نقد د/ مساعد بن سليمان الطيار لمسار قواعد التفسير وقواعد الترجيح؛ عرض وتوصيف
محمد يحيى جادو
مدخل:
يُعَدّ الدكتور/ مساعد الطيار من أهم المعاصرين المعروفين بالاشتغال البحثي حول قواعد التفسير وقواعد الترجيح، ويعتبر الدكتور/ الطيار هو مَنْ شقّ هذا المسار بصورته الحالية في الطرح المعاصر كما سنبيّن، وقد لاقت أطروحاته رواجًا واسعًا في الوسط العلمي، وتتابعتْ من بعده الكتابات متواردة على مفهومه وطريقة عمله، حتى تكاثرت وغصّت ساحتها بالإصدارات في هذا الحقل المهم حقل قواعد التفسير.
وفي ضوء حالة النقد الجذري التي وُجّهت لمنطلقات هذه المسارات في بعض الدراسات الحديثة، وما أبداه الدكتور/ مساعد نفسُه منذ قديم من مراجعات له وذِكْر لبعض الإشكالات الحاصلة في الطرح المعاصر في قواعد التفسير والترجيح، فقد أحببنا في هذه المقالة تسليط الضوء على هذه المراجعات التي ذكرها الدكتور/ مساعد، لا سيما وأنها جاءت في سياق محاضرةٍ لا تحريرٍ كتابيّ مستقلّ، وذلك بعد تمهيد نسلّط فيه الضوء على سياق سَبْق الدكتور/ مساعد بالتأليف في باب قواعد التفسير والترجيح وأثره في صياغة هذه المسارات.
تمهيد:
إنَّ شَقَّ الدكتور/ مساعد الطيار لمسار قواعد الترجيح وقواعد التفسير هو أمر مشتهر وشائع بين الباحثين، وذلك بكتابه: (فصول في أصول التفسير) الذي مَثَّل انطلاقةَ هذا المسار، والذي انتهى منه الدكتور في عام 1412هـ، وهو كتاب ما زال يتداول بين أيدي الباحثين، وله حضور في قاعات الدّرس النظري للتفسير في عددٍ من مدارس العلم في العالم الإسلامي.
ويحكي الدكتور/ مساعد الطيار قصّةَ تشكُّل هذا المسار وكواليس تكوّنه، فيقول: إنه في أول أمره كان محبًّا للاطلاع على التفاسير التي تُعْنَى بالمشكلات والإيرادات مثل تفسير الرازي، وكان مُعْرِضًا عن التفاسير التي تَعْتَنِي بالمنقول عن السلف، فلما قدّر اللهُ له قراءةَ تفسير الطبري فكأنه قد وقع على وجبة دسمة، ووجد هذه المعلومات الرائعة في تفسير الطبري، والذي كان يُصَوَّر لهم على أنه تفسير بالمأثور وليس فيه من الرأي شيء، فأخذ يجمعها على طُرّة الكتاب ثم عَنْوَن لها بالقواعد الترجيحية، وجمع منها ما جمع، ثم ألقى محاضرة في جامع صالح الراجحي، وكانت بهذا العنوان، ثم دَرَّسها في مادة أصول التفسير في كلية المعلمين، ثم كتب كتابه: (فصول في أصول التفسير) في نهاية عام 1412هـ، وسلّمه للطباعة، لكنه تأخّر نشره لظروف خاصّة بدار النشر، فتم طبعه في عام 1413هـ، ثم أراد الدكتور/ الطيار أن يقدّم هذا الموضوع لكلية أصول الدّين لنيل درجة الماجستير، وكان وكيل القسم حينئذ الدكتور/ محمد الشايع، فاقترح عليه أن يدع هذا الموضوع للدكتوراه؛ لأنه موضوع كبير، ثم قدّر اللهُ أنْ زاره الدكتور/ حسين الحربي، وهو يبحث عن موضوع للبحث في الماجستير، فعرض الدكتور/ الطيار هذا الموضوع فقبله وزاد عليه وجعله: (قواعد الترجيح عند المفسّرين)، وقد ذكر الدكتور/ الطيار أنه لما أصدر كتابه: (فصول في أصول التفسير) أهداه الدكتور/ خالد السبت، وقد استفاد منه الدكتور/ السبت في دراسته: (قواعد التفسير؛ جمعًا ودراسة) كما هو ظاهر في الكتاب[1].
وهذان الكتابان اللذان صدرَا عن طرح الدكتور/ الطيار واستلهماه؛ صارَا فيما بعد مواردَ رئيسة لكلّ الْكَتَبَة في حقل قواعد التفسير وقواعد الترجيح[2].
وعليه فإنه ظاهر جدًّا كون طرح الدكتور/ الطيار هو الذي مَثّل شرارة انطلاق هذا المسار، وأنّ الكتابين الرئيسين اللذَيْن كرَّسَا للعمل في هذا المسار على هذا النحو؛ قد استقيَا منطلقاتهما وطريقة عملهما من طرح الدكتور/ مساعد الطيار، وهو الذي أكّدته بعض الدراسات[3]، حيث رصدتْ حالةَ تأثّرٍ ظاهرة لمنطلقات كتاب الدكتور/ خالد السبت في العمل في قواعد التفسير بكتاب: (فصول في أصول التفسير) للطيار، وهو أمرٌ شديدُ الظهور كذلك في كتاب: (قواعد الترجيح) للحربي، الذي لا يختلف في منطلقات عمله في قواعد الترجيح عن منطلقات كتاب د/ الطيار.
وفي ضوء حصول مراجعات من قِبَل الدكتور/ الطيار لهذا المسار في أمور مهمّة تمسّ العمل في هذا الحقل بدا لنا إبرازها وتسليط الضوء عليها، خاصّة وأنّ هذه المراجعات والتأمّلات التي نودّ أن نسلّط الضوء عليها لم تُنْشَر في كتاب، إنما نُشِرَتْ على هيئة لقاءات علمية للدكتور/ الطيار، فَدَفَعَنَا هذا إلى رصْد هذه التأمّلات وإدخالها حيز التداول الكتابي العلمي لما لها من أهمية بالغة كونها مراجعات تتعلّق بمسار أنشأه المراجِع المتأمّل نفسه؛ بما يعني أنّ هذا يمثّل أهمية كبرى لكلّ معتنٍ بهذا الحقل.
كما أنّ هذه المراجعات تبدو مهمّة في رصدها وبيانها، خاصّة مع ما شهدته مؤخرًا الساحة البحثية في قواعد التفسير من نقد جذري لمنطلقاتها في بعض الدراسات، ما يجعل مراجعات د/ الطيار شديدةَ الأهمية، وربما يكون لها دورٌ في حسم بعض مساحات هذا الجدل القائم.
الدكتور الطيار؛ تأمّلات ومراجعات لحقل قواعد التفسير:
بدا لنا أنّ جَهْرَ الدكتور/ الطيار بهذه المراجعات والتأمّلات لهذا المسار الذي انبنى على جهوده جاء متأخرًا، فأوّلُ ما نُشر من ذلك لقاءٌ له مع جمع من أساتذة التفسير وعلوم القرآن، في حلقة نقاشية جرى فيها حديث الدكتور/ الطيار، وقد نُشَرت عبر قناة مركز تفسير على اليوتيوب بعنوان: (تساؤلات حول قواعد التفسير)[4]، وهي منشورة بتاريخ 25 /6 /2016م، وأعقبها الدكتور/ الطيار بلقاءات أخرى كرّر فيها نفس الملاحظات والمشكلات التي تعتري العمل المعاصر في هذا الحقل.
وظاهرٌ أنّ هذه الملاحظات التي أبداها الدكتور قد جاءت في سياق لقاءٍ عَرَضَ فيه لهذه الملاحظات؛ إلا أنه ظاهر لمن طالع المحاضرة أنه قد جرى تحضير وإعداد مسبَّق لهذه الملاحظات، ولم تكن هكذا عفو الخاطر، بل هي نتاج بحث وتتبّع ورصد مطوّل للدكتور، بما يضفي أهمية زائدة على هذه الملاحظات، باعتبارها نتاجًا بحثيًّا للدكتور/ الطيار.
