كيف يتأصل الدين في النفس؟




السؤال:
الملخص:
شاب رُبي تربية عادية لا مكان للالتزام فيها، وهو يريد بشدة أن يلتزم بالدين، وقد حاول ذلك مرارًا، لكنه لا يلبث أن يعود لسابق عهده، ويسأل: كيف يتأصل الدين في حياته؟
التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله.
أنا شابٌّ في الثامنة والعشرين من عمري، مهندس مدني مقيم بليبيا حاليًّا، عندما كنت صغيرًا ربتني أمي وحدها؛ لأن الوالد قد تركنا وسافر لبلد آخر ليتزوج بامرأة أخرى، وقد ربَّتني أمي تربية عادية، إذ كانت تتابع دراستي وأصحابي وما إلى ذلك، ولكني عندما بلغت سن العشرين لاحظت أنني غير ملتزم دينيًّا، ولأني كنتُ مصابًا باضطراب القلق والكآبة، فقد أدى بي ذلك إلى الشعور بالحرج عند سؤال الغرباء، ولا سيما عن الصلاة وكيفيتها بالمساجد، وغيرها من أمور الدين، كبرت بي السن، وأنا غير ملتزم، رغم أنني الآن أود وبشدة الالتزام بالدين، وحاولت مرارًا لفترات، لكني ما ألبث أن أعود سيرتي الأولى، ما السبيل للالتزام بالدين، وأن يصبح متأصلًا فيَّ؟ بارك الله فيكم.


الجواب:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: نحمد لك شعورك بالتقصير والندم والتأسف عليه، فأولى خطوات إصلاح النفس معرفة الداء، ثم الندم عليه، ثم السعي لحلِّه وإصلاحه؛ وكما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الندم توبة))؛ [صححه الألباني في صحيح ابن ماجه]؛ أي: دافعٌ وسبيلٌ للتوبة الصادقة النصوح، حتى قال بعض أهل العلم كما في [فتح الباري: (13/ 471)]: "يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ تَحَقُّقُ النَّدَمِ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْلَاعَ عَن الذنوب، وَالْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ؛ فَهُمَا نَاشِئَانِ عَنِ النَّدَمِ لَا أَصْلَانِ مَعَهُ".
ثالثًا: لا تيأس وابدأ من الآن في طلب العلم، وتصحيح معتقدك وعبادتك، وسوف أسوق لك أمثلة ونماذجَ لعلماءَ طلبوا العلم في الكبر، وفي سنٍّ متأخرة من عمرهم من باب النصيحة وشد العزم وتقوية الهمة، فليس لطلب العلم سنٌّ معينة، والمتتبع لسير العلماء يجد منهم من طلب العلم كبيرًا، فكثير من أهل العلم لم يبتدئ الجدَّ في الطلب إلا بعد كبر السن، بل إن منهم من لم يتُبْ من معاصيه إلا بعد حين، فاستعن الله وابدأ بحفظ القرآن، والتحق بمعهد للعلوم الشرعية، أو الزم شيخًا أو طالبًا من أهل السنة يفتح لك طريق الطلب.
ومن هؤلاء العلماء الذين بدؤوا الطلب في سنٍّ متأخرة:
الفضيل بن عياض؛ قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (كان شاطرًا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16]، فلما سمعها، قال: بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلًا على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقومٌ من المسلمين ها هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبتُ إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام)؛ [سير أعلام النبلاء: (8/ 423)].
ومنهم ابن حزم الأندلسي؛ قال الذهبي: (قال أبو بكر محمد بن طرخان التركي: قال لي الإمام أبو محمد عبدالله بن محمد - يعني: والد أبي بكر بن العربي - أخبرني أبو محمد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة، فدخل المسجد، فجلس، ولم يركع، فقال له رجل: قُمْ فصلِّ تحية المسجد، وكان قد بلغ ستًّا وعشرين سنة، قال: فقمت وركعت، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة، دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس اجلس، ليس ذا وقت صلاة - وكان بعد العصر - قال: فانصرفت وقد حزِنت، وقلت للأستاذ الذي رباني: دُلَّني على دار الفقيه أبي عبدالله بن دحون، قال: فقصدتُهُ، وأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالكٍ، فبدأت به عليه، وتتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحوًا من ثلاثة أعوام، وبدأت بالمناظرة)؛ [سير أعلام النبلاء: (18/ 199)].
ونقل الحموي في معجم الأدباء عن أبي محمد بن العربي أيضًا: (أن أبا محمد بن حزم وُلد بقرطبة، وجده سعيد وُلد بأونبة، ثم انتقل إلى قرطبة ووليَ فيها الوزارة ابنه أحمد ثم ابنه عليٌّ الإمام، وأقام في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنِّه ستًّا وعشرين سنة، وقال: إنني بلغت إلى هذه السن، وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات)؛ [معجم الأدباء: (4/ 1652)].
ومنهم العز بن عبدالسلام؛ قال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: (كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرًا جدًّا ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلاسة من جامع دمشق فبات بها ليلة ذات برد شديد، فاحتلم، فقام مسرعًا ونزل في بركة الكلاسة، فحصل له ألم شديد من البرد، وعاد فنام فاحتلم ثانيًا، فعاد إلى البركة، لأن أبواب الجامع مغلقة، وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأُغميَ عليه من شدة البرد - أنا أشك هل كان الشيخ الإمام يحكي أن هذا اتفق له ثلاث مرات تلك الليلة أو مرتين فقط - ثم سمع النداء في المرة الأخيرة: يا بن عبدالسلام، أتريد العلم أم العمل؟ فقال الشيخ عز الدين: العلم لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح وأخذ التنبيه، فحفِظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم، فكان أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى)؛ [طبقات الشافعية: (8/ 212)].
ومنهم الإمام القفال، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (الإمام العلامة الكبير، شيخ الشافعية، أبو بكر عبدالله بن أحمد بن عبدالله، المروزي الخراساني، حذق في صنعة الأقفال حتى عمل قفلًا بآلاته ومفتاحه زنة أربع حبات، فلما صار ابن ثلاثين سنة، آنس من نفسه ذكاء مفرطًا، وأحب الفقه، فأقبل على قراءته حتى برع فيه، وصار يُضرب به المثل، وهو صاحب طريقة الخراسانيين في الفقه... قال أبو بكر السمعاني في أماليه: كان وحيد زمانه فقهًا وحفظًا وورعًا وزهدًا، وله في المذهب من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره، وطريقته المهذبة في مذهب الشافعي التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة، وأكثرها تحقيقًا، رحل إليه الفقهاء من البلاد، وتخرج به أئمة، ابتدأ بطلب العلم وقد صار ابن ثلاثين سنة، فترك صنعته، وأقبل على العلم)؛ [سير أعلام النبلاء: (17/ 406)].
وقال عنه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: (الإمام الزاهد الجليل البحر أحد أئمة الدنيا... كان قد ابتدأ التعلم على كبر السن بعدما أفنى شبيبته في صناعة الأقفال)؛ [طبقات الشافعية: (5/ 54)].
ومنهم الحافظ عيسى بن موسى أبو أحمد البخاري الأزرق، الملقب بغنجار، قال الذهبي: (قال الحاكم: هو إمام عصره، طلب العلم على كبر السن ورحل)؛ [سير أعلام النبلاء: (4/ 487)].
ومنهم قاضي قضاة مصر الحارث بن مسكين؛ قال الذهبي في السير: (الإمام، العلامة، الفقيه، المحدث، الثَّبت، قاضي القضاة بمصر... مولده: في سنة أربع وخمسين ومائة، وإنما طلب العلم على كبر)؛ [سير أعلام النبلاء: (12/ 54)].
وأخيرًا:
استعن بالله ولا تَعجِز ولا تقُل: لو كان كذا، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، وعليك بالدعاء والصبر والمجاهدة، والله أعلم.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.