الجدية والذكاء المتوقد
منُذ البداية والتكوين الجاد لنور الدين كان يدفعه إلى الإسراع لسّد أي تسلل أو هجوم من قِبل الأعداء: فلما قتل زنكي 541هـ كان جوسلين الفرنجي راسل أهل الرها، وكان عامتهم من الأرمن، وواعدهم يوماً يصل إليهم فيه فأجابوه إلى ذلك فسار في عساكره إليها وملكها، وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين، وقاتلهم وجّد في قتالهم. فبلغ الخبر إلى نور الدين فساراً مجداً إليها في العسكر الذي عنده، فلما سمع جوسلين بوصوله خرج عن الرها إلى بلده ودخل نور الدين المدينة ونهبها وسبى أهلها فلم يبق منهم إلاّ القليل وأجلى من كان بها من الفرنج.
وكان أبوه زنكي قد استرد هذا الموقع الخطير من الصليبيين عام 539هـ، وأمر جنده يومها بالكف فوراً عن النهب والسلب والتخريب. ومنح النصارى المحليين حريات واسعة وحمى كنائسهم وممتلكاتهم في محاولة منه لفك ارتباطهم بالغزاة الصليبيين الذين مارسوا معهم الكثير من أساليب التمييز والتفرقة الدينية.
أما وقد تآمروا - ثانية - في أخريات عهد زنكي، وثالثة بعد مقتله لإعادة الرها إلى السيطرة الصليبية؛ يجئ الرد بمستوى الجّد الذي يقتضيه الموقف إذا ما أريد لهذا الموقع أن يبقى مجرداً، وألا يعود ثانية إلى قبضة الغزاة.
وفي عام 567هـ هاجم صليبيو اللاذقية مركبين للمسلمين كانا مملوءين بالأمتعة مكتظين بالتجار، وغدروا بالمسلمين. وكان نور الدين قد هادنهم فنكثوا، فلما سمع الخبر استعظمه وأرسل إلى الصليبيين يطلب إعادة ما أخذوه، فغالطوه فلم يقبل مغالطتهم. وكان لا يهمل أمراً من أمور رعيته كما يقول ابن الأثر، إذ ما لبث أن جمع عساكره وبث سراياه في بلاد الصليبيين بين أنطاكية وطرابلس، وقام بحصار حصن عرقة وتخريب ربضه، والاستيلاء على حصني صافيتا والعزيمة شمالي، وإجراء أعمال نهب وتخريب واسعة النطاق؛ الأمر الذي اضطر الصليبيين إلى مراسلة نور الدين يعرضون عليه استعدادهم لإعادة ما أخذوه من المركبين وتجديد الهدنة بين الطرفين، فأجابهم نور الدين إلى ذلك لحاجته الماسّة – كما يبدو – إلى هدنة كهذه.
وكان نور الدين – كما يقول ابن الأثير -: إذا فتح حصناً لا يرحل عنه حتى يملأه رجالاً وذخائر يكفيه عشر سنين خوفاً من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين فتكون حصونهم مستعدة غير محتاجة لشيء.
وهكذا ترتبط جدّية نور الدين بذكائه الحذر ودهائه الذي حقق له الكثير من المكاسب والمنجزات والذي لم يتح لأحد من الأعداء في الداخل والخارج أن ينفذ لتوجيه ضربة أو إصابة مقتل.
وكان يكثر من أعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج، وأكثر ما ملكه من بلادهم به.
وفي محاولته فتح دمشق أدرك أن اعتماد العنف سيستفز حكامها ويدفعهم إلى مراسلة الصليبيين والاستعانه بهم؛ فعمد إلى أعمال الحيلة والسياسة فأخذ يراسل صاحبها مجير الدين ويستميله ويبعث إليه بالهدايا الموصولة ويظهر له المودة حتى وثق إليه. وأخذ نور الدين يكاتبه مشككاً إياه بنوايا عدد من أمرائه وإنهم بصدد الاتصال به ضد ملكهم؛ الأمر الذي دفع مجير الدين إلى إبعاد واعتقال عدد من أبرز أصحابه. فلما خلت دمشق من زهرة أمرائها انتقل نور الدين خطوة أخرى فاتصل بأحداث دمشق (أي حرسها الشعبي) وجماهيرها واستمالهم فأجابوه إلى تسليم البلد، وعند ذاك تقدم لحصار دمشق وتمكن بمعونة أهلها أنفسهم من دخولها بسهولة بالغة ودونما إراقة للدماء، فحقق بذلك الهدف الكبير الذي طالما سعى له أبوه.
وقبل ذلك، وحينما بعث إليه الفاطميون يطلبون منه القيام بهجوم على المواقع الصليبية جنوبي الشام لإشغالهم عن مهاجمة مصر، أجاب نور الدين أسامة بن منقذ سفيرهم في هذه المهمة: إن أهل دمشق، أعداء والإفرنج أعداء ما آمن منهما إذا دخلت بينهما.
قدرته على مواجهة المشاكل والأحداث
وبحكم ذكائه الوقاد اعتمد نور الدين محمود الحلول العقلية ذات الطابع العلمي في مواجهة المشاكل والأحداث، واضعاً نصب عينيه التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب. ففي عام 552هـ شهدت الجهات الوسطى والشمالية من بلاد الشام زلازل عنيفة تتابعت ضرباتها القاسية فخربت الكثير من القرى والمدن، وأهلكت حشداً لا يحصى من الناس، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع. فما كان من نور الدين إلاّ أن شمّر على ساعد الجدّ وبذل جهوداً عظيمة في إعادة إعمار ما تهدم وتعزيز دفاعاته؛ فعادت البلاد كأحسن مما كانت ولولا أن الله منّ على المسلمين بنور الدين، فجمع العساكر وحفظ البلاد، لكان دخلها الفرنج بغير قتال ولا حصار.
وفي عام 565هـ ضربت بلدان المنطقة بغارة أخرى من الزلازل لم تقل هولاً على سابقتها، فلما بلغ الخبر نور الدين سار إلى بعلبك لإعادة إعمار ما تهدم من أسوارها وقلعتها. ولم يجأر إلى الله بالشكوى ويعلن أن الظلم قد فشا وأن هذا عقاب الله فقط أو أنه إشارات الساعة قد لاحت في الأفق القريب. وعندما وصل بعلبك أتاه خبر دمار باقي البلاد وهلاك كثير من أهليها، فرتب في بعلبك من يحميها ويعمرها وانطلق إلى حمص ففعل مثل ذلك، ومنها إلى حماه، فبعرين.
وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج لاسيما قلعة بعرين فإنها مع قربها منهم لم يبق من سورها شيء البتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلاً ونهاراً.
ثم أتى مدينة حلب، فلما شاهد ما صنعته الزلزلة بها وبأهلها أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين، ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوار جميع البلاد وجوامعها.
إن الكوارث – التي يبتلي الله بها عباده – تجئ بمثابة تحديات دائمة تستفز الجماعات البشرية وقياداتها إلى المزيد من الوعي والانجاز، وإن الاستجابة لهذه التحديات هي التي تقود الأمم والتجارب السياسية والحضارات، خطوات إلى الأمام، والعجز عنها هو الذي يربك مسيرتها ويصيبها بالعجز والشلل والجمود.
أما نور الدين فقد اختار الموقف الأول، وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة وواصل الطريق.
والحاكم الناجح في نظره هو ذلك الذي يعرف كيف يحقق أكبر قدر من العمران والتحضر بأقل قدر من الزمن؛ فقد بنى نور الدين المساجد والربط والزوايا للتعبد وتربية الروح. كما أنشأ المدارس ودور الحديث للتعلم وتربية العقل، وشجعَّ أعمال الفروسية وسائر النشاطات الرياضية لكسب المزيد من المهارات القتالية، وتنمية الجسد. وبنى أيضاً دوراً للأيتام لإيواء أطفال المسلمين، والمارستان لمعالجة المرضى. وأقام الجسور والقناطر والحدائق والقنوات والأسواق والحمامات والمخافر وشقَّ الطرقات العامة؛ فحفلت دولته بالكثير من المؤسسات الاجتماعية والعمرانية.
قوة الشخصية
كان نور الدين محمود قوي الشخصية كوالده، قديراً على الوقوف في نقطة التوازن بين الصرامة والمرونة، والشدة واللين، والعنف والرحمة.
وقد وصفه ابن الأثير بأنه كان مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته، وأنه كانت إليه النهاية في الوقار والهيبة، شديداً في غير عنف، رقيقاً في غير ضعف.
ويصف مجلسه فيقول: وكان مجلسه - كما روي - في صفة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مجلس حلم وحياء، لا تؤبن فيه الحرم، ولا يُذكر فيه إلا العلم والدين وأحوال الصالحين والمشورة في أمر الجهاد، وقصد بلاد العدو، ولا يتعّدى هذا. وقال الحافظ ابن عساكر الدمشقي: كنا نحضر مجلس نور الدين، فكنا كما قيل: كأن على رؤوسنا الطير تعلونا الهيبة والوقار، وإذا تكلم أنصتنا، وإذا تكلمنا استمع لنا.
وقال ابن كثير: لم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضى، صموتا وقوراً.
وكان نور الدين محمود يملك هيبة عجيبة على موظفيه، ويلزمهم بوظائف الخدمة: ولم يجلس عنده أمير من غير أن يأمره بالجلوس باستثناء نجم الدين أيوب.. وكان مع هذه العظمة وهذا الناموس القائم، إذا دخل عليه الفقيه أو الصوفي أو الفقير يقوم له ويمشي بين يديه ويجلسه إلى جانبه، ويُقبل عليه بحديثه كأنه أقرب الناس إليه. وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً كثيراً يقول: هؤلاء جند الله وبِدُعائهم ننتصر على الأعداء، ولهم في بيت الله حق أضعاف ما أعطيهم فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا.
شجاعته
ورث نور الدين محمود الشجاعة عن والده عماد الدين زنكي الذي يضرب بشجاعته المثل، فقد شارك نور الدين في جميع المعارك التي خاضها والده خلال فترة حكمه (521-541هـ). ومن بعد توليه الحكم أمضى معظم أيام حياته على صهوة جواده يشارك جنوده ويتقدم الصفوف ويعرض نفسه للشهادة.
قال ابن الأثير: وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم وبه كان يضرب المثل في ذلك. سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون: إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه كأنه خلق منه لا يتحرك ولا يتزلزل، وبلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، صليب الضرب يقدم أصحابه عند الكرة ويحمي منهزمهم عند الفرّة.
يقول ابن القيسراني:
من باتت الأسد أسرى في سلاسله ** هل يأسر الغلب إلا من له الغلب
ويقول أيضاً:
أنت حيناً تقاس بالأسد ** الورد وحيناً تُعدَّ في الأولياء
ويقول العماد الأصفهاني:
يا غالب الغلب الملوك وصائد ** الصيّد الليوث وفارس الفرسـان
يا سالب التيجان من أربابهــا ** حزت الفخار علـى ذوي التيجان
وقال ابن قسيم الحموي:
تبدو الشجاعة من طلاقة وجهه ** كالّرمح دلّ على القساوة لينُهُ
ووراء يقظتـــــه أنــاة مُجـــرَّب ** لله سطــوة بأســـه وسُكُــونه
المؤمن القوي أحب إلى الله
تطلبت حياة نور الدين محمود الحافلة بالعمل المتواصل والجهاد المضني جسداً قوياً قادراً على تحمل الأعباء والمشقات ولا يتم بناء الجسم القوي إلا بممارسة الرياضة؛ ولذلك كان نور الدين مواظباً على ممارسة الألعاب الرياضية المعروفة في زمانه بما يتعلق بالفروسية وأعمال القتال. وكان بشكل خاص مولعاً بلعبة الكرة أو الصولجة التي تدعى في هذه الأيام بلعبة البولو.
وعندما احتجّ عليه أحد الزاهدين من أصحابه لأنه يلهو ويعذب الخيل لغير فائدة دينية: قال والله ما حملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر، وإنما نحن في ثغر، والعدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب، ولا يمكننا أيضاً ملازمة الجهاد ليلاً ونهاراً شتاء وصيفاً، إذ لابد من الراحة للجند، ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماماً لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها أيضاً بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة، فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب؛ فيذهب جمامها وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب؛ فهذا والله الذي يبعثني على اللعب بالكرة".
ففي هذا التفسير المنطقي والتحليل التفصيلي للعبة البولو كشف وتوضيح لنفسية نور الدين. فهو لا يلعب الكرة للعبث وإهدار الوقت، وإنما لتحقيق العديد من الفوائد التي هي في الحقيقة استعداد وتحضير للجهاد، تحضير لأجسام اللاعبين ولأجسام خيولهم، وإشغال أوقات الفراغ بما هو مفيد. إضافة إلى ما تقتضيه الرياضة من راحة نفسية واستجمام وصفاء التفكير وذهاب الهم للجنود والقادة. وفي هذا الجواب لصاحبه الزاهد تظهر روح نور الدين الرياضية في أعلى درجاتها، فهو يخاطب الزاهد حسب مستواه من العلم والمعرفة ويأتيه من الباب الذي يقنعه، دون أن يجرح شعوره باتهامه بقلة المعرفة أو التزمت أو التعصب.
وبهذا الموقف يبين لنا نور الدين فهمه للإسلام بالمنظور الشمولي الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.. وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟، قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. وفي كلام معاذ رضي الله عنه دليل على أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية. وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شؤون الحياة كلها وكله حرص على إتقانها لكونها عبادة لله.
إن من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين انحرافهم عن تصور مفهوم العبادة، وحين يعقد الإنسان مقابلة بين المفهوم الشامل للعبادة الواسع العميق الذي كان يمارسه نور الدين وانعكاسه على جنوده وشعبه ودولته والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة، لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم، وكيف هبطت من مقام الريادة والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسة الذئاب.
إن من شروط النهوض التي نتعلمها من دراستنا لسيرة نور الدين الشهيد أن يكون مفهوم العبادة في حس جيلنا أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله، كما نفهم من قول الله تعالى }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون{ (الذاريات: 56).
وبهذا الفهم لمفهوم العبادة عند نور الدين وجيله حقق انجازات رائعة في كل اتجاه خاضته الدولة. قال ابن الأثير - في حديثه عن نور الدين محمود -: وكان – رحمه الله – لا يفعل فعلاً إلا بنية حسنة، ثم ذكر قصة اعتراض الزاهد على لعبه بالخيل والكرة. ثم علق ابن الأثير بعد نهاية القصة فقال: فانظر إلى هذا الملك المعدوم النظير، الذي يقلّ في أصحاب الزوايا المنقطعين إلى العبادة مثله، فإن من يجئ إلى اللعب يفعله بنية صالحة، حتى يصير من أعظم العبادات وأكثر القربات يقلّ في العالم مثله، وفيه دليل على أنه كان لا يفعل شيئاً إلا بنية صالحة، وهذه أفعال العلماء الصالحين العالمين.
إن من أسباب ضياع الأمة وضعفها، وانهزامها أمام أعدائها فقدها لشرط مهم من شروط النهوض والتمكين ألا وهو تحقيق العبودية بمفهومها الشامل الصحيح.
وهكذا كان نور الدين محمود لا يغيب عنه مفهوم العبادة الشامل في لهوه ولعبه وجده، وكان يمارس ألعاب أخرى تشبه في مغزاها وفائدتها لعبة البولو كلعبة طعن الحلق ورمي القبق. وكان رحلات الصيد الممتعة من رياضته الأخرى، تحمل من الجّد جنب متعتها البريئة ما يجعلها من بين المهارات الفروسية التي يتقنها ويتعشقها يومذاك الفارس والمجاهد.
محبة المسلمين له
عندما تحدث ابن كثير في أحداث سنة 552هـ قال: وفيها مرض نور الدين، فمرض الشام بمرضه، ثم عوفي ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً.
وفيما ذكره ابن كثير يظهر الحب العميق الذي تكنه الأمة لنور الدين. وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، ولم يكن حب نفاق. وما أبلغ تعبير ابن كثير: مرض نور الدين فمرض الشام بمرضه، فهل هناك تلاحم بين القيادة والقاعدة مثل هذا في ذلك الزمن. ومن أسباب ذلك الحب صفات نور الدين القيادية؛ فهو يسهر ليناموا ويتعب ليستريحوا. وكان يفرح لفرح المسلمين ويحزن لحزنهم.. وصدق الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي
فإذا أحب الله باطن عبده ** ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح ** مال العبــاد عليـه بالأرواح
لقد وضع الله تعالى لنور الدين قبولاً عظيماً بين أبناء أمته، وأحبته الجماهير لجهاده وإخلاصه وتفانيه في خدمة الإسلام. وامتد هذا الحب لكي يتجاوز مدن دولته وحصونها وقراها إلى ما وراء الحدود. وكسب جماهير خصومه من الداخل، وهز عروشهم، وقطع جذور مواقعهم من الأعماق، وأزاحهم من طريق الوحدة التي اعتزم بناءها دونما قطرة من دم؛ فالدم المسلم كان عنده عظيماً، وليست تجربته مع أهالي دمشق بالمثل الوحيد، فمُنذ عام 543هـ - حينما تقدم على رأس قواته للمساعدة على فك حصار الحملة الصليبية الثانية عن دمشق - شاهد الدماشقة حرمته حتى تمنوه، وراحوا يدعون له دعاءً متواصلاً.
وأخذ يخرج إليه خلال المراحل التالية من الحصار عدد كبير من الطلاب والفقراء والضعفاء؛ ولهذا دلالته، فهم الذين كانوا في الواقع أصدقاءه الحقيقيين.. أما فلاحو المنطقة فكانت قلوبهم معه؛ لأنه منع أصحابه من العبث في مزارعهم، وأعلن أنه جاء لكي يحمى كدحهم من تخريب الصليبيين.
وكان من الطبيعي أن يحظى هذا الملك العادل الزاهد بحب الناس له، وتمسك الشعب به راضياً مختاراً؛ وذلك عندما لمس شعبه أثر صلاح وعدل حاكمه على أرض الواقع من حيث الاستقرار والأمان والعزة والقوة.. فأنى لشعب يحكمه ملك بهذه الصفات أن يبحث عن غيره أو يسعى لتغييره..
من معالم التجديد والإصلاح عند نور الدين
يعتبر بعضُ المؤرخين نورَ الدين محمود مجدداً في الأمة؛ نتيجة الأعمال العظيمة التي أنجزها في خدمة الإسلام والمسلمين، وإعادة إحياء مجد هذه الأمة على طريقة من سبقه من قادة المسلمين العظماء.. وفيما يلي بعض صور هذا التجديد، حسب ما يراه مؤرخون وباحثون.
حيث لم يغفل نور الدين عن النظر في تاريخ الأمة وماضيها؛ ليأخذ منه أصلح الأمور وأنسبها لزمانه ودولته، ويتجنب مساوئ من سبقه وهفواتهم.. فقد اتخذ نور الدين محمود من سيرة عمر بن عبد العزيز نموذجاً يقتدى به في دولته. وكتب الشيخ العلامة أبو حفص معين الدين عمر بن محمود بن خضر الإربلي سيرة عمر بن عبد العزيز؛ لكي يستفيد نور الدين منها في إدارة دولته.
ولقد آتت معالم الإصلاح والتجديد الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية؛ فقد أقتنع نور الدين بأهمية التجارب الإصلاحية في تقوية وإثراء المشروع النهضوي وتمكينه في إيجاد وصياغة الرؤية اللازمة في نهوض الأمة وتسلمها القيادة. فللتجارب التاريخية دور كبير في تطوير الدول وتجديد معاني الإيمان في الأمة؛ ولذلك حرص على معرفة هذه السير المباركة لكي يقتدي برجالها.
قال أبو حفص معين الدين الإربلي عن نور الدين - في مقدمة كتابه عن عمر بن عبد العزيز وتقديمه ذلك الكتاب لنور الدين -: علماً منه أن الاقتداء بسلف الفضلاء العقلاء يكمل الأجر ويبقى الذكر، واتباع سنن المهديين الراشدين يصلح السريرة ويحسن السيرة. وأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بسلفه من الأنبياء، فقال عز من قائل }أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده{ (الأنعام: 90). وقال تعالى: }وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك{ (هود: 120)؛ فلذلك اشتد حرصه - أدام الله سعادته - على جمع السير الصالحة والآثار الواضحة، فحينئذ رأيت حقاً على بذل الوسع في مساعدته واستنقاذ القوة في معاضدته بحكم صدق الولاء وأكيد الإخاء. فصرفت وجه همتي إلى جمع سيرة السعيد الرشيد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - والتجأت إلى الله الكريم جل اسمه أن يحسن معونتي ويُيسَّر ما صرفت إليه عزيمتي. فحين شرح الله صدري لذلك، ولاحت أمارات المعونة، بادرت إلى جمع هذه السيرة برسم خزانته المعمورة، معاونة على البر والتقوى".
لقد قدم هذا الشيخ منهاجاً علمياً عملياً لنور الدين زنكي من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز، فبنى دولة العقيدة، وحكم الشريعة وقمع البدع، وأقام العدل، ورفع الضرائب والمكوس عن الأمة، وعمل على إحياء السنة، وعمق هوية الأمة، وفجر روح الجهاد فيها ونشر العلم، وساهم في تحقيق الازدهار والرخاء. وكان نسيج وحده في زهده وورعه وعبادته وصدقه. واهتم بالإدارة والاقتصاد والقوات المسلحة، والمدارس العلمية والمؤسسات الاجتماعية. وكان شديد التقيد بأحكام الشريعة الغراء.
يقول أبو شامة عن نور الدين زنكي: ".. فأطربني ما رأيت من آثاره، وسمعت من أخباره، مع تأخر زمانه وتغير خِلاّنه. ثم وقفت بعد ذلك في غير هذا الكتاب على سيرة سّيَّد الملوك بعده، الملك الناصر صلاح الدين، فوجدتهما في المتأخرين كالعُمرين - رضي الله عنهما - في العدل والجهاد. واجتهدا في إعزاز دين الله أي اجتهاد، وهما ملِكا بلدتنا وسُلطانا خُطَّتنا، خصَّنا الله تعالى بهما؛ فوجب علينا القيام بذكر فضلهما. فعزمت على إفراد ذكر دولتيهما بتصنيف يتضمن التقريظ لهما والتعريف؛ فلعلهَّ يقف عليه من الملوك من يسلك في ولايته ذلك السلوك. فلا أبعد أنهما حجة من الله على الملوك المتأخرين، وذكرى منه سبحانه فإن الذكرى تنفع المؤمنين. فإنهم قد يستبعدون طريقة الخلفاء الراشدين، ومن حذا حذوهم من الأئمة السابقين، ويقولون نحن في الزمن الأخير، وما لأولئك من نظير. فكان فيما قدر الله سبحانه من سيرة هذين الملكين إلزام الحجُةَّ عليهم بمن هو في عصرهم من بعض ملوك دهرهم، فِلن يعجز عن التشبه بهما أحد، إن وفق الله تعالى الكريم وسددَّ.. هذان حجة على المتأخرين من الملوك والسلاطين، فلله درهما من ملكين تعاقباً على حسن السيرة وجميل السريرة. وهما حنفي وشافعي شفى الله بهما كل عِيّ، وظهرت من خالقهما العناية.. والفضل للمتقَّدم، فكأن زيادة مدة نور الدين كالتنبيه على زيادة فضله، والإرشاد إلى عظيم محلهَّ، فإنه أصل ذلك الخير كله، مهد الأمور بعدله وجهاده وهيبته في جميع بلاده، مع شدة الفتق واتساع الخرق. وفتح من البلاد ما استعين به على مداومة الجهاد؛ فهان على من بعده على الحقيقة، سلوك تلك الطريقة".. فما أحقهما بقول الشاعر:
وألبـس الله هاتيـك العِظــامَ وإن ** بَليِن تحت الثرى عفواً وغفراناً
سقى ثرى أُودِعُوه رحمةً ملأتْ ** مثوى قبورهم روحــاً وريحاناً