وقد جرى كلامُ الدكتور/ الطيار بصورة رئيسة في عددٍ من رؤوس الإشكالات رصدناها هنا محاولِين اختصار كلامه تحت هذه العناوين التي قصد إلى إبرازها، وسيجري رصد خلاصة كلام الدكتور/ الطيار في صلب المقالة، والتعقيب على كلامه بما يبرز محصوله، كما سنحاول في الحواشي تثويرَ عددٍ من الإشكالات حول طرح الدكتور نفسه.
ابتدأ الدكتور/ الطيار حديثه حول أهمية مراجعة الأفكار، ومدى جدوى النقد في ساحات الفنون، وذكر القصة السالف ذكرها حول تشكّل هذا المسار لديه، وتأثّر الباحثين بكتاباته، وكيف أنّ هذا النقد ينصرف أوّل ما ينصرف إلى ذاته هو شخصيًّا باعتباره يتحمّل مسؤولية شقّ هذا المسار على هذا النحو من العمل فيه، وساق حديثه في صورة عددٍ من الإشكالات كما يلي:
أولًا: إشكالية المصطلحات:
وقد اعتنى الدكتور في هذا الصدد بتسليط الضوء على إشكالات تتعلّق بعدّة مصطلحات يجرى تداولها في هذا السياق ويكثر اللغط حولها:
1- مصطلح التفسير:
يشير الدكتور إلى الخلاف الحاصل بين المعاصرين في مفهوم التفسير، ويقرّر الدكتور أن أكثر الخلاف في هذا المصطلح ناشئ عن عدم التحرير والاستقراء، ذكر الدكتور أنه قد حَرَّر مفهومًا للتفسير ما زال مستقرًّا عليه وهو دائر حول بيان معنى الآية، ويتمثّل هذا التباين الدلالي لمفهوم التفسير من وجهة نظر الدكتور/ الطيار في أنه طبقًا لمفهوم الباحث للتفسير؛ فإنه سينبني على ذلك مفهوم قواعد التفسير عند الباحث، وبالتالي عملية اعتماد القواعد أو استبعادها ستكون مبنية كثيرًا على مفهوم التفسير عند الباحث.
وجملة نقد الدكتور هنا دائرة حول قلّة العناية لدى الباحثين في القواعد بتحرير مفهوم التفسير مع ما له من انعكاسات خطيرة على مسار العمل في القواعد.
2- مفهوم القاعدة وكليتها:
وفي هذا المقام ركز الدكتور/ الطيار على فكرة شيوع القول بكلية القواعد التفسيرية والنزاع في أغلبيتها، لكنه نعى على الدّرس المعاصر عدم الـمَيز بين ما هو قاعدة كلية لا تنخرم وبين ما له مستثنيات وتقع فيه انخرامات، وأن ما هو من هذا القبيل قد يُعَدّ من قبيل القرائن ونحوه.
ومحلّ نقد الدكتور في هذا الصّدد هو عدم تحرير الفرق بين هذه المقامات المختلفة لدى الدكتور/ الطيار. وفي هذا الصدد أشار الدكتور إلى ضرورةٍ بحثيّة للتفريق بين ما يمكن أن يعتبر قاعدة كلية وبين ما هو قرينة في التفسير، وبهذا يكون الدكتور/ الطيار قد آل إلى التفريق بين قواعد التفسير وبين قرائن يمكن أن تعتبر في التفسير.
وضرب الدكتور مثالًا على ذلك بالنصّ الآتي: متى ثبت التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يُصَار إلى غيره.
ويُعَقِّب الدكتور بقوله: لو تأملنا هذه المعلومة سريعًا لوجدناها كليّة لا تنخرم؛ لأنه متى ثبت الدليل طاح ما دونه، وهذه قاعدة كلية واضحة، فينبغي أن نبحث كم عندنا من القواعد بمثابة هذه القاعدة؟ وهو ما يمكن اعتباره قاعدة كلية.
وأما مثلًا قولهم: (إذا دار التفسير بين الأشهر والأقلّ شهرة حُمِلَ على المشهور من لغة العرب) سنلاحظ أن لهذه القاعدة مستثنيات، فتعتبر أغلبية لا كلية[5].
وخلص الدكتور إلى القول بأن هناك ثلاث مراتب مختلفة:
- قاعدة كلية.
- قاعدة أغلبية.
- قرينة تفسيرية.
وعقّب الدكتور بقوله: فلو صح لي هذا الترتيب؛ فإنّنا بحاجة إلى بحث الفروق بين هذه الأمور المختلفة، وكلّ منها بحاجة إلى بحث، وكثير مما كتبناه على أنه قواعد هو في الحقيقة قرائن تفسيرية لا أكثر.
ثانيًا: إشكالية تداخل العلوم بالنسبة للتفسير:
وفي هذا الصدد أشار الدكتور/ الطيار إلى أنّ العلوم الأخرى -كالفقه والأصول والنحو- مادتها الموضوعية معلومة ومحدّدة، بخلاف الإشكال القائم في علم التفسير، ويحدث إشكال كبير في الوسط التخصّصي من اعتبار كلّ ما في كتب التفسير من الموضوعات هو صلب التفسير والغفلة عن الماهيات وعدم تحديدها.
وعقّب الدكتور/ الطيار بقوله: وهاتان الإشكاليتان بمثابة مقدمة لما سيأتي من مشكلات منهجية في تقرير قواعد التفسير.
ودلف الدكتور بعد هاتين المقدّمتين إلى تقرير عددٍ من الإشكاليات على ما سيأتي:
1- الاعتماد على كتب العلوم الأخرى وإغفال كتب التفسير في استخراج القواعد:
يقول الدكتور/ الطيار: إنّ كثيرًا من الكتب التي شاركت في الكتابة في قواعد التفسير نجد كثيرًا منها قد أغفل كتب التفسير، وليس بأن أهملوها البتة، ولكن أغلب القواعد هي من كتب العلوم الأخرى وطُبقت في كتب التفسير، والمقصود أنّ المنطلق كان من كتب العلوم الأخرى، ككتب الأصول واللغة، وهنا يجب الانتباه إلى أمرٍ هام، وهو أنّ كلّ علم تُبنى قواعده من داخله، ولا يستند إلى قواعد علم آخر، وليس الحديث عن التداخل؛ إنما الحديث عن أصل القضية، وذلك أنك لا تجد أحدًا يكتب في قواعد علم الحديث مثلًا، ويرجع في ذلك إلى كتب التفسير! وإنما يكون الانطلاق من تطبيقات أهل الفنّ ومحاولة التأصيل من خلالها، وهو خلاف الحاصل تمامًا في شأننا نحن، فإننا عمدنا إلى كتب اللغة وكتب الأصول...إلخ؛ لنخرج منها قواعد التفسير، والإشكال أن بعض مَنْ كَتَبَ في القواعد نَصَّ على استبعاد كتب التفسير في تقرير القواعد[6]. ثم بَيَّن فضيلتُهُ بعد ذلك أنّ هذا يُعَدّ إشكالًا كبيرًا في رأيه، والصواب أن نخرج قواعد التفسير من تطبيقات المفسّرين.
وظاهر أنّ الدكتور يقرّر أولوية كتب التفسير في الاستقراء والتأمّل في استخراج القواعد، وأنه من الضروري استخراج قواعد التفسير من تطبيقات المفسّرين، وأن التقريرات القائلة باستبعاد كتب التفسير من الاستقراء لاستخراج القواعد؛ تقريرات ظاهرة الغلط[7].
2- أخذ القواعد المقرّرة سلفًا من العلوم الأخرى دون تحرير وتطبيقها في التفسير:
يقول الدكتور/ الطيار: إنّ من ينظر في كتب قواعد التفسير؛ يجد أنها تجلب القواعد الأصولية من كتب الأصول وتنسبها للتفسير، وربما تجد أنه أخرج عبارة من وسط سياق في كتب المسودة، أو كتاب المحصول، واعتبار هذه الجملة المنتزعة من السياق قاعدة تفسيرية، وهذا يوقعنا في إشكالات كبيرة، ويجعلنا نُغْفِل قواعد التفسير التي هي قواعده، ونلهث خلف هذه القواعد الأصولية واللغوية[8].
يتبع