قال الشيخ اسحاق ابن عبد الرحمن ابن حسن:
قال جل وعلا
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4].

ففي هذه الآية أعظم دلالة: على أعلى مقامات إظهار الدين، لأن الله بين هذا الحكم العميم، وأكد هذا المشهد العظيم،
الذي هو مشهد الأسوة بالأنبياء والرسل، معبرا بصيغة الماضي،
وبقد التحقيقية الدالة على لزومه، ولزومه على البرية
، ووصفه بالحسن، وضد الحسن القبيح;
وأزال دعوى الخصومة بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ}، ترغيبا في معية أوليائه.
ثم صرح: بأنها هي القول باللسان، مع العداوة، والبغضاء; خلافا لمن قال: أبغضهم بقلبي، وأتبرأ من العابد والمعبود جميعا;
وقدّم البراءة من العابد، تنويهاً بشناعة فعله،
ثم أعادها بلفظ آخر أعم من البراءة، وهو قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ}
أي: جحدناكم، وأنكرنا ما أنتم عليه;
وكشف الشبهة بقوله: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} .
ومعنى: {وَبَدَا}، ظهر؛
وقرن بين العداوة والبغضاء إشارة إلى المباعدة والمفارقة، بالباطن والظاهر معا،
وأكد العداوة، وأيدها بقوله: {أَبَداً} معبرا بالظرف الزماني المستقبل المستمر، إلى غاية وهي الإيمان،
وأتى بحتى الغائية، الدالة على مغايرة ما قبلها لما بعدها، المعنى: إن لم تؤمنوا فالعداوة باقية.
[الدرر السنية - من رسالة الشيخ اسحاق بن عبد الرحمن بن حسن - ]
قال الشيخ حمد بن عتيق:
أصل دين جميع الرسل هو القيام بالتوحيد ومحبته ومحبة أهله وموالاتهم وإنكار الشرك وتكفير أهله وبغضهم وإظهار عداوتهم
كما قال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم – إلى قوله – وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده.

ومعنى قوله وبدا أي ظهر وبان ـوالمراد التصريح باستمرار العداوة والبغضاء لمن لم يوحد ربه؛
فمن حقق ذلك علماً وعملاً،
وصرح به حتى يعلمه منه أهل بلده، لم تجب عليه الهجرة من أي بلد كان.
وأما من لم يكن كذلك، بل ظن أنه إذا تُرك يصلي ويصوم ويحج، سقطت عنه الهجرة، فهذا جهل بالدين،
وغفول عن زبدة رسالة المرسلين
؛ فإن البلاد إذا كان الحكم فيها لأهل الباطل عباد القبور، وشربة الخمور، وأهل القمار، فهم لا يرضون إلا بشعائر الشرك، وأحكام الطواغيت، وكل موطن يكون كذلك، لا يشك من له أدنى ممارسة للكتاب والسنة، أن أهله على غير ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.فليتأمل العاقل، وليبحث الناصح لنفسه عن السبب الحامل لقريش على إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، وهي أشرف البقاع؛ فإن من المعلوم: أنهم ما أخرجوهم إلا بعد ما صرحوا لهم بعيب دينهم، وضلال آبائهم، فأرادوا منه صلى الله عليه وسلم الكف عن ذلك، وتوعدوه وأصحابه بالإخراج. وشكا إليه أصحابه شدة أذى المشركين لهم، فأمرهم بالصبر والتأسي بمن كان قبلهم ممن أوذي، ولم يقل لهم: اتركوا عيب دين المشركين، وتسفيه أحلامهم؛ فاختار الخروج بأصحابه، ومفارقة الأوطان، مع أنها أشرف بقعة على وجه الأرض. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا}، {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}" أ.هـ الدرر السنية 8/419-
وقال رحمه الله
وقوله تعالى{ كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً } فقوله: { وبدا }؛ أي: ظهر وبان، وتأمل تقديم العداوة على البغضاء لأن الأولى أهم من الثانية، فإن الإنسان قد يبغض الــمــشــركــي ــن ولا يعاديهم، فلا يكون آتياً بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء، ولا بد أيضاً؛ من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين، أي ظاهرتين بينتين ].
ويقول الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (صاحب كتاب فتح المجيد) حول آية الممتحنة السابقة: "فمن تدبر هذه الآيات عرف التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وعرف حال المخالفين لما عليه الرسل وأتباعهم من الجهلة المغرورين الأخسرين قال شيخنا الإمام رحمه الله -يعني جده محمد بن عبد الوهاب- في سياق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى التوحيد وما جرى منهم عند ذكر آلهتهم بأنهم لا ينفعون ولا يضرون أنهم جعلوا ذلك شتماً، " فإذا عرفت هذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين(2) والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء كما قال تعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله... ) [المجادلة: 22] الآية، فإذا فهمت هذا فهماً جيداً عرفت أن كثيراً ممن يدعي الدين لا يعرفه، وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب والأسر والهجرة إلى الحبشة مع أنه أرحم الناس ولو وجد لهم رخصة أرخص لهم، كيف وقد أنزل الله عليه: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) [العنكبوت: 10] فإذا كانت هذه الآية فيمن وافق بلسانه فكيف بغير ذلك"؛ يعني من وافقهم بالقول والفعل بلا أذى فظاهرهم وأعانهم وذب عنهم وعن من وافقهم وأنكر على من خالفهم كما هو الواقع" -الدرر- جزء الجهاد ص93-

قال الشيخ سليمان بن سحمان عند آية الممتحنة السابق
فهذه هي ملة إبراهيم التي قال الله تعالى فيها
: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه فعلى المسلم أن يعادي أعداء الله ويظهر عداوتهم ويتباعد عنهم كل التباعد ولا يواليهم ولا يعاشرهم ولا يخالطهم“ اهـ
-

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية العظيمة:
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَءآؤاْ مّنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتّىَ تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة:4].
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ " أي وأتباعه الذين آمنوا معه " إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَءآؤاْ مّنْكُمْ " أي بدينكم وطريقكم " وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً " يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على [كفركم] فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم ﴿حتى تؤمنوا بالله وحده﴾ أي توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد أ.هـ.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدى
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَن َّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُقد كان لكم يا معشر المؤمنين { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي: قدوة صالحة وائتمام ينفعكم، { فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله.
ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح، فقالوا: { كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا } أي: ظهر وبان { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ } أي: البغض بالقلوب، وزوال مودتها، والعداوة بالأبدان، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد، بل ذلك { أَبَدًا } ما دمتم مستمرين على كفركم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي: فإذا آمنتم بالله وحده، زالت العداوة والبغضاء، وانقلبت مودة وولاية، فلكم أيها المؤمنون أسوة [حسنة] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده،