعلق بها:
    يقسم ابن عبد السلام حقوق الرب وحقوق العباد إلى ثلاثة أقسام: أحدها متساوي، وثانيها متفاوت، والثالث مختلف في تساويها وتفاوتها.
    فقد تطرق إلى تقديم حقوق بعض العباد على بعض لترجيح التقديم على التأخير في جلب المصالح ودرء المفاسد.
    وأشار ابن عبد السلام أيضاً إلى حالة التساوي في حقوق العباد، فيتخير فيه المكلف جمعاً بين المصلحتين ودفعاً للضررين.
    وأشار كذلك إلى تقديم حقوق الرب على حقوق عباده إحساناً إليهم في أخراهم، مثال ذلك التغرير بالنفوس والأعضاء في قتال من يجب قتاله.
    وأشار أيضاً إلى تقديم بعض حقوق العباد على حقوق الرب رفقاً بهم في دنياهم، كالأعذار المجوزة لقطع الصلوات ولترك الجهاد.
    وفاته
    عاش الشيخ عز الدين 83 عاماً يدعو إلى الله ويجاهد في سبيله، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلى أن توفي عام 660هـ، فخرج الرجال والنساء والشباب والأطفال يودعون سلطان العلماء، وصلى عليه سلطان مصر والشام - في ذلك الوقت - الظاهر بيبرس.
    الخلاصة
    خلاصة الأمر هو أن مكانة الأمة الإسلامية بين الأمم الأخرى تحددها مكانة العلماء في المجتمع الإسلامي والدور الذي يؤدونه في عملية بناء الدولة، وكذلك مستوى عمل الحكام بالشرع وتطبيقهم لمنهج الإسلام في أنفسهم وفي إدارة شؤون الدولة..
    فكلما ارتفعت مكانة العلماء وزاد تطبيق شرع الله في داخل النظم الحاكمة وفي أوساط عامة المسلمين زادت الأمة تقدماً ونهوضاَ وقوة..أما إذا حصل العكس - كما هو حاصل في زماننا هذا – فسنظل في قاع الذل والعجز ونتهيب صعود جبال الرفعة العزة.. وكلما رضعنا من ثقافات ومناهج الأمم الأخرى وتركنا ما جاء به شرعنا زادت تبعيتنا وانصياعنا لتلك الأمم، ونظل دائماً صغاراً في نظرها..
    وللأمة الإسلامية تجربة طويلة في العمل بتلك الثقافات والأفكار، فمنذ قرابة قرن من الزمان ونحن نسبح في بحار الأمم الأخرى خصوصاً الغربية وتتقاذفنا العواصف في كل اتجاه، ولم نجد إلى الآن شاطئاً نلجأ إليه.
    وما يدور هذه الأيام من فتن واضطرابات في المنطقة العربية هو من تداعيات تلك العواصف والأعاصير التي وقعنا فيها.. فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا في دين الله.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــ
    المصادر
    - (البداية والنهاية)، ابن كثير.
    - (مقدمة ابن خلدون)، ابن خلدون.
    - (سلطان العلماء وبائع الأمراء)، د. علي محمد محمد الصلاَّبي.
    - (المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي)، ابن تغري بردي.
    - (مشاهير أعلام المسلمين)، علي بن نايف الشحود.
    - (سلطان العلماء العز بن عبد السلام)، علي سالم النباهين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •